بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد، صلى الله عليه وآله وسلم.
وبعد!
قرأتُ تقريراً عن العلويين النصيريين وضِعَ على موقع البرغوثي في شبكة المعلومات العالمية، ونظراً لما لمستُ ــ من خلال عناوين المواضيع المطروحة على الصفحة الرئيسية للموقع المذكور ــ من تطرّف ديني بالغ الخطورة قررتُ أن أسلِّط الضوءَ على بعض ما جاء في التقرير المشار إليه لتعم الفائدة ويُنال الأجر ــ إن شاء الله ــ.
وقبل البداية بما عقدتُ العزيمة عليه أودُّ الإشارةَ إلى أمرٍ، وهو غاية في الأهمية بالنسبة لي شخصياً، وهو أني لا أكتب شيئاً بقصد الدفاع أو الهجوم؛ وإن كانت نصرةُ الحقِّ ــ دفاعاً أو هجوماً ــ شرفاً عظيماً، ولكنني أكتب ما أكتب الآن محاولاً المشاركة الفعالة في خدمة الإسلام والمسلمين، والإنسانية جمعاء؛ وإن الله لا يضيع أجر عمل عامل.
*وقفة مع التعريف:
ــ "النصيريون يعدون من غلاة الشيعة":
في الحقيقة أنه لا يوجد في الشيعة تقسيمات أو فئات على نحو ما ذهب إليه واضع التقرير أو مَن نقل عنهم. فلا يوجد شيعة غلاة، وشيعة معتدلة، وشيعة دون ذلك؛ ولا أعني بذلك أنه لا يوجد من الشيعة مَن يندرج تحت اسم الاعتدال أو التطرف، بل على العكس تماماً. حيث نجد في أغلب المذاهب والطوائف تيارات تمثل الاعتدال والتطرف، ولكن هذا لا علاقة له بالغلو المنسوب إلى الشيعة. فالشيعة تتبرأ قطعياً وعملياً من كلّ مَن يخالف جوهر الإسلام الذي لم يختلف عليه جميع علماء المذاهب، السنية والشيعية؛ وهذا ما يعني أن لا علاقة للشيعة بمَن كان ينتسب إليها من حيث الاسم فقط، استتاراً، ثم أظهر خروجه عن جوهر الإسلام علانيةً.
ــ "مقصد النصيريين هدم الإسلام ونقض عُراه":
قد يتعذر ــ نسبياً ــ فهم المقصد الحقيقي لأشخاص مازالوا يمارسون دورهم الاجتماعي على نحوٍ غامضٍ أو متلوِّن، ولكن يسهل معرفة بعض مقاصد مَن سجَّل التاريخُ حياتَهم بشيء من النزاهة والموضوعية مما يساعدنا على إعلان رأينا بقيمهم الفكرية من دون الحكم عليهم. وإذا اعتمدنا على ما تقدم فإننا لن نجد ــ إطلاقاً ــ ما قد يشير إلى شيء مما ذهب إليه مدوِّن ذاك التقرير عن النصيريين، مع العلم أنه لم يُدوَّن شيءٌ عن تلك الطائفة بروح تشابه روحَ مَن سمع عن النزاهة وأراد اعتمادها، ناهيك عن اللاموضوعية واللامنطقية فيما دُوِّن وكثير مما قد يدوَّن عنهم . فأشهر ما كان يُعرف به النصيريون ــ كما يقول المتحدِّثون عنهم ــ أنهم أهل عزلة، وبسيطون إلى درجة السذاجة، ولا يطمحون إلا باليسير. ولم أسمع أن أحداً منهم حاول يوماً نقض شيءٍ مما أتى به الإسلام، وإنْ سمعنا أنَّ لهم فهمهم الخاص لبعض حقائق العبادات وموجبات نيل ثوابها الكامل، وهذا ما يندرج تحت باب الفهم الخاطئ ــ إن كان خطأً ــ، وهو ما قد يكون مشروعاً من باب الاجتهاد أو القياس عند بقية المذاهب والطوائف. وعموماً، إن أخطئوا في كل ما قالوه فما من أحد يستطيع تأويل ذلك على أنه من مبدأ المحاولة في هدم الإسلام؛ فهم على أية حالة لا يخرجون عن كوْنهم مسلمين، يقرون بالشهادتين، ويؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقضاء والقدر خيره وشره. ولا أظن أن هذا يخفى على أحد. وللمنتقدِ الحقُّ في أن ينتقدَ صورةَ أيِّ مفهومٍ من مفاهيمهم الخاصة إنْ حصل على نصٍّ منهم، ثابتٍ وصحيحٍ، يخالف المفهومَ الإسلاميَّ العامَ لتلك القضايا الدينية.
ــ"وهم مع كل غازٍ لأرض المسلمين":
قد تكون هذه الجملة أطرف وأغرب ما جاء في هذا التعريف غير الدقيق. فلم نسمع عن هدوءٍ لنفسِ نصيريٍّ واحدٍ وهناك مَن ينتهك حرمةَ أخيه المسلم إلا إذا كان كأمثاله الخونة الموجودين في كل ملّة ومذهب. وفي الحقيقة، إن أشد ما يدهشني كيف فات كاتبَ ذاكَ التقريرِ الموجزِ اسمُ الشيخِ صالح العلي الذائعُ الصيت، ورأي أعدائه بثورته العظيمة النبيلة قبل رأي إخوانه المسلمين؛ وما عهد الشيخ صالح منا ببعيد. والتعفف عن الإطالة في هذه الناحية أشرف من محاولة البرهان على نور الشمس.
ــ"وقد أطلق على النصيريين الاستعمارُ الفرنسي لسوريا اسمَ العلويين تمويهاً وتغطية لحقيقتهم الرافضية والباطنية":
أولاً، ليس اسم العلويين المنسوب إطلاقه إلى الفرنسيين بالاسم الجديد على مسامع أبناء الطائفة النصيرية، ولا بالاسم المستحدَث عندهم بالنسبة إلى نظرتهم إلى أنفسهم من تبعيةٍ حقيقيةٍ للإمام علي ــ كرم الله وجهه ــ تستحق ذلك الاسم؛ وتجدر الإشارة هنا إلى أن تسمية أتباع الإمام علي بـ: "العلويين" تسمية قديمة جداً، وقبل الاستعمار الفرنسي بمئات السنين.(1)
ثانياً، لم يكن إطلاق اسم العلويين من الاحتلال الفرنسي على سبيل التمويه، فما موجبات التمويه بالنسبة للمحتلين آنذاك؛ وإنما تم اعتماد اسم "العلويين" لتثبيت وتكريس التفرقة الطائفية بين المذاهب الإسلامية، فلو أن المستعمرين الفرنسيين اقتصروا على اسم النصيريين فلن يضمنوا به انخراط معظم العلويين تحت لوائه! ثالثاً، ألم يعرف مؤلف التقرير أن دولة العلويين المثار حولها تلك الشبهات كانت أصغر الدويلات المقسَّمة من قِبل قائد القوات الفرنسية آنذاك، الجنرال غورو. حيث بلغت مساحة دولة دمشق /45000/كم2، ومساحة دولة حلب /82000/كم2، ومساحة دولة جبل الدروز /6000/كم2، بينما مساحة دولة العلويين /4500/كم2.(2)
لِمَ لمْ يذكر واضع التقرير أن كل تلك الدويلات كان لها رئيس وطني إلا دولة العلويين؟
لِمَ لم ينوِّه عن سبب استفراد الاحتلال الفرنسي بحاكم فرنسي على الدولة العلوية وهي الأصغر؟ ألم تلقَ القوات الفرنسية أشرس مقاومة من العلويين؟!
قد يصعب الخوض في كل هذه المسائل في هذه العجالة ولكن يسهل استكشاف أهداف المفرِّقون المتعصِّبون.
الحقيقة أن التعريف كله لم يرد فيه عبارة صحيحة واحدة إلا عبارة "حقيقتهم الرافضية" مع عدم دقة لفظها. فكلمة "الرافضة" من الكلمات المتروكة الآن عند المثقفين الغيورين على مصلحة الإسلام، إذ أُطلقتْ هذه الكلمة في زمن التعصبات، وكم كان زمناً مخزياً. ألم تهتك الحُرُمات الإسلامية بين المذاهب السنية فيما بينها باسم الإسلام؟! وطبعاً، أنا لا أُبرأ كل الشيعة من كل ما قد تعنيه هذه الكلمة من معنى منطقي، وهو أن مَن نظر في أحقية خلافة الإمام علي بن أبي طالب ــ كرم الله وجهه ــ بعد رسول الله مباشرة هو رافضٌ لما عليه جمهور أهل "السنة" من خلافة الخلفاء الثلاثة الأوائل ــ رضوان الله عليهم ــ.
وكذلك أنا لا أقول إن كل النصيريين الموجودين الآن هم من الشيعة الجعفرية دون أن يكون لهم رؤية خاصة لبعض الأمور الفرعية ــ كما نقرأ لبعض مؤلفيهم المعاصرين ــ، أيْ هناك قلة قليلة منهم يتخذون طريقةً صوفيةً في أداء بعض الطقوس الدينية أو فهم بعض فروع دينهم. وعموماً، أنا أترك لعلمائهم حق الإعلان عما يجب الإعلان عنه؛ علماً بأن مكتبتي فيها قِسم لا بأس به من كُتب بعض علمائهم كالمرحوم الحاج عبد الرحمن الخير ــ رحمه الله ــ، وفيها كُتب مختصة في إيضاحِ حقيقة معتقدهم ككتاب "المسلمون العلويون شيعة أهل البيت" وهو بيان عقيدة العلويين؛ وبالاطلاع على مثل تلك الكتب يمكن ملاحظة تمسكهم بالدين الإسلامي الحنيف، وغيرتهم على المحافظة على مبادئه، وإصرارهم على نبذ التمذهب والتفرق.(3)
*فقرة أبرز الشخصيات النصيرية:
ــ مؤسس الفرقة النصيرية أبو شعيب محمد بن نصير:
بادئ ذي بدء، لا يمكن اعتبار معاصرةِ أحدٍ لإمامٍ أو أكثر أنه يعني وجوب نسبه إليه، أو إلحاقه بصفوف تابعيه والمخلصين له؛ وهذا أمر متفق عليه ومتعارف على أصوله عند كافة المحققين والباحثين.
ثانياً، لم يرد حديثٌ صحيحٌ في الكُتب المعتمدة لدى الشيعة ــ على ما أعلم ــ فيه إشارة إلى منزلة أبي شعيب المزعومة.
ثالثاً، لم يدَّخر الشيعةُ وسعاً في تبيين هذا الأمر وهو إعلانهم المرة بعد المرة براءتهم من أبي شعيب أولاً وآخراً.(4)
رابعاً، لم يفوِّت النخبةُ من علماء العلويين فرصةً في إبداء رأيهم النيّر بذلك، ولله در المرحوم الحاج عبد الرحمن الخير حين قال في نقده وتقريظه لكتاب "تاريخ العلويين":
{وبما أن مؤلف "تاريخ العلويين" يورد في هذا البحث أسماءَ أشخاصٍ أعلن الأئمةُ المعصومون ــ رضوان الله عليهم ــ تخطئتهم، وأجمع علماء الشيعة على رفض آرائهم في الغلوّ، فلا مجال له ولا لغيره في القول بمدحهم. وأكتفي بالقول أن هذا البحث هو من خيال المؤلف وسماعياته التي لا تُعتَبر في التقييم التاريخي. وأضيف ما لمَّحتُ إليه سابقاً أن طرق التصوُّف هي أساليبٌ للذكْرِ يطلع عليها بعضُ الناسِ دون بعضٍ، وقد يوجد أستاذٌ يأخذ بطريقةٍ ما من طرق التصوف ويرفضها تلميذه، أو أنه لم يطلع عليها، كما قد يوجد ابن يأخذ برأي متصوف في حين أن أباه وأخاه، وهما في مرتبته العلمية، يسفِّهان ذلك الرأي أو يرفضانه، أو لم يطلعا عليه. وهذا عام عند جميع السالكين في طرق التصوف المتعددة، حتى أن أبناء الطريقة الواحدة يختلفون فيما بينهم حول تفسيرٍ أو رأي أو أسلوب، فتنشق الطريقة إلى شعب متعددة. وبرغم كل هذا فإن السالكين في أية طريقة صوفية هم قلة بالنسبة إلى مَن لا يهتمون بالطرق من جميع فئات المسلمين على اختلاف مذاهبهم.}
خامساً، ليس من الضروري أن يكون مذموماً كل مَن لم يُحمَد بأقلام المؤرخين أصحاب الأهواء والآراء المسبقة، وهناك من المؤلفين النصيريين الحديثين مَن يرون أن أبا شعيب كان مظلوماً، وأنه من خاص الشيعة، بمعنى: أنه بريء من الغلو وكل ما يخالف الأصول الشيعية العامة؛ وأترك للعلماء على وجه الخصوص البت في هذا الأمر.(5)
ــ أبو محمد عبد الله بن محمد الجنان:
في الحقيقة، لا يوجد أيُّ دليلٍ يبرهن على أن كاتب ذاك التقرير الموجز قد راجع المراجع التاريخية أو توخَّى أيةَ حيطةٍ، أو أنه واسع الإطلاع في المواضيع التي يطرحها، وهي مواضيع ــ ويا للأسف ــ ستكون سبباً في مأساة آخرين. فالمفترض بالباحث أن يدقق ما يقرأه من المعلومات التي يطلع عليها حتى يكون ذا مصداقية علمية، لا أن ينقل ما يقع تحت يديه عمَّن كتب بغير علم ولا دراية؛ وهنا أنا لا أتحدَّث عما يخص عبد الله بن محمد وحده دون غيره، بل عن مجمل الخطأ الذي وقع به كاتب ذاك التقرير؛ وعبد الله ابن محمد ــ المذكور ــ له شأن كبير عند أصحاب الطريقة الصوفية من العلويين، وهم مَن يُدعَون النصيريون، وأترك لعلمائهم المختصين فرصة الرد على ما جاء عن أعلامهم.
أقول: لقد قال كاتب التقرير أن جنبلا ــ بلدة عبد الله بن محمد ــ بفارس، ولَإِنْ أخطأ الأستاذ علي محمد الموسى في كتابه "الإمام علي والعلويون" في قوله بترجمة عبد الله بن محمد أن "جَنْبُلا" تقع في العراق بين واسط والكوفة فلا أظن أن ياقوت الحموي صاحب "معجم البلدان" قد أخطأ حين قال أن جنبلاء هي كورة وبُليد، وهو منزل بين واسط والكوفة!(6) هذا ناهيك عن أن المعلومات التاريخية تفيد ــ كما ناقد نفسَه كاتبُ التقريرِ في السطر الذي يليه ــ أن الخصيبي هو الذي أتاه وعمه بجنبلا وهناك تتلمذ على يده. ولا أدري إنْ كانت هذه الأستذة أو التلمذة توجب الذم؛ وفي الفقرة التالية مزيد من التفصيل.
ــ حسين بن علي بن الحسين بن حمدان الخصيبي:
أجمعت كتبُ التاريخِ الوارد فيها اسم الخصيبي على أن اسمه الكامل هو الحسين بن حمدان، لا حسين بن علي بن الحسين بن حمدان، ولا أعلم من أين أُوتي له بهذا النسب الجديد، وهذا أولاً.
ثانياً، إن الحسين بن حمدان الخصيبي أو الحضيني هو من الأشخاص الذين لم يُتَّفَقْ على ذمهم، ولا حتى على مخالفتهم لأصول الشيعة؛ مع عدم إنكاري لبعض ما ينسب إلى الخصيبي ــ ولعله تصحيفاً أو تزويراً بقصد أو بدون قصد ــ مما قد لا يوافق المفهوم الشيعي العام لبعض القضايا الفرعية، وتقديري هذا الذي أستند إليه هو مما جاء في ترجمة الخصيبي في موسوعة "أعيان الشيعة"(7). فقد برَّأه السيد محسن الأمين صاحب الموسوعة من الكذب الذي افتري عليه ــ على حدّ تعبير السيد الأمين ــ، واعتمدَ توثيقَ التلعكبري للخصيبي وغيره من العلماء الموثَّقِين. وطبعاً، السيد محسن الأمين ليس الوحيد الذي يوثِّق الخصيبي، فمِن الذين اعتمدوا على أحاديث الخصيبي صاحبُ كتابِ "البرهان في تفسير القرآن"، وحجة الإسلام محمد تقي في كتابه "صحيفة الأبرار"، وغيرهم خلْق كثير ممن سبقوهم ولحقوهم.. وأترك لغيري الخوض في هذا الأمر.
ــ سليمان المرشد:
إن سلمان المرشد، كما يعرف القاصي والداني وكل مَن له عِلم بأحدٍ من النصيريين، ليس من عداد النصيريين العلويين الذين يُحاول كثيرٌ مِن الخلقِ التشهيرَ بهم والنيلَ منهم؛ وكذلك الحال بالنسبة إلى ابنه مجيب؛ وأترك الحديث بهذا الخصوص لمَن يعرف عن المراشدة جميع أمورهم، فمعلوماتي متواضعة عنهم، ولا يمكن الركون إلى كل ما دوِّن عنهم، ولم ألتقِ بغير واحد منهم، مع الإشارة أنني لم أجده يخالف المسلمين بشيء من عباداتهم ولا معتقداتهم.
ــ النقطة الأخيرة في هذه الفقرة، وهي ذكره لسليمان الأذني صاحب الباكورة السليمانية، ومحمد أمين غالب الطويل مؤلف كتاب "تاريخ العلويين":
لقد ذكر واضع التقرير أن سليمان الأدني تنصَّر على يد أحد المبشرين وهرب إلى بيروت حيث أصدر كتابه الباكورة السليمانية التي كشف فيها أسرار الطائفة النصيرية، ومن خلال ما ذكر أتوجَّه له بالسؤال فأقول: أيؤخذ بكلام منشقٍّ ارتد عن الإسلام لكَيْلِ التّهمِ إلى فرقة إسلامية ــ حتى لو لم يكن لها من الالتزام بالإسلام غير الاسم ــ؟ قد يكون من الأفضل عدم إطالة الحديث في هذا الخصوص نظراً لعدم صلاحية المادة المطروحة لأن تكون محلَّ نقاشٍ إسلاميٍّ بنَّاءٍ؛ فكما سبق أن تكلَّمت أنني لا أُدافع عن أحدٍ، وإنما كتبت ما كتبت غيرة على الإسلام.
*متفرقات:
ــ"اتفق علماء المسلمين على أن هؤلاء النصيريين لا تجوز مناكحتهم، ولا تباح ذبائحهم، ولا يصلى على مَن مات منهم ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يجوز استخدامهم في الثغور والحصون":
أولاً، لم أسمع أن علماء المسلمين اتفقوا على أيّ أمرٍ يماثل هذا الموضوع أو يشابهه.
ثانياً، هل عنى بـ: "علماء المسلمين" بعضَ السلفيين الذين لا يُرخَّص لمثلهم بأدنى المسؤوليات العلمية لو كانت هناك مرجعيات إسلامية غيورة في بلدانهم التي أممتهم.
ثالثاً، مَن أعطى صاحبَ التقريرِ الحقَّ في تقزيم الإسلام إلى هذا الحدّ الذي يتوهَّمه، ومَن يرى نفسَهُ ذاك السلفي المتعصِّب التارك للسنّة النبوية الشريفة الجامعة السمحاء حتى يُخرِج قطبَ الإسلامِ "الشيعي" من كوْنية العالم الإسلامي حين قرر أن أول الفرق الإسلامية "الضالة" هي الشيعة؟!(8)
أهذا مبدأ الدين الإسلامي الحنيف؟!
هل نصحح للغير بتكفيرهم واعتماد ما لا يُعتمد عندهم؟
أليس الأَوْلَى بمَن يخش الحوارَ مراجعة نفسه أولاً قبل الآخرين؟
ــ"يقول ابن تيمية إن هؤلاء القوم المسمون بالنصيرية وسائر أصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود والنصارى..":
أولاً، إن ما نشر حول فتاوى ابن تيمية كثير وفيه كفاية لمَن اكتفى.
ثانياً، لم يتفق على مرجعية ابن تيمية جمهورُ علماءِ السنة ــ أنفسهم ــ، وقد ردَّ عليه علماء الشافعية ومنعوه عن التعليم.(9) علماً بأن ما يحتسبه أتباع ابن تيمية من فضل له هو موضع شبهة عند غيرهم، فمما جاء في سيرته أنه طُلب إلى مصر من أجل فتوى أفتى بها، فقصدها، فتعصَّب عليه جماعةٌ من أهلها فسجن مدة، ونُقل إلى الإسكندرية. ثم أُطلق فسافر إلى دمشق سنة /712/هـ، التي نبغ فيها واشتهر من قبلُ، فاعتقل بها سنة /720/هـ، ثم أعيد، ومات معتقلاً بقلعة دمشق.(10)
ــ أخيراً: حول الوثيقة التي يزعم السلفيون أنها كانت من العلويين إلى الحكومة الفرنسية بمناسبة التفاوض على منح الاستقلال لسوريا في عام 1936م:
كما سبق أن ذكرنا، لقد حاول كاتب ذاك التقرير تشويه التاريخ العلوي الحديث كما حاول كثيرون من قبل؛ ودون الخوض في تبرئة الشخصيات التي ذُكرتْ أسماؤها من الموقعين على الوثيقة المزعومة فكل ملة فيها الصالح وفيها الطالح، والوطني والعميل.. أكتفي بالقول:
إنه في عام /1930/م تغير اسم دولة العلويين إلى حكومة اللاذقية، ولعل ذلك عائد إلى فوز الكتلة الوطنية في انتخابات /1928/م، وأرادت فرنسا أن تخفف من مطالب غالبية العلويين الذين كانوا يريدون الوحدة مع حكومة سورية، لكن في عام /1933/م عطَّل المندوب السامي الفرنسي (دوما رتيل) المجلس النيابي فشطت الكتلة الوطنية ضد السلطات الفرنسية وطالبت في كانون الثاني /1936/م بتحرير سورية واستقلالها وإعادة وحدتها. وقامت المظاهرات الوطنية في كل أنحاء البلاد فتصدَّى الجيش الفرنسي لهذه المظاهرات وساد العنف والعذاب والتهجير والنفي، وأَغلقت دمشقُ محلاتها التجارية حوالي /60/ يوماً فتعطَّلت مرافق البلاد، ووقعت منازلات بين رجال الدولة والمواطنين، وخافت فرنسا من قيام ثورة جديدة على شاكلة ثورة /1925/م ــ الثورة السورية الكبرى ــ، فأعلن المندوب السامي فتح باب المفاوضات بين فرنسا والكتلة الوطنية لعقد معاهدة صداقة وتحالف بين البلدين، وفي أيلول /1936/م وقعت المعاهدة وتشتمل على ملاحق نصَّت على انضمام بلاد العلويين وجبل الدروز إلى سورية، وفي تموز /1939/م ألغت فرنسا المعاهدة وعاد التقسيم من جديد، وعاد الحكم الذاتي يمارسه العلويون حتى عام /1942/م عندما أُعيد توحيد سورية في دولة واحدة هي الجمهورية السورية. ومَن أراد الإطلاع على نص قرار ضم دولة العلويين إلى سورية /1936/م وتفاصيل تلك الأمور فليراجع الكتب المختصة.(11)
والآن، وبعد أن لخَّصتُ بعضَ أهم النقاط التي يجب التذكير بها، أنقل مقتطفات من نص مذكرة العلويين المرفوعة إلى وزارة الخارجية الفرنسية في 27/تموز/1936:
{صاحب المعالي: تعلمون ولا ريب يا صاحب المعالي مطالبَ الأمة السورية بتحقيق وحدتها واستقلالها، وعقد معاهدة بين فرنسا وبينها شبيهة بالمعاهدة العراقية الإنكليزية، هذه المعاهدة التي تسود العلاقات السياسية بين هاتين الدولتين، وإن أكثرية العلويين التي نمثلها لَسعيدة بمعرفتها تقارب وجهتي النظر الفرنسية والسورية في المفاوضات الجارية آنياً في باريس لعقد المعاهدة الفرنسية السورية، وإنها تأمل أن تؤول هذه المفاوضات إلى النجاح، ومن جهة أخرى فإنها تجدد ثقتها بالوفد السوري، وتعرب عن عرفان جميلها نحو الاستعدادات الطيبة التي أظهرتها الأكثرية البرلمانية الفرنسية نحو مطالب سورية الحقَّة المشروعة، ونعتبر هذه الاستعدادات الطيبة برهاناً على دوام تقاليد فرنسا بتحرير الشعوب.
إن الاستقلال الإداري (الأوتونومي) الذي أُعطي لبلاد العلويين عام /1920/م لم يكن في مبدئه سوى نظام مؤقَّت يتسنَّى للعلويين بكنفه سرعة تطورهم السياسي والإداري والعلمي كي يتساووا برقيّ طبيعي مع إخوانهم في سورية، ولكن فحوى تصريحات فخامة المسيو بونسو المفوَّض السامي في سورية ولبنان تجاه لجنة الانتداب عام /1933/م وتصريحات المسيو دي كين العديدة تجاه اللجنة ذاتها لم تكن من الجلاء والوضوح بمكان، والحوادث أعظم برهان أن هذا الاستقلال الإداري (الأوتونومي) بدلاً من أن يكون للعلويين عامل رقيّ لم يكن سوى عامل انحطاط وتأخُّر. فإفقار البلاد المطَّرد بضرائب باهظة، والتفكك والانحلال اللذان أصابا فكرة الوفاق والألفة بين العلويين من جرَّاء تطبيق واتّباع مبدأ فرِّق تَسُد وإفساد معنويات البلاد بإنالة الحظوة لطبقة من الناس لا تمثل خيارهم، وإهمال المعارف العامة، براهين لا تقبل النقض على هذا الانحطاط. ....
إن العلويين شيعة مسلمون، وقد برهنوا طوال تاريخهم عن امتناعهم عن قبول كل دعوة من شأنها تحوير عقيدتهم، فهم يحتفظون بشدة بالعقيدة الشيعية الإسلامية، وكأن الصُّدف يا معالي الوزير ساقت بتبشير الآباء اليسوعيين إلى جبالنا وأخذ هذا التبشير يتسرّب إليها منذ عام /1930/م، ومن المفيد إحاطة معاليكم علماً أن الكثيرين من الموظفين الفرنسيين الإداريين يرون بعين الارتياح إلى أعمال الآباء اليسوعيين، وبعدة مناسبات منذ عام /1930/م استلفتنا نظر السلطات العليا في باريس وبيروت إلى هذه الحوادث التبشيرية التي تكون معذورة لو أن الدافع لها اليقين والإيمان إلا أن الشيء المشين في هذه الحوادث، وهنا موضع استيائنا وعليه احتجاجنا، هو استثمار واستغلال فاقة شعب فقير وشراء ضمائر ضعيفة كما تُشترى السلع لتمرق من دين إلى دين آخر.
اسمحوا لنا يا صاحب المعالي بالإدلاء لكم بهذه الحقيقة التي نراها ديناً علينا لفرنسا ولسورية بالسواء ذلك أن أشد أنصار الانفصال بين الموظفين الفرنسيين هم أشد أنصار التبشير اليسوعي، وأما طلب استبقاء (الأوتونومي) الصادر عن بعض الشخصيات العلوية المطواعة لأوامر هؤلاء الموظفين لأنها تملك كل ما لديها منهم، فليس الدافع إليه سوى خشيتها فقدان النعم التي يتمتع بها متى أذن تبدل النظام الحاضر بذهاب الموظفين.
إن القرآن الشريف هو كتاب العلويين سواء أكانوا طلاب وحدة أم طلاب انفصال، ومَن كان القرآن الكريم كتابه فهو مسلم، أحبَّ أم كَرِهَ، إلا أن يرتد عن الإسلام. وإن إخواننا الانفصاليين يصنفون أنفسهم بين أمرين لا ثالث لهما، فإما أن يعترفوا أن القرآن الشريف هو كتابهم، وعندها لا يمكن لهم إلا أن يكونوا مسلمين علويين، وإما أن ينكروا القرآن الشريف وعندها لا يمكن لهم أن يكونوا مسلمين علويين، ولا أن ينتسبوا لأية فرقة من فرق الإسلام. وإنه لَمِن المحزن يا صاحب المعالي وهذه ويا للأسف حالتنا أن يصادف المرء بين قومه أناساً يتخذون أقدس العقائد بضاعة للاتجار بها في سوق التجارة السياسية. ....
لا بد من التساؤل يا معالي الوزير: لِمَ يخشى الانفصاليون أن تكون الوحدة السورية سبباً لاضطهادهم من قبل الأكثرية الإسلامية العربية؟ بينما يرون إخواننا النصارى في دمشق وحماه وحلب متمتعين بذات الحقوق التي يتمتع بها المسلمون، وبينما يعيشون مع هؤلاء المسلمين بسلام، وبينما يعيش علويون آخرون في حمص وحماه وإنطاكية مع السنيين على قدم المساواة وفي جوٍّ مفعم بالوئام والمحبة؟..
إن مئتي ألف علوي ينتظرون اليوم الذي يعلمون به أن الوحدة والاستقلال والمعاهدة الفرنسية السورية أصبحت أموراً محققة، وإن هؤلاء المئتي ألف علوي يرسلون لفرنسا تحية مفعمة بالأمل، ويقدمون لمعاليكم أسمى الاحترام.}(12)
ومَن أراد الإطلاع على نص هذه المذكرة الكامل أو عريضة شباب اللاذقية /1936/م أو عريضة أهل طرطوس /1936/م، وغير ذلك من الأمور المهمة فليراجع الكتب المختصة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر كتاب: الإمام علي والعلويون، علي محمد الموسى.
أقول بعد كل ما تقدم:
أليس الأَولى بالغيورين على الإسلام والمسلمين إيجاد كل ما يربط المسلمين بعضهم ببعض ونزع كل حقد ومحاولة مراجعة الذات والتصحيح..؟
أكتفي بهذا القدر من المراجعة المتواضعة والخجولة لبعض ما جاء عن العلويين على موقع البرغوثي، ومثيله على مواقع أخرى، في شبكة المعلومات العالمية مع إقراري واعترافي بعجزي وضعفي، فلستُ كاتباً بارعاً في اللغة، ولا متخصصاً عظيماً فيما طرحتُ، فأرجو العفو عن التقصير.
كتبه
أبو النور ــ حمص/سوريا
2002
www.alaweenonline.com
(1) انظر: النبأ اليقين عن العلويين، الشيخ محمود الصالح، قدم له الأستاذ محمد عنبر، دار المرساة، ط3، ص51 وما بعدها.
(2) انظر كتاب الإمام علي والعلويون، علي محمد الموسى، دار الفتاة، ص244.
(3) انظر بيان عقيدة العلويين، مطبعة دار كرم دمشق، وقعه /80/ عالماً من كبار علماء العلويين في سوريا ولبنان.
(4) انظر حول هذه الفقرة والتي سبقتها موسوعة "أعيان الشيعة" لمؤلفها المشهور بعلميته ومصداقيته السيد محسن الأمين، المجلد الأول، بحث المهدي، نصوص حول نفي سفارة أبي شعيب. وكذلك كتاب الأئمة الاثني عشر للسيد هاشم معروف الحسني.
(5) انظر دراسات الفيلسوف الدكتور أسعد أحمد علي، أو كتاب منابع العرفان عند الشيعة الخصيبية لحسن يونس حسن ـ مطبعة آل البيت بيروت. أو كتاب "الخصيبي قدوة مثلى يحتذى" للشيخ محمد حسين مظلوم، دار المحجة البيضاء بيروت. أو كتب الأستاذ الباحث محمد علي حلوم ـ مفتي اللاذقية. أو كتب الشيخ الأديب حامد حسن..
(6) انظر كتاب الإمام علي والعلويون، محمد علي موسى، دار الفتاة ـ دمشق، ص95. ومعجم البلدان، ياقوت الحموي، دار صادر ـ بيروت، المجلد الثاني، ص168
(7) طبعة دار التعارف، ط5، المجلد التاسع، ص150-151.
(8) انظر موقع www.albargothy.net صفحة الدين الإسلامي، الفرق الضالة.
(9) المنجد في الأعلام، ابن تيمية تقي الدين أحمد.
(10) الأعلام، خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، المجلد الأول.
(11) انظر على سبيل المثال كتاب الإمام علي والعلويون، الجزء الأخير منه.
(12) الإمام علي والعلويون، ص248 وما بعدها.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد، صلى الله عليه وآله وسلم.
وبعد!
قرأتُ تقريراً عن العلويين النصيريين وضِعَ على موقع البرغوثي في شبكة المعلومات العالمية، ونظراً لما لمستُ ــ من خلال عناوين المواضيع المطروحة على الصفحة الرئيسية للموقع المذكور ــ من تطرّف ديني بالغ الخطورة قررتُ أن أسلِّط الضوءَ على بعض ما جاء في التقرير المشار إليه لتعم الفائدة ويُنال الأجر ــ إن شاء الله ــ.
وقبل البداية بما عقدتُ العزيمة عليه أودُّ الإشارةَ إلى أمرٍ، وهو غاية في الأهمية بالنسبة لي شخصياً، وهو أني لا أكتب شيئاً بقصد الدفاع أو الهجوم؛ وإن كانت نصرةُ الحقِّ ــ دفاعاً أو هجوماً ــ شرفاً عظيماً، ولكنني أكتب ما أكتب الآن محاولاً المشاركة الفعالة في خدمة الإسلام والمسلمين، والإنسانية جمعاء؛ وإن الله لا يضيع أجر عمل عامل.
*وقفة مع التعريف:
ــ "النصيريون يعدون من غلاة الشيعة":
في الحقيقة أنه لا يوجد في الشيعة تقسيمات أو فئات على نحو ما ذهب إليه واضع التقرير أو مَن نقل عنهم. فلا يوجد شيعة غلاة، وشيعة معتدلة، وشيعة دون ذلك؛ ولا أعني بذلك أنه لا يوجد من الشيعة مَن يندرج تحت اسم الاعتدال أو التطرف، بل على العكس تماماً. حيث نجد في أغلب المذاهب والطوائف تيارات تمثل الاعتدال والتطرف، ولكن هذا لا علاقة له بالغلو المنسوب إلى الشيعة. فالشيعة تتبرأ قطعياً وعملياً من كلّ مَن يخالف جوهر الإسلام الذي لم يختلف عليه جميع علماء المذاهب، السنية والشيعية؛ وهذا ما يعني أن لا علاقة للشيعة بمَن كان ينتسب إليها من حيث الاسم فقط، استتاراً، ثم أظهر خروجه عن جوهر الإسلام علانيةً.
ــ "مقصد النصيريين هدم الإسلام ونقض عُراه":
قد يتعذر ــ نسبياً ــ فهم المقصد الحقيقي لأشخاص مازالوا يمارسون دورهم الاجتماعي على نحوٍ غامضٍ أو متلوِّن، ولكن يسهل معرفة بعض مقاصد مَن سجَّل التاريخُ حياتَهم بشيء من النزاهة والموضوعية مما يساعدنا على إعلان رأينا بقيمهم الفكرية من دون الحكم عليهم. وإذا اعتمدنا على ما تقدم فإننا لن نجد ــ إطلاقاً ــ ما قد يشير إلى شيء مما ذهب إليه مدوِّن ذاك التقرير عن النصيريين، مع العلم أنه لم يُدوَّن شيءٌ عن تلك الطائفة بروح تشابه روحَ مَن سمع عن النزاهة وأراد اعتمادها، ناهيك عن اللاموضوعية واللامنطقية فيما دُوِّن وكثير مما قد يدوَّن عنهم . فأشهر ما كان يُعرف به النصيريون ــ كما يقول المتحدِّثون عنهم ــ أنهم أهل عزلة، وبسيطون إلى درجة السذاجة، ولا يطمحون إلا باليسير. ولم أسمع أن أحداً منهم حاول يوماً نقض شيءٍ مما أتى به الإسلام، وإنْ سمعنا أنَّ لهم فهمهم الخاص لبعض حقائق العبادات وموجبات نيل ثوابها الكامل، وهذا ما يندرج تحت باب الفهم الخاطئ ــ إن كان خطأً ــ، وهو ما قد يكون مشروعاً من باب الاجتهاد أو القياس عند بقية المذاهب والطوائف. وعموماً، إن أخطئوا في كل ما قالوه فما من أحد يستطيع تأويل ذلك على أنه من مبدأ المحاولة في هدم الإسلام؛ فهم على أية حالة لا يخرجون عن كوْنهم مسلمين، يقرون بالشهادتين، ويؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقضاء والقدر خيره وشره. ولا أظن أن هذا يخفى على أحد. وللمنتقدِ الحقُّ في أن ينتقدَ صورةَ أيِّ مفهومٍ من مفاهيمهم الخاصة إنْ حصل على نصٍّ منهم، ثابتٍ وصحيحٍ، يخالف المفهومَ الإسلاميَّ العامَ لتلك القضايا الدينية.
ــ"وهم مع كل غازٍ لأرض المسلمين":
قد تكون هذه الجملة أطرف وأغرب ما جاء في هذا التعريف غير الدقيق. فلم نسمع عن هدوءٍ لنفسِ نصيريٍّ واحدٍ وهناك مَن ينتهك حرمةَ أخيه المسلم إلا إذا كان كأمثاله الخونة الموجودين في كل ملّة ومذهب. وفي الحقيقة، إن أشد ما يدهشني كيف فات كاتبَ ذاكَ التقريرِ الموجزِ اسمُ الشيخِ صالح العلي الذائعُ الصيت، ورأي أعدائه بثورته العظيمة النبيلة قبل رأي إخوانه المسلمين؛ وما عهد الشيخ صالح منا ببعيد. والتعفف عن الإطالة في هذه الناحية أشرف من محاولة البرهان على نور الشمس.
ــ"وقد أطلق على النصيريين الاستعمارُ الفرنسي لسوريا اسمَ العلويين تمويهاً وتغطية لحقيقتهم الرافضية والباطنية":
أولاً، ليس اسم العلويين المنسوب إطلاقه إلى الفرنسيين بالاسم الجديد على مسامع أبناء الطائفة النصيرية، ولا بالاسم المستحدَث عندهم بالنسبة إلى نظرتهم إلى أنفسهم من تبعيةٍ حقيقيةٍ للإمام علي ــ كرم الله وجهه ــ تستحق ذلك الاسم؛ وتجدر الإشارة هنا إلى أن تسمية أتباع الإمام علي بـ: "العلويين" تسمية قديمة جداً، وقبل الاستعمار الفرنسي بمئات السنين.(1)
ثانياً، لم يكن إطلاق اسم العلويين من الاحتلال الفرنسي على سبيل التمويه، فما موجبات التمويه بالنسبة للمحتلين آنذاك؛ وإنما تم اعتماد اسم "العلويين" لتثبيت وتكريس التفرقة الطائفية بين المذاهب الإسلامية، فلو أن المستعمرين الفرنسيين اقتصروا على اسم النصيريين فلن يضمنوا به انخراط معظم العلويين تحت لوائه! ثالثاً، ألم يعرف مؤلف التقرير أن دولة العلويين المثار حولها تلك الشبهات كانت أصغر الدويلات المقسَّمة من قِبل قائد القوات الفرنسية آنذاك، الجنرال غورو. حيث بلغت مساحة دولة دمشق /45000/كم2، ومساحة دولة حلب /82000/كم2، ومساحة دولة جبل الدروز /6000/كم2، بينما مساحة دولة العلويين /4500/كم2.(2)
لِمَ لمْ يذكر واضع التقرير أن كل تلك الدويلات كان لها رئيس وطني إلا دولة العلويين؟
لِمَ لم ينوِّه عن سبب استفراد الاحتلال الفرنسي بحاكم فرنسي على الدولة العلوية وهي الأصغر؟ ألم تلقَ القوات الفرنسية أشرس مقاومة من العلويين؟!
قد يصعب الخوض في كل هذه المسائل في هذه العجالة ولكن يسهل استكشاف أهداف المفرِّقون المتعصِّبون.
الحقيقة أن التعريف كله لم يرد فيه عبارة صحيحة واحدة إلا عبارة "حقيقتهم الرافضية" مع عدم دقة لفظها. فكلمة "الرافضة" من الكلمات المتروكة الآن عند المثقفين الغيورين على مصلحة الإسلام، إذ أُطلقتْ هذه الكلمة في زمن التعصبات، وكم كان زمناً مخزياً. ألم تهتك الحُرُمات الإسلامية بين المذاهب السنية فيما بينها باسم الإسلام؟! وطبعاً، أنا لا أُبرأ كل الشيعة من كل ما قد تعنيه هذه الكلمة من معنى منطقي، وهو أن مَن نظر في أحقية خلافة الإمام علي بن أبي طالب ــ كرم الله وجهه ــ بعد رسول الله مباشرة هو رافضٌ لما عليه جمهور أهل "السنة" من خلافة الخلفاء الثلاثة الأوائل ــ رضوان الله عليهم ــ.
وكذلك أنا لا أقول إن كل النصيريين الموجودين الآن هم من الشيعة الجعفرية دون أن يكون لهم رؤية خاصة لبعض الأمور الفرعية ــ كما نقرأ لبعض مؤلفيهم المعاصرين ــ، أيْ هناك قلة قليلة منهم يتخذون طريقةً صوفيةً في أداء بعض الطقوس الدينية أو فهم بعض فروع دينهم. وعموماً، أنا أترك لعلمائهم حق الإعلان عما يجب الإعلان عنه؛ علماً بأن مكتبتي فيها قِسم لا بأس به من كُتب بعض علمائهم كالمرحوم الحاج عبد الرحمن الخير ــ رحمه الله ــ، وفيها كُتب مختصة في إيضاحِ حقيقة معتقدهم ككتاب "المسلمون العلويون شيعة أهل البيت" وهو بيان عقيدة العلويين؛ وبالاطلاع على مثل تلك الكتب يمكن ملاحظة تمسكهم بالدين الإسلامي الحنيف، وغيرتهم على المحافظة على مبادئه، وإصرارهم على نبذ التمذهب والتفرق.(3)
*فقرة أبرز الشخصيات النصيرية:
ــ مؤسس الفرقة النصيرية أبو شعيب محمد بن نصير:
بادئ ذي بدء، لا يمكن اعتبار معاصرةِ أحدٍ لإمامٍ أو أكثر أنه يعني وجوب نسبه إليه، أو إلحاقه بصفوف تابعيه والمخلصين له؛ وهذا أمر متفق عليه ومتعارف على أصوله عند كافة المحققين والباحثين.
ثانياً، لم يرد حديثٌ صحيحٌ في الكُتب المعتمدة لدى الشيعة ــ على ما أعلم ــ فيه إشارة إلى منزلة أبي شعيب المزعومة.
ثالثاً، لم يدَّخر الشيعةُ وسعاً في تبيين هذا الأمر وهو إعلانهم المرة بعد المرة براءتهم من أبي شعيب أولاً وآخراً.(4)
رابعاً، لم يفوِّت النخبةُ من علماء العلويين فرصةً في إبداء رأيهم النيّر بذلك، ولله در المرحوم الحاج عبد الرحمن الخير حين قال في نقده وتقريظه لكتاب "تاريخ العلويين":
{وبما أن مؤلف "تاريخ العلويين" يورد في هذا البحث أسماءَ أشخاصٍ أعلن الأئمةُ المعصومون ــ رضوان الله عليهم ــ تخطئتهم، وأجمع علماء الشيعة على رفض آرائهم في الغلوّ، فلا مجال له ولا لغيره في القول بمدحهم. وأكتفي بالقول أن هذا البحث هو من خيال المؤلف وسماعياته التي لا تُعتَبر في التقييم التاريخي. وأضيف ما لمَّحتُ إليه سابقاً أن طرق التصوُّف هي أساليبٌ للذكْرِ يطلع عليها بعضُ الناسِ دون بعضٍ، وقد يوجد أستاذٌ يأخذ بطريقةٍ ما من طرق التصوف ويرفضها تلميذه، أو أنه لم يطلع عليها، كما قد يوجد ابن يأخذ برأي متصوف في حين أن أباه وأخاه، وهما في مرتبته العلمية، يسفِّهان ذلك الرأي أو يرفضانه، أو لم يطلعا عليه. وهذا عام عند جميع السالكين في طرق التصوف المتعددة، حتى أن أبناء الطريقة الواحدة يختلفون فيما بينهم حول تفسيرٍ أو رأي أو أسلوب، فتنشق الطريقة إلى شعب متعددة. وبرغم كل هذا فإن السالكين في أية طريقة صوفية هم قلة بالنسبة إلى مَن لا يهتمون بالطرق من جميع فئات المسلمين على اختلاف مذاهبهم.}
خامساً، ليس من الضروري أن يكون مذموماً كل مَن لم يُحمَد بأقلام المؤرخين أصحاب الأهواء والآراء المسبقة، وهناك من المؤلفين النصيريين الحديثين مَن يرون أن أبا شعيب كان مظلوماً، وأنه من خاص الشيعة، بمعنى: أنه بريء من الغلو وكل ما يخالف الأصول الشيعية العامة؛ وأترك للعلماء على وجه الخصوص البت في هذا الأمر.(5)
ــ أبو محمد عبد الله بن محمد الجنان:
في الحقيقة، لا يوجد أيُّ دليلٍ يبرهن على أن كاتب ذاك التقرير الموجز قد راجع المراجع التاريخية أو توخَّى أيةَ حيطةٍ، أو أنه واسع الإطلاع في المواضيع التي يطرحها، وهي مواضيع ــ ويا للأسف ــ ستكون سبباً في مأساة آخرين. فالمفترض بالباحث أن يدقق ما يقرأه من المعلومات التي يطلع عليها حتى يكون ذا مصداقية علمية، لا أن ينقل ما يقع تحت يديه عمَّن كتب بغير علم ولا دراية؛ وهنا أنا لا أتحدَّث عما يخص عبد الله بن محمد وحده دون غيره، بل عن مجمل الخطأ الذي وقع به كاتب ذاك التقرير؛ وعبد الله ابن محمد ــ المذكور ــ له شأن كبير عند أصحاب الطريقة الصوفية من العلويين، وهم مَن يُدعَون النصيريون، وأترك لعلمائهم المختصين فرصة الرد على ما جاء عن أعلامهم.
أقول: لقد قال كاتب التقرير أن جنبلا ــ بلدة عبد الله بن محمد ــ بفارس، ولَإِنْ أخطأ الأستاذ علي محمد الموسى في كتابه "الإمام علي والعلويون" في قوله بترجمة عبد الله بن محمد أن "جَنْبُلا" تقع في العراق بين واسط والكوفة فلا أظن أن ياقوت الحموي صاحب "معجم البلدان" قد أخطأ حين قال أن جنبلاء هي كورة وبُليد، وهو منزل بين واسط والكوفة!(6) هذا ناهيك عن أن المعلومات التاريخية تفيد ــ كما ناقد نفسَه كاتبُ التقريرِ في السطر الذي يليه ــ أن الخصيبي هو الذي أتاه وعمه بجنبلا وهناك تتلمذ على يده. ولا أدري إنْ كانت هذه الأستذة أو التلمذة توجب الذم؛ وفي الفقرة التالية مزيد من التفصيل.
ــ حسين بن علي بن الحسين بن حمدان الخصيبي:
أجمعت كتبُ التاريخِ الوارد فيها اسم الخصيبي على أن اسمه الكامل هو الحسين بن حمدان، لا حسين بن علي بن الحسين بن حمدان، ولا أعلم من أين أُوتي له بهذا النسب الجديد، وهذا أولاً.
ثانياً، إن الحسين بن حمدان الخصيبي أو الحضيني هو من الأشخاص الذين لم يُتَّفَقْ على ذمهم، ولا حتى على مخالفتهم لأصول الشيعة؛ مع عدم إنكاري لبعض ما ينسب إلى الخصيبي ــ ولعله تصحيفاً أو تزويراً بقصد أو بدون قصد ــ مما قد لا يوافق المفهوم الشيعي العام لبعض القضايا الفرعية، وتقديري هذا الذي أستند إليه هو مما جاء في ترجمة الخصيبي في موسوعة "أعيان الشيعة"(7). فقد برَّأه السيد محسن الأمين صاحب الموسوعة من الكذب الذي افتري عليه ــ على حدّ تعبير السيد الأمين ــ، واعتمدَ توثيقَ التلعكبري للخصيبي وغيره من العلماء الموثَّقِين. وطبعاً، السيد محسن الأمين ليس الوحيد الذي يوثِّق الخصيبي، فمِن الذين اعتمدوا على أحاديث الخصيبي صاحبُ كتابِ "البرهان في تفسير القرآن"، وحجة الإسلام محمد تقي في كتابه "صحيفة الأبرار"، وغيرهم خلْق كثير ممن سبقوهم ولحقوهم.. وأترك لغيري الخوض في هذا الأمر.
ــ سليمان المرشد:
إن سلمان المرشد، كما يعرف القاصي والداني وكل مَن له عِلم بأحدٍ من النصيريين، ليس من عداد النصيريين العلويين الذين يُحاول كثيرٌ مِن الخلقِ التشهيرَ بهم والنيلَ منهم؛ وكذلك الحال بالنسبة إلى ابنه مجيب؛ وأترك الحديث بهذا الخصوص لمَن يعرف عن المراشدة جميع أمورهم، فمعلوماتي متواضعة عنهم، ولا يمكن الركون إلى كل ما دوِّن عنهم، ولم ألتقِ بغير واحد منهم، مع الإشارة أنني لم أجده يخالف المسلمين بشيء من عباداتهم ولا معتقداتهم.
ــ النقطة الأخيرة في هذه الفقرة، وهي ذكره لسليمان الأذني صاحب الباكورة السليمانية، ومحمد أمين غالب الطويل مؤلف كتاب "تاريخ العلويين":
لقد ذكر واضع التقرير أن سليمان الأدني تنصَّر على يد أحد المبشرين وهرب إلى بيروت حيث أصدر كتابه الباكورة السليمانية التي كشف فيها أسرار الطائفة النصيرية، ومن خلال ما ذكر أتوجَّه له بالسؤال فأقول: أيؤخذ بكلام منشقٍّ ارتد عن الإسلام لكَيْلِ التّهمِ إلى فرقة إسلامية ــ حتى لو لم يكن لها من الالتزام بالإسلام غير الاسم ــ؟ قد يكون من الأفضل عدم إطالة الحديث في هذا الخصوص نظراً لعدم صلاحية المادة المطروحة لأن تكون محلَّ نقاشٍ إسلاميٍّ بنَّاءٍ؛ فكما سبق أن تكلَّمت أنني لا أُدافع عن أحدٍ، وإنما كتبت ما كتبت غيرة على الإسلام.
*متفرقات:
ــ"اتفق علماء المسلمين على أن هؤلاء النصيريين لا تجوز مناكحتهم، ولا تباح ذبائحهم، ولا يصلى على مَن مات منهم ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يجوز استخدامهم في الثغور والحصون":
أولاً، لم أسمع أن علماء المسلمين اتفقوا على أيّ أمرٍ يماثل هذا الموضوع أو يشابهه.
ثانياً، هل عنى بـ: "علماء المسلمين" بعضَ السلفيين الذين لا يُرخَّص لمثلهم بأدنى المسؤوليات العلمية لو كانت هناك مرجعيات إسلامية غيورة في بلدانهم التي أممتهم.
ثالثاً، مَن أعطى صاحبَ التقريرِ الحقَّ في تقزيم الإسلام إلى هذا الحدّ الذي يتوهَّمه، ومَن يرى نفسَهُ ذاك السلفي المتعصِّب التارك للسنّة النبوية الشريفة الجامعة السمحاء حتى يُخرِج قطبَ الإسلامِ "الشيعي" من كوْنية العالم الإسلامي حين قرر أن أول الفرق الإسلامية "الضالة" هي الشيعة؟!(8)
أهذا مبدأ الدين الإسلامي الحنيف؟!
هل نصحح للغير بتكفيرهم واعتماد ما لا يُعتمد عندهم؟
أليس الأَوْلَى بمَن يخش الحوارَ مراجعة نفسه أولاً قبل الآخرين؟
ــ"يقول ابن تيمية إن هؤلاء القوم المسمون بالنصيرية وسائر أصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود والنصارى..":
أولاً، إن ما نشر حول فتاوى ابن تيمية كثير وفيه كفاية لمَن اكتفى.
ثانياً، لم يتفق على مرجعية ابن تيمية جمهورُ علماءِ السنة ــ أنفسهم ــ، وقد ردَّ عليه علماء الشافعية ومنعوه عن التعليم.(9) علماً بأن ما يحتسبه أتباع ابن تيمية من فضل له هو موضع شبهة عند غيرهم، فمما جاء في سيرته أنه طُلب إلى مصر من أجل فتوى أفتى بها، فقصدها، فتعصَّب عليه جماعةٌ من أهلها فسجن مدة، ونُقل إلى الإسكندرية. ثم أُطلق فسافر إلى دمشق سنة /712/هـ، التي نبغ فيها واشتهر من قبلُ، فاعتقل بها سنة /720/هـ، ثم أعيد، ومات معتقلاً بقلعة دمشق.(10)
ــ أخيراً: حول الوثيقة التي يزعم السلفيون أنها كانت من العلويين إلى الحكومة الفرنسية بمناسبة التفاوض على منح الاستقلال لسوريا في عام 1936م:
كما سبق أن ذكرنا، لقد حاول كاتب ذاك التقرير تشويه التاريخ العلوي الحديث كما حاول كثيرون من قبل؛ ودون الخوض في تبرئة الشخصيات التي ذُكرتْ أسماؤها من الموقعين على الوثيقة المزعومة فكل ملة فيها الصالح وفيها الطالح، والوطني والعميل.. أكتفي بالقول:
إنه في عام /1930/م تغير اسم دولة العلويين إلى حكومة اللاذقية، ولعل ذلك عائد إلى فوز الكتلة الوطنية في انتخابات /1928/م، وأرادت فرنسا أن تخفف من مطالب غالبية العلويين الذين كانوا يريدون الوحدة مع حكومة سورية، لكن في عام /1933/م عطَّل المندوب السامي الفرنسي (دوما رتيل) المجلس النيابي فشطت الكتلة الوطنية ضد السلطات الفرنسية وطالبت في كانون الثاني /1936/م بتحرير سورية واستقلالها وإعادة وحدتها. وقامت المظاهرات الوطنية في كل أنحاء البلاد فتصدَّى الجيش الفرنسي لهذه المظاهرات وساد العنف والعذاب والتهجير والنفي، وأَغلقت دمشقُ محلاتها التجارية حوالي /60/ يوماً فتعطَّلت مرافق البلاد، ووقعت منازلات بين رجال الدولة والمواطنين، وخافت فرنسا من قيام ثورة جديدة على شاكلة ثورة /1925/م ــ الثورة السورية الكبرى ــ، فأعلن المندوب السامي فتح باب المفاوضات بين فرنسا والكتلة الوطنية لعقد معاهدة صداقة وتحالف بين البلدين، وفي أيلول /1936/م وقعت المعاهدة وتشتمل على ملاحق نصَّت على انضمام بلاد العلويين وجبل الدروز إلى سورية، وفي تموز /1939/م ألغت فرنسا المعاهدة وعاد التقسيم من جديد، وعاد الحكم الذاتي يمارسه العلويون حتى عام /1942/م عندما أُعيد توحيد سورية في دولة واحدة هي الجمهورية السورية. ومَن أراد الإطلاع على نص قرار ضم دولة العلويين إلى سورية /1936/م وتفاصيل تلك الأمور فليراجع الكتب المختصة.(11)
والآن، وبعد أن لخَّصتُ بعضَ أهم النقاط التي يجب التذكير بها، أنقل مقتطفات من نص مذكرة العلويين المرفوعة إلى وزارة الخارجية الفرنسية في 27/تموز/1936:
{صاحب المعالي: تعلمون ولا ريب يا صاحب المعالي مطالبَ الأمة السورية بتحقيق وحدتها واستقلالها، وعقد معاهدة بين فرنسا وبينها شبيهة بالمعاهدة العراقية الإنكليزية، هذه المعاهدة التي تسود العلاقات السياسية بين هاتين الدولتين، وإن أكثرية العلويين التي نمثلها لَسعيدة بمعرفتها تقارب وجهتي النظر الفرنسية والسورية في المفاوضات الجارية آنياً في باريس لعقد المعاهدة الفرنسية السورية، وإنها تأمل أن تؤول هذه المفاوضات إلى النجاح، ومن جهة أخرى فإنها تجدد ثقتها بالوفد السوري، وتعرب عن عرفان جميلها نحو الاستعدادات الطيبة التي أظهرتها الأكثرية البرلمانية الفرنسية نحو مطالب سورية الحقَّة المشروعة، ونعتبر هذه الاستعدادات الطيبة برهاناً على دوام تقاليد فرنسا بتحرير الشعوب.
إن الاستقلال الإداري (الأوتونومي) الذي أُعطي لبلاد العلويين عام /1920/م لم يكن في مبدئه سوى نظام مؤقَّت يتسنَّى للعلويين بكنفه سرعة تطورهم السياسي والإداري والعلمي كي يتساووا برقيّ طبيعي مع إخوانهم في سورية، ولكن فحوى تصريحات فخامة المسيو بونسو المفوَّض السامي في سورية ولبنان تجاه لجنة الانتداب عام /1933/م وتصريحات المسيو دي كين العديدة تجاه اللجنة ذاتها لم تكن من الجلاء والوضوح بمكان، والحوادث أعظم برهان أن هذا الاستقلال الإداري (الأوتونومي) بدلاً من أن يكون للعلويين عامل رقيّ لم يكن سوى عامل انحطاط وتأخُّر. فإفقار البلاد المطَّرد بضرائب باهظة، والتفكك والانحلال اللذان أصابا فكرة الوفاق والألفة بين العلويين من جرَّاء تطبيق واتّباع مبدأ فرِّق تَسُد وإفساد معنويات البلاد بإنالة الحظوة لطبقة من الناس لا تمثل خيارهم، وإهمال المعارف العامة، براهين لا تقبل النقض على هذا الانحطاط. ....
إن العلويين شيعة مسلمون، وقد برهنوا طوال تاريخهم عن امتناعهم عن قبول كل دعوة من شأنها تحوير عقيدتهم، فهم يحتفظون بشدة بالعقيدة الشيعية الإسلامية، وكأن الصُّدف يا معالي الوزير ساقت بتبشير الآباء اليسوعيين إلى جبالنا وأخذ هذا التبشير يتسرّب إليها منذ عام /1930/م، ومن المفيد إحاطة معاليكم علماً أن الكثيرين من الموظفين الفرنسيين الإداريين يرون بعين الارتياح إلى أعمال الآباء اليسوعيين، وبعدة مناسبات منذ عام /1930/م استلفتنا نظر السلطات العليا في باريس وبيروت إلى هذه الحوادث التبشيرية التي تكون معذورة لو أن الدافع لها اليقين والإيمان إلا أن الشيء المشين في هذه الحوادث، وهنا موضع استيائنا وعليه احتجاجنا، هو استثمار واستغلال فاقة شعب فقير وشراء ضمائر ضعيفة كما تُشترى السلع لتمرق من دين إلى دين آخر.
اسمحوا لنا يا صاحب المعالي بالإدلاء لكم بهذه الحقيقة التي نراها ديناً علينا لفرنسا ولسورية بالسواء ذلك أن أشد أنصار الانفصال بين الموظفين الفرنسيين هم أشد أنصار التبشير اليسوعي، وأما طلب استبقاء (الأوتونومي) الصادر عن بعض الشخصيات العلوية المطواعة لأوامر هؤلاء الموظفين لأنها تملك كل ما لديها منهم، فليس الدافع إليه سوى خشيتها فقدان النعم التي يتمتع بها متى أذن تبدل النظام الحاضر بذهاب الموظفين.
إن القرآن الشريف هو كتاب العلويين سواء أكانوا طلاب وحدة أم طلاب انفصال، ومَن كان القرآن الكريم كتابه فهو مسلم، أحبَّ أم كَرِهَ، إلا أن يرتد عن الإسلام. وإن إخواننا الانفصاليين يصنفون أنفسهم بين أمرين لا ثالث لهما، فإما أن يعترفوا أن القرآن الشريف هو كتابهم، وعندها لا يمكن لهم إلا أن يكونوا مسلمين علويين، وإما أن ينكروا القرآن الشريف وعندها لا يمكن لهم أن يكونوا مسلمين علويين، ولا أن ينتسبوا لأية فرقة من فرق الإسلام. وإنه لَمِن المحزن يا صاحب المعالي وهذه ويا للأسف حالتنا أن يصادف المرء بين قومه أناساً يتخذون أقدس العقائد بضاعة للاتجار بها في سوق التجارة السياسية. ....
لا بد من التساؤل يا معالي الوزير: لِمَ يخشى الانفصاليون أن تكون الوحدة السورية سبباً لاضطهادهم من قبل الأكثرية الإسلامية العربية؟ بينما يرون إخواننا النصارى في دمشق وحماه وحلب متمتعين بذات الحقوق التي يتمتع بها المسلمون، وبينما يعيشون مع هؤلاء المسلمين بسلام، وبينما يعيش علويون آخرون في حمص وحماه وإنطاكية مع السنيين على قدم المساواة وفي جوٍّ مفعم بالوئام والمحبة؟..
إن مئتي ألف علوي ينتظرون اليوم الذي يعلمون به أن الوحدة والاستقلال والمعاهدة الفرنسية السورية أصبحت أموراً محققة، وإن هؤلاء المئتي ألف علوي يرسلون لفرنسا تحية مفعمة بالأمل، ويقدمون لمعاليكم أسمى الاحترام.}(12)
ومَن أراد الإطلاع على نص هذه المذكرة الكامل أو عريضة شباب اللاذقية /1936/م أو عريضة أهل طرطوس /1936/م، وغير ذلك من الأمور المهمة فليراجع الكتب المختصة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر كتاب: الإمام علي والعلويون، علي محمد الموسى.
أقول بعد كل ما تقدم:
أليس الأَولى بالغيورين على الإسلام والمسلمين إيجاد كل ما يربط المسلمين بعضهم ببعض ونزع كل حقد ومحاولة مراجعة الذات والتصحيح..؟
أكتفي بهذا القدر من المراجعة المتواضعة والخجولة لبعض ما جاء عن العلويين على موقع البرغوثي، ومثيله على مواقع أخرى، في شبكة المعلومات العالمية مع إقراري واعترافي بعجزي وضعفي، فلستُ كاتباً بارعاً في اللغة، ولا متخصصاً عظيماً فيما طرحتُ، فأرجو العفو عن التقصير.
كتبه
أبو النور ــ حمص/سوريا
2002
www.alaweenonline.com
(1) انظر: النبأ اليقين عن العلويين، الشيخ محمود الصالح، قدم له الأستاذ محمد عنبر، دار المرساة، ط3، ص51 وما بعدها.
(2) انظر كتاب الإمام علي والعلويون، علي محمد الموسى، دار الفتاة، ص244.
(3) انظر بيان عقيدة العلويين، مطبعة دار كرم دمشق، وقعه /80/ عالماً من كبار علماء العلويين في سوريا ولبنان.
(4) انظر حول هذه الفقرة والتي سبقتها موسوعة "أعيان الشيعة" لمؤلفها المشهور بعلميته ومصداقيته السيد محسن الأمين، المجلد الأول، بحث المهدي، نصوص حول نفي سفارة أبي شعيب. وكذلك كتاب الأئمة الاثني عشر للسيد هاشم معروف الحسني.
(5) انظر دراسات الفيلسوف الدكتور أسعد أحمد علي، أو كتاب منابع العرفان عند الشيعة الخصيبية لحسن يونس حسن ـ مطبعة آل البيت بيروت. أو كتاب "الخصيبي قدوة مثلى يحتذى" للشيخ محمد حسين مظلوم، دار المحجة البيضاء بيروت. أو كتب الأستاذ الباحث محمد علي حلوم ـ مفتي اللاذقية. أو كتب الشيخ الأديب حامد حسن..
(6) انظر كتاب الإمام علي والعلويون، محمد علي موسى، دار الفتاة ـ دمشق، ص95. ومعجم البلدان، ياقوت الحموي، دار صادر ـ بيروت، المجلد الثاني، ص168
(7) طبعة دار التعارف، ط5، المجلد التاسع، ص150-151.
(8) انظر موقع www.albargothy.net صفحة الدين الإسلامي، الفرق الضالة.
(9) المنجد في الأعلام، ابن تيمية تقي الدين أحمد.
(10) الأعلام، خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، المجلد الأول.
(11) انظر على سبيل المثال كتاب الإمام علي والعلويون، الجزء الأخير منه.
(12) الإمام علي والعلويون، ص248 وما بعدها.
تعليق