{.. المعرفة العلمية والفكرية لسيدة النساء عليها السلام ..}
يتساوى النساء في الحقوق والواجبات من جهة التشريع الإسلامي ومنطلقاته الأصلية، فهم سواسية كأسنان المشط في المظهر الخارجي، ولكن من حيث حقيقة وجوهر كل إنسان تختلف النساء من شخصية إلى أخرى، وقديما قيل: الناس مخابر، وليسوا بمناظر. أي الإنسان بجوهره وحقيقته، وذلك أن المخبر بكشف عن سلوك الإنسان ويبدو على سيرته الذاتية بشكل واضح لا لبس فيه، فما أضمر ابن آدم شيئاً إلا وظهرعلى فلتات لسانه وصفحات وجهه، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام ذلك في نهج البلاغة « تكملوا تعرفوا فإن المرء مخبوء تحت لسانه ». فالكلمة تُعرِّف حقيقة الإنسان وطبيعة شخصيته، ويكون عبر توجيه بعض الأسئلة إليه ومن خلال الجواب عليها يظهر طبع شخصيته وحقيقتها ومدى سعتها واستيعابها، وهل هي شخصية عالية ذات هِمَّة كبيرة أم لا؟ وغير ذلك من الأمور المهمة، ذلك أن الكلمة التي تخرج من الفم تحمل معها صورة قائلها ونبضات قلبه، وخلجات نفسه ودخائل شخصيته، وهذه حقيقة معروفة لدى علماء النفس والتربية والاجتماع، كل ذلك نقوله لكي نهتدي إلى سواء السبيل.
وعلى هذا الأساس إننا نهتدي إلى معرفة الشخصية العلمية والفكرية بها سلام الله عليها من خلال عدة أمور مهمة ومن خلالها نعبر إلى شخصيتها وندخل في فهم حقيقتها وهذه الأمور هي:
أولاً) سيرتها الذاتية:
يمكن معرفة شخصيتها من خلال سيرتها الذاتية التي يرويها لنا أهل البيت عليهم السلام والأقربون من ذويها، ذلك لأنَّ أهل البيت أدرى بما فيه، وأهل مكة أدرى بشعابها كما يقول المثل. إذ أن هناك أمور في الحياة صحيحة وثابته وفق مقاييس العقل والبرهان ولا تحتاج إلى إثبات أحقِّيتها وأصحِّيتها إلى دليل من الخارج ولا تحتاج إلى إثبات صحة دعواها أيضاً إلى شاهد فدليلها مستمد منها، ومن هذه الأمور الثابتة في حياة الإنسان الكامل « فاطمة الزهراء » هي سيرتها الذاتية التي تثبت من خلالها معرفتها الحقيقية فهذه السيرة هي السبيل الصحيح للوقوف على حياتها عليها السلام. فهي الضابط والمعيار الصحيح للحكم عليها من خلالها؛ فالإنسان لا يعرف المعرفة الصحيحة إلا من خلال هذه السيرة على وجه الدقة، أما بقية المسائل الأخرى في حياة الإنسان من الشعارات والأطروحات والأدلة والشواهد وغير ذلك لا تمثل سوى الجانب النظري من حياة الإنسان الشخصية، ومدى صدق هذه الدعوى فهي متروكة للجانب التطبيقي في حياته. إذن السيرة الذاتية الصديقة الطهرة تمثل جانب تطبيقي من حياتها الشخصية على كافة المستويات.
ثانياً) مواقفها:
يمكن أن نعرف شخصيتها من خلال مواقفها؛ لأنّ الموقف عمل والعمل ماهو إلا انعكاس لطبيعة شخصية الفرد، وهذا ما أثبته التاريخ الإسلامي لفاطمة عليها السلام حيث أخبرنا بمواقفها الفذة في جميع الحالات التي مرت بها. فعندما كانت قريش تؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتتعرض له بأنواع المواجهة كانت الزهراء عليها السلام تقف إلى جانبه صابرة محتسبة، فيدخل إلى البيت وقد حثى الكافرون التراب على رأسه الشريف، فتستقبله الزهراء عليها السلام وتغسل التراب عن رأسه وهي باكية، فيقول لها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: لا تبكي فان الله ناصر أباك. كما أنها عليها السلام التحقت بأبيها صلى الله عليه وآله وسلم بعد هجرته إلى المدينة مجازفة بحياتها ومضحية بروحها في سبيل نصر الإسلام وإعزاز مبادئه المثلى، ولا يمكن أن يُغفل دورها في الوقوف إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيام دعوته المباركة، تؤنسه وتزيح عنه الهموم والآلام، وتعيد البسمة إلى وجهه المبارك إذا اشتدت عليه الخطوب.
أضف إلى مواقفها الرسالية أيام الحروب وهي صغيرة السن بعد، ففي معركة أحد تُكسَر رباعية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويُشجُّ جبينه، فتقبل الزهراء عليها السلام لتغسل وجهه، وتزيل الدماء عن محياه، وتعالج نزيف جراحاته؛ فقد جاء في صحيح مسلم: « قال سهل بن سعد: جرح وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة عن رأسه، فكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تغسل الدم، وكان علي بن أبي طالب يسكب عليها بالمحن، فلما رأت فاطمة أن الماء لايزيد الدم إلاّ كثرة ، اخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رمادا ثم الصقته بالجرح فاستمسك الدم » . ونقل ابي نعيم في ( حلية الأولياء ) عن أبي ثعلبة أنه قال: « قدم رسول الله من غزاة له، فدخل المسجد فصلى فيه ركعتين، ثم خرج فأتى بيت فاطمة عليها السلام فبدأ به قبل بيوت ازواجه، فاستقبلته فاطمة عليها السلام وجعلت تقبل عينيه ووجهه وتبكي » والأعجب من ذلك أن فاطمة عليها السلام كانت تهيء لأبيها صلى الله عليه وآله وسلم السلاح في المعركة التي جرت في اليوم القادم. وفي معركة الخندق تقبل على أبيها بأقراص من الخبز معدودة بعد أن بقى أياماً بلا طعام، فجاء في ذخائر العقبى: « روي عن علي عليه السلام في حفر الخندق عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن فاطمة عليها السلام جاءت إليه بكسرة من خبزٍ فرفعتها إليه فقال: ما هذه يا فاطمة ؟ قالت: من قرص اختبزته لابنتي جئتك منه بهذه الكسرة. فقال: يابنية أما أنها لأول طعام دخل في فم أبيك منذ ثلاث ».
وفي الفتح المبين نرى الزهراء عليها السلام تضرب لأبيها صلى الله عليه وآله وسلم خيمة وتهيء له طعاما ليستحم ويغتسل حتى يزول عن جسده المبارك غبار الطريق، ويرتدي ثيابا نظيفة يخرج بها إلى المسجد الحرام، ومن موقع الأمومة وكونها زوجة وفية مخلصة لعلي عليه السلام نرى أنها عليها السلام زهدت في الدنيا وترفعت عن الدنيا، ولم يكن لها من هم إلا تحمل المسؤولية الإلهية بجدارة واستحقاق وتجسيد الصفات الإلهية كأمثل ما يكون.
ومن أروع أمثلة الإيثار ما طفحت به كتب الحديث والتفسير من تقديم الزهراء عليها السلام وزوجها وولديها لطعامهم لثلاثة أيام متوالية لمسكين ويتيم وأسير وبقائهم جياعا طيلة هذه المدة قربة لوجه الله الكريم، فنزل بشأنهم: (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا، عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا، يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا، وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا). ومن المواقف التي خلدت من خلالها الزهراء عليها السلام الزهد والإيثار والقناعة أنها عليها السلام قد طلبت من أبيها صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون مهرها الشفاعة للمذنبين من أمته يوم القيامة، فنزل جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مخبرا إياه بتلبية الله تعالى لطلب فاطمة عليها السلام، وبما أن درع علي عليه السلام كان المهر التقليدي لفاطمة عليها السلام فإن أغلى قيمة ذكرت لذلك الدرع هي خمسمائة درهم.
ثالثاً) كلامها:
وتستطيع معرفة فاطمة وشخصيتها الربانية من خلال نور كلامها الشريف، الذي هو عبارة عن صورة حقيقية والانعكاس صادق لشخصيتها الإلهية، فمن خلال أقوالها وكلماتها نستطيع أن نستدل عليها، ونكتشف حقيقتها في سهولة ويسر وبساطة، ولقد تجلت أنوار كلماتها المضيئة في مختلف أبواب العلوم والفنون كعلم الفقه والأخلاق وسائر العلوم الاخرى التي تكلمت فيها على اختلاف أنواعها من علوم رتيبة أو غريبة ظاهرة أو باطنة، نقلية أو عقلية، علمية أو أدبية، إنسانية أو طبيعية، إلهية أو دنيوية؛ فإنها سلام الله عليها قد كشفت القناع عن الكثير من الأسرار التي تخص هذا الوجود، وبينت الكثير من عجائبه، وفي كل ذلك نستطيع أن نلتمس منه وفيه شيئاً يسيراً من معرفتها سلام الله عليها. أما أنوار كلامها فهذا ما بينته الكثير من الكتب الروائية التي نقلت لنا بين طياتها أحاديثها وأحرازها وأدعيتها وولايتها.
كتاب/ الأسرار الفاطمية
تأليف/ الشيخ محمد فاضل المسعودي
http://www.alkadhum.org/other/mktba/sira/alasrar/index.htm
تعليق