نقد المصححين اللغويين
مقالة قديمة للدكتور علي الوردي :
ان التصحيحات اللغوية التي تنشر في صحفنا الان هي كأي من اعمال البشر فيها الحسن وفيها السيئ وأعترف لك اني استفدت من بعظها كثيرا ولكن مع ذلك أستطيع ان اقول اني وجدت في البعض الاخر منها تشددا لاينسجم مع مسيرتنا الحضارية الراهنة وهو قد يضر بنا أكثر مما ينفعنا .
أذكر فيما يلي نماذج من تشدد بعض المصححين لكي يدرك القارىء مبلغ الضرر الناتج عنه :
1- انهم ذكروا قواعد للتميز بين استعمال لفظة (هل) و (الهمزة) في الاستفهام وأعلنوا خطأ من يضع إحداهما في محل الاخرى ولست أدري ما هي الفائدة التي نجنيها من هذا التمييز فالواجب يقضي علينا في ظروفنا الحاضرة ان نستعمل احداهما دائما في جميع الأحوال واني أفضل استعمال (هل) دائما لوضوحها أما القواعد التي ذكرها المصححون في هذا الشأن فهي مما لايستطيع حفظها والالتزام بها الا القليل من الناس هذا مع العلم أنها لاتجدينا شيئا في توضيح المعنى ان حياتنا الحديثة تولي اهتماما لتوضيح المعنى أكثر من مما تولي لألتزام القواعد التي لافائدة منها .
2- ذكر المصححون قواعد أخرى للتميز بين استعمال (نعم) و (بلى) للجواب عن الاستفهام وقد نسي هؤلاء ان (بلى) ذهب زمانها ولا يستعملها أحد! ولو فرضنا أنهم في حياتهم العملية سألوا أحدا من الناس عن شيء فأجابهم بكلمة (نعم) بدلا من (بلى) فهل هم يفهمون الجواب بغير المعنى المقصود منه ؟ وهل هم يطلبون منه ان ينطق كلمة (بلى) لكي يفهموا جوابه فهما صحيحا ؟ فالى متى يا ناس !!؟؟.
3- ذكر المصححون قواعد أخرى للتمييز بين استعمال (أو) و (أم) وهذه القواعد لاتختلف في عدم جدواها عن قواعد (نعم) و (بلى) أو قواعد (هل) و (الهمزة) وليس هناك أي فرق لدى القارئ بين ان يرى في الجملة التي يقرأها (أو) بدلا من (أم) .
4- ذكر أحد المصححين الخطأ الذي يقع فيه بعض الكتاب عند عدم تمييزهم بين جمع القلة وجمع الكثرة في جموع التكسير.ففي رأيه ان جموع التكسير في اللغة العربية نوعان ،أحداهما للقلة، أي التي هي دون العشرة والاخر للكثرة التي هي فوق العشرة ولهذا فان من الخطأ-في راي المصحح- أن نقول : ( دخل القرية سبعون من الأضياف) ف(الاضياف) وزن قلة وهو إذن لاينطبق على عدد (سبعين) ويجب أن نقول (ضيوف) بدلا من (اضياف) يقول هذا المصحح في مقالته التصحيحية ما نصه : (تميزت لغتنا العربية الحبيبة بالدقة في التعبير من ذلك تميزها بين القلة والكثرة في جموع التكسير .....).
وأني احب ان أعلق على كلمة هذا المصحح فاقول : كم من الناس هم قادرون على حفظ أوزان القلة والكثرة لكي يميزوا بينها في الاستعمال ؟
ولاتنحصر المشكلة في الكاتب بل تشمل القارىء ايضا إذ هو يجب ان يحفظ أوزان القلة والكثرة لكي يميز بين القلة والكثرة في العدد الذي يذكر في العبارة . وهذا ما جرت عليه العادة في جيمع لغات العالم وفي لغتنا الحاضرة ايضا فنحن نستعمل وزنا واحدا للقلة والكثرة معا فنقول (ضيوف) مثلا في كليهما وفي مقدور القارئ أن يميز بينهما حين يقرأ العدد المذكور في العبارة طبعا .
5- من أبشع ما وجدته عند هؤلاء المتشددين هو أنهم لا يرضون على استعمال لفظة (التقييم) إذ يعدونها مغلوطة من الناحية اللغوية ويستعملون بدلا عنها لفظة (التقويم) مع العلم ان (التقويم) في أصله اللغوي يعني التعديل وإزالة العوج بينما المقصود من ( التقييم) تبيان القيمة ولكن المصححين يريدون منا ان نستعمل (التقويم) في كلا المعنيين أي بمعنى التعديل تارة ومعنى تبيان القيمة تارة أخرى ! وهم لايبالون بما يحصل في ذهن القارىء من التباس في المعنى من جراء ذلك .
إن مجمع اللغة العربية في مصر وبعض المجامع الاخرى أجازوا استعمال (التقييم).
والظاهر أنهم اقتدوا في ذلك بما فعهل القدماء حين استعملوا لفظة (التعييد) بالرغم من مخالفتها للقواعد اللغوية. ولكن أحد المصححين عندنا لم يقبل بذلك فهو كتب بمقالة له ما نصه :
( وعلى الرغم من رخصة بعض مجامع اللغة العربية بأستعمال كلمة تقييم فان معجمات العربية التي في ايدينا تشير الى ان الصواب ان تقول : تقويما ، لا أن تقول : تقييما .........) .
معنى هذا ان صاحبنا المصحح يفضل التزام القواعد اللغوية على توضيح المعنى فهو لايبالي بما تقول به المجامع اللغوية بل يبالي بما تقول به القواعد القديمة .
يقول الغزالي :-
(إني اولي الاهتمام للمعنى وتوضيحه أكثر مما أوليه للقاوعد اللغوية ) .
وإني اقتدي في ذلك في الغزالي فالمعروف عن هذا الرجل أنه كان اكثر اهتماما بالمعنى منه بالتزام القواعد اللغوية وهو عندما عوتب على ذلك أجاب قائلا ان قصده هو المعاني وتحقيقها دون الالفاظ وتلفيقها وقد علق احد الكتاب العرب في عصرنا على قول الغزالي فقال : ونحن نحمد الله على عدم اشتغال الغزالي بعلوم اللغة وعلى عدم اهتمامه بصناعة الألفاظ فانه لو اعتنى بهذه الناحية لما امتازت كتابته بهذه القوة والسلاسة في التعبير)
يمكن القول ان الغزلي سبق زمانه بهذأ المبدأ الذي نادى به قبل تسعة قرون اذ هو جعل اللغة وسيلة لا غاية وهو المبدأ المتبع الان في مختلف اقطار العالم المتمدن ومن المؤسف ان نرى كتابنا ونقادنا لايرتضون هذا المبدأ او هو يثير سخطهم .
ان اللغة عنصر مهم من عناصر الحياة الاجتماعية وهي مترابطة ترابطا عضويا وثيقا مع العناصر الاخرى منها وليس في مقدور أي امة من الامم ان تماشي الحضارة الحديثة في نظمها السياسية والاقتصادية والتقنية والاجتماعية بينما هي في لغتها تتبع طريقة التعقدي والتصعيب وتخضع لقواعد لافائدة منها .
إننا حينما ننظر الى ضخامة عدد الكتب والمعلمين وساعات الدروس التي تخصص لتعليم قواعد النحو في مدارسنا وكلياتنا ثم نتصور النتجية العملية من كل ذلك حيث يخرج التلاميذ وهم قد نسوا معظم القواعد او تجاهلوها ندرك مبلغ التبذير الذي تعانيه الامة العربية في جهودها الفكرية جيلا بعد جيل