الفائدة الحادية والعشرون: اثبات المعرفة النورانية وأنهم كانوا أنوارا لما تقدم من ان اسم الاشارة (هؤلاء) وضمير الجمع (هم) المتكرر ثلاث مرات، إنما يستعمل في الحي الشاعر العاقل وأن تلك المسميات غيب محيط بالسماوات والارض بالعلم باسمائهم استحق مقام الخلافة والتفوق على الملائكة، فهذه المسميات موجود نوري أي حي شاعر لطيف منشأ للقدرة والعلم وكونهم أعلى وأرفع شأنا من آدم فضلا عن الملائكة، وفي الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) "إنه لا يستكمل أحد الايمان حتى يعرفني كنه معرفتي بالنورانية فإذا عرفني بهذه المعرفة فقد امتحن الله قلبه للايمان وشرح صدره وصار عارفا مستبصرا،.. معرفتي بالنورانية معرفة الله عز وجل، ومعرفة الله عز وجل معرفتي بالنورانية وهو الدين الخالص الذي قال الله تعالى {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} "(1) والحديث طويل يتناول فيه معرفتهم بالنورانية وشؤون الامامة وهو وإن كان حديثا مرسلا إلا أن مضمونه عال، وهكذا الرواية التي تليها من نفس الباب عن جابر بن يزيد الجعفي عن الامام السجاد والباقر عليهما السلام وهي كالسابقة عالية المضامين ويشير بعض الاعلام في ذيلها (إنما أفردت لهذه الاخبار بابا لعدم صحة أسانيدها، وغرابة مضامينها، فلا نحكم بصحتها ولا ببطلانها ونرد علمها إليهم (عليهم السلام)) وهذا عجيب منه(قدس سره)حيث أن أحاديث النورانية عنهم كثيرة في غير هذا الباب وليس فيها غرابة، انظر في بحار الانوار المجلدات 23 ـ 24 ـ 25 يذكر روايات كثيرة في بيان مقام الامامة التكوينية وعلومهم اللدنية، وكذا من طرق العامة التي بمضمون "اول ما خلق الله نور نبيك يا جابر".
وفي حديث طارق بن شهاب عن أميرالمؤمنين المروي في البحار 25: 169: "يا طارق الأمام كلمة الله و حجة الله ووجه الله ونور الله وحجاب الله و أية الله يختاره الله ويجعل فيه ما يشاء ويوجب له بذلك الطاعة والولاية على جميع خلقه فهو وليه في سماواته وأرضه أخذ له بذلك العهد على جميع عباده، فمن تقدم عليه كفر بالله من فوق عرشه" وهذه الموارد كلها قد ذكرناها في النقاط الماضية حيث أنه يكون حرفيا بالنسبة لله مشيرا إليه دائما وأن إمامته تشمل جميع الخلائق،و لا نريد الاسترسال في البحث الروائي وإنما اوردنا البعض فقط من باب التأييد لما يستفاد من ظهور الآية الكريمة، ومن أراد الاستزادة فعليه بما ورد عن الامام الرضا في الكافي حيث يزاوج بين مقامات الامام العالية وشئونه النازلة.
الفائدة الثانية والعشرون: إن الله عز وجل بيّن موضوعية الواسطة والوسيلة وضرورة الأخذ منها فلا يقول قائل ملك مقرب أو عبد ممتحن وأنه يجب أن يكون كل شيء عن طريقه، وفي نفس الوقت نؤكد أن تمام وجودها آية والاقتراب من الحق سبحانه هو بالواسطة ومن دون الواسطة سوف يكون كفراً إبليسياً وحجاب.
الفائدة الثالثة والعشرون: أن الملائكة على عظم مقاماتهم وخلوصهم وصفائهم ونورانيتهم غير مؤهلين لخلافة الله تعالى.
الفائدة الرابعة والعشرون: أن اضافة الرب إلى ضمير الخطاب (ربك) يفيد ان هذه السنة الالهية في هذه الامة ايضا، بل ان صياغة التعبير المكرر في السور لهذه الواقعة آب عن الاختصاص بأمة دون أخرى بل لنوع البشرية، هذا مضافا إلى ما ذكرناه من أن عموم جواب الملائكة لدفع اعتراضهم يقتضي التأبيد ايضا.
الفائدة الخامسة والعشرون: أن مقتضى الجملة الاسمية واعتماد هيئة الفاعل في الخبر الذي هو بمنزلة الفعل المضارع يفيد الاستمرار،ومقتضاه الحصر به تعالى في جعل هذا المقام.
الفائدة السادسة والعشرون: أن مقتضى مادة الخلافة تعطي تحلي الخليفة بصفات المستخلف لأنه ينوب في جهة ومورد الخلافة وإن كان في الباري الامر بلا عزلة ولا انحسار رباني ولا تفويض باطل.
ثالثاً: قراءة في الخطبة القاصعة
في قراءة للخطبة القاصعة التي يتناول فيها الامام (عليه السلام) مقامات الائمة ويتعرض لهذه الآيات:
"الحمد لله الذي لبس العز والكبرياء، واختارهما لنفسه دون خلقه وجعلهما حمى وحرما على غيره واصطفاهما لجلاله وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده".
ففي هذا المقطع نشاهد أنه انطلق من كون هذين الاسمين مختصين به تعالى لأن العز والكبرياء من لوازم الاستقلال وما عداه فهو خاضع له متذلل له، ومن ينازعه فيهما ويدعي له هاتين الصفتين فسوف يبعد عن رحمة الله، ولا يخفى ما في الابتداء من براعة الاستهلال حيث يريد أن يبين في الخطبة حقيقة التوحيد والطاعة وأن لا استقلالية لأحد على الاطلاق وسوف نشاهد أن هذا الامر هو السلك الذي تنتظم عليه فقرات الخطبة، وهو المنتهى إلى وجه ركنية الامامة في عقيدة التوحيد ونفي الشرك.
(ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين).
ثم أراد الباري اختبار ملائكته في التوحيد في الطاعة ليتميز المتواضع عن المستكبر ومنه يعلم أن التواضع جذره عقيدتي وليس مجرد أخلاق حيث أن المتواضع هو الذي لا يرى لنفسه موقعا ومقاما ومكانا، ومنه ايضا يتبين أن الملائكة يعملون ويتكاملون لكن فرقهم عن غيرهم أن الملك لا يعمل بغريزة الشهوة والغضب، واختبارهم يدلل على أنه يفعل ما يفعل عن علم واختيار. ثم إن اختبار التوحيد - وهو اتصاف الباري فقط بالاستقلالية - هو في اتباع ولي الله وهو كما أشرنا إليه مرارا أشق المقامات.
(وهو العالم بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِين فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ}).
ويوجد بحث بين الفلاسفة أنه هل لدى الملائكة علوما وصورا مرتسمة أم لا؟ العلامة الطباطبائي في الميزان والنهاية ينفي ذلك لكن ما في القرآن {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} يدلل على أن لديهم نوع من العلم الحصولي، ويركز الامام على الصفة الطينية لآدم، وكذلك اجتماع (فقعوا) مع (السجود) حيث أن فيه زيادة في الاخضاع.
(اعترضته الحمية، فافتخر على أدم بخلقه وتعصب عليه لأصله، فعدو الله إمام المتعصبين، وسلف المستكبرين الذي وضع أساس العصبية ونازع الله رداء الجبرية وادرع لباس التعزز، وخلع قناع التذلل).
فيشير الامام أن ابليس نازع الله تعالى رداء الكبر الذي لا يحق لأحد إلا له سبحانه واعتقد لنفسه الاستقلال ورفض الانصياع لولي الله، وخلع قناع التذلل فجحود خليفة الله تعالى وحجته على خلقه جذره ومنشأه كبر في الجاحد واستكبار على امر الله تعالى ورؤية استقلالية للجاحد في ذاته، وكانت عاقبته:
(ألا يرون كيف صغّره الله بتكبره ووضعه بترفعه فجعله في الدنيا مدحورا وأعد له في الآخرة سعيرا).
وهذه هي نتيجة الكفر الابليسي وعدم الانصياع لاوامر الله تعالى، وعاقبة من لا ينزل نفسه منزلتها ويرى الانا دون خالقه.
(ولو أراد الله أن يخلق أدم من نور يخطف الابصار ضياؤه، ويبهر العقول روأؤه وطيب يأخذ الانفاس عرفه، لفعل، ولو فعل لظلت له الاعناق خاضعة ولخفت البلوى فيه على الملائكة ولكن الله سبحانه يبتلي خلقه ببعض ما يجهلون أصله تمييزا بالاختبار لهم، ونفيا للاستكبار عنهم وإبعادا للخيلاء منهم).
فهكذا نرى أن آدم لو كان في خلقه مبهرا للعقول لاستجاب له الملائكة لأنه بهرهم لا لأن الله أمرهم بذلك ومن هنا كان امتحان الامامة أصعب الامتحانات وأشقها حيث يكون المعنى حرفيا فقط دالا عليه وبه يكون التوحيد خالصا حيث لا يكون في اتباع الواسطة سوى حرفيته وآيتيته لله جل وعلا، فإذا نجح في هذا الامتحان الشاق واستطاع أن يكبح جماح ذاته وأناه فبها، وإلا لم تنفعه عبادته الماضية كابليس.
(فاعتبروا بما كان من فعل الله بابليس إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد، وكان قد عبد الله ستة ألاف سنة، لا يدرى أمن سني الدنيا أم من سني الآخرة عن كبر ساعة واحدة، فمن ذا بعد ابليس يسلم على الله بمثل معصيته.كلا ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشرا بامر أخرج به منها ملكا).
ويتبين أن ابليس كان ملكا، كما يشير إلى ان القانون واحد بين أهل الارض والسماء وسير الكمال واحد وحكمه واحد.
"فاحذروا عباد الله عدو الله أن يعديكم بدائه، وأن يستفزكم بخيله ورجله، فلعمري لغد فوق لكم سهم الوعيد، وأغرق إليكم بالنزع الشديد.....
فأطفئوا ما كمن في قلوبكم من نيران العصبية، وأحقاد الجاهلية، فإن تلك الحمية تكن في المسلم من خطرات الشيطان...
ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم! الذين تكبروا عن حسبهم وترفعوا فوق نسبهم، وألقوا الهجينة على ربهم وجاحدوا الله على ما صنع بهم..
ولا تطيعوا الادعياء الذين شربتم بصفوكم كدرهم وخلطتم بصحتكم مرضهم، وأدخلتم في حقكم باطلهم، وهو أساس الفسوق وأحلاس العقوق اتخذهم إبليس مطايا ضلال وجندا بهم يصول على الناس وتراجمة ينطق على ألسنتهم، استراقا لعقولكم ودخولا في عيونكم ونفثا في أسماعكم،فجعلكم مرمى نبله وموطئ قدمه ومأخذ يده".
فهذا تحذير منه (عليه السلام) من عدوى داء ابليس إليهم، ودائه هو عدم التسليم لخليفة الله تعالى والكبر عن طاعة الله في امره بطاعة حجته، وترفع ذاته عن الخضوع لأمر الله بمتابعة خليفته، وأن ابليس أخذ على نفسه إغواء البشر بنفس الغواية التي ابتلي بها، وإخباره (عليه السلام) بأن قد وقع منهم تأثر بعدوى ابليس، وهذا إشارة إلى ترك الناس الائتمام بإمامته (عليه السلام) بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)،وأن سبب ذلك الحمية الجاهلية التي يسعرها ابليس في قلوبهم ايجادا للكبر والاستكبار عن متابعة وطاعة خليفة الله تعالى، وأن دواء هذا الداء هو التواضع، ثم يشير مرة أخرى إلى وجود من هو مبتلى بهذا الداء في هذه الأمة ومتابعته لكبرياء ابليس وجحود حجة الله تعالى وأن عليه الوزر والآثام إلى يوم القيامة، ثم يقتبس (عليه السلام) من القرآن قوله تعالى {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} الوارد في سياق ذم محترفي النفاق في الامة وتحذيرهم بأنهم لاستكبارهم بحمية وفخر الجاهلية عن طاعة خليفة الله تعالى في أرضه، إذا تقلدوا زمام الامور امعنوا في الغي وافسدوا في الارض إلا انه (عليه السلام) يخبر عن تحقق ما حذّرت عنه الآية الكريمة.
ثم انه (عليه السلام) يحذّر الناس من طاعة واتباع الذين تكبروا عن طاعة أمر الله في خليفته في ارضه وحجته على عباده الذي هو كبر ابليس أيضا، ووصفهم بأنهم جحدوا الله، وكابروا قضائه.... ومن هنا يتبين ان هذه الخطبة أصرح من الخطبة الشقشقية في بيان زلة طريقة القوم.
(فاعتبروا بما اصاب الامم المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته ووقائعه ومثلاته، واتعظوا بمثاوى خدودهم،ومصارع جنوبهم.فلو رخص الله في الكبر لأحد من عباده لرخص فيه لخاصة انبيائه، ولكنه سبحانه كره إليهم التكابر....
فإن الله سبحانه يختبر عباده المستكبرين في انفسهم،بأوليائه المستضعفين في اعينهم، ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون - صلى الله عليهما على فرعون وعليهما مد ارع الصوف وبأيديهما العصي...
ولو اراد الله سبحانه لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان، ومعادن العقيان....ولو فعل لسقط البلاء وبطل الجزاء واضمحلت الانباء ولما وجب للقابلين أجور المبتلين ولا استحق المؤمنون ثواب المحسنين ولا لزمت الاسماء معانيها ولكن الله سبحانه جعل رسله أولي قوة في عزائمهم وضعفا فيما ترى العين من حالاتهم مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنى،وخصاصة تملأ الابصار والاسماع أذى.
وكلما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل).
فيستعرض (عليه السلام) استكبار الامم الماضية وكيف آل مصيرهم،ومن المعلوم أن أكثر استكبارهم كان على أنبياء الله حجه استصغارا لهم، وهو عين الاستكبار والجحود الابليسي،ثم وصف (عليه السلام) حالة موسى وهارون عند دخولهما على فرعون من حالة التواضع والمسكنة زيادة امتحان الله لفرعون إذ لو بعث الله انبياءه بالقدرة المهيبة والسطوة الشديدة لسقط البلاء وبطل الجزاء ولكان الايمان عن خوف القوة أو رغبة فيها لدبّ الشرك في النيات، ولكان التسليم ليس لله تعالى وحده، فمن ثم يظهر وجه التناسب الطردي بين شدة الامتحان وشدة الخلوص في التوحيد، وهذا يتجلى بوضوح في رسل الله تعالى وخلفائه حيث انه تعالى أراد أن يكون الاتباع لرسله والاستكانة لأمره له خاصة أي التذلل له تعالى في كل من التابع وهم البشر والمتبوع وهم الرسل والحجج،فيصفى الامر عن أي كبر وإدعاء استقلالية في البين لأن الكبر هو دعوى المخلوق الفقير الغنى والاستقلال عن الباري بأي نحو كان. (ألا ترون أن الله سبحانه اختبر الاولين من لدن أدم صلوات الله عليه إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضر ولا تنفع ولا تبصر...
ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام ومشاعره العظام بين جنات وانهار وسهل وقرار جم الاشجار داني الثمار ملتف البنى متصل القرى بين برة سمراء وروضة خضراء وأرياف محدقة وعراص مغدقة وزروع ناضرة وطرق عامرة لكان قد صغر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد ويتعبدهم بأنواع المجاهد ويبتليهم بضروب المكاره إخراجا للتكبر من قلوبهم وإسكانا للتذلل في نفوسهم وليجعل ذلك أبوابا فتحا إلى فضله وأسبابا ذللا لعفوه....
فالله في عاجل البغي وأجل وخامة اللم وسوء عاقبة الكبر فإنها مصيدة إبليس العظمى ومكيدته الكبرى...
انظروا إلى ما في هذه الافعال من قمع نواجم الفخر وقدع طوالع الكبر).
يتعرض إلى وجود هذا السلك التوحيدي الجامع لكل أبواب الشريعة فيتعرض إلى وجود هذه الحكمة في الحج إلى بيت الله الحرام وأن ضروب المشقة في السفر وأداء الاعمال ووعورة المسالك كل ذلك اختبارا بالشدائد وأنواع المجاهد ليخرج التكبر من قلوبهم واسكانا للتذلل في نفوسهم، إذ حالة التكبر شرك وندية لذوات البشر مع باريهم وخروج منهم عن طورهم وواقعهم وهو الفقر لباريهم بخلاف حالة الذل في النفس فإنها حالة توحيد وخضوع لتسليم الذوات حينئذ بالفقر للباري وأن الغنى والعز خاص به تعالى.
ثم انه (عليه السلام) يبين وجود هذه الحكمة ايضا في بقية الفرائض في الصلاة والزكاة والصيام مع ما فيها من الحكم الاخرى من انها تسبب خشوع أبصار البشر، وتسكنّ أطرافهم، وتذلل نفوسهم، وتذهب خيلاءهم، وأنها دواء عن السموم القاتلة لابليس وهي الكبر الذي وصفه (عليه السلام) بأنه مكيدة ابليس الكبرى.
(ولقد نظرت فما وجدت أحدا من العالمين يتعصب لشئ من الاشياء إلا عن علة تحتمل تمويه الجهلاء او حجة تليط بعقول السفهاء غيركم فإنكم تتعصبون لأمر ما يُعرف له سبب ولا علة، أما ابليس فتعصب على أدم لأصله وطعن عليه فى خلقته....واما الاغنياء من مترفة الامم فتعصبوا لآثار مواقع النعم..
فإن كان لا بد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد الافعال ومحاسن الامور....
فتعصبوا لخلال الخمد من الحفظ للجوار والوفاء بالذمام والطاعة للبر والمعصية للكبر والاخذ بالفضل والكف عن البغي والإعظام للقتل والإنصاف للخلق والكظم للغيظ، واجتناب الفساد في الارض واحذروا ما نزل بالامم قبلكم من المثلات بسوء الافعال وذمم الاعمال فتذكروا في الخير والشر أحوالهم واحذروا ان تكونوا امثالهم...
وتدبروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء، ألم يكونوا اثقل الخلائق أعباء وأجهد العباد بلاء وأضيق أهل الدنيا حالا...... ألا وقد قطعتم قيد الاسلام وعطلتم حدوده وامتم أحكامه).
ثم انه (عليه السلام) يبين أن العصبية وليدة الكبر والاستكبار على اختلاف الوانه وأقسامه، وأن الحريّ بالانسان أن يتعصب للفضائل والمكارم المحمودة.
ثم أنه (عليه السلام) بين أن النصرة والعزة لأي أمة من الامم لا تكون إلا بالولاية فإنه بها يذهب تشتت الألفة وتزول اختلاف الكلمة والافئدة، وكذلك كان حال ولد اسماعيل وبني اسحاق وبني اسرائيل، حيث كانت الا كاسرة والقياصرة غالبين لهم قاهرين عليهم، إلا انه بنعمة الله عليهم حين بعث رسولا إليهم انتظمت به ملتهم وطاعتهم وألفتهم واغدقت عليهم البركات فعادوا قاهرين بعد ان كانوا مقهورين، وغالبين بعد ان كانوا مغلوبين،ولكنهم - بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) - سرعان ما تركوا حبل الطاعة والولاية وهدموا حصن الله تعالى بأحكام الجاهلية وصاروا بعد الهجرة أعرابا،وبعد موالاتهم لولي الله أحزابا، لم يبقوا إلا على ظاهر الاسلام يرفعون شعار النار ولا العار، إلى ان تمادى بهم الامر أن قطعوا قيد الاسلام وعطلوا حدوده وأحكامه.
(ألا وقد امرني الله بقتال أهل البغي والنكث الفساد في الارض، فإما الناكثون فقد قاتلت وأما القاسطون فقد جاهدت،واما المارقة فقد دوخت...
أنا وضعت بكلاكل العرب وكسرت نواجم قرون ربيعة ومضر...
ولقد قرن الله به (صلى الله عليه وآله) من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن اخلاق العالم ليله ونهاره.
ولقد كنت اتبعه اتباع الفصيل أثر امه يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما ويأمرني بالاقتداء به ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه، ولايراه غيري ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة.ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلى الله عليه وآله)، فقلت: يا رسول الله،ما هذه الرنة؟ فقال:هذا الشيطان، قد أيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلا أنك لست بنبي ولكنك لوزير، وإنك لعلى خير....).
فبعد ما بين (عليه السلام) أن قوة الامة وعزها بموالاة ولي الله وخليفته في أرضه وأن هذه الموالاة تذلل في النفوس وتواضع للباري تعالى سبب لنزول الفيض الالهي والبركات والنعم وأن بدون موالاة حجة الله تعالى في أرضه تدب الفرقة والاهواء والاحزاب لكون ذلك عن كبر في النفوس واستكبار وهو منشأ نزاع كل منهما مع الآخر، بعد هذا كله، أخذ (عليه السلام) في بيان الادلة والبراهين على تقلده لمقام خليفة الله في أرضه وحجته على عباده بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) من بيان الصفات الخاصة التي يتحلى بها سواء للتربية السوية أو الاهلية الروحية الخاصة به حيث يرى نور الوحي والرسالة ويسمع المغيبات حتى قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنك تسمع ما اسمع وترى ما أرى... إي أنه قد أوتي مؤهلات العلم اللدني، ثم يبين أنه اول السابقين إلى الاسلام وأنه معصوم من الزلل والخطل، وأنه أقرب واشد الناس اتباعا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وغيرها من الصفات التي تشير إلى تقلده الخلافة الالهية.
وبهذا يختم خطبته عطفا على ما بدأ من أن كمال التوحيد وتمام الاخلاص هو بموالاة ولي الله وطاعته كما في سجود الملائكة لآدم ولذلك كفر ابليس اللعين ودحر باستكباره عن ولاية خليفة الله.
وبذلك يفصح (عليه السلام) عن وجه هذه الواقعة القرآنية التي تكررت في سبع سور من القرآن الكريم،كما أنه (عليه السلام) افصح عن حقه وغصب القوم له، ومن بديع الحكمة الذي أظهره (عليه السلام) أن يبين كيفية كون الصفات الخلقية هي جذر الافعال.وان الاعتقادات جذر للصفات الخلقية، أي ان كل فعل صادر من الفاعل المختار منشؤه صفة خلقية في نفس الانسان وهي منشؤها أمر اعتقادي يبطنه الفاعل ذو الصفة المعينة وهذا يفسر موالاة ولي الله وخليفته في أرضه وعدم موالاته أنهما يتسببان عن التواضع في النفس في الموالي والمنقاد، والكبر في الجاحد والمنكر، وأن التواضع متسبب عن خلوص الشخص لربه أي خلوص توحيد لربه عن الشرك بإقامة ذات نفسه ندا لخالقه، والكبر كفر وجحود وشرك لاقامة المتكبر ذات نفسه مستقلة على غير ما هي عليه من الحد الواقعي من الفقر لله تعالى.
ومن ثم يتبين أن الولاية لخليفة الله في ارضه على أصعدة ثلاث في الفعل وفي الخلق بالمحبة له، وفي الاعتقاد بالاذعان أنه مجعول من قبل الباري.
وهكذا نرى الامام يتدرج من الكفر الابليسي إلى الكفر في النبوة ثم الكفر في الافعال يرى أن جذرها كلها واحد هو الانصياع إلى الانا وعدم تسليم النفس لله الواحد الاحد وعدم الانصياع لأوامره وأن كل شيء ذائب فيه وأن لا استقلالية لأحد بل كل في سبيله ومن أجله وكل آية له سبحانه،و أخيرا يصل إلى الاخلاق وأن منشأ جميع الرذائل يرجع إلى الكبر ومنشأ كل الفضائل يرجع إلى الخضوع، والامام في كل هذا يربط بين اقسام الكفر ويرجعها إلى الاصل الواحد.
وفي حديث طارق بن شهاب عن أميرالمؤمنين المروي في البحار 25: 169: "يا طارق الأمام كلمة الله و حجة الله ووجه الله ونور الله وحجاب الله و أية الله يختاره الله ويجعل فيه ما يشاء ويوجب له بذلك الطاعة والولاية على جميع خلقه فهو وليه في سماواته وأرضه أخذ له بذلك العهد على جميع عباده، فمن تقدم عليه كفر بالله من فوق عرشه" وهذه الموارد كلها قد ذكرناها في النقاط الماضية حيث أنه يكون حرفيا بالنسبة لله مشيرا إليه دائما وأن إمامته تشمل جميع الخلائق،و لا نريد الاسترسال في البحث الروائي وإنما اوردنا البعض فقط من باب التأييد لما يستفاد من ظهور الآية الكريمة، ومن أراد الاستزادة فعليه بما ورد عن الامام الرضا في الكافي حيث يزاوج بين مقامات الامام العالية وشئونه النازلة.
الفائدة الثانية والعشرون: إن الله عز وجل بيّن موضوعية الواسطة والوسيلة وضرورة الأخذ منها فلا يقول قائل ملك مقرب أو عبد ممتحن وأنه يجب أن يكون كل شيء عن طريقه، وفي نفس الوقت نؤكد أن تمام وجودها آية والاقتراب من الحق سبحانه هو بالواسطة ومن دون الواسطة سوف يكون كفراً إبليسياً وحجاب.
الفائدة الثالثة والعشرون: أن الملائكة على عظم مقاماتهم وخلوصهم وصفائهم ونورانيتهم غير مؤهلين لخلافة الله تعالى.
الفائدة الرابعة والعشرون: أن اضافة الرب إلى ضمير الخطاب (ربك) يفيد ان هذه السنة الالهية في هذه الامة ايضا، بل ان صياغة التعبير المكرر في السور لهذه الواقعة آب عن الاختصاص بأمة دون أخرى بل لنوع البشرية، هذا مضافا إلى ما ذكرناه من أن عموم جواب الملائكة لدفع اعتراضهم يقتضي التأبيد ايضا.
الفائدة الخامسة والعشرون: أن مقتضى الجملة الاسمية واعتماد هيئة الفاعل في الخبر الذي هو بمنزلة الفعل المضارع يفيد الاستمرار،ومقتضاه الحصر به تعالى في جعل هذا المقام.
الفائدة السادسة والعشرون: أن مقتضى مادة الخلافة تعطي تحلي الخليفة بصفات المستخلف لأنه ينوب في جهة ومورد الخلافة وإن كان في الباري الامر بلا عزلة ولا انحسار رباني ولا تفويض باطل.
ثالثاً: قراءة في الخطبة القاصعة
في قراءة للخطبة القاصعة التي يتناول فيها الامام (عليه السلام) مقامات الائمة ويتعرض لهذه الآيات:
"الحمد لله الذي لبس العز والكبرياء، واختارهما لنفسه دون خلقه وجعلهما حمى وحرما على غيره واصطفاهما لجلاله وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده".
ففي هذا المقطع نشاهد أنه انطلق من كون هذين الاسمين مختصين به تعالى لأن العز والكبرياء من لوازم الاستقلال وما عداه فهو خاضع له متذلل له، ومن ينازعه فيهما ويدعي له هاتين الصفتين فسوف يبعد عن رحمة الله، ولا يخفى ما في الابتداء من براعة الاستهلال حيث يريد أن يبين في الخطبة حقيقة التوحيد والطاعة وأن لا استقلالية لأحد على الاطلاق وسوف نشاهد أن هذا الامر هو السلك الذي تنتظم عليه فقرات الخطبة، وهو المنتهى إلى وجه ركنية الامامة في عقيدة التوحيد ونفي الشرك.
(ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين).
ثم أراد الباري اختبار ملائكته في التوحيد في الطاعة ليتميز المتواضع عن المستكبر ومنه يعلم أن التواضع جذره عقيدتي وليس مجرد أخلاق حيث أن المتواضع هو الذي لا يرى لنفسه موقعا ومقاما ومكانا، ومنه ايضا يتبين أن الملائكة يعملون ويتكاملون لكن فرقهم عن غيرهم أن الملك لا يعمل بغريزة الشهوة والغضب، واختبارهم يدلل على أنه يفعل ما يفعل عن علم واختيار. ثم إن اختبار التوحيد - وهو اتصاف الباري فقط بالاستقلالية - هو في اتباع ولي الله وهو كما أشرنا إليه مرارا أشق المقامات.
(وهو العالم بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِين فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ}).
ويوجد بحث بين الفلاسفة أنه هل لدى الملائكة علوما وصورا مرتسمة أم لا؟ العلامة الطباطبائي في الميزان والنهاية ينفي ذلك لكن ما في القرآن {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} يدلل على أن لديهم نوع من العلم الحصولي، ويركز الامام على الصفة الطينية لآدم، وكذلك اجتماع (فقعوا) مع (السجود) حيث أن فيه زيادة في الاخضاع.
(اعترضته الحمية، فافتخر على أدم بخلقه وتعصب عليه لأصله، فعدو الله إمام المتعصبين، وسلف المستكبرين الذي وضع أساس العصبية ونازع الله رداء الجبرية وادرع لباس التعزز، وخلع قناع التذلل).
فيشير الامام أن ابليس نازع الله تعالى رداء الكبر الذي لا يحق لأحد إلا له سبحانه واعتقد لنفسه الاستقلال ورفض الانصياع لولي الله، وخلع قناع التذلل فجحود خليفة الله تعالى وحجته على خلقه جذره ومنشأه كبر في الجاحد واستكبار على امر الله تعالى ورؤية استقلالية للجاحد في ذاته، وكانت عاقبته:
(ألا يرون كيف صغّره الله بتكبره ووضعه بترفعه فجعله في الدنيا مدحورا وأعد له في الآخرة سعيرا).
وهذه هي نتيجة الكفر الابليسي وعدم الانصياع لاوامر الله تعالى، وعاقبة من لا ينزل نفسه منزلتها ويرى الانا دون خالقه.
(ولو أراد الله أن يخلق أدم من نور يخطف الابصار ضياؤه، ويبهر العقول روأؤه وطيب يأخذ الانفاس عرفه، لفعل، ولو فعل لظلت له الاعناق خاضعة ولخفت البلوى فيه على الملائكة ولكن الله سبحانه يبتلي خلقه ببعض ما يجهلون أصله تمييزا بالاختبار لهم، ونفيا للاستكبار عنهم وإبعادا للخيلاء منهم).
فهكذا نرى أن آدم لو كان في خلقه مبهرا للعقول لاستجاب له الملائكة لأنه بهرهم لا لأن الله أمرهم بذلك ومن هنا كان امتحان الامامة أصعب الامتحانات وأشقها حيث يكون المعنى حرفيا فقط دالا عليه وبه يكون التوحيد خالصا حيث لا يكون في اتباع الواسطة سوى حرفيته وآيتيته لله جل وعلا، فإذا نجح في هذا الامتحان الشاق واستطاع أن يكبح جماح ذاته وأناه فبها، وإلا لم تنفعه عبادته الماضية كابليس.
(فاعتبروا بما كان من فعل الله بابليس إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد، وكان قد عبد الله ستة ألاف سنة، لا يدرى أمن سني الدنيا أم من سني الآخرة عن كبر ساعة واحدة، فمن ذا بعد ابليس يسلم على الله بمثل معصيته.كلا ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشرا بامر أخرج به منها ملكا).
ويتبين أن ابليس كان ملكا، كما يشير إلى ان القانون واحد بين أهل الارض والسماء وسير الكمال واحد وحكمه واحد.
"فاحذروا عباد الله عدو الله أن يعديكم بدائه، وأن يستفزكم بخيله ورجله، فلعمري لغد فوق لكم سهم الوعيد، وأغرق إليكم بالنزع الشديد.....
فأطفئوا ما كمن في قلوبكم من نيران العصبية، وأحقاد الجاهلية، فإن تلك الحمية تكن في المسلم من خطرات الشيطان...
ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم! الذين تكبروا عن حسبهم وترفعوا فوق نسبهم، وألقوا الهجينة على ربهم وجاحدوا الله على ما صنع بهم..
ولا تطيعوا الادعياء الذين شربتم بصفوكم كدرهم وخلطتم بصحتكم مرضهم، وأدخلتم في حقكم باطلهم، وهو أساس الفسوق وأحلاس العقوق اتخذهم إبليس مطايا ضلال وجندا بهم يصول على الناس وتراجمة ينطق على ألسنتهم، استراقا لعقولكم ودخولا في عيونكم ونفثا في أسماعكم،فجعلكم مرمى نبله وموطئ قدمه ومأخذ يده".
فهذا تحذير منه (عليه السلام) من عدوى داء ابليس إليهم، ودائه هو عدم التسليم لخليفة الله تعالى والكبر عن طاعة الله في امره بطاعة حجته، وترفع ذاته عن الخضوع لأمر الله بمتابعة خليفته، وأن ابليس أخذ على نفسه إغواء البشر بنفس الغواية التي ابتلي بها، وإخباره (عليه السلام) بأن قد وقع منهم تأثر بعدوى ابليس، وهذا إشارة إلى ترك الناس الائتمام بإمامته (عليه السلام) بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)،وأن سبب ذلك الحمية الجاهلية التي يسعرها ابليس في قلوبهم ايجادا للكبر والاستكبار عن متابعة وطاعة خليفة الله تعالى، وأن دواء هذا الداء هو التواضع، ثم يشير مرة أخرى إلى وجود من هو مبتلى بهذا الداء في هذه الأمة ومتابعته لكبرياء ابليس وجحود حجة الله تعالى وأن عليه الوزر والآثام إلى يوم القيامة، ثم يقتبس (عليه السلام) من القرآن قوله تعالى {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} الوارد في سياق ذم محترفي النفاق في الامة وتحذيرهم بأنهم لاستكبارهم بحمية وفخر الجاهلية عن طاعة خليفة الله تعالى في أرضه، إذا تقلدوا زمام الامور امعنوا في الغي وافسدوا في الارض إلا انه (عليه السلام) يخبر عن تحقق ما حذّرت عنه الآية الكريمة.
ثم انه (عليه السلام) يحذّر الناس من طاعة واتباع الذين تكبروا عن طاعة أمر الله في خليفته في ارضه وحجته على عباده الذي هو كبر ابليس أيضا، ووصفهم بأنهم جحدوا الله، وكابروا قضائه.... ومن هنا يتبين ان هذه الخطبة أصرح من الخطبة الشقشقية في بيان زلة طريقة القوم.
(فاعتبروا بما اصاب الامم المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته ووقائعه ومثلاته، واتعظوا بمثاوى خدودهم،ومصارع جنوبهم.فلو رخص الله في الكبر لأحد من عباده لرخص فيه لخاصة انبيائه، ولكنه سبحانه كره إليهم التكابر....
فإن الله سبحانه يختبر عباده المستكبرين في انفسهم،بأوليائه المستضعفين في اعينهم، ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون - صلى الله عليهما على فرعون وعليهما مد ارع الصوف وبأيديهما العصي...
ولو اراد الله سبحانه لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان، ومعادن العقيان....ولو فعل لسقط البلاء وبطل الجزاء واضمحلت الانباء ولما وجب للقابلين أجور المبتلين ولا استحق المؤمنون ثواب المحسنين ولا لزمت الاسماء معانيها ولكن الله سبحانه جعل رسله أولي قوة في عزائمهم وضعفا فيما ترى العين من حالاتهم مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنى،وخصاصة تملأ الابصار والاسماع أذى.
وكلما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل).
فيستعرض (عليه السلام) استكبار الامم الماضية وكيف آل مصيرهم،ومن المعلوم أن أكثر استكبارهم كان على أنبياء الله حجه استصغارا لهم، وهو عين الاستكبار والجحود الابليسي،ثم وصف (عليه السلام) حالة موسى وهارون عند دخولهما على فرعون من حالة التواضع والمسكنة زيادة امتحان الله لفرعون إذ لو بعث الله انبياءه بالقدرة المهيبة والسطوة الشديدة لسقط البلاء وبطل الجزاء ولكان الايمان عن خوف القوة أو رغبة فيها لدبّ الشرك في النيات، ولكان التسليم ليس لله تعالى وحده، فمن ثم يظهر وجه التناسب الطردي بين شدة الامتحان وشدة الخلوص في التوحيد، وهذا يتجلى بوضوح في رسل الله تعالى وخلفائه حيث انه تعالى أراد أن يكون الاتباع لرسله والاستكانة لأمره له خاصة أي التذلل له تعالى في كل من التابع وهم البشر والمتبوع وهم الرسل والحجج،فيصفى الامر عن أي كبر وإدعاء استقلالية في البين لأن الكبر هو دعوى المخلوق الفقير الغنى والاستقلال عن الباري بأي نحو كان. (ألا ترون أن الله سبحانه اختبر الاولين من لدن أدم صلوات الله عليه إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضر ولا تنفع ولا تبصر...
ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام ومشاعره العظام بين جنات وانهار وسهل وقرار جم الاشجار داني الثمار ملتف البنى متصل القرى بين برة سمراء وروضة خضراء وأرياف محدقة وعراص مغدقة وزروع ناضرة وطرق عامرة لكان قد صغر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد ويتعبدهم بأنواع المجاهد ويبتليهم بضروب المكاره إخراجا للتكبر من قلوبهم وإسكانا للتذلل في نفوسهم وليجعل ذلك أبوابا فتحا إلى فضله وأسبابا ذللا لعفوه....
فالله في عاجل البغي وأجل وخامة اللم وسوء عاقبة الكبر فإنها مصيدة إبليس العظمى ومكيدته الكبرى...
انظروا إلى ما في هذه الافعال من قمع نواجم الفخر وقدع طوالع الكبر).
يتعرض إلى وجود هذا السلك التوحيدي الجامع لكل أبواب الشريعة فيتعرض إلى وجود هذه الحكمة في الحج إلى بيت الله الحرام وأن ضروب المشقة في السفر وأداء الاعمال ووعورة المسالك كل ذلك اختبارا بالشدائد وأنواع المجاهد ليخرج التكبر من قلوبهم واسكانا للتذلل في نفوسهم، إذ حالة التكبر شرك وندية لذوات البشر مع باريهم وخروج منهم عن طورهم وواقعهم وهو الفقر لباريهم بخلاف حالة الذل في النفس فإنها حالة توحيد وخضوع لتسليم الذوات حينئذ بالفقر للباري وأن الغنى والعز خاص به تعالى.
ثم انه (عليه السلام) يبين وجود هذه الحكمة ايضا في بقية الفرائض في الصلاة والزكاة والصيام مع ما فيها من الحكم الاخرى من انها تسبب خشوع أبصار البشر، وتسكنّ أطرافهم، وتذلل نفوسهم، وتذهب خيلاءهم، وأنها دواء عن السموم القاتلة لابليس وهي الكبر الذي وصفه (عليه السلام) بأنه مكيدة ابليس الكبرى.
(ولقد نظرت فما وجدت أحدا من العالمين يتعصب لشئ من الاشياء إلا عن علة تحتمل تمويه الجهلاء او حجة تليط بعقول السفهاء غيركم فإنكم تتعصبون لأمر ما يُعرف له سبب ولا علة، أما ابليس فتعصب على أدم لأصله وطعن عليه فى خلقته....واما الاغنياء من مترفة الامم فتعصبوا لآثار مواقع النعم..
فإن كان لا بد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد الافعال ومحاسن الامور....
فتعصبوا لخلال الخمد من الحفظ للجوار والوفاء بالذمام والطاعة للبر والمعصية للكبر والاخذ بالفضل والكف عن البغي والإعظام للقتل والإنصاف للخلق والكظم للغيظ، واجتناب الفساد في الارض واحذروا ما نزل بالامم قبلكم من المثلات بسوء الافعال وذمم الاعمال فتذكروا في الخير والشر أحوالهم واحذروا ان تكونوا امثالهم...
وتدبروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء، ألم يكونوا اثقل الخلائق أعباء وأجهد العباد بلاء وأضيق أهل الدنيا حالا...... ألا وقد قطعتم قيد الاسلام وعطلتم حدوده وامتم أحكامه).
ثم انه (عليه السلام) يبين أن العصبية وليدة الكبر والاستكبار على اختلاف الوانه وأقسامه، وأن الحريّ بالانسان أن يتعصب للفضائل والمكارم المحمودة.
ثم أنه (عليه السلام) بين أن النصرة والعزة لأي أمة من الامم لا تكون إلا بالولاية فإنه بها يذهب تشتت الألفة وتزول اختلاف الكلمة والافئدة، وكذلك كان حال ولد اسماعيل وبني اسحاق وبني اسرائيل، حيث كانت الا كاسرة والقياصرة غالبين لهم قاهرين عليهم، إلا انه بنعمة الله عليهم حين بعث رسولا إليهم انتظمت به ملتهم وطاعتهم وألفتهم واغدقت عليهم البركات فعادوا قاهرين بعد ان كانوا مقهورين، وغالبين بعد ان كانوا مغلوبين،ولكنهم - بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) - سرعان ما تركوا حبل الطاعة والولاية وهدموا حصن الله تعالى بأحكام الجاهلية وصاروا بعد الهجرة أعرابا،وبعد موالاتهم لولي الله أحزابا، لم يبقوا إلا على ظاهر الاسلام يرفعون شعار النار ولا العار، إلى ان تمادى بهم الامر أن قطعوا قيد الاسلام وعطلوا حدوده وأحكامه.
(ألا وقد امرني الله بقتال أهل البغي والنكث الفساد في الارض، فإما الناكثون فقد قاتلت وأما القاسطون فقد جاهدت،واما المارقة فقد دوخت...
أنا وضعت بكلاكل العرب وكسرت نواجم قرون ربيعة ومضر...
ولقد قرن الله به (صلى الله عليه وآله) من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن اخلاق العالم ليله ونهاره.
ولقد كنت اتبعه اتباع الفصيل أثر امه يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما ويأمرني بالاقتداء به ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه، ولايراه غيري ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة.ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلى الله عليه وآله)، فقلت: يا رسول الله،ما هذه الرنة؟ فقال:هذا الشيطان، قد أيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلا أنك لست بنبي ولكنك لوزير، وإنك لعلى خير....).
فبعد ما بين (عليه السلام) أن قوة الامة وعزها بموالاة ولي الله وخليفته في أرضه وأن هذه الموالاة تذلل في النفوس وتواضع للباري تعالى سبب لنزول الفيض الالهي والبركات والنعم وأن بدون موالاة حجة الله تعالى في أرضه تدب الفرقة والاهواء والاحزاب لكون ذلك عن كبر في النفوس واستكبار وهو منشأ نزاع كل منهما مع الآخر، بعد هذا كله، أخذ (عليه السلام) في بيان الادلة والبراهين على تقلده لمقام خليفة الله في أرضه وحجته على عباده بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) من بيان الصفات الخاصة التي يتحلى بها سواء للتربية السوية أو الاهلية الروحية الخاصة به حيث يرى نور الوحي والرسالة ويسمع المغيبات حتى قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنك تسمع ما اسمع وترى ما أرى... إي أنه قد أوتي مؤهلات العلم اللدني، ثم يبين أنه اول السابقين إلى الاسلام وأنه معصوم من الزلل والخطل، وأنه أقرب واشد الناس اتباعا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وغيرها من الصفات التي تشير إلى تقلده الخلافة الالهية.
وبهذا يختم خطبته عطفا على ما بدأ من أن كمال التوحيد وتمام الاخلاص هو بموالاة ولي الله وطاعته كما في سجود الملائكة لآدم ولذلك كفر ابليس اللعين ودحر باستكباره عن ولاية خليفة الله.
وبذلك يفصح (عليه السلام) عن وجه هذه الواقعة القرآنية التي تكررت في سبع سور من القرآن الكريم،كما أنه (عليه السلام) افصح عن حقه وغصب القوم له، ومن بديع الحكمة الذي أظهره (عليه السلام) أن يبين كيفية كون الصفات الخلقية هي جذر الافعال.وان الاعتقادات جذر للصفات الخلقية، أي ان كل فعل صادر من الفاعل المختار منشؤه صفة خلقية في نفس الانسان وهي منشؤها أمر اعتقادي يبطنه الفاعل ذو الصفة المعينة وهذا يفسر موالاة ولي الله وخليفته في أرضه وعدم موالاته أنهما يتسببان عن التواضع في النفس في الموالي والمنقاد، والكبر في الجاحد والمنكر، وأن التواضع متسبب عن خلوص الشخص لربه أي خلوص توحيد لربه عن الشرك بإقامة ذات نفسه ندا لخالقه، والكبر كفر وجحود وشرك لاقامة المتكبر ذات نفسه مستقلة على غير ما هي عليه من الحد الواقعي من الفقر لله تعالى.
ومن ثم يتبين أن الولاية لخليفة الله في ارضه على أصعدة ثلاث في الفعل وفي الخلق بالمحبة له، وفي الاعتقاد بالاذعان أنه مجعول من قبل الباري.
وهكذا نرى الامام يتدرج من الكفر الابليسي إلى الكفر في النبوة ثم الكفر في الافعال يرى أن جذرها كلها واحد هو الانصياع إلى الانا وعدم تسليم النفس لله الواحد الاحد وعدم الانصياع لأوامره وأن كل شيء ذائب فيه وأن لا استقلالية لأحد بل كل في سبيله ومن أجله وكل آية له سبحانه،و أخيرا يصل إلى الاخلاق وأن منشأ جميع الرذائل يرجع إلى الكبر ومنشأ كل الفضائل يرجع إلى الخضوع، والامام في كل هذا يربط بين اقسام الكفر ويرجعها إلى الاصل الواحد.
تعليق