بسم الله الرحمان الرحيم . اللهمّ صلّ على محمد و آله الطاهرين و انتقم من أعدائهم أجمعين. و لعن الله قتلة الحسين عليه السلام.
أما بعد.. فلقد طرح عليّ أحد شيوخ العامة شبهة فكتبت له الردّ عليها و ارتأيت أن أطلعكم عليه ليستفيد الموالون والمستبصرون خصوصا و أن هذه أوّل مشاركة لي في هذا المنتدى المبارك.
إلى (فلان) هدانا الله و هداه إلى ما فيه الخير و الرشاد,
الشبهة:
كان الإمام عليّ(ع) معترفا بشرعيّة خلافة الذين سبقوه, و الدليل من نهج البلاغة رسالة كتبها إلى معاوية يقول له فيها: "إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان على ما بايعوهم عليه. فلم يكن للشاهد أن يختار و لا للغائب أن يردّ, و إنما الشورى للمهاجرين و الأنصار, فإن اجتمعوا على رجل و سموه إماما كان ذلك لله رضىً..."
الردّ على الشّبهة:
قبل كلّ شيء يجب التنويه إلى أنّ الإمام عليّ(ع) يخاطب خصمه السياسي معاوية الذي رفض المبايعة و الدّخول في إجماع الأمّة. فكلام الإمام عليّ(ع) كلامٌ فرضي قاله ليبين أنّ معاوية من الطلقاء الذين ليسوا من الأمة التي إجماعها حجة.. و أنه لا من مهاجريها ولا من أنصارها ، ولا مخالفته تضر بإجماع المسلمين.
أمّا عبارة " فإن اجتمعوا على رجل و سموه إماما كان ذلك لله رضىً" فهي خاصّة بعليّ(ع) وحده و لا تخصّ أبا بكر و لا عمر و لا عثمان, و ذلك لأن المهاجرين و الأنصار اجتمعوا على بيعة الإمام علي (ع). بينما لم يحصل الإجماع في بيعة من سبقوه.
و يكفي إثبات عدم الإجماع في خلافة أبي بكر حتّى تنتقض هذه الشبهة من أساسها:
1- عمر ابن الخطّاب نفسه اعترف بأنّ بيعة الخليفة الأول تمّت فلتة بلا مشورة و لا إجماع من المسلمين.
2- عمر ابن الخطّاب أجبر بعض أصحاب النبيّ (ص) على بيعة أبي بكر بالإكراه.
3- الإمام عليّ(ع) نفسه لم يبايع أبا بكر طيلة حياة فاطمة الزّهراء(ع) فلمّا توفّيت أجبر على البيعة بالإكراه.
4- إنّه من المعلوم في كتب التاريخ المعتبرة بأنّ سيّد الأنصار سعد ابن عبادة لم يبايع أبا بكر, بل و لا أحد من أرباب التواريخ و السّيرة ادّعى مجرّد ادّعاء أنه بايع.
الأدلّة:
* النصّ الأول من صحيح البخاري يقرّ فيه عمر ابن الخطاب بأنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة بدون مشورة من المسلمين و يقرّ في النصّ أيضا بأن عليّا و الزبير و من معهما خالفا بيعة أبي بكر و كذلك الأنصار خالفوها و يمكنكم الرجوع إلى كتاب المحاربين من صحيح البخاري لقرائة النصّ بطوله, و هذا مقطع منه:
"... ثُمَّ إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ قَائِلاً مِنْكُمْ يَقُولُ وَاللَّهِ لَوْ مَاتَ عُمَرُ بَايَعْتُ فُلاَنًا. فَلاَ يَغْتَرَّنَّ امْرُؤٌ أَنْ يَقُولَ إِنَّمَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ فَلْتَةً وَتَمَّتْ أَلاَ وَإِنَّهَا قَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ وَلَكِنَّ اللَّهَ وَقَى شَرَّهَا، وَلَيْسَ مِنْكُمْ مَنْ تُقْطَعُ الأَعْنَاقُ إِلَيْهِ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ، مَنْ بَايَعَ رَجُلاً عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلاَ يُبَايَعُ هُوَ وَلاَ الَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلاَ، وَإِنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ خَبَرِنَا حِينَ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ أَنَّ الأَنْصَارَ خَالَفُونَا وَاجْتَمَعُوا بِأَسْرِهِمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، وَخَالَفَ عَنَّا عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ وَمَنْ مَعَهُمَا..."
* النصّ الثاني من كتاب تاريخ الطّبري (صاحب تفسير القرآن) و هو يدلّ على أن عمر أخذ البيعة لأبي بكر بالإكراه من بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم (و إذا كان بيع الإكراه باطلا فكيف ببيعة الإكراه؟؟)
"حدثنا ابن حميد قال حدثنا جرير عن مغيرة عن زياد بن كليب قال أتى عمر بن الخطاب منزل عليّ و فيه طلحة و الزبير و رجال من المهاجرين فقال و الله لأحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة فخرج عليه الزبير مصلتا بالسيف فعثر فسقط السيف من يده فوثبوا عليه فأخذوه"
* النصّ الثالث من كتاب نهج البلاغة للإمام عليّ ابن أبي طالب (ع) يثبت بأنّه كان يقاد مكرها لمبايعة من سبقوه بالخلافة و ليس برضاه و أقول مجدّدا إذا كان بيع الإكراه باطلا فكيف ببيعة الإكراه؟؟
من كتاب له عليه السلام إلى معاوية:
"... و قلتَ إني كنت أقادُ كما يقادُ الجملُ المخشوشُ حتى أبايعَ, و لعمر الله لقد أردتَ أن تذمّ فمدحتَ, و ما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكا في دينه و لا مرتابا بيقينه..."
و قال الشيخ محمد عبده في الشرح: طعن معاوية على الإمام بأنه كان يجبر على مبايعة السابقين من الخلفاء.
* النصّ الرابع يدلّ على أن الإمام عليّ(ع) و مجموعة من كبار صحابة رسول الله صلّى الله عليه و آله امتنعوا عن مبايعة أبي بكر, و لقد أورد هذا النصّ كلّ من ابن الأثير في الكامل في التاريخ وتاريخ الطبري وتاريخ اليعقوبي وتاريخ أبي الفداء و شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد:
"امتنع الإمام علي عن بيعة أبي بكر، واعتصم في بيته مع عدد من أصحاب رسول الله من مهاجرين وأنصار لا يجاوز عددهم الأثني عشر رجلاً منهم: الزبير وطلحة وخالد بن سعيد والمقداد وسلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري وعمار بن ياسر، والبراء بن عازب، وحذيفة بن اليمان وابن الثيهان وعبادة بن الصامت"
* النصّ الخامس ورد في تاريخ الطبري و في تاريخ ابن الأثير, يدلّ بأن هنالك أصوات من الأنصار في السّقيفة كانت تطالب ببيعة عليّ(ع) الذي كان حينها مشغولا بتغسيل رسول الله و تجهيزه صلّى الله عليه و آله:
"... فقال عمر: أيكم يطيبب نفسًا أن يخلف قدمين قدمهما النبي ـ صلىالله عليه وسلم ـ فبايعه عمر وبايعه الناس. فقالت الأنصار أو بعض الأنصار: لا نبايع إلا عليًا. قال: وتخلف علي وبنو هاشم والزبير وطلحة عن البيعة. وقال الزبير: لا أغمد سيفًا حتى يُبَايَعَ عَليّ..."
* النصّ السادس أورده الطبري وابن الاثير في تاريخهما والمتقي الهندي في كنز العمال وابن قتيبة في الإمامة و السياسة, و يفيد بأنّ سعد ابن عبادة رضي الله عنه و هو سيّد الأنصار في المدينة لم يقبل ببيعة أبي بكر بتاتا:
" إن سعدا ترك أياما ثم بعث إليه أن أقبل فبايع ، فقد بايع الناس وبايع قومك ، فقال : أما والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبل وأخضب سنان رمحي ، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي ، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي فلا أفعل ، وأيم الله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الانس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي واعلم ما حسابي "
و قال المسعودي في مروج الذّهب " وخرج سعد بن عبادة ولم يبايع فصار إلى الشام فقتل هناك سنة 15 هجريّة "
و قال ابن الأثير في أسد الغابة : " لم يبايع سعد أبا بكر ولا عمر ، وسار إلى الشام فأقام بحوارين إلى أن مات سنة 15 هجريّة "
خلاصة:
بعد هذه الأدلّة يثبت بأن قول الإمام علي(ع) في نهج البلاغة "...فإن اجتمعوا على رجل و سموه إماما كان ذلك لله رضىً." هو قول يصف فيه الإجتماع على بيعة الناس له لا غير كما وصف ذلك في الخطبة عدد 228 حيث قال عليه السلام:
"وَبَسَطْتُمْ يَدِي فَكَفَفْتُهَا، وَمَدَدْتُمُوهَا فَقَبَضْتُهَا، ثُمَّ تَدَاكَكْتُمْ عَلَيَّ تَدَاكَّ الاِْبِلِ الْهِيمِ عَلَى حِيَاضِهَا يَوْمَ وِرْدِهَا، حَتَّى انْقَطَعَتِ النَّعْلُ، وَسَقَطَ الرِّدَاءُ، وَوُطِىءَ الضَّعِيفُ، وَبَلَغَ مِنْ سُرُورِ النَّاسِ بِبَيْعَتِهِمْ إِيَّايَ أَنِ ابْتَهَجَ بِهَا الصَّغِيرُ، وَهَدَجَ إِلَيْهَا الْكَبِيرُ، وَتَحَامَلَ نَحْوَهَا الْعَلِيلُ، وَحَسَرَتْ إِلَيْهَا الْكِعَابُ "
فلا يستقيم الإحتجاج بقول الإمام –موضوع الشبهة- لإثبات أنه راض عن خلافة من سبقوه خصوصا و قد تواترت النصوص في نهج البلاغة بعكس ذلك.
و منها –على سبيل الذكر لا الحصر- قوله عليه السلام في الخطبة الشقشقيّة يصف أمر الخلافة:
"أَمَا وَالله لَقَدْ تَقَمَّصَها فُلانٌ، وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّيَ مِنهَا مَحَلُّ القُطْبِ مِنَ الرَّحَا..."
و إنّ كلّ من فسّر نهج البلاغة من أهل السنة و الجماعة كالشيخ محمد عبده و ابن أبي حديد ذكروا بأنّ المقصود بفلان هو أبو بكر بن أبي قحافة.
و قوله في خطبة أخرى يصف فيه منازعة قريش لحقه في الخلافة:
"اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْش، فَإِنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا رَحِمِي، وَأَكْفَأُوا إِنَائِي، وَأَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي حَقّاً كُنْتُ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِي"
و في الخطبة رقم 172 إخبار عمّا جرى يوم الشورى بعد مقتل الخليفة الثاني:
"وَقَالَ قَائِلٌ: إِنَّكَ يابْنَ أبِي طَالِب عَلَى هذَا الاَْمْرِ لَحَرِيصٌ. فَقُلْتُ: بَلْ أَنْتُمْ وَاللهِ أحْرَصُ وَأَبْعَدُ، وَأَنَا أَخَصُّ وَأَقْرَبُ، وَإِنَّمَا طَلَبْتُ حَقّاً لِي وَأَنْتُمْ تَحُولُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ..."
فموقف الإمام عليّ عليه السلام من أمر الخلافة واضح و جليّ لا غبار عليه, بيّن عدم رضاه عن خلافة من سبقوه, ثمّ إنّ الرسول الأعظم أنبأه بهذا, فلقد جاء في كتاب المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري حديث رقم 4739 مفاده بأنّ الأمــة تغدر بعليّ ابن أبي طالب بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه و على آله و سلّم. و قال الحاكم صحيح الإسناد و لم يخرجاه و أقرّ بذلك الحافظ الذهبي صاحب التعليقات على المستدرك و كلاهما من كبار علماء الحديث السنيين المعتبرين:
"حدثنا أبو حفص عمر بن أحمد الجمحي بمكة ثنا علي بن عبد العزيز ثنا عمرو بن عون ثنا هشيم عن اسماعيل بن سالم عن أبي ادريس الأودي عن عليّ رضي الله عنه قال: إنّ مما عهد إليّ النبيّ صلى الله عليه و على آله و سلّم أنّ الأمة ستغدر بي بعده."
هذا و قد أجمع كبار المحدّثين السنّة كالبخاري و مسلم وغيرهم على صحّة حديث "فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني" و في نفس الوقت أجمعوا على صحّة النصوص التي تفيد بأنّها ماتت و هي غاضبة على الخليفة الأول فكيف يكون لله رضىً على من ماتت فاطمة(ع) و هي غاضبة عليه ؟
و كيف يدّعي أهل السنّة بأنّ الله و رسوله إنّما أوصوهم خيرا بأهل البيت عليهم السلام في حين أنّهم بعد وفاته أغضبوا فاطمة(ع) لدرجة أنها أوصت بأن تدفن سرّا و ليلا و يعفى ثراها, و قادوا عليّا(ع) كالجمل المخشوش للبيعة مكرها واتّخذوا سبّه سنّة على المنابر و سمّموا الحسن(ع) و قتلوا الحسين(ع) و قطعوا رأسه ؟؟ فهل هذا من المودّة التي أمرهم الله بها ؟
و شكرا
التوقيع: الفضل التونسي / مستبصر.
تعليق