منشور في مجلة تراثنا – العدد 47 و 48
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
تاريخ الحديث وعلومه
[مراحل تدوين الحديث عند الشيعة الاِمامية، ابتداءً من عصر الرسول صلى الله عليه وآله ، وانتهاءً بعصر الشيخ الطوسي]
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الاَنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
تمهيـد:
إنّ السُنّة النبوية ـ قولاً، وفعلاً، وتقريراً ـ هي صنو القرآن الكريم وتالية له، فالقرآن الكريم يشرّع الاَُصول والقوانين، ويؤسّس القواعد الكلية للاَحكام والاَخلاق والآداب، بل لكلّ ما يتّصل بعلوم الدين ومعارفه ومناهجه التربوية والاجتماعية، والسُنّة المطهّرة تتناول تلك الاَُصول والقواعد فتفصّلها، وتوضّح مبهماتها، وتحلّ متشابهاتها، وتبيّن مجملاتها، مع ما تفرّعه عليها، بحيث لم تدع ملحظاً كليّاً أو جزئياً له صلة بالفرد أو المجتمع إلاّ وقد بيّنت حكمه وأرشدت إليه بكلّ دقّة وتفصيل، وبشكل يستحيل معه رفع اليد عن السُنّة النبويّة في فهم القرآن الكريم.
وعليه، فمحاولة فصل السُنّة عن القرآن الكريم: هي بمثابة الاِعراض عن كتاب الله عزّ وجلّ، والتعبير عن اللامبالاة بتعاليمه الآمرة بالاَخذ بمدلول السُنّة الشريفة: (ومَا آتاكمُ الرسولُ فخذوهُ ومَا نَهاكمْ عنه فانتهُوا)(1).
وعلى الرغم من وضوح هذه الحقيقة إلاّ أنّ محاولات فصل السُنّة عن القرآن الكريم قد وُجدت لها الاَعذار من الشريعة نفسها، واختُلقت لها المبرّرات التي سنقف عندها لنرى مدى صدقها وانطباقها مع أسباب ودوافع منع تدوين الحديث الشريف، الذي ظهر بُعَيد وفاة الرسول الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، ثمّ اتُّخذ المنع عن كتابة الحديث منهجاً سياسياً طيلة قرنٍ من الزمان، بعدما كان تعاطي الحديث ونشره من قبل الصحابة أمراً طبيعياً جدّاً في العهد النبوي، بل تقتضيه طبيعة رسالة الاِسلام في كلّ حين، لعالميّتها (وَما أَرسلناكَ إلاّ رَحمةً للعالمين)(2).
نعم، لم يُمنع أحدٌ من كتابة الحديث الشريف في العهد النبوي الشريف، كما تدلّ عليه جميع الدراسات الموضوعية الخاصّة بدراسة تاريخ السُنّة المُطهّرة ومراحل تدوين الحديث، فقد جمعت تلك الدراسات أسماء المدوّنين والمدوّنات الحديثية في العهد النبوي، وبشكل مُلفت للنظر؛ لكثرتها في ذلك العصر المتقدّم من عمر الاِسلام، بخلاف ما قد يُظن من نُدرتها تبعاً لظروف التدوين ونُدرة وسائله حينذاك، مع استقراء الروايات الدالّة على إباحة التدوين.
وأمّا الروايات المخالفة لذلك، بنسبة المنع إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فهي
____________
(1) سورة الحشر 59: 7.
(2) سورة الاَنبياء 21: 107.
مكذوبة عليه صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا أصل لها في واقع التشريع، ويكذّبها القرآن الكريم، وتشنّ السُنّة المطهّرة ـ نفسها ـ حرباً شعواء على تلك الروايات وتدفعها؛ لمخالفتها الصريحة لتطلّعات دين الاِسلام نحو الكتابة والتعلّم والسعي في طلبه، وبيان فضله حتّى ورد في الخبر: « عالم يُنتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد»(1) و «لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المُهج وخوض اللجج»(2)، فضلاً عن مخالفتها لمقتضيات العقل السليم، وطبيعة الحضارات في كلّ زمان ومكان.
غاية ما في الاَمر.. أنّه ـ وبعد وفاة الرسول الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم ـ مرّ حديثه الشريف بأَزْمةٍ خانقة، ومواقف سلبيّة أدّت إلى الحظر عليه روايةً، ومنعه تدويناً، حتّى اتّسمت تلك المواقف بتصرّفات شاذّة، كحرقهم صحائف الحديث الشريف، ودفنهم كتبه، وحبس الصحابة في مركز الخلافة خوفاً من تفشّي الحديث خارج المدينة المنوّرة، مع النهي العامّ عن تعاطي الحديث رواية وتدويناً!!
لقد تركت تلك المواقف آثارها السيّئة على واقع الحديث، إذ غُيّرت السُنّة، ومُحقت الشريعة، وذلك بتمهيد السُبل أمام الاَيدي الآثمة من الزنادقة، وأهل الاَهواء، لاَنْ تعبث بالحديث الشريف، فتضع ما شاء لها الهوى لا سيما مَنْ تَقرّبَ إلى بلاط الاَُمويين باختلاق الروايات التي تؤيّد عروشهم، وتنال من خصومهم السياسيين، كما تشهد عليه الكتب المؤلّفة في الموضوعات والوضّاعين.
وبدلاً من أن تجتمع الكلمة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على صيانة
____________
(1) أُصول الكافي 1: 82 ح 8، باب 2 من كتاب فضل العلم.
(2) أُصول الكافي 1: 85 ح 5، باب 4 من كتاب فضل العلم.
حديثه الشريف من عبث العابثين، حدث العكس تماماً! كما سنرى في المواقف الحكومية الاَُولى من تدوين الحديث الشريف.
في تاريخ الحديث الشريف موقفان متعارضان، تميّز أحدهما بالتزام تدوين الحديث الشريف والحفاظ عليه، ويمثّله أهل البيت عليهم السلام ، وشيعتهم كما سيتّضح في ما بعد.
وتميّز الآخر ـ وهو الخطّ الحاكم الذي برز بعد أحداث السقيفة وامتدّ إلى زمان عمر بن عبدالعزيز الاَُموي (ت 101 هـ) ـ بمواقف سلبية متطرّفة جدّاً، حتّى مُنع الحديث روايةً وتدويناً، واتّخذ المنع صفته الرسمية طيلة تلك الفترة، وسنبتدىَ بدراستها وتقييمها على النحو الآتي:
موقف أبي بكر من الحديث الشريف:
عن عائشة، قالت: جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانت خمسمائة حديث، فبات ليلته يتقلّب... فلمّا أصبح قال: أي بُنَيَّة، هلمّي الاَحاديث التي عندكِ. قالت: فجئته بها، فدعا بنار فحرقها! فقلت: لِمَ أحرقتها؟!
قال: خشيت أن أموت وهي عندي، فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت [به]، ولم يكن كما حدّثني، فأكون قد نقلت ذلك(1)!!
____________
(1) تذكرة الحفّاظ 1| 5، في ترجمة أبي بكر.
ويلاحظ هنا:
إنّ تصرّف أبي بكر بجمع خمسمائة حديث شاهد على عدم وجود النهي السابق بشأن تدوين الحديث، وإلاّ لكان ذلك الجمع مخالفاً للنهي عنه.
كما إنّ تعليله إحراق الاَحاديث بالنار لم يستند على نهي سابق عن التدوين، بل كان لاَجل خشيته من عدم مطابقة تلك الاَحاديث للواقع، وخوفه من المشاركة في حمل أوزارها.
وهذا ممّا لا يمكن قبوله للاَسباب التالية:
1 ـ إنّ من كان مثل أبي بكر لا يحتاج إلى مثل هذه الطريقة في جمع الاَحاديث قطعاً، إذ بإمكانه ـ وهو الخليفة المطاع أمره ـ أن يُوعِز إلى كبار الصحابة وأجلاّئهم وحفّاظهم بذلك، ويوكل لهم أمر التحرّي عن صدق ما يتناقله الناس من الحديث في عصره، وَيوكل إليهم مهمّة الجمع على غرار ما يروى من أنّه جمع المصحف الشريف، ودوّن بإشرافه.
2 ـ لو تنزّلنا عن ذلك، فإنّه لا يحتاج إلى الواسطة في رواية خمسمائة حديث عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، بالقياس إلى فترة إسلامه المبكّر، ومن غير المعقول أن لا تكون لاَبي بكر مسموعات بلا واسطة من ضمن المقدار الذي جمعه، إذ من البعيد جدّاً أن يترك ما سمعه بنفسه عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ويقتصر على ما سمعه بالواسطة!
فظاهر الحال أنّه أحرق مسموعاته ومسموعات غيره، ولا أجد ـ مع هذا الفرض المقبول ـ تعليلاً في تكذيب الرجل نفسه، ليسوّغ له إحراق ما
سمعه بأُذُنِه.
3 ـ إنّه صرّح بوثاقة الناقل وأمانته في تأدية الحديث، وعليه فلا معنى للشكّ في صدقه أو التأمّل في وثاقته، ولا يبرّر هذا الشكّ حرق الاَحاديث، على أنّه يمكن له التأكّد من سلامتها بعرضها على مجموع الصحابة، فإنْ شهدوا بكذبها جميعاً فعليه التشهير بناقلها وتأديبه كما يقتضيه واجبه الشرعي، وإنْ قالوا بصحّتها فيمضي ما جمعه بلا إحراق؛ ليكون سُنّة حسنة تُقتفى من بعده.
كلّ هذا يدلّ على أنّ وراء حرق الاَحاديث سبب غير معلن، لعدم قبول الاَسباب المعلنة عقلاً.
وفي «تذكرة الحفّاظ» في ترجمة أبي بكر، إنّه جمع الناس بعد وفاة نبيّهم صلى الله عليه وآله وسلم وقال لهم: «إنّكم تحدّثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً، فلا تحدّثوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه»(1).
وفيه:
إنّه عبّر عن رغبته في عدم انتشار الحديث، فنهى عنه بذريعة الاختلاف! ويَرِد عليه ما أوردناه سابقاً من إمكانية إزالة أسباب الاختلاف الحاصل في الاَحاديث بيسر وسهولة قبل أن تتفاقم بَعده، أمّا تركها على ما هي عليه من الاختلاف، والاكتفاء بمجرّد النهي، فليس هو الحلّ الاِسلامي
____________
(1) تذكرة الحفّاظ 1|3 رقم 1.
الذي ينبغي أن يُصار إليه.
ومن ثَمّ فإنّ نهيه عن التحديث المعلّل بوقوع الاختلاف، لو تمّ لزم منه أن يطّرد النهي لاطّراد العلّة، حتّى يشمل النهي القراءات المختلفة للقرآن الكريم التي كانت معروفة في عصره، وهي لا تقلّ خطراً عن اختلاف الحديث.
ثمّ كيف نجد التكييف الشرعي لهذا التصرّف مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم : رحم الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فحَفظها، فبلّغها عنّي»؟! وقوله الكريم بعد كثير من إرشاداته وتبليغاته: «فليبلّغ الشاهد الغائب»؟!
على أنّ هذا الموقف العجيب من السُنّة المطهّرة، قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، منبّهاً على كونه وشيك الوقوع، أي: قريبه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : «يوشك الرجل متّكئاً على أريكته يُحَدَّثُ بحديثٍ من حديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله عزّ وجلّ، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرّمناه!! ألا وإنّ ما حرّم رسول الله مثل ما حرّم الله»(1).
وقد علمت مَن أقدم على حرق الاَحاديث، وقال مخاطباً أهلها: «بيننا وبينكم كتاب الله»!
موقف عمر من تدوين الحديث الشريف:
لقد استمرّ المنع من الحديث روايةً وتدويناً في عهد أبي بكر، ولمّا
____________
(1) سنن ابن ماجة 1|6 رقم 12، وسنن الترمذي 5|37 حديث 26663، وقال: هذا حديث حسن صحيح، ورواه من طريق آخر، وسنن أبي داود 4| 200 رقم 4604 و 4605 باب لزوم السُنّة، ومسند أحمد 6|8، والمستدرك على الصحيحين 1|108 قال: وهو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ورواه من طريق آخر وقال: وجدنا للحديث شاهدين بإسنادين صحيحين.
( 202 )
استخلف عمر بعهد الخلافة إليه، جرى عمر على سيرته حذو النعل بالنعل، وفاقه في تعميم المنع الصريح من الحديث روايةً وتدويناً على جميع الاَمصار الاِسلامية.
فعن عروة بن الزبير قال: «إنّ عمر بن الخطّاب أراد أن يكتب السنن فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله شهراً، ثمّ أصبح يوماً وقد عزم الله له، فقال: إنّي كنت أردت أنْ أكتب السنن، وإنّي ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبّوا عليها، فتركوا كتاب الله تعالى، وإنّي ـ والله ـ لا ألْبِسُ كتاب الله بشيءٍ أبداً»(1)
.
ثمّ كتب عمر ـ على أثر ذلك ـ إلى المسلمين في جميع الاَمصار الاِسلامية: «من كان عنده منها ـ أي: السنن ـ شيءٌ فليمحه»(2).
كما إنّه عَلِمَ بوجود بعض المدوّنات الحديثيّة في أيدي الصحابة، فأمر أن يأتوه بها، فجاءوا بها إليه وظنّوا أنّه يقوِّمُها من الاِختلاف ثمّ يدوّنها في كتاب واحد، لكنّه أحرقها بالنار ثمّ قال: «أُمنيّة كأُمنيّة أهل الكتاب»(3).
الاقتداء بسنة عمر:
سار عثمان ومن والاه على طريقة عمر، ورأينا في عهدهما جملة من الصحابة كانوا يميثون صحائف الحديث المدوّنة بالماء، ويدفنون كتب الحديث المدوّنة تحت التراب! بلا حجّة ولا مبرّر معقول سوى أمر السلطة
____________
(1) تقييد العلم: 49.
(2) تقييد العلم: 53.
(3) تقييد العلم: 53.
واجتهادها في إبادة حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ولقد تعجّب ابن الجوزي ـ وحقّه أن يتعجّب ـ من هذا الصنيع الشاذّ، فوصفه بأنّه عناد عظيم للشريعة فقال: «فما عوندت الشريعة بمثل هذا»(1)، وأمّا عن دفن الكتب، فقد قال أحمد بن حنبل: «لا أعلم لدفن الكتب معنىً»(2).
ثمّ استمرّ منع الحديث كما يقول أبو زهو: «وقد تتابع الخلفاء على سُنّة عمر.. فلم يشأ أحدٌ منهم أن يدوّن السُنن، ولا أن يأمر الناس بذلك حتّى جاء عمر بن عبدالعزيز»(3).
أقول:
إنّ جميع من تعرّض لدراسة تاريخ السُنّة ومراحل تدوين الحديث الشريف فصّل موقف عثمان الموافق لمن سبقه بشأن الحديث وموقف معاوية المتشدّد إزاء كلّ حديث يروى عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام أو في أهل البيت عليهم السلام وتابعه ملوك الاَُمويّين إلى زمان عمر بن عبدالعزيز الاَُموي.
وقد ارتأينا عدم الخوض في مواقف السلطة في تلك الحقبة الزمنية والاكتفاء بموقف من ذكرنا إزاء الحديث روايةً وتدويناً اختصاراً للكلام ومراعاةً لحجم البحث، مع فسح المجال لحديث أهمّ في صفحاته اللاّحقة.
غير إنّه لا بُدّ من التذكير بتعرّض بعض الصحابة بعد وفاة الرسول إلى
____________
(1) نقد العلماء ـ أو: تلبيس إبليس ـ: 314 ـ 316.
(2) تقييد العلم: 63، وانظر مزيداً من هذه الاَقوال في «تدوين السُنّة الشريفة» للسيّد محمد رضا الحسيني الجلالي، الفصل الخاصّ بالمنع عن التدوين.
(3) الحديث والمحدّثون: 126.
الاستدعاء الرسمي من قبل المانعين الاَوائل لكي يعلموا جيداً اتّجاه السلطة ورغبتها في أن لا يشيع الحديث بين الناس، وقد استجابوا للسلطة على مضض، كأبي هريرة، وأبي مسعود، وابن مسعود، وأبي موسى الاَشعري، وأُبيّ بن كعب، وأبي الدرداء، بل وقد تعرّض بعضهم إلى الاِهانة من قبل السلطة مع تهديدها المباشر لهم إن لم يكفّوا عن إشاعة الحديث الشريف(1)!!
حجج المانعين عن التدوين:
لم تكن لدى المانعين حجّة شرعية يستندون إليها في مقام منع تدوين الحديث، ولكن اختُلقت لهم بعض الحجج في ذلك بنسبة المنع إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، مع أنّ أحداً من المانعين لم ينسب المنع قّط إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ، مع كونهم أقرب الناس إلى عصر التشريع، وفي ذلك دليل على اختلاق تلك الروايات وافتعالها لصيانة الواقع التاريخي الذي ساد، وحفـظ كرامة السلف الماضين.
* ومن تلك الروايات، ما رووه عن أبي سعيد الخُدْري أنّه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : «لا تكتبوا عنّي، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه»(2).
وهذا الحديث باطل من وجوه:
أمّا من حيث السند، فقد حكم الحفّاظ بأنّه من الموقوفات على أبي
____________
(1) راجع: تدوين السُنّة الشريفة: 434 تحت عنوان: «عمر يهدّد الصحابة ويهينهم».
(2) صحيح مسلم 4\ 2289 ح 72، باب التثبّت في الحديث من كتاب الزهد.
سعيد الخُدْري، وليس من المرفوعات حتّى يصح الاحتجاج به.
وأمّا من حيث الدلالة، فلم يتّفق لاَحد من علماء الحديث عند العامّة أنّ فهم منه المنع العام عن تدوين الحديث، بل حمل على المنع عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة، خوف اختلاطهما على غير العارف في صدر الاِسلام.
ويكفي أنّ مسلماً ـ صاحب «الصحيح» ـ أورده في باب التثبّت في الحديث، وعنوان الباب صريح بأنّ مسلماً فهم منه مجرّد المحافظة على الحديث.
كما قيل بشذوذ الحديث أيضاً(1).
* ومنها أيضاً، ما رووه عن أبي سعيد كذلك من أنّه استأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتابة الحديث فلم يأذن له(2).
وأوّل ما في هذه الرواية هو أنّ المنع خاصّ بأبي سعيد، فكيف يستفاد منها ـ على فرض صحّتها ـ المنع العام عن كتابة الحديث؟!
على أنّ راويها سفيان بن عيينة وهو متّهم بالتدليس.
إلى غير ذلك من الروايات الاَُخرى التي أشبعها السيّد الجلالي في «تدوين السُنّة الشريفة» بحثاً وتمحيصاً وانتهى إلى نتائج باهرة، بحيث يَسّر لغيره الوقوف على حقيقة تلك الروايات ومعرفة قيمتها العلمية سنداً ودلالة(3)،
____________
(1) هذه الوجوه من «تدوين السُنّة الشريفة»: 290 ـ باختصار ـ.
(2) تقييد العلم: 32.
(3) تدوين السُنّة الشريفة: 297 ـ 315.
( 206 )
معارضة المنع لاَحاديث الاِذن بالكتابة وإباحتها:
إنّ أحاديث منع التدوين المرفوعة والموقوفة معارضة لِما ورد في الصحيح الثابت عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بشأن تدوين الحديث الشريف.
* من قبيل ما رواه رافع بن خديج قال: «قلت: يا رسول الله، إنّا نسمع منك أشياء، أفنكتبها؟ قال: اكتبوا ولا حرج»(1).
* وكذلك أمر صلى الله عليه وآله وسلم أن تُكتَب خطبته الشريفة عند فتح مكّة، حين طلب أبو شاه ـ رجل من أهل اليمن ـ أن يكتبوا له الخطبة، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : «اكتبو لاَبي شاه»(2).
* ومنها، قول عبدالله بن عمرو بن العاص: «يا رسول الله، إنّا نسمع منك أشياءً لا نحفظها، أفنكتبها؟ قال: بلى، فاكتبوها»(3).
* وعن عبدالله بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «قيّدوا العلم بالكتاب»(4).
* وعنه أيضاً، قال: «كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأُريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كلّ شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشر يتكلّم في الرضا والغضب!!؟ قال: أمسكت، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أكتب، فوالذي
____________
(1) تقييد العلم: 73.
(2) صحيح البخاري 1: 40 ـ 41، وصحيح الترمذي 5| 39 رقم 2667.
(3) تقييد العلم: 74.
(4) تقييد العلم: 69، ورواه أنس بن مالك في «تقييد العلم»، وابن عبّاس في الكامل ـ لابن عدي ـ 2|792 ،كما في «تدوين السُنّة الشريفة».
نفسي بيده ما خرج منه إلاّ حقّ، وأشار صلى الله عليه وآله وسلم بيده إلى فيه»(1).
* ومنها: حديث أبي هريرة: «ما كان أحد أكثر حديثاً منّي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ ما كان من عبدالله بن عمرو، فإنّه كان يكتب ولم أكن أكتب»(2).
* ومن ذلك أيضاً ما رواه الترمذي بسنده عن أبي هريرة، قال: كان رجل من الاَنصار يجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيسمع من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الحديث، فيعجبه ولا يحفظه، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال: يا رسول الله، إنّي لاَسمع منك الحديث فيعجبني ولا أحفظه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «استعن بيمينك» وأشار بيده إلى الخط(3).
معارضة المنع لاَُمور أُخرى:
كما إنّ أحاديث منع التدوين بالرغم من معارضتها إلى هذه الروايات وكثير غيرها، معارضة أيضاً لاِجماع أهل البيت عليهم السلام على إباحة التدوين، ومعارضة أيضاً لِما قام الدليل القاطع عليه، أعني وجود المدوّنين في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقد عرفوا بأسمائهم وأُفردوا بدراسات خاصّة عند الفريقين، هذا فضلاً عن وجود الخطّ الآخر الملتزم بتدوين الحديث ونشره بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة، مع عدم الرضوخ لاَوامر المنع ومقاومتها بكلّ قوّة كما سننبّه عليه في محلّه.
____________
(1) مسند أحمد 2|162، وتقييد العلم: 80 ـ 81.
(2) صحيح البخاري 1|36 باب كتابة العلم.
(3) صحيح الترمذي 5|39 رقم 2666.
( 208 )
ولاَجل هذه الاَُمور مجتمعة وجد مؤيّدو سياسة المانعين أنفسهم في أمسّ الحاجة إلى البحث عن مبرّرات معقولة ومقبولة تسوّغ ذلك التصرّف المريب إزاء الحديث الشريف رواية وتدويناً، فالتمسوها من أقوال المانعين أنفسهم! ولا بأس هنا من التطرّق اليها؛ لمعرفة قيمتها العلمية، مراعين بذلك الاختصار(1).
____________
(1) في كتاب «تدوين السُنّة الشريفة» للعلاّمة المحقق السيّد محمد رضا الحسينى الجـلالي جهد مميّز في متابعة أزمة منع تدوين الحديث الشريف، واستقراء ما في تاريخها من ملابسات، وما أفرزته تلك الاَزمة من مواقف العلماء والباحثين والمستشرقين حيالها، بما في ذلك مبرّرات المنع ومناقشتها.
ولمّا كان هذا المقال قد أُعدّ في الاَصل كجزء من مدخل لدراسةٍ موسعة عن مناهج المحدّثين، اقتضى الاَمر التنويه بالكتاب والاِشادة بما احتوى عليه من تحقيق، مع الاستفادة المباشرة منه فى أكثر من موضع.
يتبع ...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
تاريخ الحديث وعلومه
[مراحل تدوين الحديث عند الشيعة الاِمامية، ابتداءً من عصر الرسول صلى الله عليه وآله ، وانتهاءً بعصر الشيخ الطوسي]
السيّـد ثامر هاشم حبيب العميدي
بسـم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الاَنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
تمهيـد:
إنّ السُنّة النبوية ـ قولاً، وفعلاً، وتقريراً ـ هي صنو القرآن الكريم وتالية له، فالقرآن الكريم يشرّع الاَُصول والقوانين، ويؤسّس القواعد الكلية للاَحكام والاَخلاق والآداب، بل لكلّ ما يتّصل بعلوم الدين ومعارفه ومناهجه التربوية والاجتماعية، والسُنّة المطهّرة تتناول تلك الاَُصول والقواعد فتفصّلها، وتوضّح مبهماتها، وتحلّ متشابهاتها، وتبيّن مجملاتها، مع ما تفرّعه عليها، بحيث لم تدع ملحظاً كليّاً أو جزئياً له صلة بالفرد أو المجتمع إلاّ وقد بيّنت حكمه وأرشدت إليه بكلّ دقّة وتفصيل، وبشكل يستحيل معه رفع اليد عن السُنّة النبويّة في فهم القرآن الكريم.
( 195 )
وعليه، فمحاولة فصل السُنّة عن القرآن الكريم: هي بمثابة الاِعراض عن كتاب الله عزّ وجلّ، والتعبير عن اللامبالاة بتعاليمه الآمرة بالاَخذ بمدلول السُنّة الشريفة: (ومَا آتاكمُ الرسولُ فخذوهُ ومَا نَهاكمْ عنه فانتهُوا)(1).
وعلى الرغم من وضوح هذه الحقيقة إلاّ أنّ محاولات فصل السُنّة عن القرآن الكريم قد وُجدت لها الاَعذار من الشريعة نفسها، واختُلقت لها المبرّرات التي سنقف عندها لنرى مدى صدقها وانطباقها مع أسباب ودوافع منع تدوين الحديث الشريف، الذي ظهر بُعَيد وفاة الرسول الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، ثمّ اتُّخذ المنع عن كتابة الحديث منهجاً سياسياً طيلة قرنٍ من الزمان، بعدما كان تعاطي الحديث ونشره من قبل الصحابة أمراً طبيعياً جدّاً في العهد النبوي، بل تقتضيه طبيعة رسالة الاِسلام في كلّ حين، لعالميّتها (وَما أَرسلناكَ إلاّ رَحمةً للعالمين)(2).
نعم، لم يُمنع أحدٌ من كتابة الحديث الشريف في العهد النبوي الشريف، كما تدلّ عليه جميع الدراسات الموضوعية الخاصّة بدراسة تاريخ السُنّة المُطهّرة ومراحل تدوين الحديث، فقد جمعت تلك الدراسات أسماء المدوّنين والمدوّنات الحديثية في العهد النبوي، وبشكل مُلفت للنظر؛ لكثرتها في ذلك العصر المتقدّم من عمر الاِسلام، بخلاف ما قد يُظن من نُدرتها تبعاً لظروف التدوين ونُدرة وسائله حينذاك، مع استقراء الروايات الدالّة على إباحة التدوين.
وأمّا الروايات المخالفة لذلك، بنسبة المنع إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فهي
____________
(1) سورة الحشر 59: 7.
(2) سورة الاَنبياء 21: 107.
( 196 )
مكذوبة عليه صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا أصل لها في واقع التشريع، ويكذّبها القرآن الكريم، وتشنّ السُنّة المطهّرة ـ نفسها ـ حرباً شعواء على تلك الروايات وتدفعها؛ لمخالفتها الصريحة لتطلّعات دين الاِسلام نحو الكتابة والتعلّم والسعي في طلبه، وبيان فضله حتّى ورد في الخبر: « عالم يُنتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد»(1) و «لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المُهج وخوض اللجج»(2)، فضلاً عن مخالفتها لمقتضيات العقل السليم، وطبيعة الحضارات في كلّ زمان ومكان.
غاية ما في الاَمر.. أنّه ـ وبعد وفاة الرسول الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم ـ مرّ حديثه الشريف بأَزْمةٍ خانقة، ومواقف سلبيّة أدّت إلى الحظر عليه روايةً، ومنعه تدويناً، حتّى اتّسمت تلك المواقف بتصرّفات شاذّة، كحرقهم صحائف الحديث الشريف، ودفنهم كتبه، وحبس الصحابة في مركز الخلافة خوفاً من تفشّي الحديث خارج المدينة المنوّرة، مع النهي العامّ عن تعاطي الحديث رواية وتدويناً!!
لقد تركت تلك المواقف آثارها السيّئة على واقع الحديث، إذ غُيّرت السُنّة، ومُحقت الشريعة، وذلك بتمهيد السُبل أمام الاَيدي الآثمة من الزنادقة، وأهل الاَهواء، لاَنْ تعبث بالحديث الشريف، فتضع ما شاء لها الهوى لا سيما مَنْ تَقرّبَ إلى بلاط الاَُمويين باختلاق الروايات التي تؤيّد عروشهم، وتنال من خصومهم السياسيين، كما تشهد عليه الكتب المؤلّفة في الموضوعات والوضّاعين.
وبدلاً من أن تجتمع الكلمة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على صيانة
____________
(1) أُصول الكافي 1: 82 ح 8، باب 2 من كتاب فضل العلم.
(2) أُصول الكافي 1: 85 ح 5، باب 4 من كتاب فضل العلم.
( 197 )
حديثه الشريف من عبث العابثين، حدث العكس تماماً! كما سنرى في المواقف الحكومية الاَُولى من تدوين الحديث الشريف.
* * *
( 198 )
المواقف الحكومية الاَُولى
من تدوين الحديث الشريف
( 198 )
المواقف الحكومية الاَُولى
من تدوين الحديث الشريف
في تاريخ الحديث الشريف موقفان متعارضان، تميّز أحدهما بالتزام تدوين الحديث الشريف والحفاظ عليه، ويمثّله أهل البيت عليهم السلام ، وشيعتهم كما سيتّضح في ما بعد.
وتميّز الآخر ـ وهو الخطّ الحاكم الذي برز بعد أحداث السقيفة وامتدّ إلى زمان عمر بن عبدالعزيز الاَُموي (ت 101 هـ) ـ بمواقف سلبية متطرّفة جدّاً، حتّى مُنع الحديث روايةً وتدويناً، واتّخذ المنع صفته الرسمية طيلة تلك الفترة، وسنبتدىَ بدراستها وتقييمها على النحو الآتي:
موقف أبي بكر من الحديث الشريف:
عن عائشة، قالت: جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانت خمسمائة حديث، فبات ليلته يتقلّب... فلمّا أصبح قال: أي بُنَيَّة، هلمّي الاَحاديث التي عندكِ. قالت: فجئته بها، فدعا بنار فحرقها! فقلت: لِمَ أحرقتها؟!
قال: خشيت أن أموت وهي عندي، فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت [به]، ولم يكن كما حدّثني، فأكون قد نقلت ذلك(1)!!
____________
(1) تذكرة الحفّاظ 1| 5، في ترجمة أبي بكر.
( 199 )
ويلاحظ هنا:
إنّ تصرّف أبي بكر بجمع خمسمائة حديث شاهد على عدم وجود النهي السابق بشأن تدوين الحديث، وإلاّ لكان ذلك الجمع مخالفاً للنهي عنه.
كما إنّ تعليله إحراق الاَحاديث بالنار لم يستند على نهي سابق عن التدوين، بل كان لاَجل خشيته من عدم مطابقة تلك الاَحاديث للواقع، وخوفه من المشاركة في حمل أوزارها.
وهذا ممّا لا يمكن قبوله للاَسباب التالية:
1 ـ إنّ من كان مثل أبي بكر لا يحتاج إلى مثل هذه الطريقة في جمع الاَحاديث قطعاً، إذ بإمكانه ـ وهو الخليفة المطاع أمره ـ أن يُوعِز إلى كبار الصحابة وأجلاّئهم وحفّاظهم بذلك، ويوكل لهم أمر التحرّي عن صدق ما يتناقله الناس من الحديث في عصره، وَيوكل إليهم مهمّة الجمع على غرار ما يروى من أنّه جمع المصحف الشريف، ودوّن بإشرافه.
2 ـ لو تنزّلنا عن ذلك، فإنّه لا يحتاج إلى الواسطة في رواية خمسمائة حديث عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، بالقياس إلى فترة إسلامه المبكّر، ومن غير المعقول أن لا تكون لاَبي بكر مسموعات بلا واسطة من ضمن المقدار الذي جمعه، إذ من البعيد جدّاً أن يترك ما سمعه بنفسه عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ويقتصر على ما سمعه بالواسطة!
فظاهر الحال أنّه أحرق مسموعاته ومسموعات غيره، ولا أجد ـ مع هذا الفرض المقبول ـ تعليلاً في تكذيب الرجل نفسه، ليسوّغ له إحراق ما
( 200 )
سمعه بأُذُنِه.
3 ـ إنّه صرّح بوثاقة الناقل وأمانته في تأدية الحديث، وعليه فلا معنى للشكّ في صدقه أو التأمّل في وثاقته، ولا يبرّر هذا الشكّ حرق الاَحاديث، على أنّه يمكن له التأكّد من سلامتها بعرضها على مجموع الصحابة، فإنْ شهدوا بكذبها جميعاً فعليه التشهير بناقلها وتأديبه كما يقتضيه واجبه الشرعي، وإنْ قالوا بصحّتها فيمضي ما جمعه بلا إحراق؛ ليكون سُنّة حسنة تُقتفى من بعده.
كلّ هذا يدلّ على أنّ وراء حرق الاَحاديث سبب غير معلن، لعدم قبول الاَسباب المعلنة عقلاً.
وفي «تذكرة الحفّاظ» في ترجمة أبي بكر، إنّه جمع الناس بعد وفاة نبيّهم صلى الله عليه وآله وسلم وقال لهم: «إنّكم تحدّثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً، فلا تحدّثوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه»(1).
وفيه:
إنّه عبّر عن رغبته في عدم انتشار الحديث، فنهى عنه بذريعة الاختلاف! ويَرِد عليه ما أوردناه سابقاً من إمكانية إزالة أسباب الاختلاف الحاصل في الاَحاديث بيسر وسهولة قبل أن تتفاقم بَعده، أمّا تركها على ما هي عليه من الاختلاف، والاكتفاء بمجرّد النهي، فليس هو الحلّ الاِسلامي
____________
(1) تذكرة الحفّاظ 1|3 رقم 1.
( 201 )
الذي ينبغي أن يُصار إليه.
ومن ثَمّ فإنّ نهيه عن التحديث المعلّل بوقوع الاختلاف، لو تمّ لزم منه أن يطّرد النهي لاطّراد العلّة، حتّى يشمل النهي القراءات المختلفة للقرآن الكريم التي كانت معروفة في عصره، وهي لا تقلّ خطراً عن اختلاف الحديث.
ثمّ كيف نجد التكييف الشرعي لهذا التصرّف مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم : رحم الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فحَفظها، فبلّغها عنّي»؟! وقوله الكريم بعد كثير من إرشاداته وتبليغاته: «فليبلّغ الشاهد الغائب»؟!
على أنّ هذا الموقف العجيب من السُنّة المطهّرة، قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، منبّهاً على كونه وشيك الوقوع، أي: قريبه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : «يوشك الرجل متّكئاً على أريكته يُحَدَّثُ بحديثٍ من حديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله عزّ وجلّ، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرّمناه!! ألا وإنّ ما حرّم رسول الله مثل ما حرّم الله»(1).
وقد علمت مَن أقدم على حرق الاَحاديث، وقال مخاطباً أهلها: «بيننا وبينكم كتاب الله»!
موقف عمر من تدوين الحديث الشريف:
لقد استمرّ المنع من الحديث روايةً وتدويناً في عهد أبي بكر، ولمّا
____________
(1) سنن ابن ماجة 1|6 رقم 12، وسنن الترمذي 5|37 حديث 26663، وقال: هذا حديث حسن صحيح، ورواه من طريق آخر، وسنن أبي داود 4| 200 رقم 4604 و 4605 باب لزوم السُنّة، ومسند أحمد 6|8، والمستدرك على الصحيحين 1|108 قال: وهو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ورواه من طريق آخر وقال: وجدنا للحديث شاهدين بإسنادين صحيحين.
( 202 )
استخلف عمر بعهد الخلافة إليه، جرى عمر على سيرته حذو النعل بالنعل، وفاقه في تعميم المنع الصريح من الحديث روايةً وتدويناً على جميع الاَمصار الاِسلامية.
فعن عروة بن الزبير قال: «إنّ عمر بن الخطّاب أراد أن يكتب السنن فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله شهراً، ثمّ أصبح يوماً وقد عزم الله له، فقال: إنّي كنت أردت أنْ أكتب السنن، وإنّي ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبّوا عليها، فتركوا كتاب الله تعالى، وإنّي ـ والله ـ لا ألْبِسُ كتاب الله بشيءٍ أبداً»(1)
.
ثمّ كتب عمر ـ على أثر ذلك ـ إلى المسلمين في جميع الاَمصار الاِسلامية: «من كان عنده منها ـ أي: السنن ـ شيءٌ فليمحه»(2).
كما إنّه عَلِمَ بوجود بعض المدوّنات الحديثيّة في أيدي الصحابة، فأمر أن يأتوه بها، فجاءوا بها إليه وظنّوا أنّه يقوِّمُها من الاِختلاف ثمّ يدوّنها في كتاب واحد، لكنّه أحرقها بالنار ثمّ قال: «أُمنيّة كأُمنيّة أهل الكتاب»(3).
الاقتداء بسنة عمر:
سار عثمان ومن والاه على طريقة عمر، ورأينا في عهدهما جملة من الصحابة كانوا يميثون صحائف الحديث المدوّنة بالماء، ويدفنون كتب الحديث المدوّنة تحت التراب! بلا حجّة ولا مبرّر معقول سوى أمر السلطة
____________
(1) تقييد العلم: 49.
(2) تقييد العلم: 53.
(3) تقييد العلم: 53.
( 203 )
واجتهادها في إبادة حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ولقد تعجّب ابن الجوزي ـ وحقّه أن يتعجّب ـ من هذا الصنيع الشاذّ، فوصفه بأنّه عناد عظيم للشريعة فقال: «فما عوندت الشريعة بمثل هذا»(1)، وأمّا عن دفن الكتب، فقد قال أحمد بن حنبل: «لا أعلم لدفن الكتب معنىً»(2).
ثمّ استمرّ منع الحديث كما يقول أبو زهو: «وقد تتابع الخلفاء على سُنّة عمر.. فلم يشأ أحدٌ منهم أن يدوّن السُنن، ولا أن يأمر الناس بذلك حتّى جاء عمر بن عبدالعزيز»(3).
أقول:
إنّ جميع من تعرّض لدراسة تاريخ السُنّة ومراحل تدوين الحديث الشريف فصّل موقف عثمان الموافق لمن سبقه بشأن الحديث وموقف معاوية المتشدّد إزاء كلّ حديث يروى عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام أو في أهل البيت عليهم السلام وتابعه ملوك الاَُمويّين إلى زمان عمر بن عبدالعزيز الاَُموي.
وقد ارتأينا عدم الخوض في مواقف السلطة في تلك الحقبة الزمنية والاكتفاء بموقف من ذكرنا إزاء الحديث روايةً وتدويناً اختصاراً للكلام ومراعاةً لحجم البحث، مع فسح المجال لحديث أهمّ في صفحاته اللاّحقة.
غير إنّه لا بُدّ من التذكير بتعرّض بعض الصحابة بعد وفاة الرسول إلى
____________
(1) نقد العلماء ـ أو: تلبيس إبليس ـ: 314 ـ 316.
(2) تقييد العلم: 63، وانظر مزيداً من هذه الاَقوال في «تدوين السُنّة الشريفة» للسيّد محمد رضا الحسيني الجلالي، الفصل الخاصّ بالمنع عن التدوين.
(3) الحديث والمحدّثون: 126.
( 204 )
الاستدعاء الرسمي من قبل المانعين الاَوائل لكي يعلموا جيداً اتّجاه السلطة ورغبتها في أن لا يشيع الحديث بين الناس، وقد استجابوا للسلطة على مضض، كأبي هريرة، وأبي مسعود، وابن مسعود، وأبي موسى الاَشعري، وأُبيّ بن كعب، وأبي الدرداء، بل وقد تعرّض بعضهم إلى الاِهانة من قبل السلطة مع تهديدها المباشر لهم إن لم يكفّوا عن إشاعة الحديث الشريف(1)!!
حجج المانعين عن التدوين:
لم تكن لدى المانعين حجّة شرعية يستندون إليها في مقام منع تدوين الحديث، ولكن اختُلقت لهم بعض الحجج في ذلك بنسبة المنع إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، مع أنّ أحداً من المانعين لم ينسب المنع قّط إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ، مع كونهم أقرب الناس إلى عصر التشريع، وفي ذلك دليل على اختلاق تلك الروايات وافتعالها لصيانة الواقع التاريخي الذي ساد، وحفـظ كرامة السلف الماضين.
* ومن تلك الروايات، ما رووه عن أبي سعيد الخُدْري أنّه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : «لا تكتبوا عنّي، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه»(2).
وهذا الحديث باطل من وجوه:
أمّا من حيث السند، فقد حكم الحفّاظ بأنّه من الموقوفات على أبي
____________
(1) راجع: تدوين السُنّة الشريفة: 434 تحت عنوان: «عمر يهدّد الصحابة ويهينهم».
(2) صحيح مسلم 4\ 2289 ح 72، باب التثبّت في الحديث من كتاب الزهد.
( 205 )
سعيد الخُدْري، وليس من المرفوعات حتّى يصح الاحتجاج به.
وأمّا من حيث الدلالة، فلم يتّفق لاَحد من علماء الحديث عند العامّة أنّ فهم منه المنع العام عن تدوين الحديث، بل حمل على المنع عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة، خوف اختلاطهما على غير العارف في صدر الاِسلام.
ويكفي أنّ مسلماً ـ صاحب «الصحيح» ـ أورده في باب التثبّت في الحديث، وعنوان الباب صريح بأنّ مسلماً فهم منه مجرّد المحافظة على الحديث.
كما قيل بشذوذ الحديث أيضاً(1).
* ومنها أيضاً، ما رووه عن أبي سعيد كذلك من أنّه استأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتابة الحديث فلم يأذن له(2).
وأوّل ما في هذه الرواية هو أنّ المنع خاصّ بأبي سعيد، فكيف يستفاد منها ـ على فرض صحّتها ـ المنع العام عن كتابة الحديث؟!
على أنّ راويها سفيان بن عيينة وهو متّهم بالتدليس.
إلى غير ذلك من الروايات الاَُخرى التي أشبعها السيّد الجلالي في «تدوين السُنّة الشريفة» بحثاً وتمحيصاً وانتهى إلى نتائج باهرة، بحيث يَسّر لغيره الوقوف على حقيقة تلك الروايات ومعرفة قيمتها العلمية سنداً ودلالة(3)،
____________
(1) هذه الوجوه من «تدوين السُنّة الشريفة»: 290 ـ باختصار ـ.
(2) تقييد العلم: 32.
(3) تدوين السُنّة الشريفة: 297 ـ 315.
( 206 )
معارضة المنع لاَحاديث الاِذن بالكتابة وإباحتها:
إنّ أحاديث منع التدوين المرفوعة والموقوفة معارضة لِما ورد في الصحيح الثابت عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بشأن تدوين الحديث الشريف.
* من قبيل ما رواه رافع بن خديج قال: «قلت: يا رسول الله، إنّا نسمع منك أشياء، أفنكتبها؟ قال: اكتبوا ولا حرج»(1).
* وكذلك أمر صلى الله عليه وآله وسلم أن تُكتَب خطبته الشريفة عند فتح مكّة، حين طلب أبو شاه ـ رجل من أهل اليمن ـ أن يكتبوا له الخطبة، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : «اكتبو لاَبي شاه»(2).
* ومنها، قول عبدالله بن عمرو بن العاص: «يا رسول الله، إنّا نسمع منك أشياءً لا نحفظها، أفنكتبها؟ قال: بلى، فاكتبوها»(3).
* وعن عبدالله بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «قيّدوا العلم بالكتاب»(4).
* وعنه أيضاً، قال: «كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأُريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كلّ شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشر يتكلّم في الرضا والغضب!!؟ قال: أمسكت، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أكتب، فوالذي
____________
(1) تقييد العلم: 73.
(2) صحيح البخاري 1: 40 ـ 41، وصحيح الترمذي 5| 39 رقم 2667.
(3) تقييد العلم: 74.
(4) تقييد العلم: 69، ورواه أنس بن مالك في «تقييد العلم»، وابن عبّاس في الكامل ـ لابن عدي ـ 2|792 ،كما في «تدوين السُنّة الشريفة».
( 207 )
نفسي بيده ما خرج منه إلاّ حقّ، وأشار صلى الله عليه وآله وسلم بيده إلى فيه»(1).
* ومنها: حديث أبي هريرة: «ما كان أحد أكثر حديثاً منّي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ ما كان من عبدالله بن عمرو، فإنّه كان يكتب ولم أكن أكتب»(2).
* ومن ذلك أيضاً ما رواه الترمذي بسنده عن أبي هريرة، قال: كان رجل من الاَنصار يجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيسمع من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الحديث، فيعجبه ولا يحفظه، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال: يا رسول الله، إنّي لاَسمع منك الحديث فيعجبني ولا أحفظه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «استعن بيمينك» وأشار بيده إلى الخط(3).
معارضة المنع لاَُمور أُخرى:
كما إنّ أحاديث منع التدوين بالرغم من معارضتها إلى هذه الروايات وكثير غيرها، معارضة أيضاً لاِجماع أهل البيت عليهم السلام على إباحة التدوين، ومعارضة أيضاً لِما قام الدليل القاطع عليه، أعني وجود المدوّنين في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقد عرفوا بأسمائهم وأُفردوا بدراسات خاصّة عند الفريقين، هذا فضلاً عن وجود الخطّ الآخر الملتزم بتدوين الحديث ونشره بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة، مع عدم الرضوخ لاَوامر المنع ومقاومتها بكلّ قوّة كما سننبّه عليه في محلّه.
____________
(1) مسند أحمد 2|162، وتقييد العلم: 80 ـ 81.
(2) صحيح البخاري 1|36 باب كتابة العلم.
(3) صحيح الترمذي 5|39 رقم 2666.
( 208 )
ولاَجل هذه الاَُمور مجتمعة وجد مؤيّدو سياسة المانعين أنفسهم في أمسّ الحاجة إلى البحث عن مبرّرات معقولة ومقبولة تسوّغ ذلك التصرّف المريب إزاء الحديث الشريف رواية وتدويناً، فالتمسوها من أقوال المانعين أنفسهم! ولا بأس هنا من التطرّق اليها؛ لمعرفة قيمتها العلمية، مراعين بذلك الاختصار(1).
* * *
____________
(1) في كتاب «تدوين السُنّة الشريفة» للعلاّمة المحقق السيّد محمد رضا الحسينى الجـلالي جهد مميّز في متابعة أزمة منع تدوين الحديث الشريف، واستقراء ما في تاريخها من ملابسات، وما أفرزته تلك الاَزمة من مواقف العلماء والباحثين والمستشرقين حيالها، بما في ذلك مبرّرات المنع ومناقشتها.
ولمّا كان هذا المقال قد أُعدّ في الاَصل كجزء من مدخل لدراسةٍ موسعة عن مناهج المحدّثين، اقتضى الاَمر التنويه بالكتاب والاِشادة بما احتوى عليه من تحقيق، مع الاستفادة المباشرة منه فى أكثر من موضع.
يتبع ...
تعليق