بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أرجو من أهل العلم التكرم علينا بشرح ما يلي :
* منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة ج13 ـ الميرزا حبيب الله الخوئي ـ :
و منه قوله عليه السّلام في الفصل الثاني من المختار التّسعين :
كذب العادلون 1 بك إذ شبّهوك بأصنامهم و محلوك حلية المخلوقين بأوهامهم « إلى ان قال » فاشهد أنّ من ساواك بشيء من خلقك فقد عدل بك و العادل بك كافر بما تنزّلت به محكمات آياتك و نطقت عنه شواهد حجج بيّناتك .
فانّه كساير الأخبار المتواترة و الآيات القرآنيّة في كفر من شبّهه عزّ و جلّ بالأصنام و زيّنه بزينة المخلوقات فكيف المتصوّفة الجاعلون إيّاه سبحانه عين الأصنام و المعتقدون أنّ هويّته سارية فيها و انّ وجودها عين وجوده الظاهر في صورة الصّنميّة و أنّها مجالى و مظاهر له و أنّ العبادة لها عبادة له تعالى عمّا يقول الملحدون علوّا كبيرا .
و لعلك إذا سمعت نسبة هذا القول و الاعتقاد منّا إلى هذه الطايفة الضّالّة المضلّة نسبتنا إلى العصبيّة و العناد . و بادرت إلى تكذيبنا و قلت كيف يمكن أن يعتقد هؤلاء مع كونهم من المسلمين المؤمنين على خلاف ما هو من ضرورّيات الدّين بل ما هو أساس الدّين و أصله أعنى توحيد الرّب و تفريده بالمعبودية الذى لم يكن بعث الأنبياء و الرّسل و انزال الكتب و الصّحف و تشريع الشرايع و الأديان من لدن زمن آدم عليه السّلام إلى آخر الزّمن إلاّ لأجله .
-----------
( 1 ) اى الجاعلون لك عديلا منه .
[ 172 ]
فان شئت أن تعرف صحّة هذه النّسبة و تعلم حقّيتها بعلم اليقين فاستمع لما يتلى عليك من كلام قطب أقطابهم الزّنديق اللّعين ابن العربى محيى الدّين في الفصوص و من كلام القيصرى في شرحه .
قالا في الفصّ الهاروني بعد ما ذكرا غضب موسى عليه السّلام على أخيه هارون لمّا شاهد من قومه عبادة العجل ما صريح عبارتهما :
« ثمّ قال هارون لموسى إني خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل فتجعلنى سببا في تفريقهم فانّ عبادة العجل فرّقت بينهم فكان منهم من عبده اتباعا للسّامرى و تقليدا له و منهم من توقّف عن عبادته حتى يرجع إليهم موسى فيسألونه في ذلك فخشى هارون أن ينسب ذلك الفرقان بينهم إليه و كان موسى أعلم بالأمر من هارون لأنّه علم ما عبده أصحاب العجل » أى علم موسى ما الّذى عبده أصحاب العجل في الحقيقة « لعلمه بأنّ اللّه قضى ألاّ نعبد إلاّ إيّاه » كما قال تعالى : و قضى ربك ألا تعبدوا إلاّ إيّاه .
« و ما حكم اللّه بشيء إلاّ وقع فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره و عدم اتّساعه » أى كان عتب موسى أخاه هارون لأجل انكاره عبادة العجل و عدم اتّساعه قلبه لذلك .
« فانّ العارف من يرى الحق في كلشيء بل يراه عين كلّ شيء فكان موسى يربّي هارون تربية علم » .
و اعلم أنّ هذا الكلام و إن كان حقّا من حيث الباطن لكن لا يصحّ من حيث النّبوة و الظاهر ، فانّ النبيّ يجب عليه إنكار العبادة للأرباب الجزئية كما يجب عليه إرشاد الامّة إلى الحقّ المطلق ، و لذلك أنكر جميع الأنبياء عبادة الأصنام و إن كانت مظاهر للهوية الالهيّة ، فانكار هارون عبادة العجل من حيث كونه نبيّا حقّ إلاّ أن يكون محمولا على أنّ موسى علم بالكشف أنّه ذهل عن شهود الحق الظاهر في صورة العجل ، فأراد أن ينبّهه على ذلك و هو عين التّربية و الارشاد منه عليه السّلام و انكاره على السامرى و عجله على بصيرة ، فانّ انكار الأنبياء و الأولياء لعبادة الأصنام الّتي هى المظاهر ليس كانكار المحجوبين فانّهم يرون الحقّ مع كلّشيء بخلاف غيرهم
[ 173 ]
بل ذلك لتخليصهم عن التقيّد بصورة خاصّة و تجلّي خاصّ إذ فيه إنكار باقي المجالى و هو عين الضّلال .
« و لذلك » أى و لأجل أنّه كان مرّبيا لهارون « لما قال له هارون ما قال رجع إلى السامرى فقال له فما خطبك يا سامرّى » أى ما شأنك و ما مرادك ، يعنى فيما صنعت من عدو لك إلى صورة العجل على الاختصاص و صنعك هذا الشّبح من حلّى القوم و تركك الاله المطلق .
« فغلبت عليه الغيرة فحرّقه ثمّ نسف رماد تلك الصّورة في اليمّ نسفا و قال له انظر إلى إلهك فسمّاه إلها بطريق التّنبيه للتّعليم » أى نبّه أنّه مظهر من المظاهر و مجلى من مجاليه إلى أن قال :
« فكان عدم قوّة إرداع هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل بالتّسليط على العجل كما سلط عليه موسى حكمة من اللّه ظاهرة في الوجود ليعبد في كلّ صورة و إن ذهبت تلك الصّورة بعد ذلك فما ذهبت إلاّ بعد ما تلبّست عند عابدها بالالوهيّة » أى عدم تأثير هارون في منعهم عن عبادة العجل أو عدم تسلّطه عليهم كما تسلّط عليهم موسى كان حكمة من اللّه ظاهرة في الوجود الكوني فيكون معبودا في صور الأكوان كلّها و ان كانت هذه الصورة ذاهبة فانية لأنّ ذهابها و فنائها إنّما هو بعد التّلبّس بالعبودية عند عابدها .
« و لهذا » أى و لأجل أنّه أراد أن يعبد في كلّ صورة « ما بقي نوع من الأنواع إلاّ و عبد إمّا عبادة تألّه ، أو عبادة تسخير فلا بدّ من ذلك لمن عقل » أمّا العبادة بالالهيّة كعبادة الأصنام و غير ذلك من الشمس و القمر و الكواكب و العجل ، و أمّا العبادة بالتّسخير فكما يعبدون الأموال و أصحاب الجاه و المناصب ، إلى أن قال بعد جملة من ترّهاته :
« و العارف المكمّل من رأى كلّ معبود مجلى للحقّ يعبد فيه و لذلك » أى و لأجل أنّ الحقّ هو الذى ظهر في ذلك المجلى و عبد « سمّوه كلّهم إلها مع اسمه
[ 174 ]
الخاص بحجر أو حيوان أو شجر أو انسان أو كوكب أو ملك أو فلك هذا اسم الشخصيّة فيه و الالوهية مرتبة تخيل العابد له » اى لمعبوده « انّها مرتبة معبوده الخاص و هي على الحقيقة مجلى للحق » انتهى كلامهما هبط مقامهما ببعض تلخيص منّا .
و محصّل كلامهما كما ترى أنّ الأصنام جميعا مجالى الحقّ و مظاهره بل هي عين الحقّ بل الأشياء جميعا مظاهره و مجاليه و عبدة الأوثان و الأصنام و كذلك العابدون للشمس و القمر و الكواكب و الشجر و الحجر و النار و العجل ، و كذلك عبادة المدّعين للالوهيّة من فرعون و شداد ، و كذلك المنقادين للجبابرة و ساير الظلمة من أرباب الجاه و المناصب المسلطين على الرّعية كلّهم جميعا عابدون للّه تعالى لأنّ هذه المعبودات كلّها هو الحقّ ظهر في هذه المظاهر و تصوّر بهذه الصور المختلفة فهى على كثرتها ليست في الحقيقة إلاّ واحدا .
و منع الأنبياء و الأولياء من عبادة الأصنام لم يكن من حيث إنّها عبادة باطلة مبغوضة للّه تعالى بل من أجل حصر العابد للصّنم أو الشجر أو الحجر مثلا عبادته في هذا المعبود الخاصّ ، فبعث اللّه الأنبياء ليرشدوا امتهم و يعلّموهم أنّ اللّه شاء و قضى أن يعبد في كلّ صورة و مجلى ، و أنّ المجالى كلّها إله فليس لكم أن تقصروا عبادتكم بمعبود خاصّ و تخصّصوه به و تتّخذوه إلها دون غيره .
و من هذا الباب كان غضب موسى على هارون فانّه عليه السّلام لما كان أعلم منه و كان يعلم أن اللّه شاء أن يعبد في كلّ صورة حتّى صورة العجل و ما شاءه و قضاه عزّ و جلّ لا بدّ من وقوعه لا محالة و كان هارون لا يعلم ذلك و لذلك أنكر على قومه عبادته فعتب موسى عليه لأجله و نبّهه على عدم اتّساع قلبه و على غفلته و ذهوله عن حقيقة الأمر .
و الحاصل إنّ الأنبياء إنّما بعثوا ليأمروا امّتهم بعبادة كلّشيء من صنم أو غيره و ليردعوهم عن قصر عبادتهم بشيء مخصوص معيّن فقط . و قد أوضح الرّجس الخبيث هذا الغرض في بعض فقرات الفصّ النّوحى .
قال في جملة ما نقل من كلام نوح و قومه : « و مكروا مكرا كبّارا » لأنّ الدّعوة إلى اللّه مكر بالمدعوّ لأنّه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية فهذا عين المكر على بصيرة فنبّه أنّ الأمر له كلّه فأجابوه مكرا كما دعاهم »
[ 175 ]
قال شارحه القيصرى : إى لمّا مكر نوح معهم مكروا مكرا كبّارا في جوابه و ذلك لأنّ الدّعوة إلى اللّه مكر من الداعي بالمدعوّ ، لأنّ المدعوّ ما عدم الحقّ من البداية حتى يدعى إليه في الغاية لأنّه مظهر هويته في بعض مراتب وجوده فالحقّ معه بل هو عينه فالدّاعى إذا دعى مظهرا ما يمكر به فانه يريد إنّ الحق ليس معه أو هو غيره و هو عين المكر .
لكن مثل هذا المكر من الأنبياء إنّما هو على بصيرة كما قال : أدعو إلى اللّه على بصيرة أنا و من اتّبعنى ، أى يعلم النبيّ أنه مظهر هوية الحقّ لكن يدعوه ليخلّصه عن القيود و ترتفع عنه الحجب الموجبة للضلالة فيرى ذاته مظهرا للهوّية و يشاهد جميع الموجودات مظاهر للحق و يعبده بجميع أسمائه و صفاته كما عبده من حيث اسمه الخاص ، و فاعل نبه ضمير يرجع إلى نوح أو إلى الحقّ أى نبّههم على أنّ الملك كله للّه ليس كما تخيلوا أنه لهم .
قال « فقالوا في مكرهم لا تذرنّ آلهتكم و لا تذرّن ودّا و لا سواعا و لا يغوث و يعوق و نسرا فانهم إذا تركوهم جهلوا من الحقّ على قدر ما تركوا من هؤلاء فانّ للحقّ في كلّ معبود وجها يعرفه من عرفه و يجهله من جهله فالعالم يعلم من عبد و في أىّ صورة ظهر حتى عبد ، و أنّ التفريق و الكثرة كالاعضاء المحسوسة و كالقوى المعنوية في الصورة الروحانية » .
قال الشارح القيصرى : فالعالم باللّه و مظاهره يعلم أنّ المعبود هو الحقّ في أىّ صورة كانت سواء كانت حسّية كالأصنام أو خيالية كالجنّ أو عقلية كالملائكة و يعلم أنّ التفريق و الكثرة مظاهر لأسمائه و صفاته و هى كالأعضاء في الصورة الانسانية ، فانّ العين مظهر للابصار و الاذن للسمع و الانف للشمّ و اليد للبطش ،
و كالقوى الروحانية كالعقل و الوهم و الذاكرة و الحافظة و المفكرة و المتخيلة فانها كلّها مظاهر لصفات الرّوح ، انتهى .
و محصّل كلامهما أنّ قوم نوح في عبادتهم للأصنام كانوا محقّين لكونها مظاهر الحقّ كما أن العابدين لها كذلك لأنهم أيضا كانوا مظهر الحقّ و كان
[ 176 ]
الحقّ معهم بل هو عينهم و كان نوح أيضا يعلم أنهم على الحقّ إلاّ أنه أراد على وجه المكر و الخديعة أن يصرفهم عن عبادتها إلى عبادته .
و إنما كان هذا مكرا منه عليه السّلام لأنه كان يقول لهم ما لم يكن معتقدا به و يموّه خلاف ما أضمره و اعتقده إذ كان عالما و على بصيرة من ربّه بأنّ الأصنام مظاهر الحقّ و عبادتها عبادته إلاّ أنه عليه السّلام أراد أن يخلّصهم من القيود حتى لا يقصروا عبادتهم فيها فقط ، بل يعبدوه في كلّ معنى و صورة .
و لما شاهد القوم منه ذلك المكر أنكروا عليه و أجابوه بما هو أعظم مكرا و أكبر من مكره فقالوا لا تتركوا آلهتكم إلى غيرها ، لأنّ في تركها ترك عبادة الحقّ بقدر ما ظهر فيها و قصر عبادته في ساير المجالي و هو جهل و غفلة لأنّ للحقّ في كلّ معبود وجها يعرفها العارفون سواء كان ذلك المعبود في صورة صنم أو حجر أو شجر أو بقر أو جن أو ملك أو غيرها .
هذا محصّل كلام هذين الرجسين النجسين النحسين و كم لهما في الكتاب المذكور من هذا النمط و الاسلوب ، و سنشير إلى بعضها فيما سيأتي ، فلينظر المؤمن الكيس البصير إلى أنهما كيف موّها الباطل بصورة الحقّ و أوّلا كلام اللّه بآرائهم الفاسدة و أحلامهم الكاسدة على طبق عقايدهم الباطلة ، و قد قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المختار من فسّر القرآن برأيه فليبوء مقعده من النار .
و لعمرى أنهما و من حذا حذوهما حزب الشيطان و أولياء عبدة الطاغوت و الأوثان ، و لم يكن غرضهما إلاّ تكذيب الأنبياء و الرّسل و ما جاؤا به من البيّنات و البرهان و هدم أساس الاسلام و الايمان و إبطال جميع الشرايع و الأديان ، و ترويج عبادة الأصنام و جعل كلمة الكفر العليا و خفض كلمة الرحمن .
و اقسم باللّه الكريم و إنه لقسم لو تعلمون عظيم إنهم المصداق الحقيقي لقول أمير المؤمنين عليه السّلام في المختار السابع : اتّخذوا الشيطان لأمرهم ملاكا و اتّخذهم له أشراكا فباض و فرخ في صدورهم و دبّ و درج في حجورهم فنظر بأعينهم و نطق
[ 177 ]
بألسنتهم فركّب بهم الزّلل و زيّن لهم الخظل فعل من شرّكه الشيطان في سلطانه و نطق بالباطل على لسانه .
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أرجو من أهل العلم التكرم علينا بشرح ما يلي :
* منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة ج13 ـ الميرزا حبيب الله الخوئي ـ :
و منه قوله عليه السّلام في الفصل الثاني من المختار التّسعين :
كذب العادلون 1 بك إذ شبّهوك بأصنامهم و محلوك حلية المخلوقين بأوهامهم « إلى ان قال » فاشهد أنّ من ساواك بشيء من خلقك فقد عدل بك و العادل بك كافر بما تنزّلت به محكمات آياتك و نطقت عنه شواهد حجج بيّناتك .
فانّه كساير الأخبار المتواترة و الآيات القرآنيّة في كفر من شبّهه عزّ و جلّ بالأصنام و زيّنه بزينة المخلوقات فكيف المتصوّفة الجاعلون إيّاه سبحانه عين الأصنام و المعتقدون أنّ هويّته سارية فيها و انّ وجودها عين وجوده الظاهر في صورة الصّنميّة و أنّها مجالى و مظاهر له و أنّ العبادة لها عبادة له تعالى عمّا يقول الملحدون علوّا كبيرا .
و لعلك إذا سمعت نسبة هذا القول و الاعتقاد منّا إلى هذه الطايفة الضّالّة المضلّة نسبتنا إلى العصبيّة و العناد . و بادرت إلى تكذيبنا و قلت كيف يمكن أن يعتقد هؤلاء مع كونهم من المسلمين المؤمنين على خلاف ما هو من ضرورّيات الدّين بل ما هو أساس الدّين و أصله أعنى توحيد الرّب و تفريده بالمعبودية الذى لم يكن بعث الأنبياء و الرّسل و انزال الكتب و الصّحف و تشريع الشرايع و الأديان من لدن زمن آدم عليه السّلام إلى آخر الزّمن إلاّ لأجله .
-----------
( 1 ) اى الجاعلون لك عديلا منه .
[ 172 ]
فان شئت أن تعرف صحّة هذه النّسبة و تعلم حقّيتها بعلم اليقين فاستمع لما يتلى عليك من كلام قطب أقطابهم الزّنديق اللّعين ابن العربى محيى الدّين في الفصوص و من كلام القيصرى في شرحه .
قالا في الفصّ الهاروني بعد ما ذكرا غضب موسى عليه السّلام على أخيه هارون لمّا شاهد من قومه عبادة العجل ما صريح عبارتهما :
« ثمّ قال هارون لموسى إني خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل فتجعلنى سببا في تفريقهم فانّ عبادة العجل فرّقت بينهم فكان منهم من عبده اتباعا للسّامرى و تقليدا له و منهم من توقّف عن عبادته حتى يرجع إليهم موسى فيسألونه في ذلك فخشى هارون أن ينسب ذلك الفرقان بينهم إليه و كان موسى أعلم بالأمر من هارون لأنّه علم ما عبده أصحاب العجل » أى علم موسى ما الّذى عبده أصحاب العجل في الحقيقة « لعلمه بأنّ اللّه قضى ألاّ نعبد إلاّ إيّاه » كما قال تعالى : و قضى ربك ألا تعبدوا إلاّ إيّاه .
« و ما حكم اللّه بشيء إلاّ وقع فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره و عدم اتّساعه » أى كان عتب موسى أخاه هارون لأجل انكاره عبادة العجل و عدم اتّساعه قلبه لذلك .
« فانّ العارف من يرى الحق في كلشيء بل يراه عين كلّ شيء فكان موسى يربّي هارون تربية علم » .
و اعلم أنّ هذا الكلام و إن كان حقّا من حيث الباطن لكن لا يصحّ من حيث النّبوة و الظاهر ، فانّ النبيّ يجب عليه إنكار العبادة للأرباب الجزئية كما يجب عليه إرشاد الامّة إلى الحقّ المطلق ، و لذلك أنكر جميع الأنبياء عبادة الأصنام و إن كانت مظاهر للهوية الالهيّة ، فانكار هارون عبادة العجل من حيث كونه نبيّا حقّ إلاّ أن يكون محمولا على أنّ موسى علم بالكشف أنّه ذهل عن شهود الحق الظاهر في صورة العجل ، فأراد أن ينبّهه على ذلك و هو عين التّربية و الارشاد منه عليه السّلام و انكاره على السامرى و عجله على بصيرة ، فانّ انكار الأنبياء و الأولياء لعبادة الأصنام الّتي هى المظاهر ليس كانكار المحجوبين فانّهم يرون الحقّ مع كلّشيء بخلاف غيرهم
[ 173 ]
بل ذلك لتخليصهم عن التقيّد بصورة خاصّة و تجلّي خاصّ إذ فيه إنكار باقي المجالى و هو عين الضّلال .
« و لذلك » أى و لأجل أنّه كان مرّبيا لهارون « لما قال له هارون ما قال رجع إلى السامرى فقال له فما خطبك يا سامرّى » أى ما شأنك و ما مرادك ، يعنى فيما صنعت من عدو لك إلى صورة العجل على الاختصاص و صنعك هذا الشّبح من حلّى القوم و تركك الاله المطلق .
« فغلبت عليه الغيرة فحرّقه ثمّ نسف رماد تلك الصّورة في اليمّ نسفا و قال له انظر إلى إلهك فسمّاه إلها بطريق التّنبيه للتّعليم » أى نبّه أنّه مظهر من المظاهر و مجلى من مجاليه إلى أن قال :
« فكان عدم قوّة إرداع هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل بالتّسليط على العجل كما سلط عليه موسى حكمة من اللّه ظاهرة في الوجود ليعبد في كلّ صورة و إن ذهبت تلك الصّورة بعد ذلك فما ذهبت إلاّ بعد ما تلبّست عند عابدها بالالوهيّة » أى عدم تأثير هارون في منعهم عن عبادة العجل أو عدم تسلّطه عليهم كما تسلّط عليهم موسى كان حكمة من اللّه ظاهرة في الوجود الكوني فيكون معبودا في صور الأكوان كلّها و ان كانت هذه الصورة ذاهبة فانية لأنّ ذهابها و فنائها إنّما هو بعد التّلبّس بالعبودية عند عابدها .
« و لهذا » أى و لأجل أنّه أراد أن يعبد في كلّ صورة « ما بقي نوع من الأنواع إلاّ و عبد إمّا عبادة تألّه ، أو عبادة تسخير فلا بدّ من ذلك لمن عقل » أمّا العبادة بالالهيّة كعبادة الأصنام و غير ذلك من الشمس و القمر و الكواكب و العجل ، و أمّا العبادة بالتّسخير فكما يعبدون الأموال و أصحاب الجاه و المناصب ، إلى أن قال بعد جملة من ترّهاته :
« و العارف المكمّل من رأى كلّ معبود مجلى للحقّ يعبد فيه و لذلك » أى و لأجل أنّ الحقّ هو الذى ظهر في ذلك المجلى و عبد « سمّوه كلّهم إلها مع اسمه
[ 174 ]
الخاص بحجر أو حيوان أو شجر أو انسان أو كوكب أو ملك أو فلك هذا اسم الشخصيّة فيه و الالوهية مرتبة تخيل العابد له » اى لمعبوده « انّها مرتبة معبوده الخاص و هي على الحقيقة مجلى للحق » انتهى كلامهما هبط مقامهما ببعض تلخيص منّا .
و محصّل كلامهما كما ترى أنّ الأصنام جميعا مجالى الحقّ و مظاهره بل هي عين الحقّ بل الأشياء جميعا مظاهره و مجاليه و عبدة الأوثان و الأصنام و كذلك العابدون للشمس و القمر و الكواكب و الشجر و الحجر و النار و العجل ، و كذلك عبادة المدّعين للالوهيّة من فرعون و شداد ، و كذلك المنقادين للجبابرة و ساير الظلمة من أرباب الجاه و المناصب المسلطين على الرّعية كلّهم جميعا عابدون للّه تعالى لأنّ هذه المعبودات كلّها هو الحقّ ظهر في هذه المظاهر و تصوّر بهذه الصور المختلفة فهى على كثرتها ليست في الحقيقة إلاّ واحدا .
و منع الأنبياء و الأولياء من عبادة الأصنام لم يكن من حيث إنّها عبادة باطلة مبغوضة للّه تعالى بل من أجل حصر العابد للصّنم أو الشجر أو الحجر مثلا عبادته في هذا المعبود الخاصّ ، فبعث اللّه الأنبياء ليرشدوا امتهم و يعلّموهم أنّ اللّه شاء و قضى أن يعبد في كلّ صورة و مجلى ، و أنّ المجالى كلّها إله فليس لكم أن تقصروا عبادتكم بمعبود خاصّ و تخصّصوه به و تتّخذوه إلها دون غيره .
و من هذا الباب كان غضب موسى على هارون فانّه عليه السّلام لما كان أعلم منه و كان يعلم أن اللّه شاء أن يعبد في كلّ صورة حتّى صورة العجل و ما شاءه و قضاه عزّ و جلّ لا بدّ من وقوعه لا محالة و كان هارون لا يعلم ذلك و لذلك أنكر على قومه عبادته فعتب موسى عليه لأجله و نبّهه على عدم اتّساع قلبه و على غفلته و ذهوله عن حقيقة الأمر .
و الحاصل إنّ الأنبياء إنّما بعثوا ليأمروا امّتهم بعبادة كلّشيء من صنم أو غيره و ليردعوهم عن قصر عبادتهم بشيء مخصوص معيّن فقط . و قد أوضح الرّجس الخبيث هذا الغرض في بعض فقرات الفصّ النّوحى .
قال في جملة ما نقل من كلام نوح و قومه : « و مكروا مكرا كبّارا » لأنّ الدّعوة إلى اللّه مكر بالمدعوّ لأنّه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية فهذا عين المكر على بصيرة فنبّه أنّ الأمر له كلّه فأجابوه مكرا كما دعاهم »
[ 175 ]
قال شارحه القيصرى : إى لمّا مكر نوح معهم مكروا مكرا كبّارا في جوابه و ذلك لأنّ الدّعوة إلى اللّه مكر من الداعي بالمدعوّ ، لأنّ المدعوّ ما عدم الحقّ من البداية حتى يدعى إليه في الغاية لأنّه مظهر هويته في بعض مراتب وجوده فالحقّ معه بل هو عينه فالدّاعى إذا دعى مظهرا ما يمكر به فانه يريد إنّ الحق ليس معه أو هو غيره و هو عين المكر .
لكن مثل هذا المكر من الأنبياء إنّما هو على بصيرة كما قال : أدعو إلى اللّه على بصيرة أنا و من اتّبعنى ، أى يعلم النبيّ أنه مظهر هوية الحقّ لكن يدعوه ليخلّصه عن القيود و ترتفع عنه الحجب الموجبة للضلالة فيرى ذاته مظهرا للهوّية و يشاهد جميع الموجودات مظاهر للحق و يعبده بجميع أسمائه و صفاته كما عبده من حيث اسمه الخاص ، و فاعل نبه ضمير يرجع إلى نوح أو إلى الحقّ أى نبّههم على أنّ الملك كله للّه ليس كما تخيلوا أنه لهم .
قال « فقالوا في مكرهم لا تذرنّ آلهتكم و لا تذرّن ودّا و لا سواعا و لا يغوث و يعوق و نسرا فانهم إذا تركوهم جهلوا من الحقّ على قدر ما تركوا من هؤلاء فانّ للحقّ في كلّ معبود وجها يعرفه من عرفه و يجهله من جهله فالعالم يعلم من عبد و في أىّ صورة ظهر حتى عبد ، و أنّ التفريق و الكثرة كالاعضاء المحسوسة و كالقوى المعنوية في الصورة الروحانية » .
قال الشارح القيصرى : فالعالم باللّه و مظاهره يعلم أنّ المعبود هو الحقّ في أىّ صورة كانت سواء كانت حسّية كالأصنام أو خيالية كالجنّ أو عقلية كالملائكة و يعلم أنّ التفريق و الكثرة مظاهر لأسمائه و صفاته و هى كالأعضاء في الصورة الانسانية ، فانّ العين مظهر للابصار و الاذن للسمع و الانف للشمّ و اليد للبطش ،
و كالقوى الروحانية كالعقل و الوهم و الذاكرة و الحافظة و المفكرة و المتخيلة فانها كلّها مظاهر لصفات الرّوح ، انتهى .
و محصّل كلامهما أنّ قوم نوح في عبادتهم للأصنام كانوا محقّين لكونها مظاهر الحقّ كما أن العابدين لها كذلك لأنهم أيضا كانوا مظهر الحقّ و كان
[ 176 ]
الحقّ معهم بل هو عينهم و كان نوح أيضا يعلم أنهم على الحقّ إلاّ أنه أراد على وجه المكر و الخديعة أن يصرفهم عن عبادتها إلى عبادته .
و إنما كان هذا مكرا منه عليه السّلام لأنه كان يقول لهم ما لم يكن معتقدا به و يموّه خلاف ما أضمره و اعتقده إذ كان عالما و على بصيرة من ربّه بأنّ الأصنام مظاهر الحقّ و عبادتها عبادته إلاّ أنه عليه السّلام أراد أن يخلّصهم من القيود حتى لا يقصروا عبادتهم فيها فقط ، بل يعبدوه في كلّ معنى و صورة .
و لما شاهد القوم منه ذلك المكر أنكروا عليه و أجابوه بما هو أعظم مكرا و أكبر من مكره فقالوا لا تتركوا آلهتكم إلى غيرها ، لأنّ في تركها ترك عبادة الحقّ بقدر ما ظهر فيها و قصر عبادته في ساير المجالي و هو جهل و غفلة لأنّ للحقّ في كلّ معبود وجها يعرفها العارفون سواء كان ذلك المعبود في صورة صنم أو حجر أو شجر أو بقر أو جن أو ملك أو غيرها .
هذا محصّل كلام هذين الرجسين النجسين النحسين و كم لهما في الكتاب المذكور من هذا النمط و الاسلوب ، و سنشير إلى بعضها فيما سيأتي ، فلينظر المؤمن الكيس البصير إلى أنهما كيف موّها الباطل بصورة الحقّ و أوّلا كلام اللّه بآرائهم الفاسدة و أحلامهم الكاسدة على طبق عقايدهم الباطلة ، و قد قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المختار من فسّر القرآن برأيه فليبوء مقعده من النار .
و لعمرى أنهما و من حذا حذوهما حزب الشيطان و أولياء عبدة الطاغوت و الأوثان ، و لم يكن غرضهما إلاّ تكذيب الأنبياء و الرّسل و ما جاؤا به من البيّنات و البرهان و هدم أساس الاسلام و الايمان و إبطال جميع الشرايع و الأديان ، و ترويج عبادة الأصنام و جعل كلمة الكفر العليا و خفض كلمة الرحمن .
و اقسم باللّه الكريم و إنه لقسم لو تعلمون عظيم إنهم المصداق الحقيقي لقول أمير المؤمنين عليه السّلام في المختار السابع : اتّخذوا الشيطان لأمرهم ملاكا و اتّخذهم له أشراكا فباض و فرخ في صدورهم و دبّ و درج في حجورهم فنظر بأعينهم و نطق
[ 177 ]
بألسنتهم فركّب بهم الزّلل و زيّن لهم الخظل فعل من شرّكه الشيطان في سلطانه و نطق بالباطل على لسانه .
تعليق