رجاحة العقل ميزان هوى النّفس
طاقتا العقل والهوى
يحدّثنا القرآن الكريم عن طاقتين في ذات الإنسان؛ طاقة إيجابية ترتفع به إلى مواقع المسؤولية وإلى ما يقرّبه من الله سبحانه وتعالى ويجعله في موقع السعادة في الدنيا والآخرة، وطاقة سلبية قد تهبط به إلى أدنى المستويات، وتبتعد به عن الله، وتسير به في مواقع الهلكة، وتحوّل حياته الخاصَّة والعامة إلى حال من الفوضى.
فهناك العقل والعاطفة، والفكر والغريزة، والمبدأ والشهوة... ونحن، عندما نريد أن نصنع لأنفسنا الشخصية الواعية التي تتميّز بالبصيرة، وتتحرَّك في الخطِّ المستقيم، وتؤكّد الحق في كلِّ ما تفكّر فيه وما تمارسه وتتحرّك فيه، فلا بدَّ من أن نأخذ بأسباب العقل، لأنّ العقل هو الطَّاقة التي يمكن للإنسان من خلالها أن يميّز الحسن من القبيح، والحق من الباطل، والخير من الشر، وهو الّذي يدفعه إلى أن يختار الحق مهما كان مرّاً، وأن يختار الخير مهما كان صعباً، وأن يختار الاستقامة مهما كانت معقّدةً في الواقع.
حجّيّة العقل
وقد جعل الله العقل نوراً يضيء للإنسان حياته، ولذلك اعتبره حجّةً بينه وبين عباده، فالله تعالى يحتجّ على الإنسان بما يدركه عقله، لأنّ العقل لا يدرك إلاّ الحقّ، والإنسان إنّما ينفتح على معرفة الله بعقله، وقد ورد في الحديث المأثور: «إنّ الله لما خلق العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقاً هو أكرم عليّ منك، إياك آمر وإياك أنهى، وإيّاك أثيب ـ عندما يتحرك عقل الإنسان في طريق الخير ـ وأيّاك أعاقب»، لأنّ العقل هو الذي يعطي لأيِّ عمل قدره، لذا ورد في الحديث: «تفكّر ساعة خير من عبادة سنة»، وورد أيضاً: «ركعتان يصلّيهما العالِم، أفضل من ألف ركعة يصليها العابد»، من دون وعي.
لذلك، على الإنسان أن يربّي عقله وينمّيه بالتفكير، بحيث يفكر في كلِّ ما يعرض عليه ويقدّم إليه، ويتحمّل مسؤوليته.
العاطفة السلبيّة
وفي مقابل العقل هناك العاطفة، وهي حالة إنسانيّة تتّصل بالشعور والإحساس، ولكن لا ضوابط لها، لأنّها تنطلق من الحالة النفسية الشعورية الّتي تتفاعل مع الغرائز والأحاسيس، وهي قد تتحرّك من خلال بعض الظروف أو العلاقات المحيطة بالإنسان. وقد تحدّث المتحدّثون عن الحب الأعمى، وهو الحبّ الّذي لا يملك معه الإنسان بصيرته، بحيث لا يعرف لماذا أحبّ فلاناً أو أبغضه، ومن دون أن يدرس العناصر الأساسية للحبّ والبغض، وقد رسم الله تعالى للإنسان الأسس التي عليه أن يراعيها في مسألة الحب والبغض، فجعل «الحبّ في الله، والبغض في الله»، وقد ورد في الحديث: «إذا أردت أن تعلم أنّ فيك خيراً فانظر إلى قلبك، فإن كان يحبّ أهل طاعة الله ويبغض أهل معصيته، ففيك خير والله يحبك، وإن كان يبغض أهل طاعة الله ويحبّ أهل معصيته، فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع مَن أحبّ».
فالعاطفة قد تؤدِّي بالإنسان إلى الهلكة، ولذلك كنّا نقول دائماً إنّ علينا أن نعطي العقل جرعةً من العاطفة ليرقّ ويلين، وأن نعطي العاطفة جرعةً من العقل لتتوازن. وعلى ضوء هذا، لا بدَّ للإنسان في حركته في الحياة، من أن يقف مع عقله ويحرّكه ويستنطقه ويتّبعه، وأن لا يتبع عاطفته وهوى نفسه، لما لذلك من خطورة على مصيره في الآخرة، وهو ما عبّر عنه الله سبحانه في كتابه المجيد، بقوله تعالى: {أفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِـ بحيث يملك وضوح الرؤية والمعرفة العقلية التي تمثِّل الحجة عليه أمام الله ـ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ـ وهو الإنسان الذي يرى عمله من أفضل الأعمال، بينما هو في الواقع من أسوأ الأعمال ـ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}(محمد:14)، بحيث ساروا في طريق مشتهيات النفس.
وقال تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ـ الّذين ظلموا أنفسهم بالشّرك والمعصية ـأَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُـ بحيث يرفع عنهم لطفه ورضوانه ـ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}(الروم:29). ويقول تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌـ الذّرية غير الصالحة ـأَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً}(مريم:59).
ضلالة الهوى
ويحدثنا الله تعالى عن بعض نماذج النّاس المنحرفين، الّذين يحاولون أن يؤثّروا على من يصاحبهم لينحرفوا به عن الخطِّ المستقيم، فيقول تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً}(النساء:27). كما يحدِّثنا الله تعالى عن الذين يعبدون شهواتهم من دون الله، لأنّ الطاعة هي مظهرٌ من مظاهر العبودية، قال تعالى: {أرأيت مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}(الجاثـية:23).
وقد ورد عن رسول الله (ص): «ما تحت ظل السماء من إله يُعبد من دون الله أعظم عند الله من هوى متّبع». وورد عن الإمام عليّ (ع): «الجاهل عبد شهوته».
وقال تعالى مخاطباً داود نبيّه(ع)، في توجيهٍ لكلِّ من يلي شؤون الناس من قضاءٍ وغيره: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}(ص:26).
ويقول تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(الأعراف:175-176). وهؤلاء نجد الكثير منهم، كالذي يملك علماً ولكنّه لا يعمل به ولا يهتدي به. ويقول تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ـ وهو الهوى المحرّم ـ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}(النازعـات: 37-41).
إنَّ علينا ـ كمؤمنين ـ أن نعمل لننمِّي عقولنا ونستنطقها، ونجعلها مشرفةً على غرائزنا وشهواتنا وعواطفنا، وقد قال عليّ (ع): «لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه». فلتكن حركتنا في كلّ حياتنا ـ على تنوّعها ـ محكومةً للعقل، ولنبتعد بها عن الخضوع للهوى، لأن الهوى سوف يلقي بصاحبه في نار جهنَّم.
---------المصدر:بينات_سماحة آية الله العظمى لعلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله (حفظه الله)