الحسين عليه الصلاة والسلام.. الماء والدمعة والدم!
على ظهر هذا الكوكب بشر؛ قرابة مليار منهم؛ ما إن يغرف الواحد منهم غرفة منماء ليرتشفها؛ حتى تعود به الذاكرة إلى مئات من الأعوامخلت لترتسم في هنه صورة ذلك الثائر المضحّي الشهيد الذيقُتل ظمآناً، فيتمتم قائلاً : " السلام عليك يا أباعبدالله الحسين"..
وأينما نظر المرء منّا إلى الماءفإنّه يجد الحسين وعطشه فيه، فتراه يحدّث نفسه بأنّ هذاالماء قد حُرم منه سيّد الشهداء وأهل بيته وأنصاره صلواتالله عليهم، وقد قتلوا جميعاً عطاشى وألسنتهم تلتهب منشدّة الظمأ فيستذكر ما جرى وما وقع في تلك الفاجعةالعظيمة، وتختلج في صدره الأحزان.. وهكذا ظلّ الماءوالحسين (عليه الصلاة والسلام) متلازمين في عالم المعاني،والحقّ أنّ هذا الارتباط قد أوجده الله تعالى بحكمته، فقرنبين قضية الحسين (عليه السلام) وعنصر الحياة وجعل بينهماعلاقة أزلية لتدوم القضية بدوام الماء الذي لابدّ لكل كائنحي منه حتّى يعيش، فإذا عاش احتاج إلى الماء، وإذا احتاجإلى الماء تذكّر الحسين، وإذا تذكّر الحسين تجدّدت رسالتهفي نفسه، فيبقى الإسلام وتبقى الولاية على مرّ الزمان. وإذا كان الماء سرّ الحياة المادّية، فإنّ الحسين (عليهالصلاة والسلام) سرّ الحياة المعنوية الحرّة الكريمةالأبيّة. وما ظلّ في الدنيا ماء فسيبقى الحسين حيّاً فيالضمائر والقلوب، وحتّى إن نضب وحلّ الجفاف فإنّ جميع أهلالأرض سيتذكّرون عطش الحسين وحرمانه منه.
أجل.. قد جعلالله (عزّوجلّ) من الماء كلّ شيء حي، وجعل من الحسين (عليهالصلاة والسلام) كلّ مؤمن حرّ.و ثمّة علاقة فطرية أُخرىليست معنوية فحسب بل تكوينية أيضاً، وهي العلاقة التي تربطبين الحسين (عليه الصلاة والسلام) وبين دمعة الإنسان،أيّاً كانت عقيدته وأيّاً كان انتماؤه، فإنّ لسيّد الشهداءتأثيراً على عيون الناس ودموعهم التي تتقاطر تلقائياً ولاإرادياً في كثير من الأحيان، عند ذكر قصّة استشهادهومقتله، فتجد حتى غير المعتقدين بولايته كالنواصب والكفّاروالملحدين يتأثّرون ويكون، بل إنّ الدموع قد نزلت من عيونقاتليه كيزيد وعمر بن سعد (عليهما اللعنة) ولم يكن ذلك عنقصد واختيار منهم بل عن تأثير تكيوني ودافع فطري لأنّللحسين (صلوات الله عليه) علاقة حميمة بالدموع والعبرات. فعن سعد بن عبد الله قال: سألت القائم (عليه السلام) عنتأويل كهيعص قال (عليه السلام): هذه الحروف من أنباء الغيبأطّلع الله عليها عبده زكريا ثم قصهاعلى محمد (صلى اللهعليه وآله وسلم)، وذلك أن زكريا سأل الله ربه ان يعلمهأسماء الخمسة، فأهبط عليه جبرئيل (عليه السلام) فعلمهإيّاها، فكان زكريا إذا ذكر محمداً وعلياً وفاطمة والحسن (عليهم السلام) سُرِّي عنه همه، وانجلى كربه، وإذا ذكر اسمالحسين (عليه السلام) خنقته العبرة، ووقعت عليه البهرة،فقال ذات يوم: إلهي ما بالي إذا ذكرت أربعة منهم تسليتبأسمائهم من همومي، وإذا ذكرت الحسين تدمع عيني وتثورزفرتي؟ فأنبأه الله تبارك وتعالى عن قصته. (بحار الأنوار: ج 44 ص 223).وفي تفسير الدر المنثور في تفسير قوله تعالى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَعَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:37)، أنه رأى ساق العرش وأسماء النبي (صلى اللهعليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) فلقنّه جبرئيل قل: يا حميد بحق محمد، و يا عالي بحق علي، يا فاطر بحق فاطمة،يا محسن بحق الحسن والحسين ومنك الإحسان، فلما ذكر الحسينسالت دموعه وانخشع قلبه وقال: يا أخي جبرئيل في ذكر الخامسينكسر قلبي وتسيل عبرتي؟ قال جبرئيل: ولدك هذا يصاب تصغرعندها المصائب؟ فقال: يا أخي وما هي؟ قال: يقتل عطشاناًغريباً وحيداً فريداً ليس له ناصر ولا معين. (بحارالأنوار: ج 44 ص 245).وقد ورد في صحيح الأخبار عن آل النبيالمختار (عليهم السلام) أنّه في يوم عاشوراء بكت جميعالخلائق على أبي عبدالله حتى الوحوش في الفلوات والحيتانفي البحار، بل بكاه أيضاً أهل جهنّم من الكافرين، وما ذلكإلاّ لأنّ الدمعة صنيعة قضية الحسين صلوات الله وسلامهعليه، وأيّاً كانت العين الباكية فإنّ محابس الدموع فيهالا تتمكّن من حبسها عندما تذكر قصّته الحزينة المؤلمة. عنأبي عبد الله (عليه السلام) قال: أنا قتيل العبرة قتلتمكروباً وحقيق عليّ أن لا يأتيني مكروب قط إلاّ رده الله وأقلبه إلى أهله مسروراً. (كامل الزيارات: ص216).وقال (عليهالسلام): أنا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمن إلاّ بكى. (كاملالزيارات: ص 215). ولنعم ما قال الشاعر: تبكيك عيني لالأجلمثوبة! لكنّما عيني لأجلك باكية
ولربما لاحظ البعض أنّ اسم (حسين) هو بحدّ ذاته ذو إيقاع حزين خاص خلافاً لكلّالأسماء الأُخرى، ولربما لا يجد علماء النفس لذلك سبباًمنطقياً وجيهاً، فأن يكون لهذا الاسم إيقاعه الحزين عندالذين يمتلكون الخلفية الثقافية عنه من الشيعة؛ ومن يعرفونقصّة استشهاده وسيرته؛ فذلك أمر ليس بعجيب، ولكن العجيب هوتأثّر من لم يعرفوا عن سيّد الشهداء (عليه السلام) شيئاًوإنّما لمجرد سماعهم باسمه الشريف. إذ كيف يتأثّر من كانكذلك بمجرد إنصاته بهدوء لاسم (حسين) مكررا؟! وكيف يحسّبتلك المشاعر الحزينة وقد انتابته ما إن تردّد عليه هذهالكلمة؟! إنّ هذا هو ما لا يمكن تفسيره إلاّ بالغيبوالفطرة الإلهية حيث قضى الله (تعالى) أن يكون اسم الحسين (عليه الصلاة والسلام) مثيراً للحزن واللوعة والدمعة. ولنضرب مثالاً لذلك فنقول إنّ طائر البومة قد ارتبطت صورتهفي الذاكرة الإنسانية بالحزن دون سبب علمي وجيه إلاّ أنّشكل هذا الطائر أعطى هذا الانطباع، فهكذا هو اسم الحسين،يبعث النفس البشرية إلى أن تحزن وتتألّم. فكيف إذا علمنابأنّ طائر البومة – كما ورد في الروايات – ظلّ حزيناًحقّاً منذ مقتل الحسين بن علي عليهما الصلاةوالسلام؟!
إنّ كلّ من يسمع بقضية أبي عبدالله لا يمكنهإلاّ أن يتأثّر وإلاّ أن تدمع عيناه، حتى وإن كان قلبه منحجر، فإنّ الحجر نفسه بكى على الحسين دماً إذ لم يُرَ حجرفي يوم العاشر إلاّ ووجُد أسفله دم عبيط! بل التاريخ يذكرأنّ السماء بكت دماً على الإمام الحسين عليه السلام. وماهذا إلا لأن قضية الحسين (صلوات الله عليه) قضية استثنائيةتكوينا وتشريعا، وهنا أمر آخر استثنائي يرتبط بالدم، إنهالدم الذي يتدفق من أجساد الموالين يوم العاشر من محرم كلعام دون أن يُصابوا بالأذى! والدم الذي يتدفق من صخرة فيالشام وُضع عليها رأسه الشريف قبل أربعة عشر قرنا! والدمالذي ينسال من شجرة في قزوين حطّت عليها طيور حملت قطراتمن دم الحسين الشهيد بأبي هو وأمي!
فهل هذه إلا خروقاتللقواعد الكونية! وهل هذه إلا تعابيرحيّة عن قضيةاستثنائية لا مثيل لها ولن يكون لها مثيل إلى يومالدين!
ألا إن الحسين.. ماء الحياة، ودمعة الفؤاد، ودمالثورة
بقلم ياسر الحبيب