كان عليّ بن أبي طالب من سلالة ذرية طيّبة وعائلة كريمة في صفاتها، صالحة في أخلاقها وسيرتها، محمودة في خصالها، رفيعة في شمائلها، متميّزة في رجالها وسيادتها، فبنو هاشم، سادة قريش بل سادة الدنيا، «ملح الأرض، وزينة الدنيا، وحلى العالم، والسنام الأضخم، والكاهل الأعظم، ولباب كلّ جوهر كريم، وسرّ كلّ عنصر شريف، والطينة البيضاء، والمغرس المبارك، والنصاب الوثيق، والمعدن الفهم، وينبوع العلم...»(1).
فقد كان منها أكرم خلق الله تعالى على الإطلاق، محمّد بن عبد الله وكان منهم آله الطاهرون، وأعظمهم وأفضلهم سيّدهم عليّ بن أبي طالب الذي اجتمع فيه من الخصال ما لم يجتمع لغيره، ومن المكارم ما لم يحظ بها أحد غيره، ومن السجايا ما لم يحظّ بها الآخرون، فحسبٌ شريف، وخلقٌ عالٍ، وفطرةٌ سليمة لم تتلوّث ببراثن الجاهلية، وعقيدةٌ صافية، وعلم جمّ، وشجاعة لا مثيل لها...
فأبوه: شيبة بني هاشم شيخ قريش وزعيمها وسيّد قومه أبو طالب، الذي انطوت نفسه على خصال كريمة كلّها شموخ وعزّة وفضائل...
وهو الكافل المدافع الذابّ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، والذي أحاط رسول الله بعناية عظيمة ورعاية قلَّ نظيرها خصوصاً إذا عرفنا مكانته في قريش وبين زعمائها وما سبّبه ذلك من إحراج له وضيق وأذىً، ومع هذا كلّه فقد صبر أيما صبر دفاعاً عن محمّد ورسالته حتّى إنّ قريشاً لم تكن قادرةً على أذى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم مع رغبتها في ذلك حتّى توفي أبو طالب فراحت تكيد له..
يقول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «والله ما نالت قريش منّي شيئاً أكرهه حتّى مات أبو طالب».
ولم يهاجر إلى المدينة إلاّ بعد وفاة عمّه رضوان الله عليه. هذا أبوه.
وأمّا جدّه: فهو عبد المطّلب شيبة الحمد أمير مكّة وسيّد البطحاء له ولاية البيت الحرام من السقاية والرفادة.. وكان ذا مهابة ووقار وميل إلى الدين والنسك، وهو الذي قام بحفر بئر زمزم التي تفجّرت تحت قدمي جدّه إسماعيل من قبل، بعد أن غاب أثرها ولم يهتدِ إليها أحد حتّى هتف به هاتف في منامه، فراح يحفر حتّى اهتدى إليها مستعيناً بابنه الحارث الذي كان وحيده وقتذاك.
ثمّ هو الذي خذل اللهُ على يديه ابرهة الحبشي وجنده الذين جاؤوا لهدم الكعبة وصرف الحاجّ عنها إلى بيت بناه في اليمن، ولمّا التقى ابرهة بعبد المطلب أراد أن يستميله إلى جنبه، فما وجد منه إلاّ الرفض، وإلاّ الثقة العالية بالله، متكفياً بأن يرد إليه إبله وشويهاته التي أخذها جنده.
فقال ابرهة: كنت في نفسي كبيراً وسمعت أنّك وجيه في قومك، فلمّا سألتك عن حاجتك وذكرت الإبل والشياه ونسيت بلدك وأهلك وبيتك المقدّس سقطت من عيني.
فقال عبد المطلب: الإبل لي، وللبيت ربّ يحميه.
فقال ابرهة: ما كان ليمتنع منّي.
فقال عبد المطلب: أنت وذلك، وصعد على الجبل وتضرّع إلى الله وأنشد:
يا رب عادِ من عاداك وامنعهموا أن يهدموا حماك
ثمّ راح يستحثّ قومه على ترك مكّة واللجوء إلى الجبل خشية بطش ابرهة وجيشه، والتوجّه إلى الله بالدعاء. فحلّت الكارثة بابرهة وجنده... وهناك سورة الفيل تحكي هذه الحادثة..
أُمّه: فاطمة بنت أسد بن هاشم فهي ابنة عمّ أبي طالب وهي أوّل هاشمية تزوّجها هاشمي، وعليّ أوّل مولود (مع اخوته) ولد لهاشميين فقد تعوّد بنو هاشم أن يصهروا إلى اُسر اُخرى. كانت ذات منزلة رفيعة، جعلتها من اللائي امتازت حياتهنّ بمواقف جليلة في حركة الأنبياء ومسيرتهم عبر التاريخ فقد أثنى عليها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وكان شاكراً لها ولمعروفها ورعايتها له، فكان يدعوها «اُمّي بعد اُمّي التي ولدتني»(2) وراحت هي الاُخرى تفضّله على جميع أولادها الأربعة، فقد كان طالب أكبر أولادها ثمّ عقيل، ثمّ جعفر ثمّ عليّ، وكلّ واحد أكبر من الذي بعده بعشر سنوات، وكان عليّ عليه السلام أصغر أولادها.
حظيت هذه السيّدة والمرأة المؤمنة الطاهرة بمكانة عظيمة في قلب رسول الله، وتركت في نفسه آثاراً طيّبة راح يذكرها طيلة حياته، ويترحّم عليها ويدعو لها.. تقول الرواية:
لمّا ماتت فاطمة بنت أسد أُمّ عليّ ـ وكانت قد أوصت لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وقَبِل وصيتها ـ ألبسها النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قميصه واضطجع معها في قبرها، فقالوا: ما رأيناك يا رسول الله صنعت هذا!
فقال: إنّه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبرَّ بي منها، إنّما ألبستها قميصي لتكسى من حُلل الجنّة واضطجعت معها ليُهوَّن عليها.
وفي دعاءٍ خاص لها قال: اللّهم اغفر لاُمّي فاطمة بنت أسد، ولقنها حجّتها، ووسِّع عليها مدخلها. وخرج من قبرها وعيناه تذرفان.
لقد كانت رضوان الله عليها لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بمنزلة الاُمّ، بل كانت أُمّاً بكلّ ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، وقد كانت بارّة برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم «لم يكن بعد أبي طالب أبرّ بي منها»(3)، فحنانها وشفقتها ورعايتها له بلغت مبلغاً عظيماً حتّى فاقت رعايتها لأبنائها وكأنّها تعلم أنّ له مكانة عظيمة وشأنا جميلاً، تقول بعض الروايات كان أولادها يصبحون شعثاً رمصاً ويصبح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم كحيلاً دهيناً. هذا في مداراتها لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وحبّها له.
أمّا في إيمانها فقد كانت بدرجة عظيمة، ومن السابقات إلى الإسلام والمهاجرات الأُول إلى المدينة وهي بدرية(4).
فذاك أبوه وجدّه وهذه اُمّه، فهو وليد هذه الاُسرة الهاشمية المباركة.
ثمّ بعد هذا كان عليّ عليه السلام قد اختصّ بقرابة من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فهو إضافة إلى كونه ابن عمّه وقد ربّاه في حجره تربية الوالد لولده و... كان زوجاً لابنته الزهراء التي كانت بضعة منه صلّى الله عليه وآله وسلم، وأباً لريحانتيه المباركتين الحسن والحسين عليهما السلام وكان أخاه يوم المؤاخاة، وكان خليفته ووصيه ووزيره وعيبة علمه... .□
بين يدي النبوّةلقد كنت سيّدي شجرة طيّبة توسّطت روضة فيحاء وباحة خضراء ودوحة معطاء، فكان أصلها ثابتاً وفرعها في السماء تؤتي اُكلها كلّ حين بإذن ربّها.
ففي ربى النبوّة أبصرت النور بعد أن انبرى رسول الرحمة لرعايتك وتربيتك، ومن نسيمها العذب وأريجها الفوّاح تنشقت الحياة، ومن نمير ساقيتها الصافي الذي كانت النبوّة نبعه الدافق ارتشفت أوّل قطرة ماء، وعلى أديمها الأخضر كانت أوّل خطواتك. كان حضن النبوّة يرعاك فكنت في جنّة عالية، قطوفها دانية.
شممت رائحة النبوّة في مراحل حياتك الأولى، ورأيت نور الوحي والرسالة بعد أن وضعك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في حجره وضمّك إلى صدره وكنفك في فراشه ومسّك جسده الطاهر وأشمّك عَرْفه.. فجنيت بروض النبوّة ورداً وذقت بكأسها شهداً.
وكيف لا تجني ذلك كلّه وقد اختارتك السماء برعماً تحتضنك شجرة النبوّة والرسالة، ثمّ لتكون بعد ذلك بقية النبوّة والامتداد الطبيعي للرسالة..؟!
روت فاطمة بنت أسد «اُمّ عليّ»: بينا أنا أسوق هدياً إذ استقبلني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وهو يومئذ غلام شاب قبل البعثة فقال لي: يا أمّاه إنّي أُعلمك شيئاً فهل تكتمينه عليَّ؟
قلت: نعم.
قال: اِذهبي بهذا القربان فقولي: كفرت بهبل (كبير آلهة المشركين وهو أوّل صنم نصب بمكة) وآمنت بالله وحده لا شريك له.
فقلتُ: أعمل ذلك لِما أعلمه من صدقك يا محمّد، ففعلت ذلك.
فلمّا كان بعد أربعة أشهر، ومحمّد يأكل معي ومع عمّه أبي طالب، إذ نظر إليَّ وقال: يا اُمّ مالَك! مالي أراك حائلة اللون؟!.
ثمّ قال لأبي طالب: إن كانت حاملاً اُنثى فزوجنيها.
فقال أبو طالب: إن كان ذكراً فهو لك عبد، وإن كان اُنثى فهو لك جارية وزوجة.
فلمّا وضعتُه ـ في الكعبة ـ جعلته في غشاوة، فقال أبو طالب: لا تفتحوها حتّى يجيء محمّد فيأخذ حقّه.
فجاء محمّد ففتح الغشاوة فأخرج منها غلاماً حسناً فشاله بيده، وسمّاه عليّاً، وأصلح أمره، ثمّ إنّه لقمه لسانه فما زال يمصّه حتّى نام.
وقد سمّته أوّل الأمر حيدرة بمعنى أسد على اسم أبيها، فغلب عليه اسم عليّ الذي سمّاه به محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم.
ثمّ راح عليّ عليه السلام الذي ما إن فتح عينيه في بيت أبي طالب حتى وجد محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلم يضمّه إلى صدره ويبثّه كلماته ويعلمه خطواته...
وبدأ عليّ عليه السلام يلتهم زاده من الوحيد مبادئ السماء وقيمها حتّى شحن بها فكره الثاقب، وغدت نفسه الطاهرة ترتشف الايمان وتستنشق عقيدته وعبيرها؛ لتسمو نفسه ولتصبح مصباحاً يستضيء به من حوله.□ اخترتُ من اختاره الله
ولمّا مرّ أبو طالب في سنة أصابته بل أصابت قريشاً وقحط حلّ بهم وهو ذو عيال كثيرة، ويبدو أنّ الابتلاء هذا كان عامّاً لقريش بسبب ما عانته من الجفاف.
تقول الرواية: إنّ قريشاً أصابتها أزمة وقحط، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لعمّيه حمزة والعبّاس: ألا نحمل ثقل أبي طالب في هذا المحل؟.
فجاءوا إليه وسألوه أن يدفع إليهم وِلدَه ليكفوه أمرهم، فقال: دَعُوا لي عقيلاً وخذوا من شئتم ـ وكان شديد الحبّ لعقيل ـ فأخذ العبّاس طالباً، وأخذ حمزة جعفراً، وأخذ محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم عليّاً، وقال لهم: «قد اخترتُ من اختاره الله لي عليكم، عليّاً».
فكان علي عليه السلام في حجر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم منذ كان عمره ستّ سنين(1).
والذي أميل إليه أنّ عليّاً عليه السلام لم يكن ذلك القحط وهذا الجفاف هما السبب في ملازمته لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، بل إنّ الأمر سبق هذا كلّه وسبق هذا العمر الذي يحددونه لبداية هذه الملازمة (6 سنوات) نعم الانتقال من بيت أبي طالب إلى بيت رسول الله قد يكون تمّ وعليّ له 6 سنوات، إلاّ أنّ تلك الرعاية من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لعليّ وذلك الاهتمام كان منذ اليوم الأوّل لولادته عليه السلام فرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم حينما عاد من غار حراء وقد بشّر بولادة علي راحت يده المباركة تتوسّده وتضفي عليه بركات انعكست ثمارها على حياته عليه السلام في كلّ الميادين...
تقول الرواية عن يزيد بن قعنب: ولدت (فاطمة بنت أسدا) عليّاً... في بيت الله الحرام، إكراماً من الله عزّ اسمه وإجلالاً لمحلّه في التعظيم...، فحبّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم حبّاً شديداً وقال لها: «اجعلي مهده بقرب فراشي»، وكان يتولى أكثر تربيته، وكان يطهّر عليّاً في وقت غسله، ويوجره اللبن عند شربه، ويحرِّك مهده عند نومه، ويناغيه في يقظته، ويحمله على صدره(2).
وهنا نعيش لحظات جميلة مع عليّ عليه السلام نفسه، وهو يصوِّر لنا منزلته من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ويصف رعايته له وتعلّقه به وملازمته له حتّى يمكن وصفها بأنّها ملازمة الظلّ لصاحبه لا يفارقه إلاّ في أوقاته المخصوصة، فتواشجت روحه مع أجواء ذلك البيت الطاهر وهي أجواء الرسالة والنبوة والوحي، انظره في خطبة القاصعة حيث يصف تلك الملازمة والمواشجة بشكل دقيق طفلاً وصبياً وفتىً..
«ولقد علمتم موضعي من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد، يضمّني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسّني جسده ويُشمني عَرْفه، وكان يمضغ الشيء، ثمّ يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل، ولقد قرن الله به صلّى الله عليه وآله وسلم من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره، ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل إثر اُمّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به. ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري».□
فقد كان منها أكرم خلق الله تعالى على الإطلاق، محمّد بن عبد الله وكان منهم آله الطاهرون، وأعظمهم وأفضلهم سيّدهم عليّ بن أبي طالب الذي اجتمع فيه من الخصال ما لم يجتمع لغيره، ومن المكارم ما لم يحظ بها أحد غيره، ومن السجايا ما لم يحظّ بها الآخرون، فحسبٌ شريف، وخلقٌ عالٍ، وفطرةٌ سليمة لم تتلوّث ببراثن الجاهلية، وعقيدةٌ صافية، وعلم جمّ، وشجاعة لا مثيل لها...
فأبوه: شيبة بني هاشم شيخ قريش وزعيمها وسيّد قومه أبو طالب، الذي انطوت نفسه على خصال كريمة كلّها شموخ وعزّة وفضائل...
وهو الكافل المدافع الذابّ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، والذي أحاط رسول الله بعناية عظيمة ورعاية قلَّ نظيرها خصوصاً إذا عرفنا مكانته في قريش وبين زعمائها وما سبّبه ذلك من إحراج له وضيق وأذىً، ومع هذا كلّه فقد صبر أيما صبر دفاعاً عن محمّد ورسالته حتّى إنّ قريشاً لم تكن قادرةً على أذى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم مع رغبتها في ذلك حتّى توفي أبو طالب فراحت تكيد له..
يقول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «والله ما نالت قريش منّي شيئاً أكرهه حتّى مات أبو طالب».
ولم يهاجر إلى المدينة إلاّ بعد وفاة عمّه رضوان الله عليه. هذا أبوه.
وأمّا جدّه: فهو عبد المطّلب شيبة الحمد أمير مكّة وسيّد البطحاء له ولاية البيت الحرام من السقاية والرفادة.. وكان ذا مهابة ووقار وميل إلى الدين والنسك، وهو الذي قام بحفر بئر زمزم التي تفجّرت تحت قدمي جدّه إسماعيل من قبل، بعد أن غاب أثرها ولم يهتدِ إليها أحد حتّى هتف به هاتف في منامه، فراح يحفر حتّى اهتدى إليها مستعيناً بابنه الحارث الذي كان وحيده وقتذاك.
ثمّ هو الذي خذل اللهُ على يديه ابرهة الحبشي وجنده الذين جاؤوا لهدم الكعبة وصرف الحاجّ عنها إلى بيت بناه في اليمن، ولمّا التقى ابرهة بعبد المطلب أراد أن يستميله إلى جنبه، فما وجد منه إلاّ الرفض، وإلاّ الثقة العالية بالله، متكفياً بأن يرد إليه إبله وشويهاته التي أخذها جنده.
فقال ابرهة: كنت في نفسي كبيراً وسمعت أنّك وجيه في قومك، فلمّا سألتك عن حاجتك وذكرت الإبل والشياه ونسيت بلدك وأهلك وبيتك المقدّس سقطت من عيني.
فقال عبد المطلب: الإبل لي، وللبيت ربّ يحميه.
فقال ابرهة: ما كان ليمتنع منّي.
فقال عبد المطلب: أنت وذلك، وصعد على الجبل وتضرّع إلى الله وأنشد:
يا رب عادِ من عاداك وامنعهموا أن يهدموا حماك
ثمّ راح يستحثّ قومه على ترك مكّة واللجوء إلى الجبل خشية بطش ابرهة وجيشه، والتوجّه إلى الله بالدعاء. فحلّت الكارثة بابرهة وجنده... وهناك سورة الفيل تحكي هذه الحادثة..
أُمّه: فاطمة بنت أسد بن هاشم فهي ابنة عمّ أبي طالب وهي أوّل هاشمية تزوّجها هاشمي، وعليّ أوّل مولود (مع اخوته) ولد لهاشميين فقد تعوّد بنو هاشم أن يصهروا إلى اُسر اُخرى. كانت ذات منزلة رفيعة، جعلتها من اللائي امتازت حياتهنّ بمواقف جليلة في حركة الأنبياء ومسيرتهم عبر التاريخ فقد أثنى عليها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وكان شاكراً لها ولمعروفها ورعايتها له، فكان يدعوها «اُمّي بعد اُمّي التي ولدتني»(2) وراحت هي الاُخرى تفضّله على جميع أولادها الأربعة، فقد كان طالب أكبر أولادها ثمّ عقيل، ثمّ جعفر ثمّ عليّ، وكلّ واحد أكبر من الذي بعده بعشر سنوات، وكان عليّ عليه السلام أصغر أولادها.
حظيت هذه السيّدة والمرأة المؤمنة الطاهرة بمكانة عظيمة في قلب رسول الله، وتركت في نفسه آثاراً طيّبة راح يذكرها طيلة حياته، ويترحّم عليها ويدعو لها.. تقول الرواية:
لمّا ماتت فاطمة بنت أسد أُمّ عليّ ـ وكانت قد أوصت لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وقَبِل وصيتها ـ ألبسها النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قميصه واضطجع معها في قبرها، فقالوا: ما رأيناك يا رسول الله صنعت هذا!
فقال: إنّه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبرَّ بي منها، إنّما ألبستها قميصي لتكسى من حُلل الجنّة واضطجعت معها ليُهوَّن عليها.
وفي دعاءٍ خاص لها قال: اللّهم اغفر لاُمّي فاطمة بنت أسد، ولقنها حجّتها، ووسِّع عليها مدخلها. وخرج من قبرها وعيناه تذرفان.
لقد كانت رضوان الله عليها لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بمنزلة الاُمّ، بل كانت أُمّاً بكلّ ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، وقد كانت بارّة برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم «لم يكن بعد أبي طالب أبرّ بي منها»(3)، فحنانها وشفقتها ورعايتها له بلغت مبلغاً عظيماً حتّى فاقت رعايتها لأبنائها وكأنّها تعلم أنّ له مكانة عظيمة وشأنا جميلاً، تقول بعض الروايات كان أولادها يصبحون شعثاً رمصاً ويصبح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم كحيلاً دهيناً. هذا في مداراتها لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وحبّها له.
أمّا في إيمانها فقد كانت بدرجة عظيمة، ومن السابقات إلى الإسلام والمهاجرات الأُول إلى المدينة وهي بدرية(4).
فذاك أبوه وجدّه وهذه اُمّه، فهو وليد هذه الاُسرة الهاشمية المباركة.
ثمّ بعد هذا كان عليّ عليه السلام قد اختصّ بقرابة من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فهو إضافة إلى كونه ابن عمّه وقد ربّاه في حجره تربية الوالد لولده و... كان زوجاً لابنته الزهراء التي كانت بضعة منه صلّى الله عليه وآله وسلم، وأباً لريحانتيه المباركتين الحسن والحسين عليهما السلام وكان أخاه يوم المؤاخاة، وكان خليفته ووصيه ووزيره وعيبة علمه... .□
بين يدي النبوّةلقد كنت سيّدي شجرة طيّبة توسّطت روضة فيحاء وباحة خضراء ودوحة معطاء، فكان أصلها ثابتاً وفرعها في السماء تؤتي اُكلها كلّ حين بإذن ربّها.
ففي ربى النبوّة أبصرت النور بعد أن انبرى رسول الرحمة لرعايتك وتربيتك، ومن نسيمها العذب وأريجها الفوّاح تنشقت الحياة، ومن نمير ساقيتها الصافي الذي كانت النبوّة نبعه الدافق ارتشفت أوّل قطرة ماء، وعلى أديمها الأخضر كانت أوّل خطواتك. كان حضن النبوّة يرعاك فكنت في جنّة عالية، قطوفها دانية.
شممت رائحة النبوّة في مراحل حياتك الأولى، ورأيت نور الوحي والرسالة بعد أن وضعك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في حجره وضمّك إلى صدره وكنفك في فراشه ومسّك جسده الطاهر وأشمّك عَرْفه.. فجنيت بروض النبوّة ورداً وذقت بكأسها شهداً.
وكيف لا تجني ذلك كلّه وقد اختارتك السماء برعماً تحتضنك شجرة النبوّة والرسالة، ثمّ لتكون بعد ذلك بقية النبوّة والامتداد الطبيعي للرسالة..؟!
روت فاطمة بنت أسد «اُمّ عليّ»: بينا أنا أسوق هدياً إذ استقبلني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وهو يومئذ غلام شاب قبل البعثة فقال لي: يا أمّاه إنّي أُعلمك شيئاً فهل تكتمينه عليَّ؟
قلت: نعم.
قال: اِذهبي بهذا القربان فقولي: كفرت بهبل (كبير آلهة المشركين وهو أوّل صنم نصب بمكة) وآمنت بالله وحده لا شريك له.
فقلتُ: أعمل ذلك لِما أعلمه من صدقك يا محمّد، ففعلت ذلك.
فلمّا كان بعد أربعة أشهر، ومحمّد يأكل معي ومع عمّه أبي طالب، إذ نظر إليَّ وقال: يا اُمّ مالَك! مالي أراك حائلة اللون؟!.
ثمّ قال لأبي طالب: إن كانت حاملاً اُنثى فزوجنيها.
فقال أبو طالب: إن كان ذكراً فهو لك عبد، وإن كان اُنثى فهو لك جارية وزوجة.
فلمّا وضعتُه ـ في الكعبة ـ جعلته في غشاوة، فقال أبو طالب: لا تفتحوها حتّى يجيء محمّد فيأخذ حقّه.
فجاء محمّد ففتح الغشاوة فأخرج منها غلاماً حسناً فشاله بيده، وسمّاه عليّاً، وأصلح أمره، ثمّ إنّه لقمه لسانه فما زال يمصّه حتّى نام.
وقد سمّته أوّل الأمر حيدرة بمعنى أسد على اسم أبيها، فغلب عليه اسم عليّ الذي سمّاه به محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم.
ثمّ راح عليّ عليه السلام الذي ما إن فتح عينيه في بيت أبي طالب حتى وجد محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلم يضمّه إلى صدره ويبثّه كلماته ويعلمه خطواته...
وبدأ عليّ عليه السلام يلتهم زاده من الوحيد مبادئ السماء وقيمها حتّى شحن بها فكره الثاقب، وغدت نفسه الطاهرة ترتشف الايمان وتستنشق عقيدته وعبيرها؛ لتسمو نفسه ولتصبح مصباحاً يستضيء به من حوله.□ اخترتُ من اختاره الله
ولمّا مرّ أبو طالب في سنة أصابته بل أصابت قريشاً وقحط حلّ بهم وهو ذو عيال كثيرة، ويبدو أنّ الابتلاء هذا كان عامّاً لقريش بسبب ما عانته من الجفاف.
تقول الرواية: إنّ قريشاً أصابتها أزمة وقحط، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لعمّيه حمزة والعبّاس: ألا نحمل ثقل أبي طالب في هذا المحل؟.
فجاءوا إليه وسألوه أن يدفع إليهم وِلدَه ليكفوه أمرهم، فقال: دَعُوا لي عقيلاً وخذوا من شئتم ـ وكان شديد الحبّ لعقيل ـ فأخذ العبّاس طالباً، وأخذ حمزة جعفراً، وأخذ محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم عليّاً، وقال لهم: «قد اخترتُ من اختاره الله لي عليكم، عليّاً».
فكان علي عليه السلام في حجر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم منذ كان عمره ستّ سنين(1).
والذي أميل إليه أنّ عليّاً عليه السلام لم يكن ذلك القحط وهذا الجفاف هما السبب في ملازمته لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، بل إنّ الأمر سبق هذا كلّه وسبق هذا العمر الذي يحددونه لبداية هذه الملازمة (6 سنوات) نعم الانتقال من بيت أبي طالب إلى بيت رسول الله قد يكون تمّ وعليّ له 6 سنوات، إلاّ أنّ تلك الرعاية من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لعليّ وذلك الاهتمام كان منذ اليوم الأوّل لولادته عليه السلام فرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم حينما عاد من غار حراء وقد بشّر بولادة علي راحت يده المباركة تتوسّده وتضفي عليه بركات انعكست ثمارها على حياته عليه السلام في كلّ الميادين...
تقول الرواية عن يزيد بن قعنب: ولدت (فاطمة بنت أسدا) عليّاً... في بيت الله الحرام، إكراماً من الله عزّ اسمه وإجلالاً لمحلّه في التعظيم...، فحبّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم حبّاً شديداً وقال لها: «اجعلي مهده بقرب فراشي»، وكان يتولى أكثر تربيته، وكان يطهّر عليّاً في وقت غسله، ويوجره اللبن عند شربه، ويحرِّك مهده عند نومه، ويناغيه في يقظته، ويحمله على صدره(2).
وهنا نعيش لحظات جميلة مع عليّ عليه السلام نفسه، وهو يصوِّر لنا منزلته من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ويصف رعايته له وتعلّقه به وملازمته له حتّى يمكن وصفها بأنّها ملازمة الظلّ لصاحبه لا يفارقه إلاّ في أوقاته المخصوصة، فتواشجت روحه مع أجواء ذلك البيت الطاهر وهي أجواء الرسالة والنبوة والوحي، انظره في خطبة القاصعة حيث يصف تلك الملازمة والمواشجة بشكل دقيق طفلاً وصبياً وفتىً..
«ولقد علمتم موضعي من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد، يضمّني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسّني جسده ويُشمني عَرْفه، وكان يمضغ الشيء، ثمّ يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل، ولقد قرن الله به صلّى الله عليه وآله وسلم من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره، ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل إثر اُمّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به. ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري».□