تعتبر هجرة النبي (ص ) من مكة إلى المدينة مفصلاً أساسياً في حركة الصراع الذي دار بين المسلمين والمشركين، خاصة بعد أن تحوّل المسلمون في المدينة من فئة مستضعفة في مكة إلى قوة فاعلة ومؤثرة في المجتمع الجديد الذي بات يحمل مفاهيم ومعتقدات مغايرة لما ألفه المجتمع الجاهلي، وبالتالي أنقذت المجتمع اليثربي المنهك بالصراع بين قواه المختلفة وزجته في ساحة الصراع مع الخارج وبالتحديد مكة. وبعبارة أخرى، أخرجته من دائرة الضعف إلى دائرة الوحدة والقوة، ما جعل منه مجتمعاً متماسكاً وقادراً على جبه التحديات الخارجية ودرء المخاطر الداخلية، وهذا ما أظهرته الأحداث التي عصفت بالمدينة، لا سيما بدر الموقعة الأولى في تاريخ الصراع بين المسلمين والمشركين.
«قريش» حاجز في وجه الرسالة:
ولعلّ هذا الذي دفع بقريش لأن تفقد صوابها وتصمّم على قتل النبي(ص)، ولكنه نجا منها بمعجزة، وهاجر من مكة إلى المدينة في وقت بلغ فيه الصراع بين النبي(ص) وقريش مبلغاً، وكان (ص) يدرك أن قريشاً لن تتوانى عن ملاحقته والإيقاع به، مدركاً في الوقت نفسه أهمية مكة وموقعها وعوامل قوتها المبنية على التجارة والمركز الديني وشبكة علاقات سياسية مع القوى الأخرى، وخاصة القبائل، ما جعلها تلعب دور المهيمن على الواقع في الحجاز وبعض أنحاء شبه الجزيرة ، بحيث شكلت حاجزاً منيعاً في وجه الرسالة لو بقيت هذه العوامل قائمة.
ومن جانب آخر، كان يتوزع المدينة بالإضافة إلى المسلمين قوتان معاديتان، وهما اليهود والمنافقون من داخل المدينة، وإزاء هذا التشكيل المعادي، رأى(ص) أن التهديد الأقوى كان يأتيه من ناحية قريش، فجعل الصراع معها في سلّم أولوياته، وسعى إلى تحصين المجتمع في حال تعرض لاعتداء من الخارج.
ولذلك، قام بجملة من الخطوات كان في مقدمتها رباط المؤاخاة وبث روح التكافل والتعاضد بين المسلمين من مهاجرين وأنصار، ما جعل المسلمين أمة واحدة متكاملة على قاعدة الإيمان، كما بنى المسجد لما له من دور على الصعيدين العبادي والتربوي، وفي رسم السياستين الداخلية والخارجية، فضلاً عن سعيه إلى تحييد ما أمكنه من باقي القوى، فأقام معاهدات «مهادنات» مع اليهود من قبائل بني القينقاع وبني النضير وبني قريظة، كل على حدة.
وقد ساهمت جملة من العوامل في تحصين المجتمع وتمتينه، حيث أمر سبحانه وتعالى بتحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام التي اتخذت منها قريشاً مادة للدعاية ضد الرسول(ص)، لينزع بذلك الذرائع والحجج من يدها في هذه القضية.
كما جاء ت خطوة التشريع للجهاد لتزيد من قوة المجتمع الإسلامي وتماسكه، حيث أمر سبحانه وتعالى بوجوب هجرة المسلمين إلى المدينة، واعتبر أن من يتخلّف عنها مأثوم شرعاً ويرتكب معصية، لتأتي الخطوة الثالثة في تشريع القتال، التي كانت إيذاناً بالانتقال من مرحلة المهادنة والحوار إلى مرحلة إظهار القوة والبأس{وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}وفي آية أخرى{فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلاّ نفسك وحرّض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأساً وأشد تنكيلاً}.
لم يترك الرسول(ص) وسيلة إلاّ وحاول الاستفادة منها من أجل إضعاف قريش، فحاول إقامة علاقات مع القبائل المحيطة بالمدينة والبعيدة عنها، خاصة تلك التي تربطها بقريش علاقات قوية، كما أنه اعتمد سياسة إشعار قريش بأن مصالحها التجارية مهددة بالخطر، مستخدماً، لتحقيق هذا الهدف السرايا والغزوات، وذلك لمراقبة تحركات قريش واستطلاع أخبارها، وللتدليل على أن المسلمين لن يتوانوا عن استخدام القوة، لأن قريشاً لا ترتد عن غيّها وكبريائها إلاّ عن طريق الخوف، وهذا تفسير قوله تعالى: {ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم}.
وبالفعل حققت السرايا والغزوات الغاية المنشودة منها، وخلقت جواً من الاحتقان والتوتر في صفوف قريش، فبدأت تشعر أنه لا يمكنها السكوت عمّا يجري، وأضحت بين خيارين: إما الاعتراف بالرسول(ص) وهو أمر لا يمكن أن تقبل به، وإما أن تصبر على ما يجري والوضع يزداد سوءاً، وهذا ما لا يمكن أن تتحمله، لأنه يطال المقوّم الأساس لحياتها المعيشية ونفوذها السياسي، ولهذا كان خيار المواجهة هو الأقوى في ظل إصرار الرسول(ص) على ملاحقة قريش سياسياً واقتصادياً.
ولما كان المشركون يحاولون استئصال المسلمين وإبادتهم ولن يثنيهم عن ذلك شهر حرام أو بلد حرام، وهذا ما كشفت عنه الايات الكريمة{ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا} وحذّر سبحانه وتعالى المسلمين من التهاون أمام القوى الباغية والتفريط بإيمانهم {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.
جذور المسلمين:
وقد أثبت المسلمون أنهم جديرون بحمل لواء الإيمان والإسلام، وكانوا مصممين على قتال المشركين، وتجلى ذلك من خلال بعض النماذج التي سألها الرسول (ص) عن رأيها في قتال قريش، فهذا المقداد بن عمرو يقول: « يا رسول الله، امضِ لما أراك الله، فنحن معك، والله لا نقول لك ما قال بنو إسرائيل لموسى: إذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق ، لو سرت بنا إلى برك العماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه».
ويقول سعد بن معاذ: « قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامضِ يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منّا رجل واحد، وما تكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنّا لصُبُرٌ في الحرب، صُدُقٌ عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر على بركة الله».
السبب المباشر لاندلاع المعركة:
إزاء هذا الجو المشحون، لم يبق إلاّ المبرر والسبب المباشر لاندلاع الحرب، وكان ذلك عندما قاد(ص) غزوه تعقبت قافلة لقريش على رأسها أبو سفيان، وهي عائدة من الشام محملة بالبضائع، والتي لا ريب أنها ستشكل مصدراً مالياً واقتصادياً مهماً للمسلمين في حال الإيقاع بها، خصوصاً وأن الأخبار تحدثت عن وجود ألف بعير في القافلة، وأن قريش وضعت فيها كل ما تملك من أموال.
وعندما علم أبو سفيان بذلك، أرسل إلى قريش يطلق نداء الاستغاثة لكي تستنقذ مالها، فتجهزت وانطلقت للدفاع عن أموالها، إلاّ أن القافلة تمكنت من الإفلات، ولكن زعماء قريش أصرّوا على منازلة النبي(ص) وأصحابه، فكانت وقعة بدر الكبرى التي لم تكن فيها تكافؤ في القوى، لا في العدد ولا في العدة، ومع ذلك منيت قريش بهزيمة ساحقة، أدت إلى مقتل عدد كبير منهم، وأسر آخرين، ووقوع الغنائم بأيدي المسلمين، وهذا ما أشار إليه القران الكريم في كتابه: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون}.
قضية الأسرى:
وما يلفت له، أن العديد من القضايا المتعلقة بشؤون المجتمع، وخاصة في حالة الحرب، تدخل الوحي بعد معركة بدر للتشريع لها وحلها، منها مسألة الخلاف على توزيع الأنفال التي وقعت بأيدي المسلمين {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين}، فقسمها رسول الله(ص) بين المسلمين، ما حلحل أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية.
كما شرع لقضية الأسرى الذين وقعوا في قبضة المسلمين، حيث كان البعض يرى الإبقاء عليهم للانتفاع بثرواتهم، ورأى آخرون ضرورة الاقتصاص من مآثمهم السابقة، فقال الوحي: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم}.
«بدر» المعركة المفصلية:
كما أن معركة بدر كانت من الأهمية بمكان، بحيث اعتبرت معركة مفصلية في تاريخ الإسلام، وتحولاً نوعياً في مجرى الصراع بين المشركين والمسلمين، بحيث شكل الانتصار ديمومة وبقاءً للدين الإسلامي، وهذا ما عبر عنه النبي (ص) بقوله: «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض »، وفي دعائه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم نصرك».
وعلى صعيد آخر، شكل انتصار الرسول (ص) والمسلمين المفاجئ صدمة قوية أفقدت قريش توازنها، وخلخل قوتها العسكرية، ما أدى إلى حرمانها من تفوقها في الحجاز.
وفي المقابل، أظهرت المعركة المسلمين كقوة لا يستهان بها، ما فتح عيون القبائل العربية على واقع جديد جعلها تأخذ احتياطاتها اللازمة بشأن العلاقة مع قريش للحفاظ على مصالحها، كما أنه وسّع من دائرة الاستهداف الإسلامي لقريش، حيث أضحى الساحل الحجازي برمته منطقة غير امنة للقوافل التجارية، ما اضطر قريش إلى تغيير طرق القوافل، وهذا ما دلّت عليه السرايا والغزوات التي أنفذها المسلمون بعد موقعة بدر.
صدمة اليهود بعد بدر:
أما على صعيد المدينة، فقد شكلت أنباء انتصار المسلمين صدمة قوية لليهود المدعومين من المنافقين، فلم يصدقوا ما حصل، كما أنها كشفت ما كان يختزنه اليهود من حقد وكراهية للمسلمين، فسخروا من هذا الانتصار، وحاولوا توهين قوة المسلمين، ما جعل الأوضاع تتأزم بينهم وبين المسلمين، خاصة من جانب قبيلة بني القينقاع التي باشرت بنقض العهد مستفيدين من صبر الرسول(ص) وسمته الحوارية، ولكن أمام حالة الخطر التي باتت تشكلها تحرشات هؤلاء، ما كان منه(ص) إلاّ أن يقاتلهم ويحاصر حصونهم، وانتهى الأمر بإجلائهم نهائياً عن المدينة، ولم يتوقف (ص) عند هذا، الحد بل شرع في انتهاج سياسة أمنية خاصة ضد اليهود استهدفت بعض الشخصيات التي كانت تشكل خطراً على مسيرته، ومنها أبو عفك وعصماء بنت مروان وكعب بن الأشرف وغيرهم.
وهكذا كانت موقعة بدر نقطة تحول في تاريخ الصراع بين المسلمين والمشركين، بحيث لم تعد قريش القوة المهيمنة على الحجاز وبعض مناطق شبه الجزيرة، هذا إذا لم نقل إنها رسمت معالم المرحلة المقبلة لمصير قريش والمشركين، ألا وهو التسليم المطلق وفي المدى المنظور، ليس على صعيد المجاز فحسب، بل وخارج شبه الجزيرة العربية، في كثير من بقاع العالم، في مشارق الأرض ومغاربها. السيد محمد حسين فضل الله
http://www.bayynat.org/www/arabic/ramadan/bader.htm
«قريش» حاجز في وجه الرسالة:
ولعلّ هذا الذي دفع بقريش لأن تفقد صوابها وتصمّم على قتل النبي(ص)، ولكنه نجا منها بمعجزة، وهاجر من مكة إلى المدينة في وقت بلغ فيه الصراع بين النبي(ص) وقريش مبلغاً، وكان (ص) يدرك أن قريشاً لن تتوانى عن ملاحقته والإيقاع به، مدركاً في الوقت نفسه أهمية مكة وموقعها وعوامل قوتها المبنية على التجارة والمركز الديني وشبكة علاقات سياسية مع القوى الأخرى، وخاصة القبائل، ما جعلها تلعب دور المهيمن على الواقع في الحجاز وبعض أنحاء شبه الجزيرة ، بحيث شكلت حاجزاً منيعاً في وجه الرسالة لو بقيت هذه العوامل قائمة.
ومن جانب آخر، كان يتوزع المدينة بالإضافة إلى المسلمين قوتان معاديتان، وهما اليهود والمنافقون من داخل المدينة، وإزاء هذا التشكيل المعادي، رأى(ص) أن التهديد الأقوى كان يأتيه من ناحية قريش، فجعل الصراع معها في سلّم أولوياته، وسعى إلى تحصين المجتمع في حال تعرض لاعتداء من الخارج.
ولذلك، قام بجملة من الخطوات كان في مقدمتها رباط المؤاخاة وبث روح التكافل والتعاضد بين المسلمين من مهاجرين وأنصار، ما جعل المسلمين أمة واحدة متكاملة على قاعدة الإيمان، كما بنى المسجد لما له من دور على الصعيدين العبادي والتربوي، وفي رسم السياستين الداخلية والخارجية، فضلاً عن سعيه إلى تحييد ما أمكنه من باقي القوى، فأقام معاهدات «مهادنات» مع اليهود من قبائل بني القينقاع وبني النضير وبني قريظة، كل على حدة.
وقد ساهمت جملة من العوامل في تحصين المجتمع وتمتينه، حيث أمر سبحانه وتعالى بتحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام التي اتخذت منها قريشاً مادة للدعاية ضد الرسول(ص)، لينزع بذلك الذرائع والحجج من يدها في هذه القضية.
كما جاء ت خطوة التشريع للجهاد لتزيد من قوة المجتمع الإسلامي وتماسكه، حيث أمر سبحانه وتعالى بوجوب هجرة المسلمين إلى المدينة، واعتبر أن من يتخلّف عنها مأثوم شرعاً ويرتكب معصية، لتأتي الخطوة الثالثة في تشريع القتال، التي كانت إيذاناً بالانتقال من مرحلة المهادنة والحوار إلى مرحلة إظهار القوة والبأس{وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}وفي آية أخرى{فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلاّ نفسك وحرّض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأساً وأشد تنكيلاً}.
لم يترك الرسول(ص) وسيلة إلاّ وحاول الاستفادة منها من أجل إضعاف قريش، فحاول إقامة علاقات مع القبائل المحيطة بالمدينة والبعيدة عنها، خاصة تلك التي تربطها بقريش علاقات قوية، كما أنه اعتمد سياسة إشعار قريش بأن مصالحها التجارية مهددة بالخطر، مستخدماً، لتحقيق هذا الهدف السرايا والغزوات، وذلك لمراقبة تحركات قريش واستطلاع أخبارها، وللتدليل على أن المسلمين لن يتوانوا عن استخدام القوة، لأن قريشاً لا ترتد عن غيّها وكبريائها إلاّ عن طريق الخوف، وهذا تفسير قوله تعالى: {ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم}.
وبالفعل حققت السرايا والغزوات الغاية المنشودة منها، وخلقت جواً من الاحتقان والتوتر في صفوف قريش، فبدأت تشعر أنه لا يمكنها السكوت عمّا يجري، وأضحت بين خيارين: إما الاعتراف بالرسول(ص) وهو أمر لا يمكن أن تقبل به، وإما أن تصبر على ما يجري والوضع يزداد سوءاً، وهذا ما لا يمكن أن تتحمله، لأنه يطال المقوّم الأساس لحياتها المعيشية ونفوذها السياسي، ولهذا كان خيار المواجهة هو الأقوى في ظل إصرار الرسول(ص) على ملاحقة قريش سياسياً واقتصادياً.
ولما كان المشركون يحاولون استئصال المسلمين وإبادتهم ولن يثنيهم عن ذلك شهر حرام أو بلد حرام، وهذا ما كشفت عنه الايات الكريمة{ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا} وحذّر سبحانه وتعالى المسلمين من التهاون أمام القوى الباغية والتفريط بإيمانهم {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.
جذور المسلمين:
وقد أثبت المسلمون أنهم جديرون بحمل لواء الإيمان والإسلام، وكانوا مصممين على قتال المشركين، وتجلى ذلك من خلال بعض النماذج التي سألها الرسول (ص) عن رأيها في قتال قريش، فهذا المقداد بن عمرو يقول: « يا رسول الله، امضِ لما أراك الله، فنحن معك، والله لا نقول لك ما قال بنو إسرائيل لموسى: إذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق ، لو سرت بنا إلى برك العماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه».
ويقول سعد بن معاذ: « قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامضِ يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منّا رجل واحد، وما تكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنّا لصُبُرٌ في الحرب، صُدُقٌ عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر على بركة الله».
السبب المباشر لاندلاع المعركة:
إزاء هذا الجو المشحون، لم يبق إلاّ المبرر والسبب المباشر لاندلاع الحرب، وكان ذلك عندما قاد(ص) غزوه تعقبت قافلة لقريش على رأسها أبو سفيان، وهي عائدة من الشام محملة بالبضائع، والتي لا ريب أنها ستشكل مصدراً مالياً واقتصادياً مهماً للمسلمين في حال الإيقاع بها، خصوصاً وأن الأخبار تحدثت عن وجود ألف بعير في القافلة، وأن قريش وضعت فيها كل ما تملك من أموال.
وعندما علم أبو سفيان بذلك، أرسل إلى قريش يطلق نداء الاستغاثة لكي تستنقذ مالها، فتجهزت وانطلقت للدفاع عن أموالها، إلاّ أن القافلة تمكنت من الإفلات، ولكن زعماء قريش أصرّوا على منازلة النبي(ص) وأصحابه، فكانت وقعة بدر الكبرى التي لم تكن فيها تكافؤ في القوى، لا في العدد ولا في العدة، ومع ذلك منيت قريش بهزيمة ساحقة، أدت إلى مقتل عدد كبير منهم، وأسر آخرين، ووقوع الغنائم بأيدي المسلمين، وهذا ما أشار إليه القران الكريم في كتابه: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون}.
قضية الأسرى:
وما يلفت له، أن العديد من القضايا المتعلقة بشؤون المجتمع، وخاصة في حالة الحرب، تدخل الوحي بعد معركة بدر للتشريع لها وحلها، منها مسألة الخلاف على توزيع الأنفال التي وقعت بأيدي المسلمين {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين}، فقسمها رسول الله(ص) بين المسلمين، ما حلحل أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية.
كما شرع لقضية الأسرى الذين وقعوا في قبضة المسلمين، حيث كان البعض يرى الإبقاء عليهم للانتفاع بثرواتهم، ورأى آخرون ضرورة الاقتصاص من مآثمهم السابقة، فقال الوحي: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم}.
«بدر» المعركة المفصلية:
كما أن معركة بدر كانت من الأهمية بمكان، بحيث اعتبرت معركة مفصلية في تاريخ الإسلام، وتحولاً نوعياً في مجرى الصراع بين المشركين والمسلمين، بحيث شكل الانتصار ديمومة وبقاءً للدين الإسلامي، وهذا ما عبر عنه النبي (ص) بقوله: «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض »، وفي دعائه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم نصرك».
وعلى صعيد آخر، شكل انتصار الرسول (ص) والمسلمين المفاجئ صدمة قوية أفقدت قريش توازنها، وخلخل قوتها العسكرية، ما أدى إلى حرمانها من تفوقها في الحجاز.
وفي المقابل، أظهرت المعركة المسلمين كقوة لا يستهان بها، ما فتح عيون القبائل العربية على واقع جديد جعلها تأخذ احتياطاتها اللازمة بشأن العلاقة مع قريش للحفاظ على مصالحها، كما أنه وسّع من دائرة الاستهداف الإسلامي لقريش، حيث أضحى الساحل الحجازي برمته منطقة غير امنة للقوافل التجارية، ما اضطر قريش إلى تغيير طرق القوافل، وهذا ما دلّت عليه السرايا والغزوات التي أنفذها المسلمون بعد موقعة بدر.
صدمة اليهود بعد بدر:
أما على صعيد المدينة، فقد شكلت أنباء انتصار المسلمين صدمة قوية لليهود المدعومين من المنافقين، فلم يصدقوا ما حصل، كما أنها كشفت ما كان يختزنه اليهود من حقد وكراهية للمسلمين، فسخروا من هذا الانتصار، وحاولوا توهين قوة المسلمين، ما جعل الأوضاع تتأزم بينهم وبين المسلمين، خاصة من جانب قبيلة بني القينقاع التي باشرت بنقض العهد مستفيدين من صبر الرسول(ص) وسمته الحوارية، ولكن أمام حالة الخطر التي باتت تشكلها تحرشات هؤلاء، ما كان منه(ص) إلاّ أن يقاتلهم ويحاصر حصونهم، وانتهى الأمر بإجلائهم نهائياً عن المدينة، ولم يتوقف (ص) عند هذا، الحد بل شرع في انتهاج سياسة أمنية خاصة ضد اليهود استهدفت بعض الشخصيات التي كانت تشكل خطراً على مسيرته، ومنها أبو عفك وعصماء بنت مروان وكعب بن الأشرف وغيرهم.
وهكذا كانت موقعة بدر نقطة تحول في تاريخ الصراع بين المسلمين والمشركين، بحيث لم تعد قريش القوة المهيمنة على الحجاز وبعض مناطق شبه الجزيرة، هذا إذا لم نقل إنها رسمت معالم المرحلة المقبلة لمصير قريش والمشركين، ألا وهو التسليم المطلق وفي المدى المنظور، ليس على صعيد المجاز فحسب، بل وخارج شبه الجزيرة العربية، في كثير من بقاع العالم، في مشارق الأرض ومغاربها. السيد محمد حسين فضل الله
http://www.bayynat.org/www/arabic/ramadan/bader.htm