إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

الامام الحسين عليه السلام..

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الامام الحسين عليه السلام..


    على أعتاب الحسين
    الإمام الحسين بن علي الشهيد (عليه السلام)


    ولادته

    قال محمد بن طلحة الشافعي: (ولد بالمدينة لخمس(1) خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة، وكانت والدته الطهر البتول فاطمة (عليها السلام علقت به بعد أن ولدت أخاه الحسن بخمسين ليلة هكذا صح النقل فلم يكن بينه وبين أخيه سوى هذه المدة المذكورة ومدة الحمل، ولما ولد وعلم النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) به أخذه وأذن في أذنه، قيل: أذّن في أذنه اليمنى، وأقام في أذنه اليسرى.

    والصحيح أنه ولد لستة أشهر، وفيه أنزل الله تعالى (وحمله وفصاله ثلاثون شهراً)(2).

    • قال محبّ الدين الطبري
    : (قال ابن الدارع في كتاب مواليد أهل البيت: لم يكن بينهما إلاّ حمل البطن، وكان مدة حمل البطن ستّة أشهر، وقال: لم يولد مولود قطّ لسنّة أشهر فعاش إلاّ الحسين وعيسى بن مريم (عليهما السلام) )(3).


    • قال محمد بن عبد البّر
    : (روى جعفر بن محمد، عن أبيه قال: لم يكن بين الحسن والحسين إلاّ طهر واحد)(4).


    قال ابن الصّباغ المالكي: (واستبشر به (صلى الله عليه وآله) وسمّاه حسيناً وعقّ عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كبشاً، وقال لأمه: احلقي رأسه وتصدّقي بوزنه فضة وافعلي به كما فعلت بأخيه الحسن)(5).


    قال الشبلنجي: (وحنّكه (صلى الله عليه وآله) بريقه، وأذّن في أذنه وتفل في فمه ودعا له وسمّاه حسيناً يوم السابع)(6).


    روى الحاكم النيسابوري بإسناده عن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جدّه عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: (عق رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الحسين بشاة وقال: يا فاطمة احلقي رأسه وتصدّقي بزنة شعره فوزنّاه فكان وزنه درهماً)(7).


    روى الحمويني بإسناده عن ابن عباس: (فلما ولد الحسين بن عليّ (عليهما السلام) وكان مولده عشيّة الخميس ليلة الجمعة أوحى الله عزّ وجل إلى مالك خازن النار أن أخمد النيران على أهلها لكرامة مولود ولد لمحمّد في دار الدنيا).

    قال سبط ابن الجوزي: (وكنيته أبو عبد الله، ويلقب بالسيّد، والوفي، والولي، والمبارك، والسبط، وشهيد كربلاء)(8).
    روى ابن قولويه بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام)… (لم يرضع الحسين من فاطمة ولا من أنثى، لكنّه كان يؤتى به النبي (صلى الله عليه وآله) فيضع إبهامه في فيه فيمصّ منها ما يكفيه اليومين والثلاثة فنبت لحم الحُسين (عليه السلام) من لحم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ودمه من دمه، ولم يولد مولود لستّة اشهر إلاّ عيسى بن مريم والحسين بن علي (صلوات الله عليهم).
    الهوامش
    1 - قال الشيخ الطوسي: (في اليوم الثالث منه ولد الحسين بن علي (عليهما السلام)، وهو يوافق التوقيع الشريف) (مصباح المتهجّد).
    2 - مطالب السؤول: ص 184.
    3 - ذخائر العقبى: ص 118.
    4 - الاستيعاب: ج 1 ص 393.
    5 - الفصول المهمّة: ص 170.
    6 - نور الأبصار: ص 146.
    7 - المستدرك على الصحيحين: ج 4 ص 237.
    8 - تذكرة الخواص: ص 232.

  • #2

    على أعتاب الحسين
    الإمام الحسين بن علي الشهيد (عليه السلام)


    أسماؤه وكناه

    كشف الغمّة: قال كمال الدين بن طلحة: كنية الحسين (عليه السلام) أبو عبد الله لا غير.

    وأما ألقابه فكثيرة: الرشيد والطيب والوفيّ والزكي والمبارك والتابع لمرضاة الله والسبط.
    فكل هذه كانت تقال له وتطلق عليه، وأشهرها الزكي، ولكن أعلاها رتبة ما لقّبه به رسول الله (صلى الله عليه وآله) في قوله عنه وعن أخيه: أنهما سيدا شباب أهل الجنة.
    فيكون السيد أشرفها وكذلك السبط، فإنّه صحَّ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: حسين سبط من الأسباط.
    وقال ابن الخشاب يكنّى بأبي عبد الله، لقبه الرشيد والطيب والوفيّ والسيد والمبارك والتابع لمرضاة الله والدليل على ذات الله عز وجل والسبط(1).

    • إرشاد المفيد: وكنية الحسين (عليه السلام) أبو عبد الله(2).
    الهوامش
    1 - 2 / 4 والبحار: 43 / 237 ح 2.
    2 - ص 218 والبحار: 43 / 250 ح 26.



    على أعتاب الحسين
    الإمام الحسين بن علي الشهيد (عليه السلام)


    المكونات التربوية
    وتوفرت في سبط الرسول (صلى الله عليه وآله) وريحانته الإمام الحسين (عليه السلام)، جميع العناصر التربوية الفذة التي لم يظفر بها غيره، فأخذ بجوهرها ولبابها وقد أعدته لقيادة الأمة، وتحمل رسالة الإسلام بجميع أبعادها ومكوناتها، كما أمدته بقوى روحية لاحد لها من الإيمان العميق بالله، والخلود إلى الصبر على ما انتابه من المحن والخطوب التي لا يطيقها أي كائن حي من بني الإنسان.
    أما الطاقات التربوية التي ظفر بها، وعملت على تقويمة وتزويدة بأضخم الثروات الفكرية والإصلاحية فهي:

    الوراثة
    حددت الوراثة بانها مشابهة الفرع لأصله، ولا تقتصر على المشابهة في المظاهر الشكلية وإنما تشمل الخواص الذاتية، والمقومات الطبيعية، كما نص على ذلك علماء الوراثة وقالوا: أن ذلك أمر بيّنُ في جميع الكائنات الحية فبذور القطن تخرج القطن، وبذور الزهرة تخرج الزهرة، وهكذا غيرها، فالفرع يحاكي أصله ويساويه في خواصه، وأدق صفاته، يقول (مندل):
    (أن كثيراً من الصفات الوراثية تنتقل بدون تجزئة أو تغير من أحد الأصلين أو منهما إلى الفرع..).
    وأكد هذه الظاهرة (هكسلي) بقوله:
    (إنه ما أثر أو خاصة لكائن عضوي إلا ويرجع إلى الوراثة أو إلى البيئة فالتكوين الوراثي يضع الحدود لما هو محتمل، والبيئة تقرر أن هذا الإحتمال سيتحقق، فالتكوين الوراثي إذن ليس إلا القدرة على التفاعل مع أية بيئة بطريق خاص..).
    ومعنى ذلك أن جميع الآثار والخواص التي تبدو في الأجهزة الحساسة من جسم الإنسان ترجع إلى العوامل الوراثية وقوانينها، والبيئة تقرر وقوع تلك المميزات وظهورها في الخارج، فاذن ليست البيئة إلا عاملاً مساعداً للوراثة، حسب البحوث التجريبية التي قام بها الاختصاصيون في بحوث الوراثة.
    وعلى أي حال فقد أكد علماء الوراثة بدون تردد أن الأبناء والأحفاد يرثون معظم صفات آبائهم وأجدادهم النفسية والجسمية، وهي تنتقل إليهم بغير ارادة ولا اختيار، وقد جاء هذا المعنى صريحاً فيما كتبه الدكتور (الكسيس كارل) عن الوراثة بقوله:
    (يمتد الزمن مثلما يمتد في الفرع إلى ما وراء حدوده الجسمية.. وحدوده الزمنية ليست أكثر دقة ولا ثباتاً من حدوده الاتساعية، فهو مرتبط بالماضي والمستقبل، على الرغم من أن ذاته لا تمتد خارج الحاضر.. وتأتي فرديتنا كما نعلم إلى الوجود حينما يدخل الحويمن في البويضة. ولكن عناصر الذات تكون موجودة قبل هذه اللحظة ومبعثرة في أنسجة أبوينا وأجدادنا وأسلافنا البعيدين جداً لأنا مصنوعون من مواد آبائنا وأمهاتنا الخلوية. وتتوقف في الماضي على حالة عضوية لا تتحلل... وتحمل في أنفسنا قطعاً ضئيلة لاعداد من أجسام أسلافنا، وما صفاتنا ونقائصنا إلا امتداد لنقائصهم وصفاتهم..)(1).
    وقد أكتشف الإسلام - قبل غيره - هذه الظاهرة: ودلل على فعالياتها، في التكوين النفسي والتربوي للفرد، وقد حث باصرار بالغ على أن تقوم الرابطة الزوجية على أساس وثيق من الاختبار والفحص عن سلوك الزوجين، وسلامتهما النفسية والخلقية من العيوب والنقص، ففي الحديث (تخيروا لنطفتكم فان العرق دساس) وأشار القرآن الكريم إلى ما تنقله الوراثة من أدق الصفات قال تعالى حكاية عن نبيه نوح: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراُ. إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً)(2). فالآية دلت بوضوح على انتقال الكفر والإلحاد بالوراثة من الآباء إلى الأبناء، وقد حفلت موسوعات الحديث بكوكبة كبيرة من الأخبار التي أثرت عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) وهي تدلل على واقع الوراثة وقوانينها ومالها من الأهمية البالغة في سلوك الإنسان، وتقّويم كيانه.
    على ضوء هذه الظاهرة التي لا تشذ في عطائها نجزم بأن سبط الرسول (صلى الله عليه وآله) قد ورث من جده الرسول (صلى الله عليه وآله) صفاته الخلقية والنفسية، ومكوناته الروحية التي امتاز بها على سائر النبيين، وقد حدد كثير من الروايات مدى ما ورثه هو وأخوه الإمام الحسن من الصفات الجسمية من جدهما النبي (صلى الله عليه وآله) فقد جاء عن علي (عليه السلام) أنه قال: (من سره أن ينظر إلى أشبه الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله) ما بين عنقه وشعره فلينظر إلى الحسن، ومن سره أن ينظر إلى أشبه الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله) مابين عنقه الى كعبه خلقا ولونا فلينظر الى الحسين)(3) وفي رواية أنه كان أشبه النبي ما بين سرته إلى قدمه(4) وكما ورث هذه الظاهرة من جده فقد ورث منه مثله وسائر نزعاته وصفاته.
    الأسرة
    الأسرة(5) من العوامل المهمة في إيجاد عملية التطبيع الاجتماعي، وتشكيل شخصية الطفل، وإكسابه العادات التي تبقى ملازمة له طوال حياته، فهي البذرة الأولى في تكوين النمو الفردي، والسلوك الاجتماعي، وهي أكثر فعالية في إيجاد التوازن في سلوك الشخص من سائر العوامل التربوية الأخرى، فمنها يتعلم الطفل اللغة، ويكتسب القيم والتقاليد الاجتماعية.
    والأسرة إنما تنشأ أطفالها نشأة سليمة متسمة بالاتزان والبعد عن الشذوذ والانحراف فيما إذا شاع في البيت الاستقرار والمودة والطمأنينة وابتعد عن ألوان العنف والكراهية، وإذا لم ترع ذلك فإن أطفالها تصاب بعقد نفسية خطيرة تسبب لهم كثيراً من المشاكل والمصاعب، وقد ثبت في علم النفس أن أشد العقد خطورة، وأكثرها تمهيداً للاضطرابات الشخصية هي التي تكون في مرحلة الطفولة الباكرة خاصة من صلة الطفل بأبويه(6).
    كما أن من أهم وظائف الأسرة الإشراف على تربية الأطفال فانها مسؤولة عن عمليات التنشئة الإجتماعية التي يتعلم الطفل من خلالها خبرات الثقافة وقواعدها في صورة تؤهله في مستقبل حياته من المشاركة التفاعلية مع غيره من أعضاء المجتمع.
    وأهم وظائف الأسرة عند علماء التربية هي ما يلي:
    أ- أعداد الأطفال بالبيئة الصالحة لتحقيق حاجاتهم البيولوجية والاجتماعية.
    ب- أعدادهم للمشاركة في حياة المجتمع والتعرف على قيمه وعاداته.
    ج - توفير الاستقرار والأمن والحماية لهم.
    د- امدادهم بالوسائل التي تهيء لهم تكوين ذواتهم داخل المجتمع(7).
    هـ- تربيتهم بالتربية الأخلاقية والوجدانية والدينية(8).
    وعلى ضوء هذه البحوث التربوية الحديثة عن الأسرة ومدى أهميتها في تكوين الطفل، وتقويم سلوكه بحزم بأن الإمام الحسين (عليه السلام) كان وحيداً في خصائصه ومقوماته التي استمدها من أسرته فقد نشأ في أسرة تنتهي إليها كل مكرمة وفضيلة في الإسلام، فما أظلت قبة السماء أسرة أسمى ولا أزكى من أسرة آل الرسول (صلى الله عليه وآله)... لقد نشأ الإمام الحسين (عليه السلام) في ظل هذه الأسرة وتغذى بطباعها وأخلاقها، ونعرض - بإيجاز - لبعض النقاط المضيئة النابضة بالتربية الفذة التي ظفر بها الحسين (عليه السلام) في ظل الأسرة النبوية.

    التربية النبوية
    وقام الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) بدوره بتربية سبطه وريحانته فأفاض عليه بمكرماته ومثله وغذاه بقيمه ومكوناته ليكون صورة عنه، ويقول الرواة: إنه كان كثير الإهتمام والاعتناء بشأنه، فكان يصحبه معه في أكثر أوقاته فيشمه عرفه وطيبه، ويرسم له محاسن أفعاله، ومكارم أخلاقه، وقد علمه وهو في غضون الصبا سورة التوحيد(9)، ووردت إليه من تمر الصدقة فتناول منها الحسين تمرة وجعلها في فيه، فنزعها منه الرسول (صلى الله عليه وآله) وقال له: لا تحل لنا الصدقة(10)، وقد عوده وهو في سنه المبكر بذلك على الأباء، وعدم تناول ما لا يحل له، ومن الطبيعي أن إبعاد الطفل عن تناول الأغذية المشتبه فيها أو المحرمة لها أثرها الذاتي في سلوك الطفل وتنمية مداركه حسب ما دللت عليه البحوث الطبية الحديثة، فأن تناول الطفل للأغذية المحرمة مما يوقف فعالياته السلوكية، ويغرس في نفسه النزعات الشريرة كالقسوة، والاعتداء والهجوم المتطرف على الغير، وقد راعى الإسلام باهتمام بالغ هذه الجوانب فألزم بأبعاد الطفل عن تناول الغذاء المحرم(11) وكان أبعاد النبي (صلى الله عليه وآله) لسبطه الحسين عن تناول تمر الصدقة التي لا تحل لأهل البيت (عليهم السلام) تطبيقاًُ لهذا المنهج التربوي الفذ.. وسنذكر المزيد من ألوان تربيته له عند عرض ما أثر عنه (صلى الله عليه وآله) في حقه (عليه السلام).

    تربية الإمام له
    أما الإمام علي (عليه السلام) فهو المربى الأول الذي وضع أصول التربية، ومناهج السلوك، وقواعد الآداب، وقد ربى ولده الإمام الحسين (عليه السلام) بتربيته المشرقة فغذاه بالحكمة، وغذاه بالعفة والنزاهة، ورسم له مكارم الأخلاق والآداب، وغرس في نفسه معنوياته المتدفقة فجعله يتطلع إلى الفضائل حتى جعل اتجاهه السليم نحو الخير والحق، وقد زوده بعدة وصايا حافلة بالقيم الكريمة والمثل الإنسانية ومنها هذه الوصية القيمة الحافلة بالمواعظ والآداب الإجتماعية وما يحتاج إليه الناس في سلوكهم، وهي من أروع ما جاء في الإسلام من الأسس التربوية التي تبعث على التوازن، والأستقامة في السلوك قال عليه السلام:
    (يا بني أوصيك بتقوى الله عز وجل في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الرضا(12) والقصد في الغنى والفقر، والعدل في الصديق والعدو والعمل في النشاط والكسل، والرضا عن الله تعالى في الشدة والرخاء.
    يا بني ما شر بعده الجنة بشر، ولا خير بعده النار بخير، وكل نعيم دون الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافية... أعلم يا بني أن من أبصر عيب نفسه شغل عن غيره، ومن رضى بقسم الله تعالى لم يحزن على مافاته، ومن سل سيف البغي قتل به، ومن حفر بئراً وقع فيها، ومن هتك حجاب غيره أنكشفت عورات بيته، ومن نسي خطيئته استعظم خطئية غيره، ومن كابد الأمور عطب، ومن أقتحم البحر غرق، ومن أعجب برأيه ضل ومن استغنى بعقله زل، ومن تكبر على الناس ذل، ومن سفه عليهم شتم، ومن دخل مداخل السوء اتهم، ومن خالط الأنذال حقر، ومن جالس العلماء وقر، ومن مزح استخف به، ومن اعتزل سلم، ومن ترك الشهوات كان حراً، ومن ترك الحسد كان له المحبة من الناس.
    يا بني عز المؤمن غناه عن الناس، والقناعة مال لا ينفذ ومن أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومن علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما ينفعه، العجب ممن خاف العقاب ورجا الثواب فلم يعمل، الذكر نور والغفلة ظلمة، والجهالة ضلالة، والسعيد من وعظ بغيره، والأدب خير ميراث، وحسن الخلق خير قرين.
    يا بني ليس مع قطيعة الرحم نماء، ولا مع الفجور غنى،... يا بني العافية عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت إلا بذكر الله، وواحد في ترك مجالسة السفهاء، ومن تزين بمعاصي الله عز وجل في المجالس ورثّه ذلاً من طلب العلم علم.
    يا بني رأس العلم الرفق وآفته الخرق، ومن كنوز الإيمان الصبر على المصائب، العفاف زينة الفقر، والشكر زينة الغني، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر كلامه كثر خطأوه، ومن كثر خطأوه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار.
    يا بني لا تؤيسن مذنباً فكم من عاكف على ذنبه ختم له بالخير، ومن مقبل على عمله مفسد له في آخر عمره صار إلى النار من تحرى القصد خفت عليه الأمور.
    يا بني كثرة الزيارة تورث الملالة، يا بني الطمأنينة قبل الخبرة ضد الحزم، اعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله.
    يا بني كم من نظرة جلبت حسرة، وكم من كلمة جلبت نعمة، لا شرف أعلى من الإسلام ولا كرم أعلى من التقوى، ولا معقل أحرز من الورع، ولا شفيع أنجح من التوبة، ولا لباس أجمل من العافية، ولا مال أذهب للفاقة من الرضى بالقوت، ومن اقتصر على بلغة الكفاف تعجل الراحة، وتبوأ حفظ الدعة، الحرص مفتاح التعب، ومطية النصب وداع إلى التقحم في الذنوب، والشر جامع لمساوئ العيوب، وكفى أدباً لنفسك ما كرهته من غيرك، لأخيك مثل الذي عليك(13) لك، ومن تورط في الأمور من غير نظر في الصواب فقد تعرض لمفاجأة النوائب، التدبير قبل العمل يؤمنك الندم، من استقبل وجوه العمل والآراء عرف مواقع الخطأ، الصبر جنة من الفاقة، في خلاف النفس رشدها، الساعات تنقص الأعمار، ربك للباغين من أحكم الحاكيمن، وعالم بضمير المضمرين بئس الزاد للمعاد العدوان على العباد، في كل جرعة شرق، وفي كل أكلة غصص، لا تنال نعمة إلا بفراق أخرى، ما أقرب الراحة من التعب، والبؤس من النعيم، والموت من الحياة، فطوبى لمن أخلص لله تعالى علمه وعمله وحبه وبغضه وأخذه وتركه، وكلامه وصمته، وبخ بخ لعالم علم فكف، وعمل فجد وخاف التباب(14) فأعد واستعد، إن سئل أفصح، وأن ترك سكت، وكلامه صواب، وصمته من غير عي عن الجواب، والويل كل الويل لمن بلى بحرمان وخذلان وعصيان، واستحسن لنفسه ما يكرهه لغيره، من لانت كلمته وجبت محبته، من لم يكن له حياء ولا سخاء فالموت أولى به من الحياة، لا تتم مرؤة الرجل حتى لا يبالي أي ثوبية لبس، ولا أي طعاميه أكل)(15).
    وحفلت هذه الوصية بآداب السلوك وتهذيب الأخلاق، والدعوة إلى تقوى الله التي هي القاعدة الأولى في وقاية النفس من الإنحراف والآثام وتوجيهها الوجهة الصالحة التي تتسم بالهدى والرشاد.

    تربية السيدة فاطمة (ع) له
    وعنت سيدة النساء (عليها السلام) بتربية وليدها الحسين، فغمرته بالحنان والعطف لتكون له بذلك شخصيته الاستقلالية، والشعور بذاتياته، كما غذته بالآداب الإسلامية، وعودته على الإستقامة، والاتجاه المطلق نحو الخير يقول العلائلي:
    (والذي انتهى إلينا من مجموعة أخبار الحسين أن أمه عنيت ببث المثل الإسلامية الاعتقادية لتشيع في نفسه فكرة الفضيلة على أتم معانيها، وأصح أوضاعها، ولا بدع فأن النبي (صلى الله عليه وآله) أشرف على توجيهه أيضاً في هذا الدور الذي يشعر الطفل فيه بالإستقلال.
    فالسيدة فاطمة أنمت في نفسه فكرة الخير، والحب المطلق والواجب ومدّدت في جوانحه وخوالجه أفكار الفضائل العليا بأن وجهت المبادئ الأدبية في طبيعته الوليدة، من أن تكون هي نقطة دائرتها إلى الله الذي هو فكرة يشترك فيها الجميع.
    وبذلك يكون الطفل قد رسم بنفسه دائرة محدودة قصيرة حين أدار هذه المبادئ الأدبية على شخص والدته، وقصرها عليها وما تجاوز بها إلى سواها من الكوائن، ورسمت له والدته دائرة غير متناهية حين جعلت فكرة الله نقطة الإرتكاز، ثم أدارت المبادئ الأدبية والفضائل عليها فاتسعت نفسه لتشمل وتستغرق العالم بعواطفها المهذبة، وتأخذه بالمثل الأعلى للخير والجمال...(16).
    لقد نشأ الإمام الحسين (عليه السلام) في جو تلك الأسرة العظيمة التي ما عرف التاريخ الإنساني لها نظيراً في إيمانها وهديها، وقد صار (عليه السلام) بحكم نشأته فيها من أفذاذ الفكر الإنساني ومن أبرز أئمة المسلمين.

    البيئة
    وأجمع المعنيون في البحوث التربوية والنفسية على أن البيئة من أهم العوامل التي تعتمد عليها التربية في تشكيل شخصية الطفل وأكسابه الغرائز والعادات، وهي مسؤولة عن أي انحطاط أو تأخر للقيم التربوية، كما أن استقرارها، وعدم اضطراب الأسرة لهما دخل كبير في استقامة سلوك النشئ ووداعته، وقد بحثت مؤسسة اليونسكو في هيئة الأمم المتحدة عن المؤثرات الخارجة عن الطبيعة في نفس الطفل، وبعد دراسة مستفيضة قام بها الإختصاصيون قدموا هذا التقرير: (مما لا شك فيه أن البيئة المستقرة سيكولوجياً، والأسرة الموحدة ألتي يعيش أعضاؤها في جو من العطف المتبادل هي أول أساس يرتكز عليه تكيف الطفل من الناحية العاطفية، وعلى هذا الأساس يستند الطفل فيما بعد في تركيز علاقاته الإجتماعية بصورة مرضية، أما إذا شوهت شخصية الطفل بسوء معاملة الوالدين فقد يعجز عن الاندماج في المجتمع...)(17).
    إن استقرار البيئة وعدم اضطرابها من أهم الأسباب الوثيقة في تماسك شخصية الطفل وازدهار حياته، ومناعته من القلق، وقد ذهب علماء النفس إلى أن اضطراب البيئة وما تحويه من تعقيدات، وما تشتمل عليه من أنواع الحرمان كل هذا يجعل الطفل يشعر بأنه يعيش في عالم متناقض مليء بالغش والخداع والخيانة والحسد وأنه مخلوق ضعيف لا حول له، ولا قوة تجاه هذا العالم العنيف(18)... وقد عنى الإسلام بصورة ايجابية في شؤون البيئة فارصد لا صلاحها وتطورها جميع أجهزته وطاقاته، وكان يهدف قبل كل شيء أن تسود فيها القيم العليا من الحق والعدل والمساواة، وأن تتلاشى فيها عوامل الانحطاط والتأخر من الجور والظلم والغبن، وأن تكون آمنة مستقرة خالية من الفتن والإضطراب حتى تمد الأمة بخيرة الرجال وأكثرهم كفاءة، وانطلاقاً في ميادين البر والخير والإصلاح.
    وقد انتجت البيئة الإسلامية العظماء والأفذاذ والعباقرة المصلحين الذين هم من خيرة ما أنتجته الإنسانية في جميع مراحل تاريخها كسيدنا الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وعمار بن ياسر، وأبي ذر وأمثالهم من بناة العدل الإجتماعي في الإسلام.
    لقد نشأ الإمام الحسين (عليه السلام) في جو تلك البيئة الإسلامية الواعية التي فجرت النور وصنعت حضارة الإنسان، وقادت شعوب الأرض لتحقيق قضاياها المصيرية، وأبادت القوى التي تعمل على تأخير الإنسان، وانحطاطه تلك البيئة العظيمة التي هبت إلى ينابيع العدل تعب منها فتروي وتروي الأجيال الظامئة.
    وقد شاهد الإمام الحسين وهو في غضون الصبا ما حققته البيئة الإسلامية من الانتصارات الرائعة في إقامة دولة الإسلام، وتركيز أسسها، وأهدافها وبث مبادئها الهادفة إلى نشر المودة والدعة والأمن بين الناس.
    هذه بعض المكونات التربوية التي توفرت للإمام الحسين (عليه السلام) وقد أعدته ليكون الممثل الأعلى لجده الرسول (صلى الله عليه وآله) في الدعوة إلى الحق، والصلابة في العدل).



    الهوامش:
    1 - النظام التربوي في الإسلام ص 61 - 62.
    2- المعجم الكبير للطبراني مخطوط بخط العلامة السيد عزيز الطباطبائي اليزدي.
    3 - المعجم الكبير للطبراني مخطوط بخط العلامة السيد عزيز الطباطبائي اليزدي.
    4 - المنمق في أخبار قريش ص 499.
    5 - الأسرة: عند علماء الإجتماع هي الرابطة الإجتماعية التي تتكون من زوج وزوجة وأطفالهما وتشمل الجدود والأحفاد. انظر علم الاجتماع ص 92.
    6 - الأمراض النفسية والعقلية.
    7 - النظام التربوي في الإسلام.
    8 - النظام الأسرة في الإسلام.
    9 - تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 319.
    10 - مسند الإمام أحمد ج 1 ص 201.
    11 - مسند الإمام أحمد ج 1 ص 201.
    12 - في نسخة في الرضا والغضب.
    13 - هكذا في الأصل ولعل الصواب (عليه).
    14 - التباب: الهلاك والخسران، ومنه قوله تعالى: (تبت يدا أبي لهب).
    15 - الأعجاز والإيجاز ص 33.
    16 - الإمام الحسين ص 289.
    17 - أثر الأسرة والمجتمع في الأحداث الذين هم دون الثالثة عشرة مؤسسة اليونسكو ص 35.
    18 - التكيف النفسي ص 22.

    تعليق


    • #3

      على أعتاب الحسين
      الإمام الحسين بن علي الشهيد (عليه السلام)




      زوجاته وأبناؤه

      <B>
      أحوال أزواجه وأولاده (عليه السلام)

      كان له (عليه السلام) ستة أولاد:
      علي بن الحسين الأكبر زين العابدين (عليه السلام)، أمه شاه زنان بنت كسرى يزدجر بن شهريار.
      وعلي الأصغر قتل مع أبيه، وأمه ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفيّة، والناس يغلطون ويقولون: إنه عليّ الأكبر.
      وجعفر بن الحسين وأمه قضاعية ومات في حياة أبيه ولا بقية له.
      وعبد الله قتل مع أبيه صغيراً وهو في حجر أبيه.
      وسكينة بنت الحسين (عليها السلام)، وأمها الرباب بنت أمرئ القيس بن عديّ ين أوس وهي أم عبد الله بن الحسين أيضاً.
      وفاطمة بنت الحسين (عليها السلام) وأمها أمّ إسحاق بن طلحة بن عبد الله تيمية(0).



      علي الأكبر (عليه السلام)

      • ولادته

      ولد عليّ الأكبر في الحادي عشر من شهر شعبان(1) سنة ثلاث وثلاثين من الهجرة قبل مقتل عثمان بسنتين(2) وقد قتل سنة خمس وثلاثين وقول شيخنا الجليل ابن إدريس الحلّي في مزار (السرائر) ولد في خلافة عثمان يتفق معه.
      فيكون له يوم الطف ما يقارب سبعاً وعشرين سنة ويؤيّده اتّفاق المؤرّخين ورُباب النسب على أنّه أكبر من الإمام السجّاد الذي له يوم الطف ثلاث وعشرون سنة والتحديد بالسبع عشرة كما في منتخب الشيخ الطريحي أو الثمان عشرة كما في الإرشاد وإعلام الورى أو التسع عشرة كما في مناقب السروري، محكوم لذلك الاتفاق مع خلوّة عن الشاهد وكلمة ابن نما الحلّي في (مثير الأحزان): انّ له يومئذٍ أكثر من عشر سنين وان كانت مجملة إلاّ أنّها تقال لمن فوق العشرة بنحو ثلاث سنين ونحوها وهذا شيء غريب.
      وأغرب منه ما في (نقد المحصل) للخواجة نصير الدين الطوسي: ص 179 طبعة مصر (ان له يوم الطف سبع سنين).
      فإن القرائن دالة على منزلة له رفيعة عند أبيه الشهيد وتقدُمه على من معه من أصحابه وأهل بيته عدى عمّه العباس فإن المؤرخين اتفقوا على أن الحسين (عليه السلام) لما اجتمع ليلة عاشوراء بابن سعد أمر من كان معه بالتنحّي عنه إلاّ أخوه العباس وابنه عليّ الأكبر وكان مع ابن سعد غلامه وابنه حفص.
      ولما خطب (عليه السلام) يوم عاشوراء وسمع بكاء عياله قال لأخيه العباس وابنه عليّاً الأكبر سكتاهنّ فلعمري ليكثر بكاؤهنّ.
      ولما أمر الحسين أصحابه يوم الثامن بالذهاب إلى المشرعة للاستقاء بعث معهم علياً الأكبر قائداً فإن هذا يشهد بن للأكبر يومئذٍ أكثر من هذا السنّ كما أن رجزه عند الحملة يشهد به فهذا الرأي لا نعرف مأخذه.
      نعم من المحتمل قريباً إسقاط (عشرة) بعد السبع فيكون له سبع عشرة وهذا أليق وإن لم يوافقه التاريخ المتقدم.
      كنيته

      جاء في زيارة عليّ الأكبر المروية عن أبي حمزة الثمالي، ان الإمام الصادق (عليه السلام) قال له:
      ضع خدّك على القبر وقل: صلى الله عليك يا أبا الحسن ثلاثاً(3).
      ولذلك تكون كنيته (عليه السلام): أبو الحسن.
      حيث إنه مثلما يحتمل أن تكون الكنية للتفاؤل بالولد، فيحتمل أنها صدرت بعد أن كان له ولد سمّي (الحسن) ورواية أحمد بن أبي نصر البزنطي تشهد بأنه كان متزوجاً من جارية له قد أولدها.
      على أن الاستضاءة من قول الإمام الصادق في تلك الزيارة التي رواها أبا حمزة تلمسنا جوهرة فريدة وحقيقة ناصعة أن للأكبر الشهيد أهلاً وولداً،وأن كان عقبه منقطع الآخر فإن الإمام الصادق يقول فيه:
      (صلى الله عليك وعلى عترتك وأهل بيتك وآبائك وأبنائك وأمهاتك الأخيار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً).
      ولفظ الأبناء جمع بدلّ على أكثر من اثنين وكما يحتمل إرادة الصلبيين خاصة يحتمل أن يراد ما يعمهم وأبناءهم لكن الاحتمال الثاني مدفوع بظاهر إطلاق اللفظ عند العرف فإنه يختص بالصلبين.
      كما أن قوله (عليه السلام) «وعلى عترتك» دالّ عليه فإن عترة الرجل ذريته فلو لم يكن له ذرية لما صحّ استعمال هذا اللفظ وورود هذه الجملة في لسان الإمام العارف بخواص البلاغة ومقتضيات الأحوال أقوى برهان.
      وغير خافٍ أن هذه الرواية رواها الشيخ الجليل ابن قولويه في (كامل الزيارة) بسند صحيح ورجال ثقاة منهم علي بن مهزيار وهو من أوثق وكلاء أبي جعفر الجواد (عليه السلام) كما دل عليه قوله في كتابه إليه (لقد خبرتك وبلوتك في الطاعة والخدمة فلو قلت أني لم أر مثلك رجوت أن أكون صادقاً).
      وفيهم ابن أبي عمير الثقة الثبت وهو الذي ضربه السندي بن شاهك على التشيع بأمر الرشيد مائة وعشرين سوطاً ثم حبس ولم يطلق إلا بعد أن دفع مئة وعشرين ديناراً.
      لقبه

      لقب السيد الشهيد (بالأكبر) لكونه أكبر من الإمام زين العابدين وقد صرّح بذلك السجاد (عليه السلام) حين قال له ابن زياد: أليس قتل الله علياً؟ فقال الإمام: كان أخ أكبر مني يسمى علياً فقتلتموه(4).
      فقال ابن زياد: بل الله قتله.
      فقال الإمام: الله يتوفى الأنفس حسب موتها.
      فالثابت عند أهل النسب والسيرة ان للحسين علياً الأكبر وعلياً الأصغر وهو السجاد وعبد الله الرضيع وجعفر درج في أيام أبيه.
      والده

      عند التحدث عن أي شخصية مهما كانت، لابد من الرجوع للحديث عن أسرته، لاسيما والده ووالدته، فثمة صلة هامة ورابطة خطيرة بين الحديثين، للوقوف على الحقائق ولإماطة اللثام عن واقع الشخصية المعنية. نظراً للدور الأبوي الفعال في الشخص، بدءً من كونه نطفة، ومروراً بمراحل التكوين، حتى الولادة فالتربية والتهذيب..
      من ذا الذي يجهل والد سيدنا علي الأكبر، كلنا يعرفه، وكلنا يجهله، نعرفه بالاسم وببعض الأمور، ونجهل حقيقته الكاملة.
      إن الإمام سبط الرسول الحسين بن علي (صلوات الله عليهم)، ليس أباً فحسب، وليس بمستوى الأبوة فقط، إنه فوق ذلك المستوى بما يمثله من إشراف على الأمة بكل أبنائها وبناتها، وبما يتبناه من قضايا أبناء الأمة ودينهم الإسلامي الحنيف في بعده المستقبلي.
      هذا الأب العظيم من شأنه - دونما جدال - أن ينجب ابناً بمثابة أُمة من الناس، أن ينجب من يكون نوراً ونبراساً، وقائداً وقدوة.
      وعليه فلا تستكثر على ذلك الإمام إنجاب القادة ورجال العقيدة، وهو الإمام الذي تمكن من أن يصون شعوب الإسلام، ويحفظ الأمة العملاقة مع دينها ومبادئها الخلاقة..
      ولا نريد هنا أن نتكلم عن أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) فهذه الصفحات خاصة بولده ونجله فقط، كما أن الحديث عن الإمام لا يعد محاولة هينة ويسيرة بناءً على أنه ليس شخصاً عادياً يصح عنه الكلام كيفما اتفق الكلام، وإنما هو شخص امتزجت فيه المبادئ، فجسدها عملاً على أرض الواقع، إنه صاحب رسالة وسيد قضية.. رسالة ممتدة من رسالة جده الرسول الأعظم، وقضية تبرعمت من شجرة قضية جده النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله).
      وبعد: فإنما نتجنب الخوض في الحديث من الإمام سيد الشهداء فلسعة مهمته الرسالية التي يلزمنا التحدث فيها وعنها، ولبعد وظيفته الإلهية، ورحابة طرحه لقضيته.. وأخيراً فلانه حقق عملياً - وعلى المدى البعيد - للأمة ما لم تستطع كل الأمة تحقيق بعضه.
      ذلك هو الوالد والأب والمربي الصارم القويّ، معلم الأمة. الذي أنجب للانعتاق والتحرير طاقات نورٍ متمثلةٍ بالشخصيات المضيئة التي اخترقت أستار الظلام عبر عصور الظلم والاضطهاد ووسط تفاقم الأوضاع.
      أخذ الإمام الحسين عن جده (مدينة العلم) ثروة من العلم والحكمة، وثروة من السمات البالغة في السمو.
      أخذ الإمام الحسين عن أبيه (باب مدينة العلم) وافر العلوم والامتيازات، أبوه أمير المؤمنين علي الذي ارتشف من نفس منهل النبي (صلى الله عليه وعليهم أجمعين). وراح الحسين بدوره يوزع ما عنده دون أن ينقص مخزونه أو ينضب ويفيض بما لديه على أولاده الأطهار والتابعين له بإحسان (وكل إناء بالذي فيه ينضح).
      كان حسين رحيماً ورحمة للمؤمنين، فكان علي الأكبر يشاطر والده في هذه الخصوصية الرحمانية.
      كان حسين قاسياً وقسوة على الكافرين والمنحرفين، فكان علي الأكبر حليف والده، صارماً لا يلين.
      كان حسين ثائراً وثورة يأبى الضيم عزيز النفس، وكان نجله مثله ولا يختلف عنه شديد التمسك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حريصاً جداً على الجهاد المصيري.
      وكان الإمام الحسين حسيناً بجميع حسنيات الإسلام، وكان نجله على الأكبر علياً رفيع المقام، يحذو حذو أبيه، حذو الحقائق بعضها وراء بعض... ولو أن رجالاً وشباباً عاشوا مع الحسين (عليه السلام) بعض الوقت وبعض العمر لما انفكوا عن تأثيره الرسالي الخطير، فكيف يكون ثائر هو نجله إذن؟ وكيف ستكون طبيعة الأثر والآثار وهو فلذة كبده، المتحدر من شامخ صلبه الطاهر؟
      (ذرية بعضها من بعض) [قرآن كريم...].
      والدته السيدة ليلى الثقفية

      أما والدته فهي السيدة ليلى الثقفية. وهي عربية الأصل كما يوحي نسبها إلى بني ثقيف ذات الشهرة والصيت الذائع في الطائف وكل البقاع العربية.
      السيدة ليلى هذه نالت من الإيمان والحظوة لدى الله سبحانه وتعالى بحيث وُفقت لأن تكون مع نساء أهل بيت النبوة، تعيش أجواء التقى والإيمان، وتعيش آلام آل الرسول وآمالهم، وتشاطر الطاهرات أفراحهن وأتراحهن، وقد ظفرت بتوفيق كبير آخر، حيث أضحت وعاءً لأشبه الناس طراً برسول الله (صلى الله عليه وآله).. فهي امرأة رشيدة، جليلة القدر، سامية المنزلة، عالية المكانة، رفيعة الشرف في الأوساط الاجتماعية، كيف لا وهي زوجة سبط سيد المرسلين وسيد شباب أهل الجنة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام).
      ونرى أن من الضروري التحدث عن أبيها عروة بن مسعود الثقفي كما سيأتي بعد أسطر.
      أما والدة ليلى، فهي ميمونة بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية، أي أن أبا سفيان يعد جداً لليلى، بيد أن شوائب أمية لم تمس من ليلى أو تؤثر فيها، بقدر تأثير العنصر العربي الثقفي فيها.. ونسبتها هذه لبني أمية كانت مسوغاً للجيش الأموي بكربلاء كيما يستميل علي الأكبر إلى جبهته بأسلوب مضحك هزيل وبمحاولة فاشلة.
      أبو مرة عروة بن مسعود الثقفي

      من المعروف تاريخياً أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) قد بذل كثيراً وحرص على الصدع برسالته الخلاقة، وكانت الطائف هي أحد المراكز التي قصدها (صلى الله عليه وآله)، ومن المعروف جيداً مبلغ المعاناة من جراء جهل أهل الطائف لهذا الداعية المحرر، فقد عاد النبي من الطائف وهو متعب ومخضب بالدم.
      فلم يستجب لدعوته أحد قط، سوى رجل واحد تبع أثره ولحق به، ولا نعرف غيره، ثم إنه اتصل به فأسلم وحسن إسلامه، ذلك هو قطب ثقيف، والد السيدة ليلى، التي لا نعرف ما إذا كانت مولودة أو غير مولودة في تلك الفترة.
      إنه(5) (عروة بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف، واسمه قيس بن منبّه بن بكر بن هوازن بن عكرمة بن حصفة بن قيس عيلان الثقفي.
      أبو مسعود، وقيل أبو يعفور شهد صلح الحديبية) وكني بأبي مرة.
      فعروة بن مسعود الثقفي، زعيم من زعماء العرب، وسيد ممن ساد قومه فأحسن السيادة، وهو رابع أربعة من العرب سادوا قومهم، كما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) قول حول عروة، والثلاثة الآخرون، وهو قوله:
      (أربعة سادة في الإسلام: بشر بن هلال العبدي - وعدي بن حاتم - وسراقة بن مالك المدلجي - وعروة بن مسعود الثقفي)(6).
      وعلى هذا فإن مركز عروة في المجتمع العربي، مركز رفيع مرموق، وذلك قبل أن يُسلم ويعلن إسلامه، بحيث بلغت منزلته عند العرب مبلغاً متزايداً حتى بالغوا به فتطرفوا إذ عظموه تعظيماً على حساب محمد ذي الخلق العظيم، وعظموه ليجعلوا منه شخصية تضاهي النبي الأعظم.. وهذا ما نص عليه القرآن في موقف معروف، إذ حكى عنهم ما قاله أحدهم - الوليد بن المغيرة - على سبيل المقارنة الفاشلة.
      (قالوا لولا نزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم)(7).
      والمقصود من القريتين هما مكة والطائف، أما المقصود من العظيمين فيهما، فهو القائل نفسه - الوليد بن المغيرة - بمكة ويعني بالثاني عروة الثقفي بالطائف، كما عن قتادة وورد في الإصابة والاستيعاب ذلك.
      أجل كان عروة شخصية مرموقة، لكنه أبى أن يزعم العظمة كغيره مثل ابن المغيرة وأمثاله، وكان شجاعاً وجريئاً بحيث إنه صمم على أن يدعو قومه للإسلام حالما يعود إلى الطائف وهكذا كان. فبعدما أسلم على يد الرسول الذي تبع أثره من الطائف وأدركه قبل دخول المدينة، وبعد أن تمكن الإسلام والإيمان من قلبه، استأذن النبي (صلى الله عليه وآله) كي يرجع لهداية قومه.
      (وسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يرجع إلى قومه بالإسلام. فقال يا رسول الله، أنا أحب إليهم من أبصارهم، وكان فيهم محبباً مطاعاً، فخرج يدعو قومه إلى الإسلام فأظهر دينه رجاء ألا يخالفوه لمنزلته فيهم، فلما أشرف على قومه(8)، وقد دعاهم إلى دينه - رموه بالنبل من كل وجه فأصابه سهم فقتله -).
      ومن إيمانه ورضاه وقناعته بواجب الصدع بالرسالة مع تحمل دفع الثمن باهظاً إنه أجاب بجواب واضح اليقين حينما سألوه (وقيل لعروة: ما ترى في دمك؟ قال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إليّ، فليس فيّ إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل أن يرتحل عنكم)(9).
      هذا وكان من حسن الهيئة كالمسيح عيسى (وكان عروة يُشبَّه بالمسيح (عليه السلام) في صورته)(10) وكان من حسن العاقبة والمصير كما نسب للنبي (صلى الله عليه وآله) قوله: إن مثله في قومه مثل صاحب يس من قومه(11) دعا قومه إلى الله فقتلوه(12).
      فضلاً عن ذلك، قال النبي (صلى الله عليه وآله): (رأيت عيسى ابن مريم، فإذا أقرب من رأيت به شبهاً عروة بن مسعود)(13).
      يتجلى من ذلك أن هذا الصحابي الجليل كان أثيراً عند النبي (صلى الله عليه وآله)، وله في نفسه موقع ومكانة.. هذا وان التاريخ لم يورد عنه ما يسيء إليه أو يتهمه، فهو رجل نزيه السمعة صاحب مكانة وسامي الوقعة.. كما أنه شخصية عظيمة قياساً لشخصيات القبائل الأخرى. ولله مطلق العظمة.
      أسلم في السنة التاسعة من الهجرة - بعيد رجوع النبي (صلى الله عليه وآله) من رحلته الرسالية إلى الطائف - وقتل عروة الثقفي أثناء إعلانه دينه ودعوته، وكان يتأهب لأداء فريضة الصلاة كما جاء في (نفس المهموم).
      أما كلمات الرسول (صلى الله عليه وآله) التي وردت بصدد عروة، فهي لعمرك من أروع أوسمة التقدير التي منحا الرسول القائد إلى جنده الدعاة الصامدين الصابرين أوسمة الشرف المذخور والفخر الخالد في الدنيا والآخرة.. وأهم وسام - بعد إعلان أنه شبيه النبي عيسى (عليه السلام) - هو أنه نظير النبي ياسين في قومه.
      ولا نعتقد أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) يشبهه بياسين لمجرد أنه دعا قومه فقتلوه كياسين (عليه السلام). وإنما لأنه رجل دعوة على بينة من دينه ورجل إيمان وتقى وإخلاص ويقين، ولأنه بلغ من شرف الإيمان ما منحه شرف الشهادة، ثم شرف الإشادة به على لسان الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله).
      ذلك هو والد السيدة ليلى، المجاهد الشهيد عروة بن مسعود الثقفي (رضوان الله عليه).
      وقد ترك في نفس ابنته ليلى آثار الهدى والإيمان والاستقامة على الدين الحنيف. وفي أي سن كانت الفتاة ليلى فإنها ولا شك قد أحست بفقد والدها الحبيب، وكلما نضجت وكبرت شعرت بأن أباها مضى ضحية قضية سماوية مقدسة، حتى بلغت اليقين بأنه صرع وقتل لا كمن صرع وقتل من العرب وأشراف القبائل، لقد راح والدها شهيداً وقرباناً لله من أجل رسالته، وليس قتيلاً أثناء صراع قبلي رخيص.
      وعليه فقد كانت أول نكبة أصابت قلبها، هي هذه الحادثة الشديدة الوقع على الفتيات اللواتي يصعب عليهن الاستغناء عن حنان الأبوة وصل الوالد المؤمن الشجاع. ثم توالت عليها النكبات - بعد أن أضحت ليلى أحد أعضاء هيئة نساء البيت المحمدي الكريم - إذ راحت تعيش أجواء بيت النبوة والرسالة صاحب القوة والأصالة، في مواصلة الصدع بمقدرات القرآن ومبادئ الإسلام، حتى ختمت ليلى حياتها وهي صابرة صامدة محتسبة قد تحملت ألوان الأسى والألم وقدمت لرسالة الإسلام ما أنجبت من صالحين وطاهرين.
      أي أن استشهاد والدها ليس مجرد أول نكبة، بل أول درس على ضرورة الصمود ووجوب الصبر لمواصلة العمل من قبل المؤمن والمؤمنة، البنت والزوجة، وأول تجربة للسيدة ليلى على تحمل شدة وطأة نتائج الدعوة ودفع ثمن العمل لدين الله سبحانه وتعالى.
      أجل تلك هي ليلى الثقفية والدة علي الأكبر، التي لم تستمد قيمتها من أمها ولم تستمد كرامتها ومنزلتها حتى من أبيها، وإنما استمدت رقيها من تقواها وانتمائها ثم انتسابها للأسرة المحمدية المقدسة، ولارتباطها الوشيج بشخص الإمام العظيم أبو عبد الله الحسين (عليه السلام) وكفاها بذلك فخراً حينَ تفتخرُ.
      نشأته وترعرعه

      ولد علي في بيت يتمتع بالحضور الكامل للإيمان والتقوى بيت رحب الفكر واسع المعرفة مزدحم بالصالحين والطاهرين والذين لا تأخذهم في الله لومة لائم، الذين لا يفتأون يحرصون على صيانة مبادئ رسالتهم، ويتمسكون بحرفيتها، ويرفعون ألوية العقيدة عالياً.. بيت هو العقيدة بذاتها، الأمر الذي يفسر دعوة الله للناس كي يحبون ذلك البيت ويوادونه، ويحاربون من يكرهه ويعادون.. بيت عامر بكل ما يمت للإسلام بصلة وللحق والحقائق بروابط وعلائق.
      ومن شأن الوليد الذي يفتح عينيه في أجواء الصفاء لبيت الصفوة، وأوساط الشرف والسؤدد، وبيئة الخير والصلاح والهدى، من شأنه أن ينشأ على إفاضات ذلك البيت النبيل، وقبسات أهل ذلك البيت من الرجال الذين أنيطت بهم حراسة القضية الإسلامية، وصيانة الشرع الشريف، وحفظ الدين المحمدي الحنيف.
      نشأ وهو يرتشف لبن صدور المؤمنات التقيات، وقد تشرب بأخلص العواطف وصادق الحنان، وراح جسده ينمو وتنمو مشاعره السليمة وروحه الطاهرة، ونفسه السوية، أكل وشرب مما أنعم الله به حلالاً طيباً لا يأتيه الباطل والشبهة.. نشأ على أسمى معاني المؤمنين الأتقياء، ومزاحمهم الجميل معه.
      فمادته ومعنوياته من فيض حوض طاهر نقي، بمعنى أن جسده وروحه تنزها عن الشوائب المكدرة والأدران المقيتة.
      ترعرع علي الأكبر في تلك الأوساط النظيفة، حيث قضى سني حياة صباه يدرج بين صفوة الرجال وصفوة النساء، وخيرة الفتيان والصبيان، بين شخصيات جليلة القدر وشباب يسمون نحو الكمال والعز والإباء.
      نشأ وترعرع وهو ملء العين، فتخطى الزمن وتجاوز الأيام، مضى يقضي أياماً زاهرة وليالٍ مباركة، وأشهراً وسنيناً خالدات، متسلقاً الدهر، يعلو فوق هامة التاريخ شخصاً فريداً في مجمل خصوصياته، وشاباً خلاقاً في ربيع حياته، فرجلاً بطلاً يتفرد في مميزات جمة وجليلة سامية. إذ نال من التربية ما يصعب على الكثيرين حصوله ونيله، حتى أبناء الملوك والأمراء، أبناء الأكاسرة، والقياصرة، وما هو وجه الشبه حتى نذكر ونمثل بأبناء الملوك؟!
      تربيته

      شب نحو العلى والكمال، فهو بمستوى تعاطي القيم والمثل والتربويات القيمة، والحق أن آل الرسول (صلى الله عليه وآله) مكيفون لذلك منذ الصغر بدءً من نعومة أظفارهم أي لا يشترط فيهم بلوغ سنٍ معينة ليكونوا على استعداد لأمر ما، كالتربية مثلاً التي تساير نشأتهم وترافق ترعرع صغارهم (الكبار).
      أخذ علي الأكبر من التربية الشيء الكثير - دون أن نستكثره (عليه سلام الله) عليه - وذلك من أعضاء الأسرة الرسالية سواءً الرجال أو النساء، وخصوصاً والده الإمام الحسين الذي يقع عليه عبء إعداده وتعبئته (إن صح قولنا عبء)، والحق أن ذلك لم يكن عبئاً بنظرتهم، أهل البيت، لأنه من أخص خصوصياتهم، فلا يصعب عليهم تكوين النموذج الحي في التربية.
      قد ندرك ببساطة عوامل بلوغ أحدهم مستوىً تربوياً عالياً جداً، وهي بعض عوامل تضلعهم العلم واضطلاعهم بالحكمة فضلاً عن التربية بالذات، وذلك عندما نأخذ بنظر الاعتبار وجود العناصر، أو توفر المقدمات الأساسية هذهِ سلفاً. وهي:
      1 - خلو الشخصية من الشوائب السلبية المعكرة والرافضة للإيجابيات والنافرة من الصفاء.
      2 - طهارة الروح، وصفاء النفس.
      3 - سلامة الضمير.. والتجاوب مع الوجدان.
      4 - نزاهة المشاعر، وسمو الأحاسيس.
      5 - التطلع للأفضل والتوق للأحسن.
      6 - السعي للاقتراب من الكمال وبلوغ مستوى المسؤوليات ومستوى حمل الرسالة.
      هذه كلها مجتمعة تشكل تُربة الأرض الخصبة لبذر بذور التربية وغرس أشجار التربية الراسخة الأصول، الضاربة الجذور.. الثابتة في الواقع طالما تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
      لقد كانوا - أهل البيت - يحرصون على تطبيق نظرياتهم التربوية الرحبة، ويشددون على ضبط الأساليب التهذيبية، ويخلصون في ممارستهم المنهجية من أجل إعداد الإنسان، إعداداً لا يقبلوه إن لم يكن معادلاً لمهامه ومعادلاً لواجباته ومخاطر مسؤولياته الموكل بها.
      إنهم لا يقلدون أحداً أو فئة في طرائق التربية، وإنما لهم عمقهم الفكري وبعد نظرتهم وإبداع أساليبهم، وممارساتهم المبتكرة، انهم يأخذون من الإسلام ما فيه من شذرات ليضيفوا إليها ليوضحوها ويفصلوها بتحويلها إلى فعل وعمل، إلى ترجمة حيوية صادقة، وذلك بجرها جراً إلى حيز التطبيق، لتدخل دائرة التجربة المؤكدة النجاح والحتمية العطاء..
      أضف إلى تلك الممارسات الجادة، امتلاكهم للخبرة الواسعة جداً وإدراكهم للمناهج الفاشلة في هذا المضمار.
      ثم إن خريج مدارسهم إنسان رفيع في التربية، عالٍ في العلم، علواً يؤهله وبجدارة لأن يكون هو بشخصه مربياً ومعلماً ينهج ويبدع في المنهج الإسلامي، بل يكون هو بالذات مدرسة مستقلة كفيلة باستيعاب المجتمع وتقديم العطاءات الإصلاحية له، لأن خريج مدارسهم مكيف لذلك جاهز له بحكم مضمونه ومحتواه (وكل إناء بالذي فيه ينضح).
      ولمن يريد الوقوف على مدارس التربية عند أهل البيت ومناهجهم الواعية، ولمن يريد التوفر على نظرياتهم الثرية، فما عليه إلا أن يراجع مذخوراتهم والثروة الكبيرة من التراث الذي خلفوه. سلام الله عليهم...
      إن خصوصيات مناهجهم التربوية قد انعكست على مواقفهم الصارمة الحاسمة، ففوق أنها سر كمالهم، فهي تفسر مواقفهم المبدئية وقراراتهم الخطيرة التي آلوا على ألا يفرطوا في جنبها.
      ونحن إذ نمجد، والمسلمون إذ يمجدون ذلك فيهم فليس من باب الزهو بهم، وإنما من باب التأثر والاقتداء بهم لندرك أسرار سيرتهم وأبعاد أعمالهم الصعبة وأمرهم المستصعب، الذي عجز الرجال عن تحمله لافتقارهم للرجولة ولأن رجولتهم الضعيفة تنقصها تربويات الإسلام وفق منهاجه التام.
      الأكبر يشبه الرسول

      إن أخلاق صاحب الدعوة الإلهية التي خصه المهيمن سبحانه بها من دون العالم أجمع وامتاز فيها على الأنبياء والرسل واستكبرها المولى تعالى فوصفها بالعظمة إذ يقول فيها: (وإنك لعلى خلق عظيم)(14).
      لم ينص المؤرخون على مشابهة آل النبي (صلى الله عليه وآله) له في جميع الصفات إلا ولده الأكبر.
      يحدث السروي عن جابر الأنصاري إن فاطمة الزهراء تشبه أباها في المشية فإنها تميل على الجانب الأيمن مرة وعلى الأيسر أخرى(15).
      ورواية الصدوق تشهد بأن الحسن شابه جده في الهيبة والسؤدد والحسين في الجود والشجاعة(16).
      وأخرج الحاكم النيسابوري عن علي (عليه السلام): إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لجعفر الطيّار أشبهت خَلقي وخُلقي(17).
      ويحدث الشيخ الجليل الشيخ فخر الدين الطريحي في المنتخب إن الحسين قال في حق الرضيع: اللهم أنت الشاهد على قوم قتلوا أشبه الناس برسولك محمد (صلى الله عليه وآله).
      وهذه الشواهد كلها لا تدل على مشابهة العترة الطاهرة للرسول في جميع الصفات الكريمة.
      لكن كلمة الحسين الذهبية في حق ولده الأكبر:
      اللهم إشهد إنه برز إليهم أشبه الناس خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولك وكنا إذا اشتقنا إلى نبيّك نظرنا إليه(18).
      ترشدنا إلى أن فقيد بيت النبوة كان في وقته مرآة الجمال النبوي ومثال كماله الأسمى وأنموذجاً من منطقه البليغ الرائع حتى إن أباه (عليه السلام) إذا اشتاق إلى رؤية ذلك المحيا الأبهج الذي يقول فيه حسان مصرحاً بالحقيقة غير مبالغ:

      وأحســن مـنـك لـم تـر قـط عـيـني وأجمل مـنـك لـم تـلـد الـنــسـاء

      خـلـقـت مـبـرءاً عـن كــــل عــيـب كـأنـك قـد خـلـقـت كـمـا تـشـاء
      عطف نظره إليه، أو أراد سماع ذلك الصوت المبهج الذي ترك نغمات داود خاضعة للطفه أصاخ إلى قيله، أو راقه تجديد العهد بتلكم الخلائق الكريمة التي مدحها الله تعالى بقوله: (وإنك لعلى خلق عظيم) توجه بكله إليه.
      وأنت تعلم أن جامع هذا الخلق الممدوح يشمل ما كان يتحلى به رسول الله من ورع وإخلاص وشجاعة وكرم وحلم وبشاشة في العشرة ودماثة في الخلق ولين الجانب وخشونة في ذات الله وتجنب عن الدنايا والرذائل سواء في ذلك ما حضرته الشريعة أو زجرت عنه الإنسانية الكاملة إلى غيرها مما حق له أن يعد عظيماً عند الله تعالى.
      إن الآثار وإن أفادت مشابهة أفذاذ من البشر لشخصية الرسالة لكن (الأكبر) هو المثل الأعلى لتلك الذات القدسية الكاملة المعصومة عن كل خطأ المنزهة عن أي عيب المحلاة بالجمال القدسي الإلهي فلا يعدوه أن يكون معصوماً كالذوات الطاهرة من الأئمة المعصومين وإن احتاج إلى إمام يركن.
      وليس ببعيد من فضل الباري جل شأنه أن يوجد ذاتاً كاملة منزهة عن كل عيب مبرأة عن أي شين وعار وإن كلمة سيد الشهداء تلفتنا إلى تحقق تلك الشخصية القدسية بما حوته من فضائل ومحامد في ولده علي الأكبر (عليه السلام).
      أضف إلى ذلك ما جاء في زيارته المخصوصة في أول رجب من قول الإمام (عليه السلام).
      كما منَّ عليك من قبل وجعلك من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
      وإذهاب الرجس معنى العصمة فهي متحققة فيه وإن لم تكن واجبة كوجوبها في الإمام المطلق الحجة على الخلق.
      فضله

      لقد كان علي الأكبر (سلام الله عليه) إبان شبابه تطفح عليه لوائح العظمة وتلوح على أساريره أنواح الفضيلة ويتدفق من جوانبه الكرم النبوي فكان على شرفه الباذخ ومجده الأثيل وخطره التليد الطارف متلفعاً بكل خصال الخير يرفل على باحة المنعة بأبراد المناقب القشيبة وحلل المآثر الساطعة من معروف طافح ونائل متدفق وضرائب حميدة كاثرت النجوم فكثرتها وطاولت الجبال فبذتها وكان فذ وقته في جميع الفضائل آخذاً بأعضاء الشرف والسؤدد وإن الواصف مهما تشدق لينحسر بيانه عن بلوغ غاية فضله ولم يجد المخالف إلا البخوع له ومما يرشدنا إلى ظهور الفضائل وزهو المآثر عن علي الأكبر في عصره قول مادحه:

      لـم تـــر عـيـن نـظـرت مـــثـــــلــه مــن محتـف يـمشي ومن ناعل
      يـغــلي نـهــيء الـلـحــم حـتـــى إذا أُنـضج لم يغل على الأكل(19)
      كــــان إذا شــــــــــبــت لــه نــاره أوقــدهــا بالـشرف القابل(20)
      كـيـمـا يــــراهـــا بائـس مـــرمــــل أو فـرد حــي لـيــس بــالآهــل
      لا يــؤثـــــر الـدنـيـا عـلــى ديــنـــه ولا يـــبـيـع الــــحــق بالباطــل
      أعني ابن ليلى ذا الـسدي والـندى أعني ابن بنت الحسب الفاضل(21)
      وهذه الصفات التي نضدها الشاعر في مسلكه الذهني لم تجر مجرى المبالغة في القول أو الخيال الشعري وإنما هي حقائق راهنة كيف لا وقد تفرع (الأكبر) من الدوحة النبوية وكان غصناً من أغصان الخلافة الإلهية وإن الفضائل والفواضل بأسرها موروثة له من سلفه الطاهر الهاشمي.
      ومما يشهد له أن معاوية مع ما عليه من المباينة مع الهاشميين لم يسعه إلا الاعتراف أمام قومه باجتماع الفضائل في (علي الأكبر) وأنه جدير بالخلافة وقابل للزعامة الدينية يوم قال من حضر عنده من أهل الشام وغيرهم:
      من أحق بهذا الأمر:
      قالوا: أنت.
      فقال معاوية: لا أولى الناس بهذا الأمر عليّ بن الحسين بن علي جدّه رسول الله وفيه شجاعة بني هاشم وسخاء بني أمية وزهو ثقيف(22).
      نحن لا نشك في أن الأكبر كان جامعاً للفضائل وحائزاً لما هو أربى وأرقى منها وهو العصمة عن المآثم ومنافيات الأخلاق والمروءة ولا يأتي بما يخالف الأولى كيف لا وقد جمع الخلق المحمدي بأتمّ معانيه وحتى عن الدنس من الآثام بشهادة أبيه الواقف على نفسيات الرجال وكما شهد نص الزيارة المتلوة عند قبره في أول رجب والتي علمها الصادق (عليه السلام) أبا حمزة الثمالي(23).
      وهذه الكلمة الصادرة من معاوية ترشدنا إلى أن علياً الأكبر يومئذ معروف عند هل الشام وغيرهم بأنه الجامع للقداسة الإلهية ومحاسن الأخلاق بأجلى مظاهرها وإلا فلا يعقل أن يشير معاوية بأهلية الخلافة إلى رجل غير مرموق عند الناس من جميع الفضائل.
      كما أن معاوية لم يشك في أن هاتيك الفضائل موروثة له من سلفه الطاهر فحسب ولكنه تغافل عن ذلك حتى شرك معهم غيرهم لمغازي تختلج في صدره.
      أولاً: أراد أن يزحزح الخلافة عن أبيه الحسين المنصوص عليه من جده النبي (صلى الله عليه وآله) وأبيه الوصي (عليه السلام) بإيجاد شخص من هذا البيت يكون مرجع الأمة في النوائب وغياثها المرتجى وفصل القضاء وتبياناً للمشكلات.
      وثانياً: أراد تخفيف وطأة المنازع في خلافته بحصر شرائط الخلافة في هذه الأمور الثلاثة دون غيرها لفقده أهم ما يشترط في الخليفة على المسلمين من العلم والعصمة والنص.
      ثالثاً: أراد إثبات فضيلة في قومه غير أن البرهنة تعوزه فشرك معه من لا يدافع في فضله وهم الهاشميون وثقيف وأنت على ثقة من خلو البيت الأموي من كل فضيلة ومكرمة منذ نشأة جدهم عبد شمس الذي كفله أخوه هاشم وقد كان مملقاً لا مال له وأمية الذي استعبده عبد المطلب عشر سنين وذلك لما تراهنا على فرسين وجعلا الخطر لمن سبقت فرسه مئة من الإبل وعشرة عبيد وعشر إماء واستعباد سنة وجز الناصية.
      فسبق فرس عبد المطلب فأخذ الخطر وقسمه في قريش وأراد جز ناصيته فافتدى ذلك باستعباد عشر سنين فكان أمية يعد في حشم عبد المطلب هذه المدة.
      وأما حرب بن أمية جد معاوية فأجاره عبد المطلب من ابنه الزبير وكفأ عليه إناء هاشم الذ يهشم فيه الثريد(24) وكان أبو سفيان شحيحاً بخيلاً لا ينفق على زوجته هند فألجأها ذلك إلى السرقة من ماله لتنفق على فنسها وولدها.
      فأنّى يقاسون هؤلاء بهاشم مطعم الحاج وساقيهم وكانت مائدته منصوبة لا ترفع في السرّاء والضرّاء وهو أول من سن لقريش الرحلتين إلى اليمن والشام وأخذ لهم من ملوك الروم وغسان ما يعتصمون به(25).
      وقد كانت تجارة قريش لا تعدو نفس مكة وضواحيها وإنما تقدم عليهم الأعاجم بالسلع فيشترونها حتى رحل هاشم إلى الشام ونزل على قيصر فأعجبه حسن خلقه وجمال هيئته وكرمه فلم يحجبه وأذن له بالقدوم عليه بالتجارة وكتب أماناً بينهم فارتقت منزلة هاشم بين الناس وسافر في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام واشترك في تجارته رؤساء القبائل من العرب ومن ملوك اليمن والشام وجعل له معهم ربحاً وساق لهم إبلاً مع إبله وكفاهم مؤنة الأسفار على أن يكفوه أذى الأعداء في طريقه إليهم ومنصرفه فكان في ذلك صلاح عام للفريقين وكان المقيم رابحاً والمسافر محفوظاً فأخصبت قريش بذلك وأتاها الخير من البلاد العالية والسافلة ببركة هاشم وهذا هو الإيلاف المذكور في القرآن المجيد(26).
      (لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف)(27).
      وأما عبد المطلب فكان يدعى شيبة الحمد لكثرة حمد الناس له لكونه مفزع قريش في النوائب وملجأهم في الأمور فكان شريف قومه وسيدهم كمالاً ورفعة غير مدافع وهو من حلماء قريش وحكمائهم وقد سن لهم أشياء أمضاها له الإسلام.
      فإنه حرم نساء الآباء على الأنباء، ووجد كنزاً أخرج خمسه وتصدق به، وسن في القتل مئة من الإبل، ولم يكن للطواف عند قريش عدد فسنه سبعة أشواط، وقطع يد السارق، وحرم الخمر والزنا، وأن لا يطوف بالبيت عريان، ولا يستقسم بالأزلام، ولا يؤكل ما ذبح على النصب(28).
      وقيل له الفياض لجوده وكثرة نائله حتى ان مائدته يأكل منها الراكب ثم ترفع إلى جبل أبي قبيس لتأكل منها الطيور والوحوش(29).
      ولمنعته وشرفه كان يفرش له بإزاء الكعبة ولم يفرش لأي أحد من قريش ولا يجالسه على بساط الأبهة والعظمة إلا نبيّ الرحمة(30).
      وكان وصياً من الأوصياء وقارئاً للكتب السماوية ولم يزل يلهج في محافل قريش بظهور نبيّ من صلبه ثم يوصي ولده وقومه بالإيمان به واتباع أمره(31).
      وأما أبو طالب سيد البطحاء وموئل قريش وزعيمهم المقدم بعد أبيه لا يفات رأيه ومن غريب أمره ان قريشاً لما أبصرت العجائب ليلة ولادة أمير المؤمنين (عليه السلام) جاؤوا بالآلهة إلى جبل أبي قبيس يتضرعون إليها ليسكن ما حل بهم فارتج الجبل وسقطت الأصنام فازداد تحيرهم وفزعوا إلى أبي طالب لأنه كأبيه عصمة المستجير وسألوه عن ذلك فرفع يديه مبتهلاً إلى الله سبحانه يقول:
      (إلهي أسألك بالمحمدية المحمودة والعلوية العالية والفاطمية البيضاء إلا تفضلت على تهامة بالرأفة والرحمة).
      فسكن ما حل بهم ببركات هذه الأسماء الطيبة الكريمة على الله تعالى وعرفت قريش فضل هذه الأسماء قبل ظهورها فكانت العرب تكتب هذه الأسماء وتدعوا بها في المهمات فيكشف الله تعالى عنها ضراءها ولم تكن تعرف حقيقتها(32).
      وما عسى أن يقول القائل فيمن هو أشرف الخليقة وعلة الكائنات المتكون من النور الإلهي القدسي: نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) وأعطف عليه في الفضائل كلها وصيه المقدم الذي هو منه بمنزلة هارون من موسى عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ثم ريحانته سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين (عليه السلام).
      فعلي الأكبر هو المتفرع من هذه الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء والوارث لهذه المآثر النيرة والحائز على جمال النبوة وأُبهة الخلافة الإلهية.
      ورث الصــفــات الـغــر فهي تراثه عــن كل غطريف وشهم أصيد
      في بأس حـــمزة في شجاعة حيدر بأبي الحسين وفي مهابة أحمد
      وتـراه في خـلق وطـيـب خـلائــــق وبـلـيـغ نـطـق كـالـنـبـي مــحمد


      تعليق


      • #4
        في مسيرة الركب التاريخية

        انطلق الركب الحسيني بمسيرته التاريخية من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة، البلد الأمين، دار السلام والاطمئنان، وبعدما أضحت مكة غير ذات أمان مهتوكة الحرمة، ولأسباب متظافرة اتجهت المسيرة العملاقة نحو الشمال إلى العراق حيث إقليم الكوفة فكربلاء.
        وأخذ الكرب يلف الصحراء ويطوي البيداء، ويعبر ويصعد الهضاب ويقطع السهول متجاوزاً التلال والمرتفعات. يحث خطى السير لا يلوي على شيء. قد حملت الجمال معدات السفر والعتاد، ومحامل النساء. فيما امتطى الفرسان صهوات جيادهم.
        وقد لحقهم مئات من الرجال النفعيين الذين ظنوا باقبال الدنيا على الحسين (عليه السلام)، وقد أدرك الإمام دوافعهم فسلك معهم عدة أساليب لإرجاعهم وإبعادهم عن جهاده النقي، وللإبقاء على صفوة الرجال وخلاصة الرساليين الأبطال، ممن لا منفعة دنيوية تحدوهم ولا مصلحة شخصية تدعوهم، إلا إعلاء كلمة الله بإظهار الحق ودمغ الباطل.
        مرَ الركب بعدة مناطق في الطريق، كمنطقة الصفاح، وزرود والخزيمية. ومنطقة الثعلبية... .
        وهنا في هذه المنطقة بالذات حيث بلغها الركب في المساء، وعليّ الأكبر يسير معهم ليلاً نهاراً، يسير كلما ساروا ويقف كلما وقفوا، ويحث جواده كلما حثوا الجياد.. حتى بلغ منهم النصب وأخذهم التعب، وفي ذلك المساء بتلك المنطقة غفى الإمام الحسين، وأخذه الكرى، فرأى في نومه المؤقت رؤيا أزالت عنه الكرى، وفتح عينيه على أثرها، وأخذ يسترجع (إنا لله وإنا إليه راجعون)(33) وهذه عبارة عن تعقيب على مضمون الرؤيا ومعناها.
        فانتبه نجله علي الأكبر الذي كان يسير على مقربة منه فالتفت حالما سمعه، ليستفسر من والده العظيم عما دعاه للاسترجاع، فأجابه الأب القائد.
        (رأيت فارساً وقف عليّ، وهو يقول: أنتم تسيرون والمنايا تسرع بكم إلى الجنة، فعلمت أن أنفسنا قد نعيت إلينا) وفي رواية لا توجد عبارة (... إلى الجنة).
        فبادر ولده علي قائلاً بصرامة المؤمن القوي (يا أبة أفلسنا على الحق؟) قال إمام الحق: (بلى يا بني، والذي إليه مرجع العباد).
        فرد علي بكلمة نابعة من العزة والإباء: (يا أبه إذن لا نبالي بالموت) وفي الأعيان أنه قال: (فإننا إذن لا نبالي أن نموت محقين) فعقب والده الإمام بكلمة التقدير العالية الرفيعة، التي جاءت بصيغة الدعاء، وأي دعاء من أب لوالده، أم أي كلمة هذه التي ينطق بها الإمام الحسين شخصياً لولده عليّ الأكبر بالذات... (جزاك الله يا بني عني خير ما جزى به ولداً عن والده)(34).. وهكذا هي تحية الإجلال لموقف الصلابة الشجاع. أكرم بهذه الأبوة وتلك البنوة، الممتدان من أصول الأنبياء وخاتم النبوة.
        لقد تحدى كل العقبات والمعوقات التي تحول دون تحقيق أهداف الحق، فطالما نحن على حق ينبغي أن لا نهاب الموت، الموت الذي حتى لو أيقنا قربه ودنوه منه، الموت المؤكد في الموقف المعين بالذات، الموت على الإيمان واليقين.. واليقين من أسماء الموت (أشهد أنك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر وأطعت الله ورسوله حتى أتاك اليقين).
        فلابد من نصب الموت أمام الأعين في السلم والحرب، ولابد للؤمن من حمل الكفن إن لم يحمل معه خشبة الصَلْب. فلا يقولن أحد أن منيته وأجله في غير هذه الحادثة الجهادية أو هذه الحرب، لأن ذلك معناه سابق نية على التهرب والإنسلال وعدم الرغبة في تمام التحرير وكامل الاستقلال.
        إن هذه الرواية وحديث علي مع أبيه لابد أن نستفيد منه ولنتعرف على حقيقة شخصية علي من خلاله. (وفي الحديث من الدلالة على جلالة علي بن الحسين الأكبر، وحسن بصيرته، وشجاعته ورباطة جأشه، وشدة معرفته بالله تعالى، ما لا يخفى)(35).
        لقد كان حواراً جهادياً عظيماً، يذكرنا بحوار نبي الله إبراهيم مع نجله النبي إسماعيل. فحينما قص إبراهيم الرؤيا، (يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك)، أجابه ابنه إسماعيل بقوله: (يا أبتِ افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين).
        فثمة تشابه من حيث الغرض وهو الفداء والتضحية غير أن ثمة فوارق. فجواب إسماعيل كان مفروضاً عليه بحكم طبيعة الرؤيا فهو مطالب بالرد المناسب ومطلوب للتضحية بذاتِه دون سواه. بينما لم يكن مفروضاً على علي الأكبر أن يجيب وليس الرد مطلوباً منه، ولم يك مطلوباً للتضحية بذاته ولوحده، وكان بمقدوره أن لا يجيب على ما ذكره أبيه من رؤيا.. لكنه أجاب بنبرات الصارم وعزيمة الصابر الصامد الذي لا يلين.
        ولا نريد أن نعقد مقارنة بين الحوارين، فلا تفاضل بين النجلين الطاهرين، بحصول الفرق بين الموقفين وطبيعة القضيتين.
        وبعد فقد تقدم إسماعيل صابراً، ليقدمه والده قرباناً ويبقى هو - والده - حياً، ثم غير الله سبحانه قضاءه إذ بدى له أن ينزل كبشاً كبديل (ففدينا بكبش عظيم) فنجا إسماعيل من مذبحة كادت تنهيه.
        بينما تقدم علي الأكبر مع والده وكوكبة الرجال والشبان صفوة الأمة المسلمة، تقدم بأقدام ثابتة وخطوات لا تثنيها أي قوة مضادة إلى حيث مذبحه الذي ذبح عليه وقطع تقطيعاً هو ومن سبقه، بمرأى والده، بل مضى حتى والده قرباناً وضحية، أجل ذلك بحكم اختلاف القضية، ويا لها من قضية عظيمة لا كبش - مهما كان عظيماً - يعوضها أو يعادلها.
        أجل سار علي وواصل مع الركب المجيد، سار والحق يحدوه، وأمامه نصبت صخرة الذبح من أجل أقدس قضية حَتَمَتْ أرقى فداء وتفانٍ وتضحية.
        علي يرابط في كربلاء مع المرابطين:
        حتى إذا وصل الركب في مسيرته، ربى الطف، وتلاع شاطئ الفرات، وقف الإمام الحسين ليتعرف على اسم المنطقة وما هي إلا برهة زمنية حتى أعلن بأنها موعده ومستودعه ومنازل الأبطال ومقابر الشهداء.
        ها هنا والله مناخ ركابنا.. وها هنا قَتل رجالنا.. حتى قال: وها هنا تزار قبورنا. بهذه التربة وعدني جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا خلف.
        فنزلها الرجال والشباب، وقد انطلق الصبيان يلعبون ويرتعون، بينما أخذ الرجال يبنون البيوت وينصبون الفساطيط والخيام، فبانت أطناب الخيام وظهرت مواقعها بأهلها المرابطين على الحق.. ورابط علي الأكبر في بطحاء كربلاء، منذ اليوم الثاني حتى العاشر من شهر محرم.
        أما الجيش المعادي الذي يرابط على شط الفرات فقد أخذ يتكاثر كل ضحى وكل يوم حتى كملت عدته يوم تاسوعاء، إذ كانت الكتائب تتوافد لترابط قبالة الجبهة الحسينية. ولكثرتها تسنى لها تنفيذ أوامر منع الماء الصادرة من ابن زياد، حيث ضربوا على نهر الفرات حصاراً يحول دون بلوغ ضفافه أي ضام عطشان.
        وظل علي في انتظار دوره وأداء مهامه، فهو يترقب بدء القتال مع الأعداء، وبدء دوره خصوصاً، إذ كان في رأيه أن يكون هو أول قتيل وشهيد. لقد وقف إلى جانب ثلة الهاشميين تحت لواء عمه العملاق، العباس بن علي (عليهما السلام). ليطالب بأن يكونوا هم - بنو هاشم - أول من يبرز للميدان.
        بيد أن عصبة الأنصار ترى أنها هي الأول دخولاً للميدان وقد تجمعوا تحت لواء المجاهد حبيب بن مظاهر الأسدي وهم يطالبون بسبق الهاشميين للجهاد والقتل.
        وتدور بين الطرفين مباراة كلامية.. ويستمر تنافس الجناحين على الظفر بالأولوية لخوض غمار الحرب العادلة. ولا أحد يرضى بأن يكون ثانياً، كل يؤثر نفسه على الموت قبل غيره، وبطبيعة الحال فإن علياً كان أكثر عزماً وأشد رغبة في إحراز تلك الأسبقية والأولوية، فهو من جناح الهاشميين الذي يقول بضرورة تَقَدُم بني هاشم لأنهم حَمَلة الرسالة وثقل الحديد لا يحمله إلا أهله.
        وأخيراً إحتكم الجناحان إلى الإمام الحسين (ع) فحكم الإمام القائد للأنصار بالسبق لدخول الساحة.
        وظل الهاشميون في ترقب لدورهم.
        وظل علي الأكبر خصوصاً أشد شوقاً لساعته ولحظات سعادته.
        على مصارع الأنصار - ومصرع الحر الرياحي: -
        حمى الوطيس واحتدم الصراع، إذ دارت رحى حرب ضروس، جالت خلالها الخيل واشتد اشتباك الأسنة، واختلاف السيوف، فما انجلت الغبرة إلا عن جمع من القتلى.. كانت تلك هي الحملة الأولى في صبيحة عاشوراء، التي اشترك فيها الجميع وتمخضت عن قتل عشرات ومئات الأمويين، كما أسفرت عن خمسين قتيل شهيد من رجالات الإسلام الحسينيين (عليهم سلام الله ورضوانه).
        ثم آب كل إلى موقعه. وبدأت عصبة الأنصار - أي ممن تبقى منهم - يستأذنون الإمام الحسين للجهاد مثنى وفراداً، وهو يأذن لهم - وكان عاشوراء يوماً مشهوداً حيث صعدوا مسرح الجهاد والاستشهاد وهم لا يلوون على شيء، ولا يفكرون بشيء سوى الفداء والفناء من أجل مجد الإسلام والبقاء الرسالي.
        ظل علي يرمق ببصره البعيد أطراف الميدان.
        مُكبراً تفاني الأنصار البواسل الشجعان.
        فقد كان قوي العزيمة، لا تخونه إرادته ولا تلين عزيمته أو تضعف شكيمته، قوي البأس ثابت الجنان. صَلب صامد على مصارع عصبة الأنصار، حتى إنه شهد مصارعهم وكان يرثيهم ويؤبنهم مشتاقاً لما آلوا إليه - كما وقف على جسد أحدهم وهو يرثيه بأبيات نفيسة.
        إذ أشرف علي الأكبر على جسد البطل المجاهد الحر بن يزيد الرياحي، وقد سبقه والده الحسين الذي أبَنَه بقوله:
        (بخ بخ لك يا حر، أنت الحر كما سمتك أمك وأنت الحر في الدنيا والآخرة). أو (سعيد في الآخرة).
        فعقب علي الأكبر قائلاً:
        لـنـعــم الــحرّ حـرّ بـنـــي ريــــــاح صــبـور عـنــد مشتبك الرماح
        ونـعـــم الــحــر إذ نــادى حــــسيناً فجاد بنفسه عند الصباح(36)
        إنه يقرر بأبياته أن للحر صبراً، فيقرر أن له إيماناً قوياً بحيث أنه تحمل المخاطر، وصبر - لكي ينجز مهمته - رغم اشتداد اشتباك الأسنة والسيوف وكل الأسلحة. (صبور عند مشتبك الرماح).
        كما ويقرر أنه قدم أغلى ما لديه، وسخى بما عنده وجاد بما يملك من ثمين ونفيس وهل أثمن من النفس والحياة (فجاد بنفسه عند الصباح) والحق أن (الجود بالنفس أقصى غاية الجود)
        فضلاً عما نلمسه من إكبار وافتخار بمن هو نعم الرجل، نعم الشخصية الفاضلة، ونعم الحر، بحيث أبى التقيد بالذل والارتهان بالعبودية، ورنا إلى نعماء العز والحرية، دونما خوف من دفع الضريبة الباهضة لتلك النعمة.. وهي ضريبة الدم والروح.. وكذا تكون سجية الأبطال.
        وبقي علي الأكبر يرقب الميدان عن كثب: معرباً عن روعة صمود الصابرين المجاهدين، ومكبراً جهادهم. متشوقاً إلى دوره ونزوله للساحة. بعد أن مضى من مضى وبقي من بقي.
        (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه * فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر * وما بدلوا تبديلا).
        صد الله العلي العظيم
        السبق للجهاد

        المبادرة الفورية:
        لقد أدى الأنصار أدوارهم على أحسن ما يرام، فمضوا إلى حيث نعم الله ورضوان ربهم وجنان وعدهم إياها، إنه لا يخلف الميعاد.
        ولم يدع علي واحداً يسبقه، بعد إذ إنفرد الإمام وأهل بيته، فكانوا البقية الباقية من الشجرة المحمدية. الوحيدون على وجه الأرض، من آل الرسول الأعظم (ص) فطفق بعضهم يودع بعضاً. ومال أحدهم على الآخر يعانقه بحرارة وشوق.. وصف المؤرخون ذلك المشهد الرهيب واتفقوا على هذا المعنى:
        (لما قتل أصحاب الحسين (عليه السلام) ولم يبق معه إلا أهل بيته خاصة، وهم ولد علي بن أبي طالب (عليه السلام) وولد جعفر وولد عقيل، اجتمعوا يودع بعضهم بعضاً، وعزموا على الحرب، فتقدم علي بن الحسين (عليه السلام)، وكان من أصبح الناس وجهاً وأحسنهم خَلقاً، وخُلقاً).
        أما وداع علي لأهله من النساء كأمهِ وأخواته وعماتهِ لاسيما عمته الحوراء زينب (عليها السلام)، فقد حفل بالآلام والأشجان. فقد آن فراق ذكرى المصطفى (صلى الله عليه وآله) هكذا شعرن وأحست كل منهن.
        ظهر علي بأنه شديد الحرص على السبق للساحة وعلى أن يكون أول ضحية وقرباناً لله سبحانه وتعالى(37). وهذه الظاهرة تحتاج إلى وقفة.
        فلاشك أن المسؤوليات الجسام لا تناط إلا بأهلها، وخليق بهم تحمل عبئها وما يترتب عليها من مضاعفات، لأنهم سدنة الرسالة، وحراس المبادئ ذات الأصالة. فهم لا يختارون التأخير عن دورهم، الأمر الذي يفسر حالات التنافس بين الهاشميين والأنصار، وعمليات الرهان على الأسبقية، كما أشرنا حيث حسم الإمام ذلك الموقف لرغبة الأنصار المجاهدين على رضى منه.
        أما وإن علياً يسبق أخوته من الهاشميين. فذلك ما يفسره نفس المعنى، فنظراً لكونه نجل الإمام القائد المتحدر من صلبه الشامخ، فهو يشعر بخصوصيته، لا لكي يسلم وينعم، بل لكي يبادر ويعمل ويضحي فيكون المثل الأعلى.
        وليس هذا من باب المفاضلة والمكابرة، بقدر ما هو من باب الإيثار، فخليق به أن يتقدم على الجميع مؤثراً سلامتهم وعدم نظرهِ لجراحهم أو مواقع مصارعهم.
        ولما كانت القضية قضية الإسلام الحسينية، فلا يحسن به أن ينتظر إلى آخر شوط وآخر دور، فهو نجل القائد، ومن باب أولى أن يكون هو المتقدم.
        وهكذا تتجلى علو التربية ورفعة التوجيه وسمو الآداب وجلال التهذيب المتوفر في شخص علي الأكبر. فما كانت تربية أهل البيت تنص على معنىً يخالفه عملهم، ليس فيهم قوالاً غير فعال. وإنما جبلوا على ممارسة تطبيقات مقررات الرسالة والدين الحنيف وحتى الآداب والمثل البسيطة والمفاهيم الخلقية العملية.

        الاستئذان للنزال:
        إتجه نحو أبيه الإمام، فاتخذ له موقفاً أمامه، وظل صامتاً مطرقاً برأسه، نظر إليه والده الحسين فأدرك ما يريد، فكل ما ظهر عليه من لامة حربه ومدرعته وإسراجه لفرسه يدل على عزمه للمضي على ما مضى عليه من سبقوه، يدل على لهفته لمباشرة الجهاد المسلح.
        وراح الحسين ينظر إليه بنظرت ملؤها الرفق والحنان والإشفاق، أخذ يطيل النظر إليه، فاتخذت عواطف الأبوة الطاهرة مستقرها بين جوانح الأب العظيم.
        دار التفاهم على صعيد الصمت.. وتم تبادل البيان من خلال مؤشرات موقف الأشجان. ولم يكن الفراق عجيباً ولا غريباً، إذ (خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة). (لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه فيوفينا أجور الصابرين) كما في خطابه التاريخي بمكة.
        ترى هل عز على الحسين فراق حبيبه وريحانته وذكرى رسول الله؟ هل يا ترى يمنعه عن التسرع أو يؤجل دوره إلى حين؟ نعم عز عليه ولكنه لا يمنعه أو يؤجل جهاده.
        عز عليه عزاً لا حد له، بيد أن الحسين يسيطر عليه أمر أكبر وأخطر، ذلك هو عز القضية التي من أجلها نهض بنهضته وصدع بمبدأ الجهاد. فبعز رسالته هان عليه عز الأحبة وآلام الوحدة والغربة. فالموقف شجي ومحرج لكنه في غاية التحرج في قضية الدين بحيث هونت عليه فقد الحياة وحراجة تقديم البنين.
        وأخذت الآهات مأخذها في داخل صدره، وراح ينظر إليه. إلى أشبه من وطئ الحصى بجدهِ النبي المصطفى.
        واغرورقت عيناه بالدموع. وطفق إليه ليضمه ليحتضنه ويلثمه. وقف الشباب الهاشمي أمام المشهد الحزين، وقد دام العناق طويلا. فماذا تتصور عن عناق صدق الأشواق. عناق لحظات الفراق.
        أجل إنها آخر فرصة لتبادل القبلات المنغصة.
        وفهم علي الأكبر، وأدرك من تلك الإجراءات الأبوية أنه لا مانع من خوض غمار الحرب الرسالية فوراً، فمال إلى جواده الذي أعده وأسرجه فامتطى صهوته واتجه نحو تأكيد الحقائق، وراح عيون الهاشميين ترمقه بحب عظيم وإشفاق كبير، فكيف بأبيه الحسين الذي أخذت عينيه ترافقه، واستمر يلاحقه بنظراته وتابعه بقلبه البصير الذي يخفق على النهاية والمصير، لهذا الفتى المحمدي، لقد وجدناه يحول طرفه ليرمق السماء وليناجي ربه، رافعاً شيبته الشريفة وقد أرخى عينيه لتسيل الدموع كل مسيل:
        (اللهم أشهد على هؤلاء القوم، فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولِك محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وكنا إذا اشتقنا إلى وجه رسولك نظرنا إلى وجهه.
        اللهم فامنعهم بركات الأرض وفرقهم تفريقاً، ومزقهم تمزيقاً واجعلهم طرائق قدداً، ولا ترضي الولاة عنهم أبدا، فانهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا يقاتلوننا)(38).
        في تلك الأثناء كان علي (سلام الله عليه)، يبتعد رويداً رويداً متجهاً نحو الحشود البشرية المتراكمة كالغنم النائمة وقد وبخ الإمام، قائد الأعداء، عمر بن سعد بن أبي وقاص، وتوعده مؤكداً له استحالة حصوله على نيل مصالحه من قتال عترة الرسول وإبادتهم وقطع رحمهم، فصاح به.
        (ما لَك! قطع الله رحمك ولا بارك الله لك في أمرك، وسلط الله عليك من يذبحك بعدي على فراشك، كما قطعت رحمي، ولم تحفظ قرابتي من محمد رسول الله)(39).
        ثم حول طرفه إلى ولده الذي دنا من الجيش الهجين وأخذ ينظر إليه، وقد رفع الإمام صوته وهو يتسلى بتلاوة قول الله تبارك وتعالى(40):
        (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين، ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم).
        سمع الجميع تلاوة الإمام الحسين (سلام الله عليه)، سمعوا حقيقة كون علي الأكبر ممن اصطفاه الله سبحانه، وارتضاه، وانه ماضٍ إلى حيث أداء حق الاصطفاء وحق المسؤوليات في ظل العز والإباء.

        محاولة أموية لاستمالته:
        ساد في العصر الجاهلي البائد صراع وخراب أدى إلى سفك الدماء وإراقتها دونما حساب، وذلك بفعل الروح العشائرية والعصبية القبلية، وقد اشترك في تلك الحروب والمعارك أفراد وجماعات قد لا ناقة لهم فيها ولا جمل - كما يقول المثل -.
        فلا يتأخرون عن إشعال نار معركة لأدنى سبب تافه وصلة قربى رخيصة، ولربما كانت صلة مصطنعة وهمية أو مجرد استلحاق لا غير. ويكفينا أن نتذكر أدوار زياد بن أبيه ومهامه الإجرامية الشنيعة عقيب استلحاق معاوية له بأبيه صخر بن حرب (أبا سفيان) إذ أضحى زياد بن أبي سفيان، وصار أبا سفيان والد زياد بالإستعارة، فكان عليه أن يؤدي حق النسب والرحم، وقل حق الاستلحاق، والرابطة الوهمية. وقد جرت على الأمة ويلات ومآسي نتيجة لوهم النسب هذا ونتيجة لتمكين معاوية لزياد من رقاب المؤمنين.
        فالمعاني الجاهلية التي عادت لتسود في زمن بني أمية كان لها الأثر البالغ في صنع كثير من الأحداث وفي حرب أهل الحق وآل الرسول.. ويحدث أحياناً إستمالة بعض العناصر من طرف ما إلى طرف آخر من هذا المنطلق ووفق منطق الصراع القبلي. فما أن يُلاحظ وجود عناصر أو عنصر واحد له صلة رحمية حتى يعرضوا عليه منطق حمية الجاهلية. وقد أشرنا إلى أن جدة علي الأكبر لامهِ، وهي ميمونة من بني أمية.
        (ولهذا دعاه أهل الشام - حسب قول البخاري - إلى الأمان، وقالوا: إن لك رحماً بأمير المؤمنين يزيد بن معاوية، يريدون رحم ميمونة بنت أبي سفيان)(41).
        وهذا ما أشار إليه الزبيري، ولم يقل أهل الشام أو أن القائل هو شامي وإنما عراقي.
        (وكان رجل من أهل العراق دعا علي بن الحسين الأكبر إلى الأمان، وقال له: إن لك قرابة بأمير المؤمنين يعني يزيد بن معاوية، ونريد أن نرعى هذا الرحم! فإن شئت أمناك)(42).
        وثمة شيء آخر وهو أن قائد الجيش، عمر بن سعد بن أبي وقاص من أم أموية وهي أخت ميمونة أي من بنات أبي سفيان(43).
        فللنسب والرحم سلطان على نفوس الناس، يسوقهم حيثما اشتهى من بيده زمام اللعبة، كسلطان الطائفية اليوم في السياسة الدولية المعاصرة، حيث إن السُني أو الشيعي، ثم المسيحي أو اليهودي، أو من له أدنى رابطة بأي من تلك الطوائف يمكن أن يُسخر ويستغل ويستخدم، وهو ما نلاحظه ونلمسه لمس اليد.
        ولأن سلطان العصبية مستحوذ على الأمويين، وأذنابهم من الشاميين والعراقيين، ولأن سطوة القبلية مهيمنة عليهم، برزت أطروحة حمية الجاهلية بلا حياء ولا خجل وعُرضت على علي الأكبر ظناً منهم بجدواها، وقد كانوا من البلادة والغباء بحيث قارنوا أفذاذ الأمة كعلي الأكبر بأنفسهم هم شذاذ الآفاق ونبذة الكتاب، ونسوا أن علياً ونظائره لا يستجيبون لتلك الدعوات حتى وإن بلغ السيل الزبى.
        فما موقف علي من تلك الأطروحة وذلك العرض؟؟
        لابد أن ندرك بأن العرض هذا رخيص، وعلي يتجاوب مع العرض الثمين النفيس، الذي يكون أقل ما يدفع له الجسد والروح. وقد سبق له أن استجاب لعرض لا يدانيه عَرض آخر، لم يقدمه شامي ولا عراقي، عرض ليس من أجل يزيد والرحم. وإنما قدمه رجل آخر، وأي رجل ذلك الذي هز مهده جبرائيل، سبط سيد المرسلين ونجل سيد الوصيين وابن الصديقة الطاهرة سيدة نساء العالمين. أي رجل هذا وأي عرض يحمل. إن هذا الرجل بذاته وعظمته يكفي قبل أن يقدم ما عنده من عرض مبدئي، فهو بذاته عرض رسالي نفيس لا يقاس.
        أجل إن لعلي الأكبر عهداً ووعداً بالمصادقة على ميثاق وقعه حول ما قُدم له، حيث أطروحة الحسين الحرة، ولهذا أجاب أهل العرض الرخيص بجواب حدي بقوله:
        (لقرابة رسول الله صلى الله عليه وآله أحق أن ترعى)(44).. ثم هجم عليهم.
        فلا رحم ولا قرابة أقدس مما وصى القرآن بها وحرص بشدة عليها، فأي يزيد أم أية رحم أموية هذه.
        (لقرابة رسول الله أحق أن ترعى من قرابة يزيد بن معاوية.. ثم شد عليهم)(45).
        وبهذا فقد قابل علي منطق الجاهلية الرعناء، بمنطق الرسالة والقرآن العظيم (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى).
        وأعظم ما في الموقف أنه لم يقل لهم أنه أبي وأنا ابنه فعليَّ أن أدافع عنه، ولم يذكرهم بأنه سليل الرسول ولهذا يراعي رحمه وصلته بالهاشميين، وإنما كان جوابه جواب المؤمن بالرسالة وحتمية حفظ قربى الرسول، وقد يكون مستساغاً أن يعلن كونه يراعي نسبه المقدس ولم يعلن ذلك وإنما قرر بصيغة جوابه، الواجب الشرعي على كل فرد مسلم كأمر مفروض لا محيص عنه ولا مناص منه (فقرابة رسول الله أحق أن ترعى) لا لأنها مجرد قرابة الرسول وإنما لأنها قد أنيطت بها الرسالة والدين الحنيف.
        أخيراً: كان علي في غنى عن تلك البادرة البليدة، لأنه أسمى من تلك العروض التافهة، لكن العدو كان مضطرب العقلية مرتبك الموقف. كما أننا في غنى عن الوقوف الطويل هنا، لولا الحاجة الماسة للتأكيد البياني على الأخلاق الجاهلية والقيم والمثل الجاهلية التي حورب بها الإمام الحسين وآله وأنصاره، من حيث عورضت بها الرسالة من قبل وحورب بها مسبقاً جده الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله).

        المجاهد العنيد
        الجولة الأولى:
        وإمتشق حسامه المهند من غمده، ونزل مخترقاً صفوف العدو المتكبر، فراح الأكبر في كبرياء العز يضرب الأجلاف ويجندل الجبناء، ويحصد بهم فيوقع أكبر الخسائر في أوساطهم. راح يضربهم فوق الأعناق ويضرب منهم كل بنان.
        ظهر تأثيره عليهم حينما دخل دائرتهم وأخذ يخوض في وسطهم العسكري، ليمزق جمعهم ويفرق صفوفهم ويشتت شملهم الشريد، فقلب وقوفهم وحالة سكونهم إلى حركة دائمة، وركض وهروب فهزيمة، فالرجل من إذا هرب نجا.
        وغاب شخص علي الأكبر بينهم غياباً تاماً يتجلى للعيان بما يلعبه فيهم ويؤثر عليهم، فلا يظهر منه غير نشاطه المتمثل بهز العسكر وزعزعة الجيش إذ كان نزاله المسلح بكل طاقاته وقدراته مما أعيى الفرسان المدججين والكماة الناصبين، واستمر في فعالياته البطولية يخرق الصفوف ويتحدى السيوف.
        نزل فيهم نزول الأسد الجريح، وخاض بهم خوضاً لم يشهدوا له مثيلاً قط، فما يترك كتيبة إلا وعاد إليها وما يلبث أن يرجع لمن فرقهم بسيفه الصقيل، مضى يتصرف بهم حسبما يريد، وقد عجزوا عن وضع حد له وإيقاف قواه التي تواصل استعراضهم فتكيل لهم الضرب وتنزل بهم الخسائر الجسيمة.
        (ولهذا حرصوا على أن ينتقموا منه بعد قتله، وذلك بتمزيق جسده).
        حتى إذا ما جهلوه وظنوا أنه علي بن أبي طالب قد خرج إليهم، لأنهم لم يصدقوا أن هذه الحمالات الشجاعة لغيره، طفق يكشف لهم عن هويته المقدسة واسمه الشريف - كما قيل عن سبب ارجوزته التالية -. أو أنه أراد توضيح شخصيته ومهمته المنوطة به فبادر معلناً لهم، وهو ما زال ماضياً بعزم لا يلين، ينشدهم أنشودته الخالدة وأرجوزته المجيدة.
        أنا عـلي بـن الـحسيـن بـن عــــلي نـحـن ورب البيت أولى بالنبي
        تا الله لا يـحـكم فـيـنـا ابن الـدعـي أضرب بالسيف أحامي عن أبي
        ضرب غلام هاشمي علوي(46)
        أعلن لهم أنه نجل الحسين حفيد أمير المؤمنين علي.
        كما أعلن رفضه لحكم الطلقاء وسياسة إدارة الأدعياء فلا وفاق عليها مهما بلغ الثمن (تالله لا يحكم فينا ابن الدعي).
        أبلغهم أنه سيواصل سيره بسيفه المصلت فوق رؤوسهم ذاباً عن الدين الحنيف ومحامياً لأبيه سيد الأمة.
        نبههم أن صرامته وتصلبه، وضرباته الفتاكة لها ما وراءها من رصيد هاشمي، فقوة ضربته وعزيمة ساعده، وتحمله لمشاق المعارك وهول الحروب إنما له أصالته بدءً من هاشم خير الكيان القرشي.. تلك المعاني السامية والإيحاءات الجدية تصك أسماع الأعداء، وهو يكرر انشودته ويكر عليهم كرات جده الكرار فلا يعرف أي معنى للفرار.
        (فلم يزل يقاتل حتى ضج أهل الكوفة لكثرة من قتل منهم، حتى روي أنه علىعطشه قتل مئة وعشرين رجلاً)(47).
        لم يفت في عضده العطش بل حتى الجراح المعضلة، يسمو يحدق فيهم متعالياً فوق الجواد الناهض. وإذا ما تحاوموه بجمع وكتائب يردهم ويجبرهم على التقهقر والنكوص قسراً.
        يـرمي الـكـتـائب والفلا غـصت بها فـي مـثـلها مـن بـأسـه المتوقد
        فـيـردهـا قـسراً عـلى أعـقابــهـــــا فــي بـأس عرنين العرينة ملبد
        وما همَّ بالعجز، وهو شامخ على صهوة جواده بجراحه الدامية المتدفقة دماً عبيطاً، حتى إذا زاد ألم العطش وأخذ منه مأخذاً إلى جانب الجراح والدماء السائلة، ورجع وهو يأمل أن ينال شربة من الماء لو وصل إلى المخيمات.


        .

        تعليق


        • #5
          العودة المؤقتة:
          وعاد ولكن ليرجع، عاد كيما يعود إليهم، إذ توعدهم ثم إنه على موعد مع الله سلفاً، موعد لا يخلفه في مكان وزمان سوى... غير أنه الآن عطشان لحد قد يمكن العدو منه، فهو ظمآن إلى درجة تفقده الرؤية الجيدة، فلا يرى الأوباش ولا يميز الأشياء.. عاد.
          عاد وهو يحمل رأس أحد فرسان الأموية المدعو، بكر بن غانم، الذي تحدى علياً وصمم على قتله بقوله: (لأثكلن أباه)، لكن علي الأكبر تلقاه فبارزه حتى صرعه وأرداه وحمل رأسه وهو يحس بالجهد الشديد الوطأة فوصل المخيم الحسيني وقد رمى بالرأس، وهو يردد.
          صيد الـمـلــوك أرانـب وثــعــالـــب وإذا بـــرزت فـــصيدي الأبطال
          هذا ما جاء في رواية.. بينما أجمعت الروايات حول عودته المؤقتة، على جفاف حشاشته، ويبوس فمه، وذبول شفتيه، حتى بلغ لسانه أقصى حدود الذبول بعظم الظمأ الذي ناله.
          فهل كان متيقناً، أو معتقداً حصوله على جرعة ماء يطفي بها لهيب العطش؟ فنحن نقرأ له كونه طلب من أبيه شربة من الماء.. (يا أبه: العطش قد قتلني وثقل الحديد قد أجهدني، فهل إلى شربة من الماء سبيل، أتقوى بها على الأعداء)(48).
          فترقرقت واغرورقت عينا أبيه.
          وأي سبيل هذا يا سيدي.. أم كيف.
          ليت شعري.. أو ما يرى عليّ حال أهله وذويه، ويبوس حتى شفتي أبيه، وإن فاقد الشيء لا يعطيه.
          وكأني به يجيب فيقول: أجل وهو كذلك فأنا أدرى بسر الحال، ولكن الأمل.. إنه الأمل في إطفاء غائلة الظمأ.
          إنه يعلم جيداً، بيد أن أمله كان قوياً وأراد أن يقتنع أو يقنع نفسه فقط، فهي حالة نفسية ألحت عليه بالعودة وإلا فالماء غير موجود (ولكن لحاجة في نفس يعقوب قضاها).
          وهذا الحد الأدنى من أمل الإرتواء النسبي لم يتحقق، ولذا دمعت عينا أبيه الحسين، ولا أدري كيف دمعت وسالت الدموع حينما أجاب الأب العطشان ولده بقوله: (واغوثاه.. ما أسرع الملتقى بجدك فيسقيك بكأسهِ شربة لا تظمأ بعدها أبداً). وفي رواية أنه أجابه بقول:
          (يا بني قاتل قليلاً فما أسرع ما تلقى جدك محمداً صلى الله عليه وآله فيسقيك بكأسه الأوفى)(49).
          وعن الخوارزمي: (فبكى الحسين وقال: يا بني، عز على محمد وعلى علي وعلى أبيك أن تدعوهم فلا يجيبونك وتستغيث بهم فلا يغيثونك، يا بني هات لسانك، فأخذ لسانه فمصه، ودفع إليه خاتمه وقال له: خذ هذا الخاتم في فيك وارجع إلى قتال عدوك، فإني أرجو أن لا تمسي حتى يسقيك جدك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبداً)(50).
          ثم إنه (عليه السلام) إنتزع الخاتم ليضعه علي في فمه تحت لسانه.. وهذه عملية اسعافية قد تفيد ان للخاتم - أو أي شيء بنفس حجمه - دور في إثاره الغدد لتفرز ما يسعف الحال(51).
          وبعد أقل القليل من الماء، فعطف ليودع أمه التي روي عنها أنها كانت شديدة القلق عليه حتى أغمي عليها وأفاقت ورأسها في حجر ولدها العائد من الجولة الأولى والذي لا بد له من جولة ثانية كيما ينال شرف الشهادة المقدسة.. وراح يودع الجميع ليواصل المسيرة الفردية المسلحة رغم مكابدته لوطأة العطش وظنى الظمأ، وقد كتب في حالته هذه أحد الشعراء المؤمنين قائلاً فيه:
          ويـؤوب للـتــوديــع وهــو مــكابــد لــظمـى الـفؤاد وللحديد المجهد
          صادي الحشا وحسامه ريــان مــن ماء الـطلا وغــلـيـله لـم يـبـرد
          يشكو لخير أب ظماه ومــا اشــتكى ظمأ الحشا إلا إلى الظامي الصدي
          كانت حـشاشـته كـصالية الـغــضـــا ولـسـانـه ظـمـأ كـشـقـة مـبـرد
          فانـصـاع يـؤثـره عــــلـيـه بـريـقـه لــو كان ثمة ريـقـه لــم يـجـمـد
          ومـذ انـثـنـى يـلـقى الـكريهة باسماً والموت منه بمسمع وبمشـهـد
          لف الوغى وأجـالـها جـول الـرحى بـمـثـقـف مـن بـأســه ومـهــند

          الجولة الثانية:
          (ما أسرع الملتقى بجدك فيسقيك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبداً...
          وما أروع هذا الارتواء الروحي والشربة المعنوية والجرعة المشبعة بالمعاني الجليلة، وقد عملت عملها في نفس علي الأكبر، فغدى إلى الحلبة في جولته هذه وهو أشد اشتياقاً للارتواء الأبدي بماء الكأس الأوفى لجده المصطفى من حوض الكوثر وجنة عدن.
          إنها لبشارة مبهجة، لا يعيها أو يستوعبها فيتأثر بها إلا ذوي العلم والإيمان واليقين بما ينتظرهم من نعيم الفردوس ويفيض من على موائدها أو ضفاف أنهارها.
          وتقدم البطل، العملاق العطشان الراوي من الإيمان.
          وامتشق حسامه فرن رنينه إيذاناً ببدء، فعالياته وشق الرمال معتلياً صهوة جواده الذي خلف وراءه غبرة غليظة ممتدة. شد عليهم ليكتسحهم كسحاً، ويكرد جحافلهم كرداً.
          (فزحف فيهم زحف العلوي السابق، وغبّر في وجوه القوم، ولم يشعروا أهو (الأكبر) يطرد الجماهير من أعدائه، أم أن (الوصي) عليه السلام يزأر في الميدان، أم أن الصواعق تترى في بريق سيفه، فأكثر القتلى في أهل الكوفة حتى أكمل المئتين)(52).
          هذا وهو يؤكد لهم بأن ثمة حقائق قد تجلت للحرب هذه، وهي حقائق ثابتة، ولا مجال للتفريط في حق تلك الحقائق ذات البراهين والمصاديق الواضحة البينة على الساحة فأثناء شنهِ لحملاته، صرح لهم مؤكداً وبأسلوبه الجميل من خلال أرجوزة جملية وأنشودة ثانية جليلة، كررها على مسامعهم بمنطقه المسدد:
          الـحـرب قـد بـانـت لـهـا حـقـائــــق وأظـهـــرت من بعدها مصادق
          والله رب الـــعــــــرش لا نـفـــارق جــمــوعــكــم أو تغمد البوارق
          فبناء على تلك الحقائق وما تبعها من مصاديق عملية، فهو يواصل دورُه أبداً دون أن يترك الساحة، كيما يقوم بتدعيم المصاديق، ولن يفارق مهمته قط، لأنه سليل أهل الحق وسادة الحقيقة وربان الحقائق التي بدأت جلية على أيديهم وواصلوا الكفاح من أجلها، والجهاد خلال الصراع في خضم التنازع على البقاء والإبقاء، وإنه سيبقى وسيثابر على ثباته ويكرر وثباتهِ بتحدٍ وصرامة وغلظة (والله رب العرش لا نفارق).
          فاضمروا له الكيد، وبينوا له المكر، إذ أوغر صدورهم وملأها رعباً وقلل من شأن شجعانهم، مستصغراً فرسانهم.
          مضى بلا ملل يؤدي أعماله في ضوء أقواله، ويحقق منطق انشودته الخطيرة، وليبر بقسمه براً لا حد له، عبر صولاته المحمدية، صولة إثر صولة وسط الحلبة في آخر جولة، زاحفاً زحفه الجهادي باطشاً بطش الأسد الغاضب.
          ويكاد ينهار البطل العقائدي العطشان، فقد تقاسمت طاقاته كل من : التعب والإرهاق، والظمأ الشديد، والجراح التي توزعت على جسده الشريف، فأخذ الدم يتدفق وينساب من جراح جسمه كالميزاب.
          لكنه ظل شامخاً بجراح جسده يقاتل قتالاً شديداً إذ بلغت فيه روح التفاني حد الإستهانة بالدنيا واستصغار شأن الحياة.
          قتال من ليس لسلامته أدنى أمل. وعلى هذا الأساس ومن هذا المقياس، عليك أن تتأمل وتحسن تقدير موقف هذه الشخصية الشابة، الشخصية العقائدية العملاقة. فالتضحية من أجل القضايا العادلة، والشباب الدائم، والمثابرة والتوثب على العدو مما لا غنى عنه، إذ أن الصمود قوة نستمدها من الصامدين، والصبر نستلهمه مفهوماً حركياً، لا مفهوماً انهزامياً، مفهوماً إيجابياً حساساً لا سلبياً ردئياً.
          والصبر مفهوم حركي علينا أن نستلهم من رواده أبعاده ومراميه، ومنهم نحدد معانيه.
          ما برح علي يجول في أوساط معسكرهم يلقنهم أقسى الدروس، ولا يكادون يحددون له ساحة أو موقعاً - كيما يضيقوا عليه - حتى يوسعها عليهم بشنه للهجمات. وشاهد بعضهم جسده الذي سالت منه الدماء كل مسيل، فأدركوا أنه قد ضعف عن القتال أو يكاد. ولاحظوا وهم في رعب وذعر وانهزام أنه قد يجف جسده من الدم كما جف من الماء. وعندها سيشفون به صدورهم الموغرة.

          الانتقام:
          (عليّ آثام العرب إن مر بي وهو يفعل مثل ما كان يفعل إن لم أثكله أباه)(53).
          هذا ما قاله أحد المرتزقة في معسكر العدو، وقد إلتاع وتعذب من شدة حملات علي الأكبر وصولاته حتى بلغ من البغض له والحنق عليه والحقد بحيث صمم على التصدي لهذا المجاهد العطشان، ولاشك أن هذا المرتزق قد ذاق أنواع العذاب من هروب وهزيمة وجبن من سيف عليّ الأكبر، ولكنه حينما لاحظ تعب عليّ وإرهاقه تجرد من جبنه واستجمع جرأته وقال قولته تلك.
          إنه المدعو (مرة بن منقذ بن النعمان العبدي) الذي تتضح روحه الجاهلية من كلماته ومنطقه (علي آثام العرب يستحقها وهي عليه وهو بمستواها، إذ إنه كاره ومعادٍ وقاتل لأشبه الناس بسيد العرب والعجم، وبالرغم من المنطق القرآني الناهي لمثل ذلك المعنى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) نجد أن ذلك الجندي الجاهلي مصمم على تحمل أوزار العرب، مع أنه مستوزر كثيراً من الأوزار، وهكذا أحب أن يحمل على ظهره هو ومن على شاكلته أوزاراً ثقيلة لا طاقة لهم ببعضها. (ومن أوزار الذين يضلونهم ألا ساء ما يزرون).
          ولولا العار عليه من قبل رفاقه لصمم ولأقسم باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، لكن صيغة تصحيحه تلك أقل كشفاً لمضمونه الجاهلي كما يتوهم، وعلى كل حال فإن الأهداف والدوافع الدفينة قد انكشفت، وتكشفت عن الحرب الجارية هذه حقائق لم تخف أو تنطمس.
          الــحـــرب قــد بــانــت لها حـقائـق وأظــهــرت مــن بـعدها مصادق
          ولكي لا نهمل النص السابق علينا أن نلاحظ ما فيه ونرى ما يمكن أن نستوحيه. قال: (... إن مر بي)، كما قال: (... وهو يفعل مثل ما كان يفعل).
          يبدو جلياً أن علياً كان لا يترك لهم جمعاً إلا ومر به ولا كتيبة إلا وهاجمها، وكأنه كان يستعرضهم بحملاته استعراضاً عسكرياً مرعباً، بحيث أنه ما أن يترك كتيبة إلى غيرها حتى يعود إليها وإلى غيرها، وهكذا كان نشاطه منقطع النظير بحيث أنهم يتوقعون معاودته وكرته عليهم ثانية لهذا توقع ذلك الجندي فقال: (... إن مر بي).
          ويبدو أنه كان يفعل بهم فعلاً لهم يشهدوه طوال حياتهم العسكرية من شاب مسلح بمفرده، فكان استعراضه للجيش رهيباً إن مرة العبدي لاحظ حرص علي الأكبر على تلقين جموعهم دروساً قاسية وتعليم جحافلهم حقائق بطولية رسالية لا تنسى لاحظ حرصه على عدم إهمال أي كتيبة دون أن يطعمها بالقتلى والجرحى ويختم لها بالهزيمة المنكرة فحقد حقداً قوياً. (عليّ آثام العرب، إن مر بي وهو يفعل مثل ما كان يفعل إن لم أثكله أباه).
          فانتظر دور الكرة العلوية على كتيبته الأموية، وقد نزع منه لباس الهروب والهزيمة، وكأنه نسي أنه جبان جلف جافي..
          فراح يتربص ويلتمس الفرص، ليطعنه ولو عن بُعد منه، وبينما كان الشجاع العطشان يستعرضهم رغم ضعف بدنه ذي الجراح المثخنة المكثفة، ويزحف على جموعهم بالتتابع، كأنما هو زحف منتظم، وبينما كان يشق طريقه مقاتلاً بقواه الباقية، دنا الجندي المرتزق فتأهب مستجمعاً جرأته على الله ورسوله، وجسارته على الحقائق مسدداً رمحه الطويل في ظهر علي(54) سلام الله عليه فغرز الرمح - أو السهم - فيه، فانحنى علي على جواده، ثم ثنى له العدو بضربة على رأسه الشريف، ففجه، حينها أطلق علي الأكبر صوته بالسلام على أبيه.
          (يا أبتاه عليك مني السلام. هذا جدي يقرئك السلام ويقول لك عجل القدوم إلينا).
          ثم شهق شهقة فاضت أثرها روحه الزكية.
          لكنهم لم يتركوه، فثمة دور ومهمة لهم. ترى ماذا فعلوا به وبجسده الذي أذاقهم مر طعم المواقف المسلحة؟؟؟

          الشهيد
          المنتقمون
          ما أن تناهى إلى مسامع أبيه الحسين صوت حبيبه وسلام ريحانته حتى طفق نحو الساحة معتلياً جواده، كأنه في سرعته طائر ينقضّ من علو الفضاء.
          ولكن بأي حال وجده أم بأي وضعية رآه.
          لقد وجده جسداً ممزقاً مبعثر الأشلاء، متناثر الأعضاء، تتدلى بعض أوصاله من جانبي جواده الذي كساه الدم الزكي حلة حمراء... هكذا تركوه.
          فلم يتركوه إلا بعد أن مثلوا به سريعاً، إذ إحتوشوه من كل جهة، وما أسرع ما وضعوا سيوفهم وحرابهم وسكاكينهم ليقطعوه تقطيعاً ويمزقوا جسمه تمزيقاً. ليشفوا غيظ صدورهم، ويرووا حقد قلوبهم مما أدخله عليهم من عذاب دنيوي هذا الشاب العطشان الشجاع الذي شكل جيشاً يقابلهم بمفرده، وعسكراً لوحده، وأمة بذاته.
          كان (سلام الله عليه) صلباً صابراً في الباساء، شديداً في الله، غليظاً على الأعداء، الأمر الذي يفسر شوق ابن العبدي للإنتقام منه، ثم أشواق أولئك المرتزقة الذين آلوا إلا أن يشبعوا غريزة الإنتقام، وكان كل منهم أراد أن يتبرك بجسده ويتزلف للشيطان بطعنه وغرز حربته بعضو من أعضائه الشامخة التي أذاقتهم مر الحياة، وحنظل المواقف العسكرية.
          ولولا محبي الإمام الحسين (عليه السلام) لأكلوه، لأكلوا كبده وقلبه، وما يدريك؟ ولم العجب؟ ألم تلوك (آكلة الأكباد) هند الأموية كبد عمه حمزة الذي كان يجول في بطحاء الجزيرة.
          أجل لولا إسراع الحسين لأتوا على أشلائه بأنيابهم فضلاً عن حرابهم، ولكان أثراً بعد عين.. وتلك سجية الأجلاف.
          وصل الإمام إليه، وأخذ يطيل النظر إليه، ثم إلتحق به شباب هاشم مواقعهم حول الجسد الصريع وهم يقرؤون آيات البطولة الرسالية والعظمة على صفحات جسده وعظامه المهشمة.
          وهدأ جيش الأعداء بعد ضجيج دام خلال الجولتين وسكن العسكر بعد اضطراب طويل، فتنفسوا الصعداء، وانشغل بعضهم بجر القتلى مع أوزارهم، ودفن الجثث البالية فيما انشغل الجرحى بدمل جراحهم وأنين الشقاء يصدر منهم، بينما انشغل الباقي بتراشق التهم والعيوب وكل منهم يعيّر صاحبه بالهزيمة ويتبرأ كذباً من الهروب.

          الإمام الحسين مع أشلاء الشهيد
          لا نفهم لماذا وضع الإمام خده على خد ولده المجاهد العظيم، وبالأحرى نحن لا نفهم ما رتله الإمام وتلاه حينذاك، فلم ندرك سر هذا الإجراء الذي لا يخلو من معنى.
          غير أننا نفهم بأن الآلام قد ألمت بالإمام نتيجة التنكيل وشدة الانتقام بهذا الجسد الشريف، وقد ضاق به مشهد ولده سليل المصطفى فهو عبارة عن أشلاء موزعة وأعضاء مقطعة.. ثم تزداد حسرات الإمام وآهاته لما يدركه عميقاً من منزلة لهذا القتيل، ومن شأن وحرمة عند الله وعند رسول الله لذلك تمتم:
          (قتل الله قوماً قتلوك يا بني، ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول... على الدنيا بعدك العفا)(55).
          فصغرت الدنيا بعين الإمام. ثم إنه قال وآثار الشجون قد تجلت على سحنته الشريفة.
          (أما أنت يا ولدي، فقد استرحت من هم الدنيا وغمها وسرت إلى روح وريحان وجنة ورضوان، وبقي أبوك لهمها وغمها، فما أسرع لحوقه بك).
          ونزلت بالحسين آلام ظهرت معالمها على كيفية قيامه من الأرض، كأنه العجوز المتعب، وظهرت معالمها حينما اعتذر من حمل ولده بنفسه. فطلب من الشبيبة الهاشمية أن تتبنى حمله، لأنه وقد صرح (والله لا طاقة لي على حمله).
          قام الحسين ونهض الشباب الهاشمي وقد حملوا الشهيد العظيم.
          قال الحسين وهو مختنق بعبرته يحبس حسراته وأهاته في صدره، قام وهو يكفكف بقايا دموعه محتسباً صابراً.. وأخذ يطيل النظر إلى الشهيد المحمول، فكما تابعه حينما خرج للحرب وودعه، يتابعه الآن بطرفه ويلاحقه بالنظر إلى جثمانه الممزق وهو يقطر ويسيل دماً، تحمله أكف الشباب بمطارف حمراء ناقعة بالدم.
          شباب لا يخيفهم الموقف ولا يرهبهم المنظر، كما لا يخشون نفس المصير الذي آل إليه هذا المحمول. شباب ينتظرون مهامهم وأدوارهم، يتنافسون ويتسابقون وكأنما هم يتسلون وفي الحلبات يمرحون، وكأني بهم لا يحملونه فحسب بل يحملون الثأر له ولمن سبقه، يحملون فكره وعقيدته، وإذ هم يضعونه في مخيم الشهداء، فلا ليبقوا معه. هم جاءوا به لا ليجلسوا حوله، وإنما لكي يواصلوا دوره، أو يجددوا صولاته في الميدان، وفعلاً كانوا يحملونه ليرجعوا، ولولا الأوامر الحسينية بحمله إلى المخيم، لما عاد الشباب المؤمن العقائدي إليها، ولباشروا وشهروا السيوف من هناك.
          ذلك لأن الشهيد عندهم يغري الآخرين بالشهادة ولا يخيفهم منها، يشوقهم ويجعلهم يتلهفون لها ولا يرهبونها.
          يبقى في ذهن الحسين هذا الأب الكبير، ذكرى ولده علي الأكبر، ويبقى في تصوره، صوت علي، وصورة علي، ومنطق علي، وخلق علي، ومجمل مواصفات النبي.. وإذ كان هو ذكرى الرسول ومنعكس صورة النبي، فقد فقده وفقدوه جميعاً..
          ويتذكر الأب العظيم علويات ولده ومحمديات ابنه، أقواله الصارمة وكلماته الصلبة الكثار التي لا نملك منها إلا أقل القليل، يتذكره جيداً وهو أدرى بما قاله ولده بمنطقه الجميل وأسلوبه الجليل.. فهو يتصوره متكلماً مرة.
          (لقرابة رسول الله صلى الله عليه وآله أحق أن ترعى).
          (نحن ورب البيت أولى بالنبي)، (يا أبه أفلسنا على الحق)، (إذن لا نبالي بالموت)، (والله لا يحكم فينا ابن الدعي)، (الحرب قد بانت لها حقائق)، (يا أبتاه عليك مني السلام)...
          آه ذكريات أيام وساعات مضت.
          (جزاك الله يا ولدي خير ما جزي به والد عن ولده).
          (ما أجرأهم على الرحمن وانتهاك حرمة الرسول).
          • مرقد الأكبر

          إن البرهنة الصحيحة في كل ما يفعله الإمام المعصوم الحكيم ترشدنا إلى مرجع فعلي من بيان حكم أو إشادة بذكر رجل أو إظهار فضيلة أو غاية كريمة أو مزية ظاهرة.
          وإنا إذا نظرنا إلى فعل الإمام زين العابدين في وضع (علي الأكبر) قريباً من أبيه نعرف من ذلك الغرض الباعث له وهو تعريف الملأ الديني بما حواه [أبو الحسن] من مزايا جليلة وصفات فاضلة وانه أقرب من أولئك الصفوة إلى المهيمن تعالى لما حواه من ملكات لا تدركها أحلام البشر.
          وهناك شيء آخر لاحظه الإمام الحجة الواقف على نفسيات الرجال وتقدير أعمالهم ذلك ان هذه الحالة أشجى للقلوب وأذرف للدموع فأي مؤمن يقف بذاك الحرم القدسي فلا يتمثل لديه [والد وما ولد] وما تضمنه ذلك القبر من شلو مبضع ودماء سائلة وجروح دامية ورأس محزوز وأصبح مفصول وجناجن طحنتها سنابك العاديات وأحشاء التهبت بالظما وقلب تشعب بالسهام.
          وإلى جنبه بضعة الرسالة شبيه النبي (صلى الله عليه وآله) خلقاً وخُلقاً ومنطقاً مقطع بالسيوف إرباً إرباً.
          وإن الإمام الشهيد عانى ما جرى على ولده وديعة (محمد) فينظر إليه معفراً على البوغاء ولم تدع المقاضب منه عضواً سالماً حتى فارقه أو فارق نفسه التي بين جنبيه ولم يسعه أن يغيثه بماء أو يرد عنه عادية فوضع خده على خده ولم يرفعه إلا بدموع منهلة وزفرات متصاعدة.
          فبطبع الحال يكون الموالي الماثل أمام الضريح المطهر معتلج الأشجان متدفق العبرة مرتفع العقيرة ويشتد ولاؤه ووده الذي هو أجر الرسالة.
          (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى)(56).

          • زيارته:

          في مصباح المتهجد للشيخ الطوسي الحالة أشجى للقلوب وأذرف للدموع فأي مؤمن يقف بذأن صفوان الجمال استأذن الصادق (عليه السلام) في زيارة الحسين وسأله أن يعلمه ما يقول إلى أن قال له ثم صر إلى رجلي الحسين وقف عند رأس علي بن الحسين وقل:
          السلام عليك يا ابن رسول الله سلام عليك يا ابن نبيّ الله السلام عليك يا ابن أمير المؤمنين السلام عليك يا ابن الحسين الشهيد السلام عليك يا ابن الشهيد وابن الشهيد السلام عليك أيها المظلوم وابن المظلوم لعن الله أمّة قتلتك ولعن الله أمّة ظلمتك ولعن الله أمّة سمعت بذلك فرضيت به.
          ثم انكب على القبر وقبله وقل:
          السلام عليك يا ولي الله وابن وليه لقد عظمت المصيبة وجلّت الرزية بك علينا وعلى جميع المسلمين فلعن الله أمة قتلتك وأبرأ إلى الله وإليك منهم.
          • رثاء وشاعر

          للخطيب الفاضل الشيخ أحمد الوائلي
          قـالــت سـعـاد وقـد تـمـلـك نـاظري مـتـرقـرق مـن أدمـع حــمــــراء
          مـتـحـيـر بـيـن الـخـدود ومحـجـري يـستـــاق بــيـــن مسـرة وشجاء
          إنـي عـهـدتـك لـلـشـجـون مـغـالـباً فـمـتـى ألـفـت تـنـفـس الـصـعـداء
          فـأجـبـتـهـا والـمـوريـات تـحدشـت تـذكـي أوار الـحــزن في أحشائي
          حـزن (ابن ليلى) يسـتـدر مدامعي ومــضـــاء عــزمــتـه يثير هنائي
          نـدب تـحـــــدر مـــن سـلالة فـتـيـة مـلأوا ربـــاع الأرض بــــــالآلاء
          بــدر تـتـوجــه خــلائــق (أحــمــد) بــفـــصـــاحــة وسـمـاحة ومضاء
          مـتـجـلـبـب مـن (حـيـدر) بـشجاعة ومــــن (الـحـسين) مـوشح باباء
          سـل عـنه أكـنـاف الطفوف فكم بها تــركت صـفيحـتـه مـن الأشــــلاء
          وسـل الـقـواضـب والـقـنا عن نثره والنظم فهي بـه مـن الـخـبـــــراء
          مـلك الـوغى بـحسامـه فأحـالـهــــا دهــمـــاء أعــيــت ألـسن البلغاء
          خـرسـت مـقـاولـهـا فـلا مـتـكـــلــم وغــدت تـــشـــيــر إلــيه بالإيماء
          سـيـان عـنـد سـنـانـه وحـسامـــــه يــوم الــهــيــاج قــريـبها والنائي
          بـطـل تـخـب بـه ربـيـبـة سـبـسب يـهـتـز صـلـواهـا مــن الـــخـــيـلاء
          غـراء تـستـبـق الـنـواظر إن سرت أوحـــت لـــذهـــنـك ليلة الإسراء
          غـيـران يـفـتـك بالألــــوف وعمره مــا جــاوز العقدين في الإحصاء
          و (الـسبـط) يـرصـده وفـوق جبينه لـلـنظـارين بــوادر الــــــــــسراء
          وأصـاخ يـسمع رجـزه ويـجـيـبــــه الـــمـيـــدان عند الرجز بالأصداء
          وإذا بـــه يـــدعــــوه أدركــنـي فقد دارت عــلـــي بــجـــمعها أعدائي
          فـانـقـض مــثل الصقر شام فريسة وجلا الصفوف وجال في الأرجاء
          حــتى إذا دفــع العــدى عـن شـبـله آوى إلــيــه بـــلـــوعــة وبــكــاء
          الــفـاه مـنـعـفر الـجـبـيـن تـمازجت حـمـــر الـدماء بوجنة بــيــضــاء
          ورأى شـفار الـمـرهفات تـلاعـبـت بـجـمـال تـلـك الـقـامـة الـهــيـفاء
          فـجـثـا وأقـنـع للـسمـاء بـشيــبـــــة مـغـمـورة بـمـدامـع ودمــــــــــاء
          يا عـدل قـد قـتـلـوا شـبـيـه (محمد) انزل بساحتــهــم عــظــيــم بــلاء

          سكينة بنت الإمام الحسين (عليهما السلام)
          نسبها وولادتها:
          هي آمنة بنـت الحســين بـن علـي بـن أبي طالب. ولـدت في سنة 47 هـ ، وسـميت باسم جدتها أم النبي، أمها الرباب بنت امرئ العتيى بن عدي بن أوس بن جابر، وقد استقبل البيت الهـاشمي قبلهـا مولد أخيها الشقيق عبد الله بن الحسين الذي استشهد مع أبيه (عليه السلام).

          اسمها ولقبها
          هي آمنة بنت الإمام الحسين (عليه السلام)، أما سُكينة فهو لقب لها، ورد في (تاريخ ابن خلكان): (أن (سكينة) سّيدة نساء عصرها كما روي أن اسمها هو (آمنة) وقيل (أمينة) ولكن لشدّة هدوئها وسكونها كنّتها أمها بـ(سكينة) فدرج ذلك اسماً عليها)(57).

          زواجها:
          إن أخبار زواج السيدة سكينة بنت الحسين (عليهما السلام) فيها من التناقض والاضطراب الشيء العجيب، مما لا يُقبل لامرأة بسيطة، والسبب يعود هنا أن ما كتب من تاريخ في العصر الأموي، فيه الكثير من تزييف الحقائق والظلم لكثير ممن عاشوا في تلك الفترة من الزمن، وخصوصا في حق آل النبي، والصحيح من زواج السيدة سكينة إنها تزوجت بـعبد الله الأكبر بن الإمام الحسن (عليه السلام) السبط وهو أخو القاسم وأمهما رملة وقد استشهد يوم الطف قبل أخيه القاسم (رضي الله عنهما).

          سيرتها وأخبارها:
          كانت سلام الله عليها سيدّة نساء عصرها وأجملهن وأوقرهن ذكاءً وعقلاً وعفةً، لذا كانت زينة المجالس ونورها الساطع في المدينة المنورة، كما كان منزلها محلاً لانعقاد المؤتمرات العلميّة والندوات الفقهيّة النسائية.
          السيدة سكينة ، كانت بادية الاعتزاز بنسبها العالي وشرفها الرفيع . وكان خصومها يقرون لها بهذا الاعتزاز ويرونها أهلا لأن تباهي به من تباهي فتسكته.
          روي أن لها السيرة الجميلة والعقل التام، وكانت على منزلة كبيرة من الجمال والأدب والكرم والسخاء الوافر، وروى العلامة المجلسي في مساعدتها للفقراء: (أراد علي بن الحسين (عليهما السلام) الحج فأنفذت إليه أخته سكينة بنت الحسين (عليه السلام) ألف درهم فلحقوه بها بظهر الحرّة، فلما نزل فرّقها على المساكين).

          السيدة سكينة وفاجعة الطف:
          فقد عاشت السيدة سكينة فاجعة كربلاء وكان عمرها تسعة عشر ربيعاً في واقعة الطف حيث سجّلت أروع مواقف البطولة في معارضة الطغيان الأموي فأصيبت بأبيها وبأخويها علي وعبد الله، وعمومتها وزوجها وبني عمومتها وأصحاب أبيها رضوان الله عليهم أجمعين، وقد أثرت فيها مصيبة أخيها الرضيع تأثيراً عظمياً حتى أنها لم تستطع أن تقوم لتوديع أبيها الإمام الحسين (عليه السلام) ولحظ ذلك سيد الشهداء فوقف يكلمها مصبراً وهو يقول:
          سيطول بعدي يا سكينة فأعلمي*** منك البكاء إذا الحمام دهانــــي
          لا تحرقـــــي قلبي بدمعة حسرة*** ما كان مني الروح في جثماني
          فإذا قتلت فأنت أولــــــــى بالذي***تأتينه يا خيـــرة النســوانِِ(58)
          السيدة (سكينة) من تلك السلالة الملائكية، لمع شعاعها في سماء البطولة والإباء فبلغت ذروة الكمال البشري ضاربة أروع مثال في التفاني والتضحية، كيف لا وهي ربيبة منازل الوحي ومدارس الشريعة، بنت الحسين الشهيد وفرع اللبؤة الثكلى السيدة (رباب) سلام الله عليها.
          وحضرت سكينة واقعة الطف مع أبيها الإمام الحسين (عليه السلام)، وشاهدت مصرعه، وروى أنها اعتنقت جسد أبيها بعد قتله فاجتمع عدة من الأعراب حتى جرّوها عنه، وأخذت مع الأسرى والسبايا ورؤوس الشهداء إلى الكوفة ثم إلى الشام، بعدها عادت مع أخيها زين العابدين (عليه السلام) إلى المدينة.
          وروي إن يزيد بن معاوية لما أدخل عليه نساء أهل البيت (عليهم السلام) قال للرباب (أم سكينة) أنت التي كان يقول فيك الحسين وفي ابنتك سكينة:
          لعمرك إنني لأحب داراً***تكون بها سكينة والرباب
          فقالت: نعم، والظاهر من الشعر أنه (عليه السلام) كان يحبها حباً شديداً.

          وفاتها:
          توفيت سكينة (عليها السلام) في الخامس من ربيع الأول سنة 117 هـ عن عمر يناهز الخمسة والسبعين عاماً مع أختها فاطمة بنت الحسين (عليه السلام)، بالمدينة المنورة أيام حكم الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك.
          لكنها ظلّت مشعلاً ينير للأجيال درب الكرامة والعزّة ومكافحة الظلم واسترداد الحقّ السليب بالتفاني بكل نفسٍ ونفيس إذا كان الشرف والدين هو الهدف السامي الذّي يجب الوصول إليه.

          قبرها:
          جامع السيدة سكينة ـ القاهرة
          يقع بحي الخليفة بمدينة القاهرة وأختلف المؤرخون على صحة وجود السيدة سكينة به والمسجد الموجود حاليا يرجع إلى عهد عبد الرحمن كتخدا عام1173 هجري وقامت وزارة الأوقاف في القرن الثالث عشر الهجري بتجديده والسيدة سكينة هي السيدة آمنة بنت الحسين بن على بن أبى طالب (عليهما السلام) وأمها الرباب بنت امرئ القيس بن عدى بن أوس وولدت السيدة سكينة عام 47 هجري.
          الباب الصغير ـ دمشق
          وهناك قبر كتب عليه هذا مقام السيدة سكينة كريمة الإمام الحسين شهيد كربلاء (عليه السلام)، في مدينة دمشق في منطقة تعرف بالباب الصغير.

          </B>الهوامش

          0- ص 255، وفي الأصل : تميمية. 1- أنيس الشيعة للحجة السيد محمد عبد الحسين بن محمد عبد الهادي الجعفري الطياري الهندي الكربلائي ألفه باسم السلطان فتح علي شاه سنة 1241 هـ، قال الحجة الشيخ آغا بزرك في الذريعة: ج 2 ص 458 رأيت الكتاب في النجف عند السيد آغا التستري وهو بالفارسية.
          2- الحدايق الوردية مخطوط.
          3- كامل الزيارات لابن قولويه: ص 240.
          4- الطبري في المنتخب من الذيل ملحق بجزء 12 ص 39، وابن كثير في البداية: ج 9 ص 103 والديمري في حياة الحيوان بمادة البصل.
          5- أنظر الاستيعاب في معرفة الأصحاب - لابن عبد البر، ق 3 ج 3 ص 1066 - 1067 طبعة مصر.
          6- أنظر نفس المهموم، للشيخ القمي.
          7- سورة الزخرف: الآية 31.
          8- وبلفظ: فلما أشرف عليه قومه راجع الاستيعاب.
          9- الاستيعاب، والإصابة: ج 3 ص 112 - 113 المطبوع على هامش الاستيعاب.
          10- نفس المصدر.
          11- الاستيعاب، والإصابة.
          12- نفس المهموم، للشيخ القمي.
          13- نفس المهموم، للشيخ القمي.
          14- سورة القلم: الآية 4.
          15- المناقب: ج 2 112 إيران.
          16- الخصال: ج 1 ص 39.
          17- مستدرك الحاكم: ج 3 ص 211.
          18- اللهوف للسيد ابن طاووس: ص 63 صيدا.
          19- يغلي: الأولى بمعنى يفير، والنهيء: كامير اللحم الني، ويغل: الثانية ضد يرخص.
          20- الشرف: الموضع العالي، والقابل: بمعنى المقبل.
          21- السدى: هو الندى أول الليل، والندى: هو النائل آخر الليل.
          22- مقاتل الطالبيي: ص 31، إيران.
          23- كامل الزيارة لابن قولويه.
          24- شرح لابن أبي الحديد: ج 3 ص 466.
          25- تاريخ الطبري: ج 2 ص 180.
          26- شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 3 ص 454 و 458.
          27- سورة قريش: الآية 1 - 2.
          28- الخصال للصدوق: ج 1 ص 312. والسيرة الحلبية: ج 1 ص 5.
          29- النبراس في تاريخ بني العباس: ص 165 والسيرة الحلبية: ج 1 ص 4.
          30- تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 11، وتاريخ الخميس: ج 1 ص 270.
          31- البحار: ج 9 ص 31.
          32- روضة الواعظين للفتال: ص 69.
          33- في رواية أنه قال: (إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين)، أعيان الشيعة، للسيد الأمين: ج 41 ص 171.
          34- الفتوح، لابن اعم: ج5 ص 123، وبحار الأنوار، للمجلسي: ج 44 ص 379، 380، وتاريخ الإسلام، للذهبي: ج 2 ص 346، والأعيان.. غيرها بتفاوت ملحوظ في صيغ الروايات المدونة.
          35- السيد الأمين في الأعيان.
          36- مقتل الحسين، للخوارزمي: ج 2 ص 11 ومقتل العوالم : ص 85 ورويت الأبيات مع إضافات، كما وقيل أنها للإمام الحسين:

          لنعم الحر حر بني رياح صبور عند مشتبك الرماح


          ونعم الحر في وهج المنايا إذ الأبطال تخطر بالصفاح


          ونعم الحر إذ واسى حسيناً وجاد بنفسه عند الصباح


          فيا ربي أظفه في جنان وزوجه من الحور الملاح


          لقد فاز الأولى نصروا حسيناً وفازوا بالكرامة والفلاح

          37- وقيل إنه ليس الأول، بل لقد أدرجه ابن أعثم في الفتوح: ج 5 ص 207 فجعله آخر من قتل، وهذا ما لا شهرة فيه.
          38- الفتوح: ج 5 ص 207 و 208، ومقتل الحسين، للخوارزمي: ج 2 ص 30، بتفاوت لفظي.
          39- المصدر السابق.
          40- المصدر السابق.
          41- كتاب سر السلسلة العلوية، لأبي نصر البخاري: ص 30 وهو من أعلام القرن الرابع للهجرة. حقق كتابه السيد صادق الصدر طبعة النجف الأشرف.
          42- كتاب نسب قريش، للزبيري ص 57 وهو من أعلام القرن الثالث للهجرة، حقق كتابه المستشرق أفرنستال.
          43- وسيلة الدارين، للزنجاني: ص 292.
          44- نسب قريش للزبيري: ص 57.
          45- سر السلسلة العلوية، للبخاري: ص 30.
          46- الإرشاد، للشيخ المفيد، وغيره كالمقتل، للخوارزمي، وأعيان الشيعة، وفي الفتوح بعض الزيادة عن هذا. وفي الطبري والكامل نقصان عنه. وهكذا بتفاوت جلي.
          47- مقتل الحسين، للخوارزمي: ح 2 ص 30 وفي الفتوح جاء (فلم يزل يقاتل حتى ضج أهل الشام من كثرة من قتل منهم، فرجع إلى بيه وقد أصابته جراحات كثيرة): ج 5 ص 209 بمعنى أن ثمة تسليم بوجود بعض الشاميين.
          48- الفتوح: ج 5 ص 209. ومقتل الحسين، للخوارزمي: ج 2 ص 30 - 31.
          49- الفتوح، لابن أعثم: ج 5 ص 209.
          50- مقتل الحسين، للخوارزمي: ج 2 ص 31.
          51- مقتل الحسين، للسيد المقرم هامش: ص 313.
          52- مقتل الحسين، للمقرم: ص 313.
          53- الطبري: ح 4 ص 340.
          54- وفي كتاب اللهوف، لابن طاووس أنه سدد له سهماً قاتلاً.
          55- الطبري: ج 4 ص 340، واللهوف: ص 44، وابن الأثير: ج 3 ص 293.

          56- سورة الشورى: الآية 23. 57- الشيخ عباس القميّ في (نفس المهموم) شذرات الذهب ج 1 ص 154.
          58- محمد الحسون أعلام النساء المؤمنات دار الأسوة للطباعة

          تعليق


          • #6
            في ظلال القرآن الكريم
            في كتاب الله العظيم - الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - فقد أعلن فضل الإمام الحسين في اطار أهل البيت (عليهم السلام) وله في كتاب الله غنى عن مدح المادحين ووصف الواصفين، وهذه بعض الآيات الناطقة في فضلهم.

            آية التطهير
            قال تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً)(1) ولابد لنا من وقفة قصيرة للبحث عن هذه الآية.
            أ- من هم أهل البيت؟
            وأجمع المفسرون وثقاة الرواة(2) أن أهل البيت هم الخمسة أصحاب الكساء وهم: سيد الكائنات الرسول (صلى الله عليه وآله) وصنوه الجاري مجرى نفسه أمير المؤمنين (عليه السلام) وبضعته الطاهرة عديلة مريم بنت عمران سيدة النساء فاطمة الزهراء التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها، وريحانتاه من الدنيا سبطاه الشهيدان الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، ولم يشاركهم أحد من الصحابة وغيرهم في هذه الآية، ويدل على هذا الاختصاص مايلي:
            أولاً - إن أم سلمة قالت: نزلت هذه الآية في بيتي، وفي البيت فاطمة وعلي والحسن والحسين فجللهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بكساء كان عليه ثم قال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرا) يكرر ذلك، وأم سلمة تسمع وترى فقالت: وأنا معكم يا رسول الله، ورفعت الكساء لتدخل فجذبه منها، وقال لها: (انك على خير) وتواترت الصحاح بذلك(3) ، وهي حسب رواية أم سلمة تدل - بوضوح - على الحصر بهم، وامتيازهم عن غيرهم بهذه المأثرة المشرقة.
            ثانياً - إن الرسول(صلى الله عليه وآله) قد سلك كل مسلك في إعلان اختصاص الآية بهم، فقد روى ابن عباس قال: (شهدت رسول الله (صلى الله عليه وآله) سبعة أشهر يأتي كل يوم باب علي بن أبي طالب عند وقت كل صلاة فيقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) الصلاة رحمكم الله، كل يوم خمس مرات)(4)، وروى أنس بن مالك أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى الفجر فيقول: الصلاة يا أهل البيت (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)(5).
            وقد أكد النبي (صلى الله عليه وآله) اختصاص الآية بأهل بيته ونفاها عن غيرهم إرشاداً للأمة وإلزاماً لها باتباعهم وتسليم قيادتها لهم.
            ثالثاً - احتجاج العترة الطاهرة على اختصاص الآية بهم، فقد قال الإمام الحسن الزكي (عليه السلام) في بعض خطبه:
            (وأنا من أهل البيت الذي كان جبرائيل ينزل إلينا، ويصعد من عندنا، وأنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا)(6).
            وتواترت الأخبار من طرق العترة الطاهرة معلنة اختصاص الآية بالخمسة من أصحاب الكساء وعدم تناولها لغيرهم من اسرة النبي.
            ب - خروج نساء النبي:
            وليس لنساء النبي (صلى الله عليه وآله) أي نصيب في هذه الآية فقد خرجن عنها موضوعاً أو حكماً - كما يقول علماء الأصول - وللتدليل على ذلك نذكر ما يلي:
            1- إن الأهل - في اللغة - موضوع لعشيرة الرجل وذوي قرباه(7) ولا يشمل الزوجة، وأكد هذا المعنى زيد بن أرقم حينما سئل عن أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) هل يشمل زوجاته؟ فأنكر ذلك، وقال:
            (لا - وأيم الله - إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها،.. أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده)(8).
            2- إنا لو سلمنا أن الأهل يشمل الزوجة ويطلق عليها فلابد من تخصيصه بالأخبار المتقدمة فانها توجب التخصيص من دون شك، فقد بلغت حد التواتر اللفظي أو المعنوي.
            ج - مزاعم عكرمة ومقاتل:
            وهناك جماعة من صنائع بني أمية ودعاة الخوارج حاولوا صرف الآية عن العترة الطاهرة، واختصاصها بنساء النبي (صلى الله عليه وآله) متمسكين بسياق الآية ومن الذاهبين إلى ذلك عكرمة، ومقاتل بن سليمان، وكان عكرمة من أشد الناس تحاملاً على أصحاب الكساء، وكان ينادي بذلك في السوق(9) وبلغ من إصراره وعناده أنه كان يقول: (من شاء بأهلته أنها نزلت في أزواج النبي)(10)، ومن الطبيعي أن نداءه في السوق، وعرضه للمباهلة، إنما يدل على بغضه الشديد للعترة الطاهرة التي هي عديلة القرآن الكريم، ولابد لنا من النظر في شؤون عكرمة ومقاتل حتى يتبين اندفاعهما لما زعماه.

            عكرمة في الميزان:
            عكرمة البربري هو أبو عبد الله المدني أصله من البربر كان مولى للحصين ابن أبي الحر العنبري فوهبه لابن عباس لما ولي البصرة من قبل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وبقي رقاً حتى توفي ابن عباس فباعه علي بن عبد الله ثم استرده(11) وقد جرح في عقيدته واتهم في سلوكه، فقد ذكر المترجمون له ما يلي:
            1- إنه كان من الخوارج(12) وقد وقف على باب المسجد فقال ما فيه إلا كافر(13) لأن الخوارج ذهبوا إلى كفر المسلمين، أما موقفهم من الإمام أمير المؤمنين فمعروف بالنصب والعداء.
            2- إنه عرف بالكذب، وعدم الحريجة منه، وقد اشتهر بهذه الظاهرة فعن ابن المسيب أنه قال لمولاه برد: (لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس)(14)، وعن عثمان بن مرة أنه قال للقاسم: إن عكرمة حدثنا عن ابن عباس كذا، فقال القاسم: يا بن أخي إن عكرمة كذاب يحدث غدوة حديثاً يخالفه عشيا(15).
            ومع اتهامه بالكذب لا يمكن التعويل على أي رواية من رواياته فان اقتراف الكذب من أظهر الأسباب التي توجب القدح في الراوي.
            3 - إنه كان فاسقاً يسمع الغناء، ويلعب بالنرد، ويتهاون في الصلاة وكان خفيف العقل(16).
            4- أن المسلمين قد نبذوه وجفوه، وقد توفي هو وكُثيرعَزة في يوم واحد فشهد الناس جنازة كُثير ولم يشهدوا جنازته(17).
            ومع هذه الطعون التي احتفت به كيف يمكن الاعتماد على روايته والوثوق بها وقد اعتمد عليه البخاري وتجنبه مسلم(18) قال البخاري: ليس أحد من أصحابنا إلا وهو يحتج بعكرمة(19) ومن الغريب أن البخاري يعتمد في رواياته على عكرمة وأمثاله من المطعونين في دينهم، ويتحرج من رواية العترة الطاهرة التي هي عديلة القرآن الكريم.
            مقاتل بن سليمان:
            أما مقاتل بن سليمان بن بشير الأزدي الخراساني، فهو كصاحبه عكرمة كان متهماً في دينه، وذكر المترجمون له مايلي:
            1- إنه كان كذاباً، قال النسائي: كان مقاتل يكذب(20) وكذلك قال وكيع: وقال اسحاق بن إبراهيم الحنظلي: أخرجت خراسان ثلاثة لم يكن لهم نظير - يعني في البدعة والكذب -: جهم ومقاتل، وعمر بن صبح، وقال خارجة بم مصعب: كان جهم ومقاتل عندنا فاسقين فاجرين(21) ومع اتهامه بالكذب لا يصح الأعتماد على روايته، ويسقط حديثه عن الإستدلال به.
            2- إنه كان متهماً في دينه، وكان يقول بالتشبيه، قال ابن حبان: كان مقاتل يأخذ عن اليهود والنصارى علم القرآن الذي يوافق كتبهم، وكان مشبهاً يشبه الرب سبحانه بالمخلوقين وكان يكذب في الحديث(22) وقد استحل بعض الأخيار دمه يقول خارجة: لم استحل دم يهودي ولا ذمي، ولو قدرت على مقاتل بن سليمان في موضع لا يرانا فيه أحد لقتلته(23).
            3- عرف مقاتل بالنصب والعداء لأمير المؤمنين (عليه السلام) وكان دأبه صرف فضائل الإمام (عليه السلام) وقد أثر عن الإمام أنه كان يقول: (سلوني قبل أن تفقدوني) فأراد مقاتل أن يجاريه في ذلك فكان يقول: (سلوني عما دون العرش) فقام إليه رجل فقال له: إخبرني عن النملة أين أمعاؤها فسكت ولم يطق جواباً(24) وقال مرة: سلوني عما دون العرش فقام إليه رجل فقال له: إخبرني من حلق رأس آدم حين حج؟ فحار ولم يطق جواباً(25).
            وهذه البوادر تدل على فساد آرائه، وعدم التعويل على أي حديث من أحاديثه.

            وهن استدلالهما:
            واستدل عكرمة ومقاتل بسياق الآية على أنها نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وآله ولا تشمل أهل بيته، وقد عرض الإمام شرف الدين بصورة موضوعية إلى إبطال ذلك، قال رحمة الله: ولنا في رده وجوه:
            (الأول): إنه اجتهاد في مقابل النصوص الصريحة، والأحاديث المتواترة الصحيحة.
            (الثاني): إنها لو كانت خاصة في النساء - كما يزعم هؤلاء - لكان الخطاب في الآية بما يصلح للاناث، ولقال عز من قائل: عنكن ويطهركن، كما في غيرهما في آياتهن، فتذكير ضمير الخطاب فيها دون غيرها من آيات النساء كاف في رد تضليلهم.
            (الثالث): إن الكلام البليغ يدخله الاستطراد والاعتراض وهو تخلل الجملة الأجنبية بين الكلام المتناسق، كقوله تعالى في حكاية خطاب العزيز لزوجته إذ يقول لها: (إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك) فقوله: (يوسف أعرض عن هذا) مستطرد بين خطابيه معها - كما ترى - ومثله قوله تعالى: (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون وأني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بما يرجع المرسلون) فقوله: (وكذلك يفعلون) مستطرد من جهة الله تعالى بين كلام بلقيس، ونحوه قوله عز من قائل: (فلا اقسم بمواقع النجوم، وإنه لقسم لو تعلمون عظيم. وإنه لقرآن كريم) تقديره أفلا أقسم بمواقع النجوم. إنه لقرآن كريم، وما بينهما استطراد على استطراد وهذا كثير في الكتاب والسنة وكلام العرب وغيرهم من البلغاء.
            وآية التطهير من هذا القبيل جاءت مستطردة بين آيات النساء، فتبين بسبب استطرادها أن خطاب الله لهن بتلك الأوامر والنواهي والنصائح والآداب لم يكن إلا لعناية الله تعالى بأهل البيت (أعني الخمسة) لئلا ينالهم (ولو من جهتهن) لوم أو ينسب إليهم (ولو بواسطة) هناة أو يكون عليهم للمنافقين (ولو بسببهن) سبيل ولولا هذا الاستطراد ما حصلت النكتة الشريفة التي عظمت بها بلاغة الذكر الحكيم، وكمل اعجازه الباهر كما لا يخفى(26).
            ورأي الإمام شرف الدين رأي وثيق فقد قطع به تأويل المتأولين، ودحض به أوهام المعاندين، وتمت به الحجة على المناوئين.
            دلالتها على العصمة
            ودلت الآية بوضوح على عصمة الخمسة من أهل البيت (عليه السلام) فقد أذهب تعالى عنهم الرجس - أي المعاصي- وطهرهم منها تطهيرا وهذا هو واقع العصمة وحقيقتها.
            وقد تصدرت الآية للدلالة على ذلك بكلمة (إنما) التي هي من أقوى أدوات الحصر، ويضاف إليه دخول اللام في الكلام الخبري، وتكرار لفظ الطهارة، وكل ذلك يدل - بحسب الصناعة - على الحصر والاختصاص وإرادة الله في ذلك إرادة تكوينية يستحيل فيها تخلف المراد عن الإرادة (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون).
            ويقول الإمام شرف الدين: إنها دلت بالالتزام على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) لأنه أدعى الخلافة لنفسه، وادعاها له الحسنان وفاطمة، ولا يكونون كاذبين، لأن الكذب من الرجس الذي أذهبه الله عنهم، وطهرهم منه تطهيرا(27).

            آية المودة
            وفرض الله على المسلمين مودة أهل البيت (عليه السلام) قال تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً أن الله غفور شكور)(28).
            ذهب جمهور المسلمين إلى أن المراد بالقربى هم علي وفاطمة وابناهما الحسن والحسين وان اقتراف الحسنة إنما هي في مودتهم ومحبتهم، وفيما يلي بعض ما أثر في ذلك:
            1- روى ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين أوجبت علينا مودتهم؟ قال (صلى الله عليه وآله): (علي وفاطمة وابناهما)(29).
            2- روى جابر بن عبد الله قال: جاء أعرابي إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا محمد اعرض علي الإسلام، فقال (صلى الله عليه وآله): تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، قال الأعرابي: تسألني عليه أجراً؟
            قال (صلى الله عليه وآله) لا إلا المودة في القربى.
            الأعرابي: قرباي أم قرباك؟
            الرسول (صلى الله عليه وآله): قرباي
            الأعرابي: هات أبايعك. فعلى من لا يحبك، ولا يحب قرباك لعنة الله.
            قال (صلى الله عليه وآله): (آمين)(30).
            3- احتجاج العترة الطاهرة بأنها نزلت فيهم فقد خطب سبط الرسول (صلى الله عليه وآله) الأول وريحانته الإمام الحسن (عليه السلام) فقال في جملة خطابة:
            (وأنا من أهل البيت الذين أفترض الله مودتهم على كل مسلم فقال تبارك وتعالى: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى، ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا) فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت)(31).
            واحتج بها سيد الساجدين والعابدين الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) لما جيء به أسيراً إلى الطاغية يزيد وأقيم على درج دمشق انبرى إليه رجل من أهل الشام فقال له:
            (الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم، وقطع قرني الفتنة).
            فنظر إليه الإمام فرأه مغفلاً قد خدعته الدعايات المضللة وحادت به عن الطريق القويم فقال له:
            (اقرأت القرآن؟).
            (نعم).
            (اقرأت آل حم؟).
            (قرأت القرآن، ولم أقرأ آل حم).
            (ما قرأت (لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى)؟).
            فذهل الرجل ومشت الرعدة باوصاله وسارع يقول:
            (وانكم لأنتم هم؟).
            (نعم)(32).
            وقال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): فينا آل حم آية لا يحفظ مودتنا إلا كل مؤمن ثم قرأ (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى)(33).
            كلمة الفخر الرازي:
            وعلق الفخر الرازي على هذه الآية مشيداً بآل النبي (صلى الله عليه وآله) قال ما نصه:
            (وإذا ثبت هذا - يعني اختصاص الآية بآل البيت (عليهم السلام) - وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم قال ويدل عليه وجوه:
            (الأول): قوله تعالى: (إلا المودة في القربى) ووجه الاستدلال به ما سبق وهو ما ذكره من قبل أن آل محمد (صلى الله عليه وآله) هم الذين يؤول أمرهم إليه فكل من كان أمرهم إليه أشد وأكمل كانوا هم الآل، ولا شك أن فاطمة وعلياً والحسن والحسين كان التعلق بهم وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله) أشد التعلقات، وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر، فوجب أن يكونوا هم الآل.
            (الثاني): لا شك أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يحب فاطمة (عليها السلام) قال (صلى الله عليه وآله): (فاطمة بضعة مني يؤذني ما يؤذيها) وثبت بالنقل المتواتر عن محمد (صلى الله عليه وآله) أنه كان يحب علياً والحسن والحسين عليهم السلام، وإذا ثبت ذلك وجب على كل الأمة مثله لقوله تعالى: (واتبعوه لعلكم تهتدون) ولقوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) ولقوله: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعون يحببكم الله) ولقوله سبحانه: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة).
            (الثالث): إن الدعاء للآل منصب عظيم، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في الصلاة وهو قوله: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وارحم محمداً وآل محمد) واجب...(34).
            أن مودة أهل البيت (عليهم السلام) من أهم الواجبات الإسلامية، ومن أقدس الفروض الدينية يقول الإمام محمد بن إدريس الشافعي:
            يا أهل بيت رسول الله حــــــبكم فــــرض من الله فـــي القرآن أنزله
            كفا كم من عظيم القدر أنكــــــم من لم يصل عليكم لا صلاة له(35)
            وقال ابن العربي:
            رأيت ولائــــي آل طــــــه فريضـــــة على رغم أهل البعد يورثني القربى
            فما طلب المبعوث أجراً على الهدى بتبليغــــه إلا المــــــــودة في القربى
            ويقول شاعر الإسلام الكميت:
            وجدنا لكم في آل حم آية تأولها منا تقي ومعرب
            إن في مودة آل البيت (عليه السلام) أداءاً لأجر الرسالة، وصلة للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وشكراً له على ما لاقاه من عظيم العناء والجهد في سبيل انقاذ المسلمين من الشرك، وتحرير عقولهم من الخرافات، وقد جعل تعالى حق نبيه العظيم على هذه الأمة أن توالي عترته، وتكن لها المودة والولاء.

            آية المباهلة
            من آيات الله البينات التي أعلنت فضل أهل البيت عليهم السلام آية المباهلة قال تعالى: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين)(36).
            واتفق المفسرون ورواة الحديث أنها نزلت في أهل البيت(37).
            وأن أبناءنا إشارة إلى (الحسنين) ونساءنا إشارة إلى (فاطمة)، وأنفسنا إلى علي.. نزلت الآية الكريمة في واقعة تاريخية بالغة الخطورة جرت بين قوى الإسلام وبين القوى الممثلة للنصارى، وموجز هذه الحادثة أن وفداً من نصارى نجران قدموا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليناظروه في الإسلام، وبعد حديث دار بينهم وبين النبي (صلى الله عليه وآله) اتفقوا على الابتهال أمام الله ليجعل لعنته، وعذابه على الكاذبين والحائدين عن الحق، وعينوا وقتاً خاصاً لذلك، وانصرف وفد النصارى على موعد للعودة للمباهلة حتى يستبين أمر الله ويظهر الحق ويزهق الباطل، وقد هامت نفوسهم بتيارات من الهواجس والأحاسيس، لا يعلمون أن النبي (صلى الله عليه وآله) وقد اختار للمباهلة أفضل الناس وأكرمهم عند الله، وهم باب مدينة علمه وأبو سبطيه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وبضعته فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة.
            وأقبل (صلى الله عليه وآله) وقد احتضن الحسين، وأمسك بيده الأخرى الحسن وسارت خلفه الزهراء مغشاة بملأة من نور الله، يسير خلفها الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو باد الجلال..
            وخرج السيد والعاقب بولديهما وعليهما الحلي والحلل، ومعهم نصارى نجران وفرسان بني الحرث على خيولهم وهم على أحسن هيأة واستعداد، واحتشدت الجماهير وقد اشرأبت الأعناق تراقب الحادث الخطير، وساد الوجوم وصار الكلام همساً، ولما رأت النصارى هيأة الرسول مع أهل بيته وهي تملأ العيون، وتعنو لها الجباه امتلأت نفوسهم رعباً وهلعاً من هيبة الرسول وروعة طلعته، وجثا النبي (صلى الله عليه وآله) للمباهلة بخضوع فتقدم اليه السيد والعاقب وقد سرت الرعدة في نفوسهم قائلين:
            (يا أبا القاسم بمن تباهلنا؟).
            فاجابهم (صلى الله عليه وآله) بكلمات تمثلت فيها روعة الإيمان والخشية من الله قائلاً:
            (أباهلكم بخير أهل الأرض، وأكرمهم إلى الله، وأشار إلى علي وفاطمة والحسنين).
            وانبريا يسألان بتعجب قائلين:
            (لم لا تباهلنا بأهل الكرامة، والكبر وأهل الشارة ممن آمن بك واتبعك؟!!).
            فانطلق الرسول (صلى الله عليه وآله) يؤكد لهم أن أهل بيته أفضل الخلق عند الله قائلاً:
            (أجل أباهلكم بهؤلاء خير أهل الأرض وأفضل الخلق).
            فذهلوا، وعرفوا أن الرسول (صلى الله عليه وآله) على حق، وقفلوا راجعين إلى الأسقف زعيمهم يستشيرونه في الأمر قائلين له:
            (يا أبا حارثة ماذا ترى في الأمر؟).
            (أرى وجوهاً لو سأل الله بها أحد أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله)
            ولا يكتفي بذلك، وانما دعم قوله بالبرهان، واليمين قائلاً:
            (أفلا تنظرون محمداً رافعاً يديه، ينظر ما تجيئان به، وحق المسيح - إن نطق فوه بكلمة - لا نرجع إلى أهل، ولا إلى مال !!!).
            وجعل ينهاهم عن المباهلة ويهتف فيهم قائلاً:
            (ألا ترون الشمس قد تغير لونها، والأفق تنجع فيه السحب الداكنة، والريح تهب هائجة سوداء، حمراء، وهذه الجبال يتصاعد منها الدخان، لقد أطل علينا العذاب أنظروا إلى الطير وهي تقي حواصلها وإلى الشجر كيف تتساقط أوراقها، وإلى هذه الأرض كيف ترجف تحت أقدامنا!!!).
            لقد غمرتهم تلك الوجوه العظيمة، رأوا بالعيان ما لها من مزيد الفضل والكرامة عند الله، ويتدارك النصارى الأمر فأسرعوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله) قائلين:
            (يا أبا القاسم. إقلنا أقال الله عثرتك).
            ويخضعون لما شرطه النبي (صلى الله عليه وآله) عليهم، وأعلن بعد ذلك أنهم لو استجابوا للمباهلة لهلكت النصارى قائلاً:
            (والذي نفسي بيده أن العذاب تدلى على أهل نجران، ولو لاعنوا لمُسخوا قردة وخنازير، ولا ضطرم عليهم الوادي ناراً، ولا ستأصل الله نجران وأهله، حتى الطير على الشجر، وما حال الحول على النصارى كلهم...)(38).
            وأوضحت هذه الحادثة الخطيرة مدى أهمية أهل البيت (عليهم السلام) وأنهم لا مثيل لهم في المجتمع الإسلامي الحافل آنذاك بالمجاهدين والمكافحين في سبيل الإسلام ولو أن النبي (صلى الله عليه وآله) وجد من هو خير منهم ورعا وتقوى لاختارهم للمباهلة، بل لو كان هناك من يساويهم في الفضل لامتنع أن يقدم أهل بيته عليهم لقبح الترجيح بلا مرجح - كما يقول علماء الأصول - كما أنه (صلى الله عليه وآله) لم ينتدب للمباهلة أحداً من عشيرته الأقربين فلم يدع صنو أبيه وعمه العباس بن عبد المطلب، ولم يدع أحداً من أبناء الهاشميين ليضمه إلى سبطية وكذلك لم يدع واحدة من امهات المؤمنين وهن كن في حجراته بل لم يدع شقيقة أبيه صفية ولا غيرها ليضمها إلى بضعته سيدة نساء العالمين ولم يدع غيرها من عقائل الشرف وخفرات عمرو العلى وشيبة الحمد ولا واحدة من نساء الخلفاء الثلاثة وغيرهم من المهاجرين والأنصار، وجميع أسرته كانوا بمرأى منه ومسمع، والغرض من ذلك التدليل على فضل أهل بيته وعظيم شأنهم عند الله (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم).
            يقول الإمام شرف الدين رحمه الله: (وأنت تعلم أن مباهلته (صلى الله عليه وآله) بهم والتماسه منهم التأمين على دعائه بمجرده لفضل عظيم، وانتخابه إياهم لهذه المهمة العظيمة، واختصاصهم بهذا الشأن الكبير، وإيثارهم فيه على من سواهم من أهل السوابق، فضل على فضل لم يسبقهم إليه سابق ولن يلحقهم فيه لاحق، ونزول القرآن العزيز آمراً بالمباهلة بهم بالخصوص فضل ثالث، يزيد فضل المباهلة ظهوراً، ويضيف إلى شرف اختصاصهم بها شرفاً، وإلى نوره نوراً(39).
            كما دلت الآية - بوضوح - على أن الإمام أمير المؤمنين هو نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورسول الله أفضل من جميع خلق الله فعلي كذلك بمقتضى المساواة بينهما، وقد أدلى بهذا الفخر الرازي في تفسيره الكبير قال: (كان في الري رجل يقال له محمود بن الحسن الحمصي، وكان معلم الاثنى عشرية وكان يزعم أن علياً أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد (صلى الله عليه وآله) واستدل على ذلك بقوله تعالى: (وأنفسنا وأنفسكم) إذ ليس المراد بقوله: (وأنفسنا) نفس محمد (صلى الله عليه وآله)، لأن الإنسان لا يدعو نفسه بل المراد غيرها، وأجمعوا على أن ذلك الغير كان علي بن أبي طالب، فدلت الآية على أن نفس علي هي نفس محمد، ولا يمكن أن يكون المراد أن هذه النفس هي عين تلك، فالمراد أن هذه النفس مثل تلك النفس، وذلك يقتضي المساواة بينهما في جميع الوجوه، تركنا العمل بهذا العموم في حق النبوة، وفي حق الفضل بقيام الدلائل على أن محمداً (صلى الله عليه وآله) كان نبياً، وما كان علي كذلك، ولا نعقاد الاجماع على أن محمداً (صلى الله عليه وآله) كان أفضل كان أفضل من سائر الأنبياء (عليه السلام) فيلزم أن يكون على أفضل من سائر الأنبياء...)(40).

            آية الأبرار
            ومن آيات الله الباهرات التي أشادت بفضل العترة الطاهرة، آية الأبرار، قال تعالى: (إن الابرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيرا)(41).
            روى جمهور المفسرين والمحدثين أنها نزلت في أهل البيت (عليهم السلام)(42) وكان السبب في ذلك أن الحسن والحسين (عليهم السلام) مرضا فعادهما جدهما الرسول (صلى الله عليه وآله) مع كوكبة من أصحابه، وطلبوا من علي أن ينذر لله صوماً إن عافاهما مما ألم بهما من السقم فنذر أمير المؤمنين صوم ثلاثة أيام، وتابعته الصديقة عليها السلام وجاريتها فضة في ذلك، ولما أبل الحسنان من المرض صاموا جميعاً، ولم يكن عند الإمام في ذلك الوقت شيء من الطعام ليجعله إفطاراً لهم فاستقرض سلام الله عليه ثلاثة أصواع من الشعير، فعمدت الصديقة في اليوم الأول إلى صاع فطحنته وخبزته فلما آن وقت الإفطار وإذا بمسكين يطرق الباب يستمنحهم شيئاً من الطعام فعمدوا جميعاً إلى هبة قوتهم إلى المسكين واستمروا في صيامهم لم يتناولوا سوى الماء.
            وفي اليوم الثاني عمدت بضعة النبي (صلى الله عليه وآله) إلى تهيأة الطعام الذي كان قوامه خبز الشعير، ولما حان وقت الغروب واذا بيتيم قد أضناه الجوع وهو يطلب الاسعاف منهم فتبرعوا جميعاً بقوتهم، ولم يتناولوا سوى الماء.
            وفي اليوم الثالث قامت سيدة النساء فطحنت ما فضل من الطعام وخبزنه فلما حان وقت الإفطار قدمت لهم الطعام، وسرعان ما طرق الباب أسير قد ألم به الجوع فسحبوا أيديهم من الطعام ومنحوه له.
            سبحانك اللهم أي مبرة أعظم من هذه المبرة!!! أي إيثار أبلغ من هذا الإيثار، إنه إيثار ما قصد به إلا وجه الله الكريم.
            ووفد عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) في اليوم الرابع فرآهم، ويا لهول ما رأى رأى أجساماً مرتعشة من الضعف ونفوساً قد ذابت من الجوع، فتغير حالة وطفق يقول:
            (واغوثاه أهل بيت محمد يموتون جياعاً!!!).
            ولم ينه الرسول كلامه حتى هبط عليه أمين الوحي وهو يحمل المكافأة العظمى لأهل البيت والتقييم لإيثارهم الخالد.. إنها مكافأة لا توصف بكيف ولا تقدر بكم، فهي مغفرة ورحمة ورضوان من الله ليس لها حد، فقد (جزاهم بما صبروا جنة وحريرا. متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريرا. وانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا. ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا، قوارير من فضة قدروها تقديرا ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلا).
            إنه عطاء سمح وجزيل فقد حباهم ربهم في الدار الآخرة من عظيم النعم والكرامات، وأجزل لهم المزيد من مغفرته ورضوانه.
            وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض الآيات الكريمة التي نزلت في أهل البيت (عليهم السلام) ومما لا شك فيه أن الإمام الحسين (عليه السلام) من المعنيين بتلك الآيات الكريمة النازلة من السماء، وقد أبرزت مدى مقامه العظيم عند الله.

            1 - سورة الأحزاب آية 22.
            2 - تفسير الفخر ج 6 ص 783، النيسابوري في تفسير سورة الأحزاب صحيح مسلم ج 2 ص 331، ما نزل من القرآن في أهل البيت ص 41، من المخطوطات المصورة في مكتبة الإمام الحكيم نقلت من الخزانة المستنصرية سنة 666 هـ تأليف الحسين بن الحكم الخنزي، الخصائص الكبرى ج 2 ص 264، الرياض النضرة ج 2 ص 188، خصائص النسائي، تفسير ابن جرير ج22 ص 5 مسند أحمد بن حنبل ج 4 ص107، سنن البيهقي ج 2 ص 150 مشكل الأثار ج 1 ص 334. وقد أورد جلال الدين السيوطي في (الدر المنثور) عشرين رواية من طرق مختلفة في اختصاص الآية بأهل البيت، وأورد ابن جرير في تفسيرة خمس عشرة رواية بأسانيد مختلفة في قصر الآية عليهم بالخصوص.
            3 - مستدرك الحاكم ج 2 ص 416، أسد الغابة ج 5 ص 521.
            4 - الدر المنثور ج 5 ص 199.
            5 - مجمع الزوائد ج 9 ص 169، أنساب الأشراف ج1 ق1 ص 157.
            6 - مستدرك الحاكم ج 3 ص 172.
            7 - القاموس المحيط ج 1 ص 331، أقرب الموارد.
            8 - تفسير ابن كثير ج 3 ص 486، صحيح مسلم ج 2 ص 238.
            9 - أسباب النزول للواحدي (ص 268).
            10 - الدر المنثور ج 5 ص 198.
            11 - تهذيب التهذيب ج 7 ص 263.
            12 - ميزان الاعتدال ج 3 ص 95، طبقات القراء ج 1 ص 15، طبقات ابن سعد ج 5 ص 216.
            13- ميزان الاعتدال ج 3 ص 95.
            14- ميزان الاعتدال ج 3 ص 96.
            15- معجم الأدباء.
            16 - تهذيب التهذيب ج 7 ص 263.
            17- تهذيب التهذيب ج7 ص 271.
            18_ميزان الاعتدال ج 3 ص 93.
            19 - تهذيب التهذيب ج 7 ص 271.
            20 _ميزان الإعتدال ج 4 ص 173.
            21- تهذيب التهذيب ج 10 ص 281.
            22- تهذيب التهذيب ج 10 ص 284، ميزان الاعتدال ج 4 ص 175.
            23- تهذيب التهذيب ج 10 ص 281.
            24- تهذيب التهذيب ج 10 ص 283.
            25- وفيات الأعيان.
            26- الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء (عليها السلام) ص 196 - ص 197.
            27- الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء (عليها السلام) ص 201.
            28- سورة آل حم الشورى: آية 23.
            29- مجمع الزوائد ج 7 ص 103، ذخائر العقبى ص 25، نور الأبصار ص 101، الدر المنثور.
            30- حلية الأولياء ج 3 ص 201.
            31- حياة الإمام الحسن ج 1 ص 68.
            32- تفسير الطبري ج 25 ص 16.
            33- كنز العمال ج 1 ص 218، الصواعق المحرقة ص 101.
            34- تفسير الرازي في ذيل تفسير آية المودة في سورة الشورى.
            35- الصواعق المحرقة ص 88.
            36- سورة آل عمران: آية 60.
            37- تفسير الرازي ج 2 ص 699، تفسير البيضاوي ص 76 تفسير الكشاف ج 1 ص 49، تفسير روح البيان ج 1 ص 457، تفسير الجلالين ج 1 ص 35، صحيح الترمذي ج 2 ص 166، سنن البيهقي ج 7 ص 63، صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة، مسند أحمد بن حنبل ج 1 ص 185، مصابيح السنة للبغوي ج 2 ص 201، سير أعلام النبلاء ج 3 ص 193.
            38_نور الأبصار ص 100.
            39- الكلمة الغراء ص 184.
            40_تفسير الرازي ج 2 ص 488.
            41- سورة هل أتى.
            42- تفسير الفخر ج 8 ص 392، أسباب النزول للواحدي ص 133 النيسابوري في تفسير سورة هل أتى، روح البيان ج 6 ص 546، الدر المنثور ينابيع المودة ج 1 ص 93، الرياض النضرة ج 2 ص 227، إمتاع الأسماع للمقريزي ص 502.

            تعليق


            • #7
              الإمام الحسين في ظلال السنة

              في السنة النبوية كوكبة ضخمة من الأحاديث نطق بها الرسول العظيم (صلى الله عليه وآله) أبرزت معالم شخصية الإمام الحسين (عليه السلام) وحددت أبعاد فضله على سائر المسلمين... وقد تضافرت النصوص بذلك، وتواترت وهي على طوائف بعضها ورد في أهل البيت (عليهم السلام) مما هو شامل للإمام الحسين قطعاً، وبعضها الآخر ورد فيه وفي أخيه الحسن (عليه السلام)، وطائفة ثالثة وردت فيه خاصة، وفيما يلي ذلك:

              الطائفة الأولى
              أما ما أثر عن النبي (صلى الله عليه وآله) في فضل عترته ولزوم مودتهم فطائفة كبيرة من الأخبار وفيما يلي بعضها:
              1- روى أبو بكر قال رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله): خيم خيمة وهو متكئ على قوس عربية، وفي الخيمة علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) فقال: (معشر المسلمين أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة، وحرب لمن حاربهم وولي لمن والاهم، لا يحبهم إلا سعيد الجد، ولا يبغضهم إلا شقي الجد رديء الولادة)
              2- روى زيد بن أرقم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام: (أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم) (1).
              3- روى أحمد بن حنبل بسنده أن النبي (صلى الله عليه وآله) أخذ بيد الحسن والحسين وقال: (من أحبني وأحب هذين وأباهما، وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة) (2).
              4- روى جابر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ذات يوم بعرفات، وعلي تجاهه (ادنو مني يا علي خلقت أنا وأنت من شجرة أنا أصلها وأنت فرعها، والحسن والحسين أغصانها فمن تعلق بغصن منها أدخله الله الجنة..) (3).
              5- روى ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (النجوم أمان لأهل الارض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف، فاذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب ابليس...) (4).
              6- روى زيد بن أرقم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما...) (5).
              إن حديث الثقلين من أروع الأحاديث النبوية وأكثرها ذيوعاً وانتشاراً بين المسلمين، وقد تكرر هذا الحديث من النبي (صلى الله عليه وآله) في مواضع كثيرة نشير إلى بعضها:
              أ- أعلن (صلى الله عليه وآله) ذلك وهو في حجه يوم عرفة فقد روى جابر بن عبد الله الأنصاري قال: رأيت رسول الله في حجته يوم عرفى وهو على ناقته القصوى يخطب فسمعته يقول: (يا أيها الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي..) (6).
              ب - أنه (صلى الله عليه وآله) أدلى بذلك في يوم الغدير، فقد روى زيد بن أرقم قال: نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) (الجحفة) ثم أقبل على الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إني لا أجد لنبي إلا نصف عمر الذي قبله، وإني أوشك أن أدعى فاجيب، فما أنتم قائلون؟
              قالوا: (نصحت).
              قال: (أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وأن الجنة حق، وأن النار حق؟).
              قالوا: (نشهد).
              فرفع (صلى الله عليه وآله) يده فوضعها على صدره، ثم قال: (وأنا أشهد معكم) والتفت (صلى الله عليه وآله) إليهم فقال:
              (الا تسمعون؟).
              (نعم).
              (فإني فرط على الحوض، وأنتم واردون على الحوض، وإن عرضه ما بين صنعاء وبصرى فيه أقداح عدد النجوم من فضة، فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين؟).
              فناداه مناد وما الثقلان يا رسول الله؟
              قال (صلى الله عليه وآله): (كتاب الله طرف بيد الله عز وجل وطرف بأيديكم فتمسكوا به والآخر عشيرتي) (7) وأن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فسألت ذلك لهما ربي، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما، ولا تعلموهما فهم أعلم منكم، ثم أخذ بيد علي (عليه السلام) فقال: من كنت أولى به من نفسه، فعلي وليه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) (8).
              ج - أعلن (صلى الله عليه وآله) ذلك وهو على فراش الموت، فقد التفت (صلى الله عليه وآله) إلى أصحابه فقال لهم:
              (أيها الناس، يوشك أن أقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي، وقد قدمت إليكم القول معذرة إليكم إلا إني مخلف فيكم كتاب ربي عز وجل، وعترتي أهل بيتي، ثم أخذ بيد علي فرفعها، فقال هذا علي مع القرآن، والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا علي الحوض فاسألهما ما خلفت فيهما..) (9).
              أن حديث الثقلين من أوثق الأحاديث النبوية وأوفرها صحة، وقد ذكر المناوي عن السمهودي أنه قال: وفي الباب ما يزيد على عشرين من الصحابة(10)، وكلهم قد رووا هذا الحديث وقال ابن حجر: ولهذا الحديث طرق كثيرة عن بضع وعشرين صحابياً(11).
              ويدل هذا الحديث دلالة صريحة واضحة على حصر الإمامة في أهل البيت (عليهم السلام) وعلى عصمتهم من الآثام والأهواء لأن النبي (صلى الله عليه وآله) قرنهم بكتاب الله العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن الطبيعي أن أي إنحراف منهم عن الدين يعتبر افتراقاً عن الكتاب العزيز، وقد صرح (صلى الله عليه وآله) بعدم افتراقهما حتى يردا عليه الحوض فدلالته على العصمة ظاهرة جليه لا خفاء فيها، كما أكد النبي (صلى الله عليه وآله) في هذا الحديث على أمته أن لا تتقدم عليهم، وأن تسلم إليهم قيادتها لئلا تهلك في مجال هذه الحياة والبحث عن معطيات هذا الحديث الشريف يستدعي وضع كتاب خاص فيه، وقد عرض جماعة من العلماء بصورة موضوعية وشاملة للبحث عنه(12).
              7- روى أبو سعيد الخدري، قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: (إنما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني اسرائيل من دخله غفر له..) (13).
              وفي هذا الحديث دعوة خلاقة وملزمة إلى التمسك بالعترة الطاهرة فإنه ضمان لنجاة الأمة وسلامتها، كما أن في البعد عنها غواية وهلاكاً، يقول الإمام شرف الدين في بيان هذا الحديث:
              (وأنت تعلم أن المراد من تشبيههم (عليهم السلام) بسفينة نوح أن من لجأ إليهم في الدين فأخذ فروعه وأصوله عن أئمتهم نجا من عذاب النار ومن تخلف عنهم كان كمن آوى (يوم الطوفان) إلى جبل ليعصمه من أمر الله، غير أن ذاك غرق في الماء، وهذا في الحميم - والعياذ بالله - والوجه في تشبيههم (عليهم السلام) بباب حطة هو أن الله تعالى جعل ذلك الباب مظهراً من مظاهر التواضع لجلاله والبخوع لحكمه، وبهذا كان سبباً للمغفرة.
              هذا وجه الشبه، وقد حاوله ابن حجر إذ قال: - بعد أن أورد هذه الأحاديث وغيرها من أمثالها -.
              (ووجه تشبيههم بالسفينة أن من أحبهم وعظمهم شكراً لنعمة شرفهم وأخذ بهدي علمائهم نجا من ظلمة المخالفات، ومن تخلف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم، وهلك في مفاوز الطغيان إلى أن قال: (وباب حطة - يعني ووجه تشبيههم بباب حطة - أن الله جعل دخول ذلك الباب الذي هو باب أريحا أو بيت المقدس مع التواضع والاستغفار سببا للمغفرة، وجعل لهذه الأمة مودة أهل البيت سبباً لها..) (14).
              واستدل المتكلمون من الشيعة بهذا الحديث على حصر الإمامة في أهل البيت (عليهم السلام) لأن النبي (صلى الله عليه وآله) جعلهم كسفينة نوح تميزاً لهم عن غيرهم فالرجوع إليهم سبب للنجاة والتخلف عنهم سبب للضلالة والهلاك.
              8- قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): معرفة آل محمد براءة من النار، وحب آل محمد جواز على الصراط، والولاية لآل محمد أمان من العذاب) (15).
              9- قال (صلى الله عليه وآله): (من مات على حب آل محمد مات شهيداً، إلا ومن مات على حب آل محمد مات مغفوراً له، الاومن مات على حب آل محمد مات تائباً، إلا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمناً مستكمل الإيمان، إلا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ثم منكر ونكير، إلا و من مات علىحب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها، إلا ومن مات على حب آل محمد فتح في قبره بابان إلى الجنة، إلا ومن مات على حب آل محمد جعل قبره مزار ملائكة الرحمة، إلا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة، الا و من مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه: آيس من رحمة الله...) (16).
              لقد دعا الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى موالاة عترته، وأن نكن لهم في اعماق نفوسنا أصدق آيات الحب والولاء، وأن يكون ذلك مستمراً حتى آخر لحظة من حياتنا.
              10- قال (صلى الله عليه وآله): (اجعلوا أهل بيتي منكم مكان الرأس من الجسد، ومكان العينين من الرأس، ولا يهتدي الرأس إلا بالعينين) (17).
              11- قال (صلى الله عليه وآله): (لا تزول قدما عبد - يوم القيامة - حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه، وعن جسده فيما أبلاه، وعن ماله فيما أنفقه، ومن أين أكتسبه، وعن محبتنا أهل البيت) (18).
              12- قال (صلى الله عليه وآله): (من سره أن يحيا حياتي، ويموت مماتي، ويسكن جنة عدن غرسها ربي، فليوال علياً من بعدي، وليوال وليه، وليعتد بأهل بيتي من بعدي فإنهم عترتي، خلقوا من طينتي، ورزقوا فهمي وعلمي، فويل للمكذبين بفضلهم من أمتي، القاطعين فيهم صلتي، لا أنالهم الله شفاعتي) (19).
              13- قال علي (عليه السلام) أخبرني رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إن أول من يدخل الجنة أنا وفاطمة والحسن والحسين، قلت يا رسول الله فمحبونا قال: من ورائكم(20).
              14- روى أبو سعيد الخدري أن النبي (صلى الله عليه وآله) دخل على فاطمة (عليها السلام)، فقال: إني وإياك وهذا النائم - يعني علياً، وهما - يعني الحسن والحسين - لفي مكان واحد يوم القيامة(21).
              هذه بعض الأحاديث التي أثرت عن النبي (صلى الله عليه وآله) في فضل عترته والمتأمل فيها يطل على الغاية التي ينشدها (صلى الله عليه وآله) وهي جعل القيادة الإسلامية بيد أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الذين آثروا طاعة الله على كل شيء حتى لا تزيغ الأمة في مسيرتها عن طريق الهدى والصلاح، ولا تنحرف عن سلوكها عما أمر الله به وتشيع في أوساطها العدالة والحق، ويسند الطريق أمام القوى الباغية من أن تنزو على منابر الحكم والخلافة الإسلامية.

              الطائفة الثانية
              وحفلت مصادر السيرة النبوية والأحاديث بحشد كبير من الأخبار التي أثرت عن النبي( ص) في حق السبطين (عليه السلام) ومدى أهميتهما ومقامهما الكريم عنده ونعرض فيما يلي لبعضها:
              1- روى أبو أيوب قال: دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) والحسن والحسين (عليهما السلام) يلعبان بين يديه (أو في حجره) فقلت: يا رسول الله أتحبهما؟ فقال: وكيف لا أحبهما!! وهما ريحانتاي من الدنيا أشمهما(22).
              وقد اضفى الرسول (صلى الله عليه وآله) عليهما لقب الريحانتين في مواطن عديدة ونشير إلى بعضها:
              أ- روى سعيد بن راشد قال: جاء الحسن والحسين (عليه السلام) يسعيان إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخذ أحدهما فضمه إلى إبطه، ثم جاء الآخر فضمه إلى إبطه الأخرى وقال: هذان ريحانتاي من الدنيا من حبني فليحبهما(23).
              ب - قال سعد بن مالك: دخلت على النبي (صلى الله عليه وآله) والحسن والحسين يلعبان على ظهره فقلت: يا رسول الله أتحبهما؟ فقال: ومالي لا أحبهما وانهما ريحانتاي من الدنيا؟ (24).
              ج - روى أنس بن مالك قال: دخلت (أو ربما دخلت) على رسول الله (صلى الله عليه وآله) والحسن والحسين يتقلبان على بطنه، ويقول: ريحانتي من هذه الأمة(25).
              د - روى أبوبكرة قال: كان الحسن والحسين عليهما السلام يثبان على ظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الصلاة فيمسكهما بيده حتى يرفع صلبه، ويقومان على الأرض، فلما فرغ أجلسهما في حجره ثم قال: إن إبني هذين ريحانتاي من الدنيا(26).
              هـ - روى جابر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لعلي بن أبي طالب (عليه السلام): سلام عليك يا أبا الريحانتين، أوصيك بريحانتي من الدنيا خيراً فعن قليل ينهد ركناك، والله خليفتي عليك، قال فلما قبض النبي (صلى الله عليه وآله) قال علي (عليه السلام): هذا أحد الركنين اللذين قال النبي (صلى الله عليه وآله)، فلما ماتت فاطمة (عليه السلام)، قال علي: هذا الركن الآخر الذي قال النبي (صلى الله عليه وآله) (27).
              و- روى البخاري بسنده عن ابن أبي نعم قال: كنت شاهداً لابن عمرو وسأله رجل عن دم البعوض، فقال: ممن أنت؟ فقال: من أهل العراق، قال: انظروا إلى هذا يسألني عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن النبي (صلى الله عليه وآله) وسمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: هما ريحانتاي من الدنيا(28).
              2- روى انس بن مالك قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) أي أهل بيتك أحب إليك؟ قال (صلى الله عليه وآله) الحسن والحسين، وكان يقول لفاطمة: ادعي ابني فيشمهما ويضمهما اليه(29).
              3- روى ابن عباس قال: بينا نحن ذات يوم مع النبي (صلى الله عليه وآله) إذ اقلبت فاطمة (عليها السلام) تبكي فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): فداك أبوك، ما يبكيك؟ قالت: إن الحسن والحسين خرجا، ولا أدري أين باتا، فقال لها رسول (صلى الله عليه وآله): لا تبكين فإن خالقهما ألطف بهما مني ومنك، ثم رفع يديه، فقال: أللهم احفظهما وسلمهما، فهبط جبرائيل، وقال: يا محمد لا تحزن فإنهما في حظيرة بني النجار نائمان، وقد وكل الله بهما ملكاً يحفظهما، فقام النبي ومعه أصحابه حتى أتى الحظيرة فاذا الحسن والحسين (عليهما السلام) معتنقان نائمان، وإذا الملك الموكل بهما قد جعل أحد جناحيه تحتهما والآخر فوقهما يظلهما، فأكب النبي يقبلهما حتى انتبها من نومهما، ثم جعل الحسن على عاتقه الأيمن، والحسين على عاتقه الأيسر، فتلقاه أبوبكر، وقال: يا رسول الله ناولني أحد الصبيين أحمله عنك، فقال (صلى الله عليه وآله): نعم المطي مطيهما ونعم الراكبان هما وأبوهما خير منهما حتى أتى المسجد فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) على قدميه، وهما على عاتقيه، ثم قال:
              (معاشر المسلمين، ألا أدلكم على خير الناس جداً وجدة؟).
              فقالوا: بلى يا رسول الله.
              قال (صلى الله عليه وآله): الحسن والحسين جدهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) خاتم المرسلين، وجدتهما خديجة بنت خويلد سيدة نساء أهل الجنة.
              ثم قال (صلى الله عليه وآله): الا أدلكم على خير الناس عماً وعمة؟!!
              قالوا: بلى يا رسول الله.
              قال(صلى الله عليه وآله): الحسن والحسين عمهما جعفر بن أبي طالب، وعمتهما أم هانئ بنت أبي طالب.
              ثم قال (صلى الله عليه وآله): أيها الناس، ألا أدلكم على خير الناس خالاً وخالة؟
              قالوا: بلى يا رسول الله.
              قال (صلى الله عليه وآله): الحسن والحسين خالهما القاسم بن رسول الله وخالتهما زينب بنت رسول الله.
              ثم قال (صلى الله عليه وآله) اللهم، انك تعلم أن الحسن والحسين في الجنة، وعمهما في الجنة، وعمتهما في الجنة، ومن أحبهما في الجنة، ومن أبغضهما في النار(30).
              وهذا الحديث الشريف دل بوضوح على مدى حبه صلى الله عليه وآله لسبطيه، وأنهما أحب أهل بيته اليه، كما أنهما أفضل الناس نسباً وحسباً وأن من أحبهما ينزل معهم مقاماً كريماً في الفردوس.
              4- روى عمر قال: رأيت الحسن والحسين (عليهما السلام) على عاتقي النبي (صلى الله عليه وآله): فقلت: نعم الفرس تحتكما، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): ونعم الفارسان هما(31) وبهذا المضمون روى جابر قال: دخلت على النبي (صلى الله عليه وآله): والحسن والحسين على ظهره وهو يقول: (نعم الجمل جملكما، ونعم العدلان انتما) (32) وقد نظم ذلك السيد الحميري بقوله:
              أتى حسناً والحسين الرسول وقد بــــــــرزا ضحوة يلعبان
              فضمهمــــــــا وتفــــداهـــــما وكــــــانا لديه بـــذاك المكان
              ومرا وتحتهمـــــا عــــاتـــقاه فنعم المطـــــية والراكبــــان
              5- روى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)...) (33).
              6- روى سلمان الفارسي قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: (الحسن والحسين ابناي من أحبهما أحبني، ومن أحبني أحبه الله، ومن أحبه الله أدخله الجنة، ومن أبغضهما أبغضني، ومن أبغضني أبغضه الله، ومن أبغضه الله أدخله النار..) (34).
              7- كان النبي (صلى الله عليه وآله): يخطب فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران وهما يمشيان، ويعثران فنزل (صلى الله عليه وآله) عن المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه، وقال: صدق الله إذ يقول: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) لقد نظرت إلى هذين الصبيين وهما يمشيان، ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي، ورفعتهما..) (35).
              8- روى يعلي بن مرة قال: جاء الحسن والحسين يستبقان إلى رسول الله فضمهما وقال: (ان الولد مبخلة مجبنة..) (36).
              9- قال (صلى الله عليه وآله): (الحسن والحسين سبطان(37) من الاسباط..) (38).
              10- روى أنس أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (أحب أهل بيتي إلي الحسن والحسين..) (39).
              11- روى أنس قال سئل النبي (صلى الله عليه وآله) أي أهل بيتك أحب اليك؟ قال: (الحسن والحسين) وكان يقول لفاطمة: ادعي لي ابنيّ فيشمهما ويضمهما إليه..) (40)
              12- قال (صلى الله عليه وآله): (الحسن والحسين امامان إن قاما وإن قعدا..) (41).
              لقد أضفى النبي (صلى الله عليه وآله) على ريحانتيه حلة الإمامة، وجعلها من ذاتياتهما سواء أقاما بالأمر، وتقلدا شؤون الخلافة أم لا.

              الولاء العميق:
              وذكر الرواة بوادر كثيرة تدل على مدى تعلق النبي (صلى الله عليه وآله) بسبطيه وشدة حبه لهما، وفيما يلي بعضها:
              1- إنه كان إذا غاب عنه الحسن والحسين اشتد شوقه إليهما، وأمر بمن يدعوهما إليه فيأخذهما، ويشمهما، ويضمهما إلى صدره(42).
              2- قال عبد الله بن جعفر: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) اذا قفل من سفر تلقى بي أو بالحسن أو بالحسين(43).
              3- وبلغ من حبه (صلى الله عليه وآله) لسبطيه أنه قبل بيعتهما له ضمن الثلاثة الصغار الذين بايعوه من أهل البيت، هما مع ابن عمهما عبد الله بن جعفر ولم يبايع صغيراً قط إلا هم(44).
              4- وكان (صلى الله عليه وآله) يحملهما على دابته فيجعل أحدهما قدامه والآخر خلفه.. (45).
              5- وبلغ من حنانه (صلى الله عليه وآله) وعطفه على سبطيه أنه كان يصلي العشاء فاذا سجد وثبا على ظهره، فاذا رفع رأسه أخذهما أخذاً رقيقاً فيضعهما على الأرض فاذا عاد، عادا، حتى اذا قضى صلاته أقعدهما على فخذيه.. (46).
              لقد أولى النبي (صلى الله عليه وآله) سبطيه رعايته ومحبته ليري المسلمين مدى مكانتهما عنده حتى تخفض لهما جناح المودة، وتقلدهما قيادتها الروحية والزمنية ليسيرا بها إلى مدارج الحياة الكريمة التي يجد فيها الإنسان جميع ما يصبو اليه.

              الطائفة الثالثة
              وتواثرت الأخبار التي أثرت عن النبي (صلى الله عليه وآله): في فضل ريحانته الإمام الحسين (عليه السلام) وهي تحدد معالم شخصيته، كما تحمل جانباً كبيراً من إهتمام الرسول (صلى الله عليه وآله) به، وفيما يلي بعضها:
              1- روى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من أراد أن ينظر إلى سيد شباب أهل الجنة فلينظر إلى الحسين ابن علي..) (47).
              2- روى أبو هريرة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وهو حامل الحسين بن علي، وهو يقول: (اللهم أني أحبه فاحبه) (48).
              3- روى يعلى بن مرة قال: خرجنا مع النبي (صلى الله عليه وآله) إلى طعام دعونا له، فاذا حسين يلعب بالسكة فتقدم النبي (صلى الله عليه وآله) وبسط يديه فجعل الغلام يفر هاهنا، وهاهنا ويضاحكه النبي (صلى الله عليه وآله) حتى أخذه فجعل احدى يديه تحت ذقنه والأخرى في فأس رأسه(49) فقبله وقال: (حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسيناً، حسين سبط من الأسباط..) (50).
              ودلل النبي (صلى الله عليه وآله) بهذا الحديث الشريف على مدى الصلة العميقة التي بينه وبين وليده، وأكبر الظن أنه (صلى الله عليه وآله) لم يعن بقوله: (حسين مني) الرابطة النسبية التي بينه وبينه، وإنما عنى أمراً آخر هو أدق وأعمق فالحسين منه لأنه يحمل روحه وهديه، ويحمل اتجاهاته العظيمة الهادفة إلى إصلاح الإنسان ورفع مستواه، وتطوير وسائل حياته على أساس الإيمان بالله الذي يحمل جميع مفاهيم الخير والسلام في الأرض، كما عنى صلى الله عليه وآله بقوله: (وأنا من حسين) أن ما يبذله السبط العظيم من التضحية والفداء في سبيل الدين، وما تؤديه تضحيته من الفعاليات الهائلة في تجديد رسالة الإسلام، وجعلها نابضة بالحياة على مر الأجيال الصاعدة فكان النبي (صلى الله عليه وآله) بذلك حقاً من الإمام الحسين فهو المجدد لدينه، والمنقذ له من شر تلك الطغمة الحاكمة التي جهدت على محو الإسلام من خريطة هذا الكون، واعادة مفاهيم الجاهلية وخرافاتها على مسرح الحياة، وقد نسف الإمام بنهضته أحلام الأمويين، وأعاد للإسلام نضارته وحياته، ورفع رايته عالية خفاقة في جميع الأجيال.
              كما دلل (صلى الله عليه وآله) على عظمة حفيده بأن أضفى عليه كلمة السبط، وأراد بها أنه أمة من الأمم قائم بذاته، ومستقل بنفسه، فهو أمة من الأمم في الخير وأمة من الشرف في جميع الأجيال والآباد.
              5- روى الصحابي العظيم سلمان الفارسي قال: دخلت على النبي (صلى الله عليه وآله) فاذا الحسين بن علي على فخذه، وهو يلثم فاه، ويقول: (أنت سيد ابن سيد، أنت إمام ابن إمام أخو إمام، وأبو الأئمة وأنت حجة الله، وابن حجته، وأبو حجج تسعة من صلبك، تاسعهم قائمهم) (51).
              6- روى أبو العباس قال: كنت عند النبي (صلى الله عليه وآله) وعلى فخذه الأيسر ابنه ابراهيم، وعلى فخذه الأيمن الحسين بن علي، والنبي تارة يقبل هذا وأخرى يقبل هذا، إذ هبط عليه جبرائيل بوحي من رب العالمين، فلما سرى عنه قال: أتاني جبرائيل من ربي فقال لي: يا محمد إن ربك يقرؤك السلام، ويقول لك: لست أجمعهما لك، فافد أحدهما بصاحبه، فنظر النبى إلى إبراهيم فبكى، ثم قال: إن إبراهيم متى مات لم يحزن عليه غيري، وأم الحسين فاطمة وأبوه علي ابن عمي لحمي ودمي، ومتى مات حزنت ابنتي، وحزن أبن عمي، وحزنت أنا عليه، وأنا أوثر حزني على حزنهما، يا جبرائيل يقبض إبراهيم، فديت الحسين بإبراهيم، وقبض إبراهيم بعد ثلاث، فكان النبي (صلى الله عليه وآله) إذا رأى الحسين مقبلا قبله، وضمه إلى صدره، ورشف ثناياه، وقال: فديت من فديته بابني إبراهيم) (52).
              8- روى ابن عباس قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله) حامل الحسين على عاتقه، فقال له رجل:
              (نعم المركب ركبت يا غلام!!).
              فأجابه الرسول (صلى الله عليه وآله):
              (ونعم الراكب هو..) (53).
              9- روى يزيد بن أبي زياد قال: خرج النبي (صلى الله عليه وآله) من بيت عائشة فمر على بيت فاطمة فسمع حسيناً يبكي، فالتاع (صلى الله عليه وآله) من ذلك فقال لفاطمة:
              (الم تعلمي أن بكاءه يؤذيني..) (54).
              10- روى عبد الله بن شداد عن أبيه قال: سجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) سجدة أطالها، حتى ظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يوحى إليه، فسألناه عن ذلك، فقال:
              (كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته...) (55).
              هذه بعض الأخبار التي أثرت عن النبي (صلى الله عليه وآله) في ريحانته وهي أوسمة شرف ومجد قلده بها، اشعاراً منه بأن ظله، وحقيقته ستمثل في هذا الطفل، وسيكون صورة فذة لانسانيته العليا، وأسراره العظمى.

              1 - صحيح الترمذي ج 2 ص 319، وروى ابن ماجة في سننه ج 1 ص 52 أنه (صلى الله عليه وآله) قال: (أنا سلم لمن سالمتم وحرب لمن حاربتم) ومثله رواه الحاكم في مستدركه ج 3 ص 149، وابن الأثير في أسد الغابة ص 523، ورواه أحمد في مسنده ج 2 ص 442 بسنده عن أبي هريرة، وكذلك رواه الخطيب البغدادي في تاريخهص ج 7 ص 36.
              2 - مسند أحمد ج 1 ص 77، صحيح الترمذي ج 2 ص 301، وجاء في تهذيب التهذيب ج 10 ص 430 أن نصر بن علي حدث بهذا الحديث فأمر المتوكل بضربه ألف سوط، فكلمه فيه جعفر بن عبد الواحد، وجعل يقول له: هذا من أهل السنة، فلم يزل به حتى تركه.
              3- مسند أحمد ج 1 ص 77.
              4 - مستدرك الحاكم ج 3 ص 149، وفي كنز العمال ج 6 ص 116، والصواعق المحرقة (ص 111) أنه (صلى الله عليه وآله) قال: (النجوم أمان لأهل الأرض وأهل بيتي أمان لأمتي، ورواه المناوي في فيض القديرج 6 ص 297، والهيثمي في مجمعه ج 9 ص 174.
              5- صحيح الترمذي ج 2 ص 308، أسد الغابة ج 2 ص 12.
              6- كنز العمال ج 1 ص 48، صحيح الترمذي ج 2 ص 308.
              7- في كنز العمال ج 1 ص 48 لفظ (عترتي).
              8- مجمع الهيثمي ج 9 ص 163.
              9- الصواعق ص 75.
              10- فيض القدير ج 3 ص 14.
              11- الصواعق ص 136.
              12- يراجع في ذلك المراجعات ص 49 - ص 52 الأصول العامة للفقه المقارن ص 164 - ص 187.
              13- مجمع الزوائد ج 9 ص 168، ورواه الحاكم في مستدركه ج 2 ص 43 عن حنش عن أبي ذر، ورواه الخطيب البغدادي في تاريخه ج 2 ص 19 بسنده عن أنس بن مالك، ورواه أبو نعيم في الحلية ج 4 ص 306 بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، ورواه المتقى في كنز العمال بسنده عن ابن الزبير وابن عباس، ورواه الطبراني في كتابيه الأصغر والأوسط عن أبي سعيد الخدري.
              14- المراجعات ص 54.
              15- المراجعات ص 54.
              16- المراجعات ص 59 نقله عن الثعلبي في تفسير آية المودة من تفسيره الكبير.
              17- المراجعات ص 58 نقله عن الشرف المؤبد ص 58.
              18- المراجعات نقله عن السيوطي في احياء الميت والنبهاني في أربعينه.
              19- كنز العمال ج 6 ص 217.
              20- مستدرك الحاكم ج 3 ص 151.
              21- مستدرك الحاكم ج 3 ص 137.
              22- مجمع الزوائد ج 9 ص 181، ورواه الذهبي في سير أعلان النبلاء ج 2 ص 189 مع تغيير يسير، مختصر صفة الصفوة ص 62 تاريخ ابن عساكر ج 13 ص 39.
              23- ذخائر العقبى ص 124.
              24- كنز العمال ج 7 ص 110.
              25- خصائص النسائي ص 37 وفي مسند الإمام زيد ص 469 الولد ريحانة، وريحانتي الحسن والحسين.
              26- كنز العمال ج ص 109.
              27- حلية الأولياء ج 3 ص 201.
              28- صحيح البخاري كتاب الأدب، فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج 3 ص 183.
              29- صحيح الترمذي ج 2 ص 306، فيض القدير ج 1 ص 148.
              30- ذخائر العقبى ص 130.
              31- مجمع الزوائد ج 9 ص 182، كنز العمال ج 7 ص 108.
              32- كنز العمال ج 7 ص 108، مجمع الزوائد ج 9 ص 182.
              33- صحيح الترمذي ج 2 ص 306، مختصر صفة الصفوة ص 62 مسند أحمد بن حنبل ج 3 ص 62، حلية الأولياء ج 5 ص 71، تاريخ بغداد ج 9 ص 231، ورواه الحاكم في المستدرك ج 3 ص 167 بسنده عن ابن عمر قال صلى الله عليه وآله: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما) وبهذا النص ورد في مسند الإمام زيد: وفي الاصابة ج 1 ص 266 روى جهم قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: (إن حسناً وحسيناً سيدا شباب أهل الجنة) وفي كنز العمال ج 6 ص 221 الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني وفي الجامع الكبير للسيوطي عن ابن عساكر بسنده عن حذيفة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: أتاني ملك فسلم علي نزل من السماء لم ينزل قبلها فبشرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة..).
              34- مستدرك الحاكم ج 3 ص 166، وبتغيير يسير رواه الهيثمي في مجمعة ج 9 ص 111، وكذلك رواه المتقي في كنز العمال ج 6 ص 221، وفي سنن ابن ماجة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من أحب الحسن والحسين فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني) وفي تهذيب التهذيب في ترجمة نصر بن علي الأزدي روى علي بن الصواف عن عبد الله بن أحمد أن نصراً حدث أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخذ بيد حسن وحسين فقال: (من أحبنى وأحب هذين وأباهما كان معي في درجتي يوم القيامة) فلما سمع ذلك المتوكل أمر بضربه ألف سوط، فكلمه فيه جعفر ابن عبد الواحد، وجعل يقول له: هذا من أهل السنة، فلم يزل به حتى تركه.
              35- صحيح الترمذي ج 2 ص 306، صحيح النسائي ج 1 ص 201، مستدرك الحاكم ج 1 ص 287، صحيح أبي داود ج 6 ص 110، مسند أحمد بن حنبل ج 5 ص 354، سنن البيهقي ج 3 ص 218، أسد الغابة ج 2 ص 12، كنز العمال ج 7 ص 168، سنن النسائي ج 3 ص 108.
              36- مستدرك الحاكم ج3 ص 168، مسند أحمد بن حنبل ج 4 ص 172، ومعنى الحديث أن الولد يحمل أباه على البخل والجبن.
              37- السبطان: تثنية سبط، وفي لسان العرب ج 9 ص 181 أن السبط أمة من الأمم في الخير.
              38- كنز العمال ج 6 ص 221، الصواعق المحرقة ص 114، الأدب المفرد، وفي صبح الأعشى ج 1 ص 43 أن الحسن والحسين (عليه السلام) أول من سميا بالسبطين في الإسلام.
              39- صحيح الترمذي.
              40- تيسير الوصول لابن الديبغ ج 3 ص 76.
              41- بحار الأنوار ج 1 ص 78، وفي نزهة المجالس ج 2 ص 184 أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال للحسن والحسين: (أنتما الإمامان ولأمكما الشفاعة) وورد هذا الحديث في الاتحاف بحب الأشراف ص 129.
              42- صحيح الترمذي.
              43- سنن الدارمي ج 2 ص 285.
              44- العقد الفريد ج 2 ص 243.
              45- صحيح مسلم ج 5 ص 191.
              46- مسند الإمام أحمد.
              47- تاريخ ابن عساكر ج 13 ص 50، من مخطوطات مكتبة الإمام أمير المؤمنين، سير أعلام النبلاء ج 3 ص 190.
              48- مستدرك الحاكم ج 3 ص 177، وفي نور الأبصار ص 129 لفظ الحديث (اللهم إني أحبه وأحب كل من يحبه).
              49- وفي رواية (فوضع احدى يديه تحت قفاه، والأخرى تحت ذقنه فوضع فاه على فيه وهو يقول حسين منى.. الخ).
              50- سنن ابن ماجة ج 1 ص 51، مسند أحمد بن حنبل ج 4 ص 172، أسد الغابة ج 2 ص 19، تهذيب الكمال ص 71، تيسير الوصول ج 3 ص 276 مستدرك الحاكم ج 3 ص 177، أنساب الأشراف ج 1 ق1.
              51- المراجعات ص 228.
              52- تاريخ بغداد ج 2 ص 204.
              53- التاج الجامع للاصول ج 3 ص 218.
              54- مجمع الزوائد ج 9 ص 201، سير أعلام النبلاء ج 3 ص 191، المعجم الكبير للطبراني، ذخائر العقبى ص 143.
              55- تهذيب التهذيب ج 2 ص 346، تيسير الوصول إلى جامع الأصول ج 3 ص 285، سنن النسائي.

              تعليق


              • #8

                على أعتاب الحسين
                الإمام الحسين بن علي الشهيد (عليه السلام)


                مقتله
                إخبار النبي بقتل الحسين ويوم قتله ومحل دفنه

                • روى ابن عساكر بإسناده عن شداد أبي عمار، قال: (قالت أم الفضل بنت الحرث، زوجة العباس بن عبد المطلب: يا رسول الله رأيت رؤيا أعظمك أن أذكرها لك! قال: اذكريها قالت: رأيت كأن بضعة منك قطعت فوضعت في حجري! فقال صلى الله عليه وسلم: إن فاطمة حبلى تلد غلاماً أسميه حسيناً وتضعه في حجرك، قالت: فولدت فاطمة حسيناً فكان في حجري أربيه فدخل عليّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوماً وحسين معي فأخذه يلاعبه ساعة، ثم ذرفت عيناه! فقلت: يا رسول الله ما يبكيك؟ فقال هذا جبرئيل يخبرني أن أمتي تقتل ابني هذا)(1).


                روى الحاكم النيسابوري بإسناده عنها: (أنها دخلت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقالت: يا رسول الله إني رأيت حلماً منكراً الليلة قال: وما هو؟ قالت: إنه شديدٌ قال: وما هو؟ قالت: رأيت كأن قطعه من جسدك قطعت ووضعت في حجري، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): رأيت خيراً تلد فاطمة إن شاء الله غلاماً فيكون في حجرك فولدت فاطمة الحسين فكان في حجري كما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فدخلت يوماً إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فوضعته في حجره. ثم حانت مني التفاتة فإذا عينا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تهريقان من الدموع قالت: فقلت: يا نبي الله بأبي أنت وأمي مالك؟ قال: أتاني جبريل عليه الصلاة والسلام فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا فقلت: هذا؟ فقال: نعم وأتاني بتربة من تربته حمراء)(2).

                روى الخوارزمي بإسناده عنها (حين أدخلت حسيناً على رسول الله فأخذه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبكى وأخبرها بقتله إلى أن قال: ثم هبط جبرئيل في قبيل من الملائكة قد نشروا أجنحتهم يبكون حزناً على الحسين، وجبرئيل معه قبضة من تربة الحسين تفوح مسكاً إذفر. فدفعها إلى النبي وقال: يا حبيب الله هذه تربة ولدك الحسين بن فاطمة وسيقتله اللعناء بأرض كربلا فقال النبي: حبيبي جبرئيل، وهل تفلح أمة تقتل فرخي وفرخ ابنتي؟ فقال جبرئيل: لا، بل يضربهم الله بالاختلاف فتختلف قلوبهم وألسنتهم آخر الدهر)(3).

                وروى بإسناده عن أسماء قالت: (فلما كان بعد حول من مولد الحسن ولدت الحسين فجاءني النبي (ص)، فقال: يا أسماء هاتي ابني فدفعته إليه في خرقة بيضاء، فأذّن في أذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، ثم وضعه في حجره وبكى قالت أسماء: فقلت: فداك أبي وأمي، ممّ بكاؤك؟ قال: على ابني هذا قلت: إنه ولد الساعة، قال: يا أسماء تقتله الفئة الباغية لا أنالهم الله شفاعتي ثم قال: يا أسماء لا تخبري فاطمة بهذا فإنها قريبة عهد بولادته، ثم قال لعلي: أي شيء سميت ابني؟ قال: ما كنت لأسبقك باسمه يا رسول الله وقد كنت أحب أن أسميه حرباً فقال النبي (ص): ولا أنا أسبق باسمه ربّي عزّ وجل فهبط جبرئيل (عليه السلام) وقال: يا محمد العلي الأعلى يقرئك السلام ويقول: علي منك بمنزلة هارون من موسى ولا نبي بعدك، سمّ ابنك باسم ابن هارون، قال: ما اسم ابن هارون؟ قال: شبير، قال: لساني عربي يا جبرئيل قال: سمه حسيناً قالت أسماء فسماه الحسين فلما كان يوم سابعه عق النبي (ص) عنه بكبشين أملحين، وأعطى القابلة فخذا وحلق رأسه، وتصدّق بوزن الشعر ورقاً وطلى رأسه بالخلوق، وقال: يا أسماء، الدم فعل الجاهلية)(4).
                إخبار علي بن أبي طالب (عليه السلام) بقتل الحسين في كربلاء

                • روى نصر بن مزاحم بإسناده عن هرثمة بن سليم قال: (غزونا مع عليّ بن أبي طالب غزوة صفّين فلمّا نزلنا بكربلا ء صلى بنا صلاة، فلما سلّم رفع إليه من تربتها فشمّها، ثم قال: واهاً لك أيتها التربة، ليحشرنّ منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب، فلمّا رجع هرثمة من غزوته إلى امرأته وهي جرداء بنت سمير ـ وكانت شيعة لعليّ ـ فقال لها زوجها هرثمة ألا أعجبك من صديقك أبي الحسن؟ لمّا نزلنا كربلاء رفع إليه من تربتها فشمها وقال: واهاً لك يا تربة، ليحشرنّ منك قوم يدخلون الجنّة بغير حساب، وما علمه بالغيب؟ فقالت: دعنا منك أيّها الرجل فإن أمير المؤمنين لم يقل إلاّ حقاً فلمّا بعث عبيد الله بن زياد البعث الذي بعثه إلى الحسين بن عليّ وأصحابه، قال: كنت فيهم في الخيل التي بعث إليهم، فلمّا أنهيت إلى القوم وحسين وأصحابه عرفت المنزل الذي نزل بنا عليّ فيه والبقعة التي رفع إليه من ترابها، والقول الذي قاله، فكرهت مسيري، فأقبلت على فرسي حتى وقفت على الحسين، فسلّمت عليه وحدثته بالذي سمعتُ من أبيه في هذا المنزل، فقال الحسين: معنا أنت أو علينا؟ فقلت: يابن رسول الله لا معك ولا عليك، تركت أهلي وولدي أخاف عليهم من ابن زياد فقال الحسين: فولّ هرباً حتى لا ترى لنا مقتلاً، فوالذي نفس محمد بيده لا يرى مقتلنا اليوم رجلٌ ولا يغيثنا إلاّ أدخله الله النار، قال: فأقبلت في الأرض هارباً حتى خفي عليّ مقتله)(5).


                وروى بإسناده عن أبي جحيفة قال: (جاء عروة البارقي إلى سعيد بن وهب فسأله وأنا أسمع فقال: حديث حدثتنيه عن علي بن ابي طالب، قال: نعم بعثني مخنف بن سُليم إلى علي، فأتيته بكربلاء، فوجدتُه يشير بيده ويقول: ها هنا فقال له رجل: وما ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال ثقلٌ لآل محمد ينزل هنا فويلٌ لهم منكم، وويلٌ لكم منهم، فقال له الرجل: ما معنى هذا الكلام يا أمير المؤمنين؟ قال: ويلٌ لهم منكم: تقتلونهم، وويلٌ لكم منهم: يدخلكم الله بقتلهم إلى النار)(6).

                وقد روي هذا الكلام على وجه آخر: (أنه عليه السلام قال: فويلٌ لكم منهم، وويلّ لكم عليهم، قال الرجل: أمّا ويل لنا منهم فقد عرفت، وويلٌ لنا عليهم ما هو؟ قال: ترونهم يقتلون ولا تستطيعون نصرهم)(7).

                وروى بإسناده عن الحسن بن كثير عن أبيه: (أن عليّاً أتى كربلاء فوقف بها، فقيل: يا أمير المؤمنين، هذه كربلاء قال: ذات كرب وبلاء ثم أومأ بيده إلى مكان فقال: هاهنا موضع رحالهم، ومناخ ركابهم، وأومأ بيده إلى موضع آخر فقال: هاهنا مهراق دمائهم)(8).

                روى ابن عساكر بإسناده عن أبي عبيد الضبي قال: (دخلنا على أبي هرثم الضبي حين أقبل من صفّين مع علي وهو جالس على دكان له، وله امرأة يقال لها جرداء وهي أشدّ حباً لعلي وأشد لقوله تصديقاً، فجاءت شاة له فبعرت فقال: لقد ذكرني بعر هذه الشاة حديثاً لعلي!! قالوا: وما علم علي بهذا؟ قال: أقبلنا مرجعنا من صفّين فنزلنا كربلاء فصلّى بنا علي صلاة الفجر بين شجيرات ودوحات حرمل، ثم أخذ كفاً من بعر الغزلان فشمّه ثم قال: أوه أوه يقتل بهذا الغائط قوم يدخلون الجنّة بغير حساب، قال أبو عبيد: قالت جرداء: وما تنكر من هذا؟ هو أعلم بما قال منك، نادت بذلك وهي في جوف البيت)(9).
                ما روي عن الأئمة الاثني عشر في شهادة الحسين (عليه السلام)

                روى الحضرمي الشافعي بإسناده عن الربيع بن المنذر عن أبيه قال: (كان الحسين بن علي (رضي الله عنهما) يقول: من دمعت عيناه فينا دمعة أو قطرت عيناه فينا قطرة آتاه الله ـ وفي رواية بوّأه الله ـ الجنّة)(10).

                روى الشيخ الطوسي بإسناده عن الربيع بن المنذر عن أبيه عن الحسين بن علي (عليه السلام) قال: (ما من عبد قطرت عيناه فينا قطرة أو دمعت عيناه فينا دمعة إلاّ بوأه الله في الجنّة حقباً، قال أحمد بن يحيى الأودي: فرأيت الحسين بن علي في المنام، فقلت: حدثني محول بن إبراهيم، عن الربيع بن المنذر، عن أبيه، عنك أنك قلت: ما من عبد قطرت عيناه فينا قطرة أو دمعت عيناه فينا دمعة إلاّ بوّأه الله بها في الجنّة حقبا قال: نعم قلت، سقط الإسناد بيني وبينك)(11).

                روى الصدوق بإسناده عن إبراهيم بن أبي محمود قال: (قال الرضا (عليه السلام) إن المحرّم شهر كان أهل الجاهلية يحرمون فيه القتال فاستحلّت فيه دماؤنا وهتك فيه حرمتنا، وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا وأضرمت النيران في مضاربنا، وانتهب ما فيها من ثقلنا، ولم ترع لرسول الله حرمة في أمرنا إن يوم الحسين أقرح جفوننا وأسبل دموعنا وأذلّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون فإن البكاء يحط الذنوب العظام، ثم قال: كان أبي إذا دخل شهر المحرّم لا يُرى ضاحكاً وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيّام فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه ويقول: هو اليوم الذي قتل فيه الحسين)(12).

                وروى بإسناده عن الريان بن شبيب، قال: (دخلت على الرضا (عليه السلام) في أول يوم من المحرّم، فقال لي: يابن شبيب أصائم أنت؟ فقلت: لا، فقال إن هذا اليوم هو اليوم الذي دعا فيه زكريّا ربّه عزّ وجل فقال: ربّ هب لي من لدنك ذريّة طيّبة انّك سميع الدعاء فاستجاب الله له وأمر الملائكة فنادت زكريّا وهو قائم يصلّي في المحراب إن الله يبشّرك بيحيى فمن صام هذا اليوم، ثم دعا الله عز وجل استجاب الله له كما استجاب لزكريا ثم قال: يابن شبيب إنّ المحرّم هو الشهر الذي كان أهل الجاهلية فيما مضى يحرمون فيه الظلم والقتال لحرمته فما عرفت هذه الأمة حرمة شهرها ولا حرمة نبيها (ص) لقد قتلوا في هذا الشهر ذرّيته وسبوا نساءه وانتهبوا ثقله فلا غفر الله لهم ذلك أبداً يا بن شبيب إن كنت باكياً لشيء فابك للحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) فإنه ذبح كما يذبح الكبش وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً ما لهم في الأرض شبيهون، ولقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله، ولقد نزل إلى الأرض من الملائكة أربعة آلاف لنصره فوجدوه قد قتل، فهم عند قبره شعث غبر إلى أن يقوم القائم فيكونون من أنصاره وشعارهم: يا لثارات الحسين، يا ابن شبيب لقد حدثني أبي عن أبيه عن جده (عليه السلام) إنّه لما قتل الحسين جدي (صلوات الله عليه) مطرت السماء دماً وتراباً أحمر يا ابن شبيب إن بكيت على الحسين (عليه السلام) حتى تصير دموعك على خديك غفر الله لك كل ذنب أذنبته صغيراً كان أو كبيراً، قليلاً كان أو كثيراً، يابن شبيب إن سرك أن تلقى الله عزّ وجلّ ولا ذنب عليك فزر الحسين (عليه السلام) يا بن شبيب إن سرك أن تسكن الغرف المبنية في الجنة مع النبي وآله صلوات الله عليهم فالعن قتلة الحسين، يا بن شبيب إن سرّك أن يكون لك من الثواب مثل ما لمن استشهد مع الحسين (عليه السلام) فقل متى ما ذكرته: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً. يا بن شبيب إن سرّك أن تكون معنا في الدرجات العلى من الجنان فاحزن لحزننا، وافرح لفرحنا وعليك بولايتنا فلو أنّ رجلاً تولى حجراً لحشره الله معه يوم القيامة)(13).
                الهوامش
                1 ـ ترجمة الإمام الحسين من تاريخ مدينة دمشق: ص 183، رقم: 182.
                2 ـ المستدرك على الصحيحين: ج 3 ص 176، ورواه الخوارزمي في مقتل الحسين: ج 1 ص 159 والسيوطي في الخصائص الكبرى: ج 2 ص 449 مع فرق يسير.
                3 ـ مقتل الحسين: ج 1 ص 162.
                4 ـ المصدر: ص 88.
                5 ـ وقعة صفين: ص140.
                6 ـ وقعة صفين: ص141.
                7 ـ وقعة صفّين: ص 141.
                8 ـ المصدر: ص 142.
                9 ـ ترجمة الإمام الحسين (عليه السلام) من تاريخ مدينة دمشق: ص 187 رقم 237.
                10 ـ وسيلة المآل: ص 115 ورواه السمهودي في (جواهر العقدين) العقد الثاني، الذكر العاشر: ص 255.
                11 ـ الأمالي: ج 4 ص 72.
                12 ـ أمالي الصدوق المجلس السابع والعشرون: ص 128 الحديث: 2.
                13 ـ المصدر: ص 129 الحديث 5.

                تعليق


                • #9

                  على أعتاب الحسين
                  الإمام الحسين بن علي الشهيد (عليه السلام)



                  استشهاده


                  ولما قتل العباس التفت الحسين (عليه السلام) فلم ير أحداً في الميدان من ينصره ونظر إلى أهله وصحبه مجزرين كالأضاحي وهو يسمع عويل الأيامى وصراخ الأطفال، ووجه الإمام (عليه السلام) وهو بتلك الحالة خطاباً لأعدائه حذرهم فيه من غرور الدنيا وفتنتها، ويقول المؤرخون: انه لم يلبث بعده إلا قليلاً حتى استشهد، وهذا نصه:

                  (عباد الله: اتقوا الله، وكونوا من الدنيا على حذر فإن الدنيا لو بقيت لأحد، وبقي عليها أحد لكانت الأنبياء أحق بالبقاء، وأولى بالرضا، وأرضى بالقضاء، غير أن الله تعالى خلق الدنيا للبلاء، وخلق أهلها للفناء فجديدها بال، ونعيمها مضمحل، وسرورها مكفهر، والمنزل بلغة، والدار قلعة فتزودوا فإن خير الزاد التقوى، واتقوا الله لعلكم تفلحون)(1).

                  •• الإمام يطلب ثوباً خلقا
                  وطلب الإمام من أهل بيته أن يأتوه بثوب خلق لا يرغب فيه أحد ليجعله تحت ثيابه لئلا يسلب منه، فأتوه بتبان(2) فلم يرغب فيه وقال ذلك لباس من ضربت عليه الذلة، وأخذ ثوباً فخرقه، وجعله تحت ثيابه فلما قتل جردوه منه(3).


                  •• وداعه لعياله
                  وقفل الإمام راجعاً إلى عياله ليودعهم الوداع الأخير، وجراحاته تنفجر دماً وقد أوصى حرم الرسالة وعقائل الوحي بلبس الأزر والاستعداد للبلاء، وأمرهن بالخلود إلى الصبر والتسليم لقضاء الله قائلاً:
                  (استعدوا للبلاء، واعلموا ان الله تعالى حاميكم وحافظكم، وسينجيكم من شر الأعداء، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير، ويعذب عدوكم بأنواع العذاب، ويعوضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص قدركم)(4).
                  تزول الدول، وتذهب الممالك، وتفنى الحضارات، وهذا الإيمان الذي لا حد له أحق بالبقاء وأجدر بالخلود من كل كائن في هذه الحياة لأمر الله، انه ليس هناك غير الحسين أمل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وريحانته والصورة الكاملة التي تحكيه.
                  وذابت أسى أرواح بنات الرسول (صلى الله عليه وآله) حينما رأين الإمام بتلك الحالة يتعلقن به يودعنه، وقد وجلت منهن القلوب، واختطف الرعب الوانهن، والتاع الإمام حينما نظر إليهن وقد سرت الرعدة بأوصالهن يقول الإمام كاشف الغطاء:
                  (من ذا الذي يقتدر أن يصور لك الحسين (عليه السلام) وقد تلاطمت أمواج البلاء حوله، وصبت عليه المصائب من كل جانب، وفي تلك الحال عزم على توديع العيال ومن بقي من الأطفال فاقترب من السرادق المضروب على حرائر النبوة وبنات علي والزهراء (عليه السلام) فخرجت المخدرات كسرب القطا المذعورة فاحطن به وهو سابح بدمائه، فهل تستطيع أن تتصور حالهن وحال الحسين في ذلك الموقف الرهيب ولا يتفطر قلبك، ولا يطيش لبك، ولا تجري دمعتك)(5).
                  لقد كانت محنة الإمام في توديعه لعياله من أقسى وأشق ما عاناه من المحن والخطوب، فقد لطمن بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجوههن، وأرتفعت أصواتهن بالبكاء والعويل، وهن يندبن جدهن الرسول (ص) والقين بأنفسهن عليه لوداعه، وقد أثر ذلك المنظر المريع في نفس الإمام بما لا يعلم بمداه إلا الله.
                  ونادى الرجز الخبيث عمر بن سعد بقواته المسلحة يحرضها على الهجوم على الإمام قائلاً:
                  (اهجموا عليه ما دام مشغولاً بنفسه وحرمه، فو الله ان فرغ لكم لا تمتاز ميمنتكم عن ميسرتكم).
                  وحمل عليه الأخباث فجعلوا يرمونه بالسهام، وتخالفت السهام بين اطناب المخيم، وأصاب بعضها ازر بعض النساء فذعرن ودخلن الخيمة وخرج بقية الله في الأرض كالليث الغضبان على أولئك الممسوخين فجعل يحصد رؤوسهم الخبيثة بسيفه، وكانت السهام تأخذه يميناً وشمالاً، وهو يتقيها بصدره ونحره، ومن بين تلك السهام التي فتكت به.
                  1 - سهم أصاب فمه الطاهر، فتفجر دمه الشريف فوضع يده تحت الجرح فلما امتلأت دماً رفعه إلى السماء وجعل يخاطب الله تعالى قائلاً:
                  (اللهم إن هذا فيك قليل)(6).
                  2 - سهم أصاب جبهته الشريفة المشرقة بنور النبوة والإمامة رماه به أبو الحتوف الجعفي فأنتزعه، وقد تفجر دمه الشريف، فرفع يديه بالدعاء على السفكة المجرمين قائلاً:
                  (اللهم إنك ترى ما أنا فيه من عبادك العصاة، اللهم احصهم عدداً واقتلهم بدداً، ولا تذر على وجه الأرض منهم أحداً، ولا تغفر لهم أبداً).


                  •• وصاح بالجيش
                  (يا أمة السوء بئسما خلفتم محمداً في عترته، أما انكم لا تقتلون رجلاً بعدي فتهابون قتله بل يهون عليكم ذلك عند قتلكم أياي، وأيم الله اني لأرجو أن يكرمني الله بالشهادة، ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون..)(7).
                  لقد كان جزاء الرسول (صلى الله عليه وآله) الذي انقذهم من حياة البؤس والشقاء أن عدوا على ذريته فسفكوا دماءهم، واقترفوا منهم ما تقشعر منه الجلود وتندى له الوجوه.. وقد استجاب الله دعاء الإمام فأنتقم له من أعدائه المجرمين، فلم يلبثوا قليلاً حتى اجتاحتهم الفتن والعواصف، فقد هب الثائر العظيم المختار طالباً بدم الإمام فأخذ يطاردهم ويلاحقهم، وقد هربوا في البيداء وشرطة المختار تطاردهم حتى أباد الكثيرين منهم، يقول الزهري لم يبق من قتلة الحسين أحد إلا عوقب أما بالقتل أو العمى أو سواد الوجه، أو زوال الملك في مدة يسيرة(8).
                  3 - وهو من أعظم السهام التي فتكت بالإمام. يقول المؤرخون: إن الإمام وقف ليستريح بعدما أعياه نزيف الدماء، فرماه وغد بحجر أصاب جبهته الشريفة فسالت الدماء على وجهه فأخذ الثوب ليمسح الدم عن عينيه، فرماه رجس بسهم محدد له ثلاث شعب فوقع على قلبه الشريف الذي يحمل العطف والحنان لجميع الناس، فعند ذلك أيقن بدنو الأجل المحتوم منه فشخص ببصره نحو السماء وهو يقول:
                  (بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله (ص).. إلهي إنك تعلم انهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن بنت نبي غيري).
                  وأخرج السهم من قفاه فانبعث الدم كالميزاب فأخذ يتلقاه بيديه فلما امتلأتا رمى به نحو السماء وهو يقول:
                  (هون ما نزل بي أنه بعين الله).
                  وأخذ الإمام من دمه الشريف فلطخ به وجهه ولحيته، وهو بتلك الهيبة التي تحكى هيبة الأنبياء واندفع يقول:
                  (هكذا اكون حتى ألقى الله وجدي رسول الله (ص) وأنا مخضب بدمي..)(9).
                  4 - رماه الحصين بن نمير بسهم أصاب فمه الشريف فتفجر دماً فجعل يتلقى الدم بيده ويرمي به نحو السماء وهو يدعو على الجناة المجرمين قائلاً:
                  (اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تذر على الأرض منهم أحداً)(10).
                  وتكاثرت عليه السهام حتى صار جسده الشريف قطعة منها.. وقد اجهده نزيف الدماء واعياه العطش، فجلس على الأرض، وهو ينؤ برقبته من شدة الآلام فحمل عليه وهو بتلك الحالة الرجس الخبيث مالك بن النسر فشتمه وعلاه بالسيف، وكان عليه برنس(11) فامتلأ دماً، فرمقه الإمام بطرفه، ودعا عليه قائلاً:
                  (لا اكلت بيمينك ولا شربت وحشرك الله مع الظالمين).
                  وألقى البرنس واعتم على القلنسوة(12) فأسرع الباغي إلى البرنس فأخذه وقد شلت يداه(13).

                  •• الإمام مع ابن رباح
                  وكان مسلم بن رباح هو آخر من بقي من أصحاب الإمام، وكان معه، وقد أصاب الإمام سهم في وجهه الشريف فجلس على الأرض وانتزعه، وقد تفجر دمه، ولم تكن به طاقة فقال لابن رباح:
                  (أدن يديك من هذا الدم).
                  فوضع ابن رباح يديه تحت الجرح فلما امتلأتا دماً قال له:
                  (أسكبه في يدي).
                  فسكبه في يديه، فرفعهما نحو السماء وجعل يخاطب الله تعالى قائلاً:
                  (اللهم اطلب بدم ابن بنت نبيك).
                  ورمى بدمه الشريف نحو السماء فلم تقع منه قطرة واحدة إلى الأرض فيما يقول ابن رباح(14).

                  •• مناجاته مع الله
                  واتجه الإمام (عليه السلام) في تلك اللحظات الأخيرة إلى الله فأخذ يناجيه ويتضرع إليه بقلب مُنيب ويشكو إليه ما ألم به من الكوارث والخطوب قائلاً:
                  (صبراً على قضائك لا إله سواك، يا غياث المستغيثين، مالي رب سواك ولا معبود غيرك. صبراً على حكمك، يا غياث من لا غياث له، يا دائماً لا نفاذ له يا محيي الموتى، يا قائماً على كل نفس أحكم بيني وبينهم وأنت خير الحاكمين)(15).
                  إنه الإيمان الذي تفاعل مع جميع ذاتياته فكان من أهم عناصره.. لقد تعلق بالله وصبر على قضائه وفوض إليه جميع ما نزل به وعاناه من الكوارث والخطوب، وقد أنساه هذا الإيمان العميق جميع ما حل به يقول الدكتور الشيخ أحمد الوائلي في رائعته:
                  يا أبا الطف وازدهى بالضحايا***من أديم الطفوف روض خيل
                  نخبة من صحابة وشقيق***ورضيع مطوق وشبول
                  والشباب الفينان جف ففاضت***طلعة حلوة ووجه جميل
                  وتوغلت تستبين الضحايا***وزواكي الدماء منها تسيل
                  ومشت في شفاهك الغر نجوى***نم عنها التحميد والتهليل
                  لك عتبى يا رب إن كان يرضيك***فهذا إلى رضاك قليلِ

                  •• الهجوم عليه
                  وهجمت على ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) تلك العصابة المجرمة التي تحمل رجس الأرض وخبث اللئام فحملوا عليه - يالله - من كل جانب وهم يوسعونه ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح فضربه زرعة بن شريك التميمي على كفه اليسرى، وضربه وغد آخر على عاتقه، وكان من أحقد أعدائه عليه الخبيث سنان بن أنس، فقد أخذ يضربه تارة بالسيف وأخرى يطعنه بالرمح، وكان يفخر بذلك، وقد حكى للحجاج ما صنعه به باعتزاز قائلاً:
                  (دعمته بالرمح، وهبرته بالسيف هبراً)(16).
                  فالتاع الحجاج على قسوته وصاح به: أما انكما لن تجتمعا في دار(17).
                  وأحاط به أعداء الله من كل جانب، وسيوفهم تقطر من دمه الزكي يقول بعض المؤرخين إنه لم يضرب أحد في الإسلام كما ضرب الحسين فقد وجد به مائة وعشرون جراحة ما بين ضربة سيف وطعنة رمح ورمية سهم(18).
                  ومكث الإمام مدة من الوقت على وجه الأرض، وقد هابه الجميع ونكصوا من الأجهاز عليه يقول السيد حيدر:
                  فما اجلت الحرب عن مثله***صريعاً يجبن شجعانها
                  وكانت هيبته تأخذ بمجامع القلوب حتى قال بعض أعدائه: (لقد شغلنا جمال وجهه ونور بهجته عن الفكرة في قتله) وما انتهى إليه رجل إلاّ انصرف كراهية أن يتولى قتله(19).

                  •• خروج العقيلة
                  وخرجت حفيدة الرسول (صلى الله عليه وآله) زينب من خبائها وهي فزعة تندب شقيقها وبقية أهلها وتقول بذوب روحها:
                  (ليت السماء وقعت على الأرض).
                  وأقبل ابن سعد فصاحت به: يا عمر أرضيت أن يُقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟ فأشاح الخبيث بوجهه عنها ودموعه تسيل على لحيته المشومة(20) ولم تعد العقيلة تقوى على النظر إلى أخيها وهو بتلك الحالة التي تميد بالصبر، فانصرفت إلى خبائها لترعى المذاعير من النساء والأطفال.

                  •• الفاجعة الكبرى
                  ومكث الإمام طويلاً من النهار، وقد اجهدته الجروح وأعياه نزيف الدماء، فصاح بالقتلة المجرمين:
                  (أعلى قتلي تجتمعون؟ أما والله لا تقتلون بعدي عبداً من عباد الله وأيم الله إني لأرجو ان يكرمني الله بهوانكم، ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون..).
                  وكان الشقي الأثيم سنان بن أنس قد شهر سيفه فلم يدع أحداً يدنو من الإمام مخافة أن يغلبه على أخذ رأسه فيخسر الجائزة من سيده ابن مرجانة، والتفت الخبيث عمر بن سعد إلى شبث بن ربعي فقال له:
                  (أزل فجئني برأسه).
                  فانكر عليه شبث وقال له:
                  (أنا بايعته ثم غدرت به، ثم أنزل فاحتز رأسه لا والله لا أفعل ذلك..).
                  والتاع ابن سعد فراح يهدده:
                  (إذاً اكتب إلى ابن زياد).
                  (اكتب له)(21).
                  وصاح شمر بالأوغاد المجرمين من أصحابه: ويحكم ماذا تنتظرون بالرجل؟ اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم فاندفع خولي بن يزيد إلى الاجهاز عليه إلا انه ضعف وأرعد فقد اخذته هيبة الإمام فأنكر عليه الرجس سنان بن أنس وصاح به: فتَّ الله في عضدك وأبان يدك، واشتد كالكلب على الإمام فاحتز رأسه الشريف فيما يقول بعض المؤرخين(22)، وسنذكر الأقوال في ذلك.
                  واحتز رأس الإمام (عليه السلام) وكانت على شفتيه ابتسامة الرضا والاطمئنان والنصر الذي احرزه إلى الأبد.
                  لقد قدم الإمام روحه ثمناً للقرآن الكريم، وثمناً لكل ما تسمو به الإنسانية من شرف وعز وإباء.. وقد كان الثمن الذي بذله غالياً وعظيماً فقد قتل مظلوماً مهضوماً غريباً بعد أن رزئ بابنائه وأهل بيته وأصحابه وذبح وهو عطشاناً أمام عائلته، فأي ثمن أغلى من هذا الثمن الذي قدمه الإمام قرباناً خالصاً لوجه الله؟
                  لقد تاجر الإمام مع الله بما قدمه من عظيم التضحية والفداء، فكانت تجارته هي التجارة الرابحة قال الله تعالى:
                  (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم)(23).
                  والشيء المحقق ان الإمام قد ربح بتجارته وفاز بالفخر الذي لم يفز به أحد غيره، فليس في أسرة شهداء الحق من نال الشرف والمجد والخلود مثل ما ناله الإمام فها هي الدنيا تعج بذكراه، وها هو حرمه المقدس أصبح اعز حرم وامنعه في الأرض.
                  لقد رفع الإمام العظيم راية الإسلام عالية خفاقة وهي ملطخة بدمه ودماء الشهداء من أهل بيته وأصحابه: وهي تضيء في رحاب هذا الكون وتفتح الآفاق الكريمة لشعوب العالم وأمم الأرض لحريتهم وكرامتهم.
                  لقد استشهد الإمام من أجل أن يقيم في ربوع هذا الكون دولة الحق، وينقذ المجتمع من حكم الأمويين الذين كفروا بحقوق الإنسان، وحولوا البلاد إلى مزرعة لهم يصيبون منها حيث ما شاءوا.

                  •• القاتل الأثيم
                  واختلف المؤرخون في المجرم الأثيم الذي اجهز على ريحانة رسول الله (ص)، وهذه بعض الأقوال:
                  1 - سنان بن أنس
                  وذهب الكثيرون من المؤرخين إلى أن الشقي الأثيم سنان بن أنس هو الذي احتز رأس الإمام (ع)(24) وفيه يقول الشاعر:
                  وأي رزية عدلت حسيناً***غداة تبيره كفا سنان(25)
                  2 - شمر بن ذي الجوشن
                  وصرحت بعض المصادر أن الأبرص شمر بن ذي الجوشن هو الذي قتل الإمام(26) فقد كان هذا الخبيث من أحقد الناس على الإمام يقول المستشرق رينهارت دوزي: ولم يتردد الشمر لحظة بقتل حفيد الرسول (صلى الله عليه وآله) حين احجم غيره عن هذا الجرم الشنيع وان كانوا مثله في الكفر(27).
                  3 - عمر بن سعد
                  وذكر المقريزي وغيره ان عمر بن سعد هو الذي قتل الإمام بعد أن احجم غيره من السفكة المجرمين من قتله(28).
                  الهوامش
                  1 - زهر الآداب: ج 1 ص 162، كفاية الطالب.
                  2 - التبان: سراويل صغيرة.
                  3 - معجم الطبراني الكبير: ج 1 ص 140.
                  4 - مقتل الحسين للمقرم: ص 337.
                  5 - جنة المأوى: ص 115.
                  6 - الدر النظيم: ص 168.
                  7 - مقتل الحسين للمقرم: ص 339.
                  8 - عيون الأخبار لابن قتيبة: ج 1 ص 103 - 104.
                  9 - مقتل الحسين للخوارزمي: ج 2 ص 34.
                  10 - أنساب الأشراف: ق 1 ج 1.
                  11 - البرنس: قلنسوة طويلة كانت تلبس في صدر الإسلام.
                  12 - مقتل الحسين للخوارزمي: ج 2 ص 34.
                  13 - أنساب الأشراف: ق 1 ج1.
                  14 - تاريخ ابن عساكر: ج 14 ص 77، كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب من مخطوطات مكتبة كاشف الغطاء العامة.
                  15 - مقتل المقرم: ص 345.
                  16 - هبرته: قطعته.
                  17 - مجمع الزوائد: ج 9 ص 194.
                  18 - الحدائق الوردية: ج 1 ص 126.
                  19 - أنساب الأشراف: ق 1 ج 1.
                  20 - جواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب: ص 139.
                  21 - الدر النظيم في مناقب الأئمة: ص 168.
                  22 - مناقب الخوارزمي: ج 2 ص 36.
                  23 - سورة التوبة: الآية 110.
                  24 - تاريخ ابن الأثير: ج 3 ص 295؛ مقاتل الطالبيين: ص 118؛ البداية والنهاية: ج 8 ص 188؛ أنساب الأشراف: ق 1 ج 1، تاريخ القضاعي.
                  25 - الاستيعاب: ج 1 ص 379.
                  26 - مقتل الحسين للخوارزمي: ج 2 ص 36، مقتل الحسين للمقرم: ص 347.
                  27 - مسلمي إسبانيا.
                  28 - خطط المقريزي: ج 2 ص 286، مناقب ابن شهر آشوب: ج 5 ص 119 من مصورات مكتبة الإمام أمير المؤمنين.

                  تعليق

                  المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                  حفظ-تلقائي
                  x

                  رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                  صورة التسجيل تحديث الصورة

                  اقرأ في منتديات يا حسين

                  تقليص

                  المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                  أنشئ بواسطة ibrahim aly awaly, يوم أمس, 09:44 PM
                  استجابة 1
                  9 مشاهدات
                  0 معجبون
                  آخر مشاركة ibrahim aly awaly
                  بواسطة ibrahim aly awaly
                   
                  أنشئ بواسطة ibrahim aly awaly, يوم أمس, 07:21 AM
                  ردود 2
                  12 مشاهدات
                  0 معجبون
                  آخر مشاركة ibrahim aly awaly
                  بواسطة ibrahim aly awaly
                   
                  يعمل...
                  X