بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلي على محمد وعلى آ له وعجل فرجهم يا كريمالسجن الحقيقي
إن الله عز وجل عندما أوجدنا في صحراء هذا العالم الفسيح لم يتركنا نضيع في فلواتها الممتدة ، فأرسل الرسل والأنبياء ليجمعوا شتاتنا وليضيئوا لنا معالم طريق السعادة الأبدية ضمن منهج إلهي متكامل لا يأتيه الباطل .. فكانت الأديان والكتب السماوية هي السبيل إلى النجاة . إلا أن هناك من لم يستطع أن يحلق مع هذا السرب .. مع الأنبياء والصالحين .. فكلما أراد التحليق وجد قوة جاذبة تجذبه إلى الأرض فيقع مستسلما لها .. تلك القوة الجاذبة كانت أغلالا وقيودا شلت حركته ومنعته من التحليق .. كانت أهواء وميولا وإغراءات دنيوية تأسر روح الإنسان المسكين بين قضبانها فيعيش متعثرا في ظلام مخيف بعدما آثرها على المبادئ والقيم الإنسانية التي جاءت بها الأديان السماوية لتحررنا من هذا السجن المظلم .
فالإنسان الذي يترفع عن أهوائه وميوله ويجاهد للثبات على مبادئه وقيمه هو في نظر الإنسانية إنسانا حرا حتى لو كان بالظاهر بين قضبان سجن موحش . فهذا نبي الله يوسف عليه السلام الذي آثر السجن المادي على التخلى عن مبادئه ومخالفة أوامر الله عز وجل عندما امتحنه الله بامرأة العزيز والتي كانت ذات جمال آسر ومال ومقام .. إلا أن نور الإيمان والعفة في قلبه عليه السلام أوجد هدوءا وسكينة خاصة .. فصمم بعزم وشجاعة والتفت نحو السماء ليناجي ربه وهو في هذه الشدة فقال : ( ربي السجن أحب إلى مما يدعونني إليه ) يوسف/ 33، فقد وجد نبي الله يوسف عليه السلام حرية روحه وطهارة نفسه في هذا السجن الظاهري .. ورفض الحرية الظاهرية التي تلوث نفسه وتأسر روحه في سجن حقيقي كسجن " الشهوة "، وقد قال الإمام الصادق عليه السلام : ( من ترك الشهوات كان حرا ) . فأي مكان نقف فيه سيكون سجننا الحقيقي إذا لم تحركنا مبادئ وتعاليم الشريعة الإلهية وتقتحم كياننا بسموها وترفعنا عن الأهواء البشرية الزائفة محطمة الأغلال والقيود لتحلق أرواحنا بسرب الأنبياء والصالحين ، يقول الإمام الصادق عليه السلام : ( المسجون من سجنته دنياه عن آخرته ).
ومن الجدير بالذكر ، أن بعض أرباب المدارس الفلسفية الحديثة –كالوجوديين- يرون أنّ الشخصية في الإنسان تساوي العصيان والتمرّد على جميع القيود والتحرّر من كل ألوانها وأشكالها بلا استثناء ، ويعدّون كل قيد وانقياد – بما في ذلك أحكام الشريعة الإلهية وتعاليمها- موجباً لبعده عن واقعه الإنساني وحركته نحو التكامل . وبالفعل ليس للإنسان حد في رحلته نحو التكامل ولكن بالتأكيد له طريق ودليل ينظم هذه الرحلة . فكما أن للكواكب والنجوم مدارات خاصة تنظم حركتها في فضاء هذا الكون اللامتناه بحيث أنها لو خرجت عن مدارها لحدثت الكارثة ، وكما أن المجتمعات الحضارية تحتاج إلى قوانين وتشريعات تنظم العلاقة بين أفرادها ، كذلك فإن رحلة الإنسان نحو التكامل تحتاج إلى طريق محدد وواضح ودليل يرشده إلى مبتغاه ، فالحدود التي تقع على جانبي الطريق لتحمي السالك فيه من الانحراف عن الجادة -كالأحكام والتشريعات الإلهية- هي حدود ضرورية ، بينما الحدود التي يجب إزالتها هي التي تقع في منتصف الطريق -كالأهواء والميول- فيقف السالك في نقطة الركود والجمود غير قادر على مواصلة مسيرته نحو الرقي والكمال.
تعليق