عالــــــــم سبيـــــــط
بين دكتاتورية النظام ... ومصادر الآخرين
بقلم : بهاء زهير الصالح
استطاعت تجربة النيلي ان تأخذ لها مكانا مرموقاً في زمن المحاذير والمناطق الحمراء في حقل الفكر والكتابة . لقد تخطت تجربته المعرفية كل تلك الحواجز والمحاذير بهدوء ، وكذلك كان رحيله بنفس ذلك الهدوء والسكينة وقبل ان يلفت الأنتباه مما ادى الى اعطاء دفعة عنيفة وصاخبة لكتبه الى عالم الجدل والنقاش والخصومات في مختلف أروقة المجتمع العراقي . حتى استطيع القول انه اصبح من نخبة الكتاب العراقيين الذين حازوا على اكبر نسبة قراء من مختلف طبقات وشرائح مجتمعنا ، وكان اكثر هؤلاء الكتاب اثارة للجدل .
وفي زمن قلة المسموح نضجت اشكاليات (سبيط) الفلسفية والأدبية والشرعية وتعرضت لثوابت الصروح الفكرية القائمة لتعيد تلك الثوابت الى مرحلة التقييم والتحليل تلك الفترة التي كانت موصوفة بحلول وثقافة القيادة الفذة التي ضربت معاولها في مؤسسات الكتابة والنشر العراقية ، وأظهرت بريق وسحر دنانيرها وعطاياها القومية السخية في ارجاء العالم العربي الذي شيد بدوره صروح عزة القائد الضرورة ومسخ النتاجات العلمية والأدبية والعراقية في داخل العراق وخارجه وجرها الى زاوية النسيان واللاجدوى في متبنيات الفكر العربي المأجور.
مع كل ذلك لم يبقى امام سبيط سوى الحاسبات الشخصية للاصدقاء والمعارف فكانت بمثابة دور النشر ومكاتب التوزيع البديلة ، ورغم سلبيات هذا الحل الا ان الطبعات الأنيقة والمراجعة لغوياً لدار المأمون لم تستطع ان تدخل حيز المنافسة في ميدان حجم الطلب وعدد القراء مع كتب سبيط المليئة بالأخطاء والهفوات الطباعية .
لم يخطط احد لطول عمر سبيط وما العمل فيما لو عُرف كاسم مقروء في ظل تلك الظروف ، او ما هي الثوابت والأطر الديمقراطية التي سيتم التعامل بها معه من قبل سلطة أبطال ملحمة حلبجة وحفر الإبادة . لقد مضى بسرعة قبل ان يحصل ذلك اللقاء الذي يؤرق كتاب العراق وعامة مواطنيه . ولكن ما هو البديل الذي كان مطروحاً فيما لو بقي سبيط حياً . في ظل حملة ايمانية وقت ذاك ابُدلت فيها الأسماء الإسلامية للمتاجر والمطاعم في مدينة الحلة مثلاً ، او تعرض البعض خلالها الى محاكمة بسبب لافتة بمناسبة وفاة او ولادة نبي الإسلام.
الحقيقة لقد استهان البعض بثوابت النظام ، وربما لأنهم لم يجربوا عملية قلع الأضافر لتسلية ضابط امن طائفي من مذهب الدولة الحاكم.
لقد طبعت مجموعة من اخطر كتبه بأسمه دون اكتراث ، وتم التنويه او الحديث بصراحة عن البقية من المخطوطات التي وجدها البعض محرجة.
ومع رحيل عالم سبيط أستمر الخطر المحدق بتلك النتاجات اليتيمة وبمعارف سبيط الحذرين منهم والمتهورين على السواء وكنت أضع سقف زمني يتناسب مع تصرفات البعض لتمتد إلي يد العيون الساهرة لتضمني فيما وراء السحاب لأدفع ثمن أخطاء الآخرين وأستخفافهم بوحشية الحزب القائد مع الأخذ بنظر الأعتبار الفترة الوجيزة بين وفاة سبيط وبين تنبه أجهزة القمع البعثية.
لقد مارست المؤسسات التي كانت هي بدورها تعاني من أضطهاد منقطع النظير أقول مارست دور الدكتاتور الذي لايملك السلطة في تعاملها مع الطروحات السبيطية عن طريق اللغاء والتعالي والأتهام الكلاسيكي بالعمالة. بل وصل الأمر بها الى قيامها بالتشبه بالنظام التكريتي وأصدار كتاب يضم توليفه من الأتهامات والمصادرات تحت أسم يعتبر ذا حساسية شديدة للعراقيين وهو المحاكمة. حيث مارس الكاتب فيه دور القاضي والمدعي العام والمجني عليه في وقت واحد. وقد تعرضت لتحليل هذا الكتاب وعموم هذه الظاهرة بدراسة أسميتها الأستئناف (لم تطبع).
ولم تختلف عن مثل هذا التوجه المؤسسات الأكاديمية إلا أنها كانت أقل حدة وأقترب بعض أربابها من الموضوعية في معرض مناقشة إيجابيات وسلبيات الطرح السبيطي. مع العلم أن المحيطين بالباحث الراحل قد بذلوا جهوداً كبيرة وسعوا بقوة من أجل أستقطاب بعض هؤلاء الأكاديميين خصوصاً ، عندما تتاح لسبيط فرصة لتقديم امسية او محاضرة في اتحاد أدباء الحلة او غيره فنرى الأصرار الشديد على ان يقوم بتقديمه شخصية اكاديمية ذات شهادة عليا ولو على سبيل المجاملة والشكليات ، ليتم تقديم سبيط ببضع جمل تصلح كاطار عام او برواز لكل الاختصاصات المعرفية فيكون سبيط كالمحكوم عليه بان لا يدخل الى نتجاته إلا من خلال هذه الشخصيات وتحت وصايتها ، مع الأخذ بنظر الاعتبار اختلاف بل وتزاحم المنطلقات الفكرية للمقدم والمحاظر ، لقد عانى سبيط من زمن الممنوع العراقي وقلة الامكانية المادية وعانى اكثر من تدخلات الآخرين من المحيطين به كما صرح هو بذلك للجميع ، بل وصل الأمر به في احدى المناسبات الى انه اجهش في البكاء وقال ( ألا يفهم ان من يستطيع ان يكتب بهذا المستوى هو الأولى بايجاد الطريقة المناسبة للتعريف والنشر ) . وقمت بنقل تلك الحادثة الى الآخرين علهم ينثنون عن مشاريعهم الكيفية .*****
لقد نجح سبيط في مقاومة بعض الرغبات شبه القسرية ولكنه استسلم لرغبات اخرى او اصابته هفوة كما يصاب غيره بها ولكنها مع سبيط تكون من النوع غير المغتفر لحساسية منهجه ودقة طروحاته . ومن امثلة هذه الهفوات كتاب الشهاب الثاقب الذي ناقش فيه مناطق النقد التي عرض بها الملقب بأحمد الكاتب على فكر وعقيدة الشيعةة الأثني عشرية ، حيث خرج سبيط فيه حدود اللياقة المعتادة خصوصاً في مثل هذه القضايا . واتجه الى التصريح بدل التلميح والأشارة . وفات سبيط ان مثل هذه المواضيع لا تحتمل التشنج مطلقاً بل يجب إظهار الحياد حتى عند الدفاع عن اكثر القضايا اهمية. وللأسف لو ان الإعداد لهذا الكتاب قد تم في اجواء رحبة لأصبح من الكتب الشهيرة في حوارا المذاهب امثال المراجعات وثم اهتديت وغيرها لما يمتلكه سبيط من دقة ملاحظة ومنهج صارم ولكن للأمانة ولإطلاع القراء اذكر نقطتين:
اولهما: ان معرفتي بسبيط تجعلني اجزم انه لم يكن ليكتب تلك الألفاظ او يستعملها لولا الجو المشحون الذي وفره البعض حوله وإصرارهم على إيراد عبارات من هذا النوع وامتناعهم ومعارضتهم لأي محاولة لحذفها في حياته وبعد وفاته .
ثانياً: بقي هذا الكتاب عندي حوالي ستة اشهر بعد ان اقتنع سبيط بضرورة ابدال ورفع عبارات ومناطق التشنج ولكني وجدت إن هناك فقرات كاملة يجب أن تُبدل لتلائم منهجية الكاتب وحساسية مثل هذا الحوار ، ولم يكن من الأمانة او العلمية ان اقوم بهذه المهمة على الرغم من انه طلب مني ذلك . واخبرت الباحث الراحل بهذه المشكلة ونصحته باعادة النظر في آلية الطرح ومرة اخرى جاء دور الآخرين وتقريباً صادروا كتابه كما كان يصرح هو بذلك احياناً ، واصروا على بقاء تلك العبارات بما يتلائم مع منهجهم العلمي .
وفات هؤلاء ان هذا الكتاب سيظل بهذه السمة غير الرسمية لأنك لن تجد مطبعة او دار نشر او مؤسسة بحثية ستتبنى هذا الكتاب لأنها ستعرض مصداقيتها وحياديتها للخطر وستقدم نفسها كمشروع طائفي .
والآن يتسابق البعض في اصدار كتب وكتيبات تحمل اسم عالم سبيط اضافة لأسمائهم ، بل طبع احدهم كتيب منها واهداها الى احد امواته. اما تلك ((الاصدارات)) فكانت مجموعة اوراق في مواضيع متعددة كتبها سبيط او فكر فيها على الورق اضافة الى مشاريع لكتب بدئها ولم ينجزها.
ولم تكن الكتابة مهنة او شأن هؤلاء حتى ينتبهوا الى الفارق الجسيم بين ان يكون الكتاب كاملاً ومراجعاً من قبل مؤلفه وبين ان يكون مجرد اوراق غير مكتملة المفروض لها ان تصدر بعنوان وثائق لعالم سبيط بما يجنيه النقد والاعتراض عليها لإشتمالها على العديد من الهفوات التي عادة ما تحصل قبل المراجعة والانجاز . لا بل وجدت من قدم لهذه الكتب وقام كما ادعى ( بتنقيحها وتعريفها ) للقاريء ، وبدل ان يكتب احدهم شيئاً ويضع فيه اسم سبيط رأيتهم وضعو اسمائهم في كتبه لغاية مكشوفة ورخيصة .
وطبعاً ليس لسبيط دار نشر او مؤسسة بحثية تدافع عن حقوقه ، فأستمر هؤلاء بمنهجهم ومتعوا انفسهم بحرية غير مسبوقة على كتب ومؤلفات الغير ولكن في المستقبل من ذا سيثبت ان تلك الألقاب ( المميزة ) الموجودة في تقديمات كتب عالم سبيط عي التي قامت باصدار هذه الكتب او عملت قسراً على ان تكون بعض تلك الأوراق كتاباً.
ولقد صدق عليهم قول السيد حيدر الحلي ....
وتجملت ولكن هذه سلبت وجهك لو تدري الجمالا
المصادرة الأخرى التي ستنعطف بالمنهج وصاحبه الى جهة غير مرغوبة هو اصدار عليه اسم عالم سبيط ومع مقدمة ولقب مميز طبعاً وهو فيما يسمى ((الطب القرآني)) ، لكنك لن تجد قرآناً في هذا الكتاب بل ستجد نصوص حديث تنصح بتلاوة آيات معينة او اذكار او ادعية لعلاج مختلف الأعراض الجسدية ، كما تجدها في كتاب مكارم الأخلاق والتحفية الرضوية والاحراز المجربة وما الى ذلك لتبقى نفس المشكلة التي جاء منهج سبيط لحلها وهي كيفية اثبات متن الرواية في ظل العلاقة المجهولة بين ايات القرآن وبين وجع البطن او الرأس او آلام الظهر ... وكيف سيتم تمييز النصوص المزيفة والموضوعة وهل سيكتشف سبيط او من قام بالتقديم على هذا الكتاب الخلل فيما لو ابدلت الآية (15) بدل الآية (22) من سورة ما لعلاج النقرس مثلاً.
علماً ان هذا الميدان واعني به العلاج بآيات القرآن لم يخلو من مئات النصوص المبتكرة قديماً وحديثاً لطلب الشهرة او دفعاً للإحراج ، مع العلم ان الكثير من المتشرعة في الماضي كان يقوم بنفس دور الحلاق في الأحياء القديمة ( أي انه يفهم في كل شيء ) ، فكيف سيتم فحص وتحقيق هذه النصوص في ظل هذه العلاقة المجهولة من جهة اخرى .
فاتجة سبيط الى منهج رفضه هو اصلاً ( اذا سلمنا بكونه مصدراً للكتاب )وهو الإعتماد على الاحاديث والأخذ بدلالاتها بدون عملية العرض على القرآن .
ولم يكن منتظراً ان يتجه عالم سبيط الى هذا الإتجاه لولا تدخل والحاح الآخرين الذين ارادوا لصورته لمحة روزخونية على حسب الطراز الذي يعرفونه ومع شديد الأسف ان هذه الهفوة لا يمكن ايجاد تبرير لها خصوصاً لباحث في مثل حجم ثقافة واطلاع عالم سبيط .
واخيراً قيامهم يالتنظير لشكله وشأنه على حسب ( استطاعة ) البعض رؤيته في المنام لتبقى عقدة القداسة قائمة في نفوسهم والتي تمسخ المنهج العلمي وعنصر التحقيق رويداً رويداً.
ولكن ما هذه الإرهاصات الا جزء من مصادرة ارادته وثقافته حياً وميتاً
تعليق