مصالحة نوري المالكي .. حين تحلم الضحية أحلام اليقظة
كتابات - عزيز رهيف
يقال إن الحاضر نتاج الماضي و لهذا فكلما اختلف الناس في ماضيهم تفرقوا على حاضرهم . و كلما اتفقوا على الحاضر فلا يبعد أنهم متفقون على الماضي . هذه الصورة نلمسها بقوة في أوضاعنا العراقية الحالية فكل مرحلة لها متفقون و لها خصوم تلتقي على هذا الحد أو ذاك و ربما لا تلتقي . و كوني عراقيا عانيت و عائلتي من تسلّط البعث و إرهاب السلطة منذ السبعينات و ربما حتى الآن فلي كغيري مساحة من الاختلاف و التباين مع البعض كما لي مساحة من التوافق و التشابه مع البعض الآخر . الموافقون لي أو من أتوافق معهم هم ضحايا الدكتاتورية و خصومي الذين استمد شرعية و مشروعية خصامي معهم لاختلافنا على الماضي هم أولئك الذين يذكّروني به . و أعلم أنني لست إلا نسخة من ملايين النسخ العراقية التي أحتضنها قدر واحد و مصير واحد و نهاية متشابهة و ربما أيضا واحدة . و حين أتأمل ما حولي أجد أن هذه النسخ هي نفسها لم تعد متفقة على ماضيها و بالتالي مختلفة في حاضرها أما لماذا ؟ فربما لأن بعض المفاهيم جرى التلاعب بها و إعادة صياغتها بشكل مختلف جعلنا نختلف بالضرورة و ربما أيضا لأن المتفقون على ماضيهم الذي نختلف معهم حوله نجحوا في أن يفكوا تلك العلاقة الوثيقة بين الماضي و الحاضر فأصبح هذان البعدان للزمن غير متصلين و أصبحت حرارة الضغوط القاسية التي تعرض إليها العراق خلال السنوات الأخيرة الأكسير الذي فك الآصرة الأزلية بينهما و بهذا صارت الأمور متداخلة و متشابكة و مع هذا التداخل و التشابك اختلطت الأوراق و تغيرت المفاهيم و التقييمات و الأحكام و نجح المستفيدون في وضع كهذا من أن يبعثروا كل شيء و صار المتفقون على الماضي أنفسهم خصوما في حاضرهم ساعد على ذلك رغبة الاستئثار لدى البعض و محاولة الثأر من الماضي بتقمص دور الجلاد النزيه الذي يخلق وحدة وطنية يتوحد فيها الناس برغبة شاذة في استعادة آلام قديمة يريدون تجديدها و تراجعت الحلول التي كان متفقا عليها من قبل الجميع تقريبا لتصبح من المنبوذات التي يجب قذفها بعيدا عنا ! كان عدونا البعث و البعثيين و اليوم نكاد نفقد ما نعني بمفهوم البعث أو هكذا يريد البعض لنا بعد نجاحه في اختلاق ظواهر أخرى كالطائفية و الإرهاب و التكفير مسحت أو خففت من الوجه القبيح لهم في ماض دام ثلاث حقب متواصلة . و الآن فقد أصبحت القضية عفواً و مسامحةً و مصالحةً و احتضانا للوطنية و الوحدة و غيرها ...
كنت أتساءل و أنا استمع لرئيس الوزراء وهو يلقي خطابه في مؤتمر العشائر العراقية ، سمعته عن طريق قناة الشرقية التي أصبحت ( الجنل تو ) لمتابعة خطب و بيانات و لقاءات السيد المالكي و سبحان مغير الأحوال . تساءلت عن تلك المفاهيم التي يحاول رئيس الوزراء ترسيخها و للرجل قدرة لا يستهان بها في ترتيب الفكرة و إخراجها ؟ كل يوم ينتقل المالكي خطوة جديدة إلى الأمام – إلى الخلف ( حسب اختلافنا و اتفاقنا في تقييم الحاضر بناء على الماضي ) . قبل عامين بالتحديد وفي تصريحات لرئيس الوزراء كان قد بيّن أن المقصود من مشروع المصالحة الوطنية الذي أقره مجلس الوزراء و صادق عليه مجلس الرئاسة هو إتاحة الفرصة لمن يرغب في الانخراط بالعملية السياسية و يلقي السلاح شرط ألا تكون يداه ملطخة بدماء العراقيين لا أكثر من هذا و لا أقل . أحد مراكز البحوث السياسية العراقية تعجل من جانبه فاصدر كتابا حول مشروع المصالحة و حاول قراءة كل مادة و الآن كم يثير صاحب الكتاب الشفقة و الرثاء لأنه حلل و فسّر ما رواء السطور و ليس ما وراء الحاضر و المستقبل . ربما في هذا الخطاب الأخير لنوري المالكي حسم نهائي للجدل حول أطروحاته و سياساته ، فالرجل قال أن كل شيء قابل للمراجعة بدءا من الدستور و انتهاء بالعملية السياسية برمتها ، الإضافة التي قد تطمئن البعض هو قوله إن المراجعة ليس من الضروري أن تكون قائمة على الهدم و الإلغاء بل المراجعة و التصحيح ، و لكن المشكلة في هذه الإضافة أنها تشبه إضافات سابقة جرى التخلي عنها .
يوما بعد يوم تتكاثر القوى السياسية المؤيدة لأطروحات و سياسة رئيس الوزراء هذه القوى أغلبها هي ممن يعارض العملية السياسية – سرا أو علنا - في الداخل و الأغلبية في الخارج الذين يتأهبون للعودة . و لمَ لا فالمالكي يكثّر اللاءات باستمرار فلا للفدرالية و لا لاجتثاث البعث و لا لـ لا عودة الضباط و البعثيين و سيتطور الأمر يقينا ليشمل الملطخة أيديهم بالدماء من الطائفيين السياسيين الذين هم الآن في الخارج ليرفع عنهم آخر ( لا ) كانت تمثل لكل ضحية نوعا من الشرف الوطني !
نوايا المالكي قد تكون سليمة لدى البعض و ربما تكون منطوية على مجرد رغبة تأكيد زعامته لدى البعض الآخر و أنا واحد من هؤلاء الآخرين . احد نواب في البرلمان أهدته ابنته يوما جهاز موبايل عالي التقنية وهي تدرس خارج العراق في بلد أوروبي و بما أن هذا البرلماني المعروف بوجهه ( الفليح ) الذي سبق له تشبيه المالكي بصدام كثيرا ما يلتقي برئيس الوزراء ، رغبة لقاء المالكي به أو رغبته بلقاء المالكي لا نعرف سرها بالضبط و المهم أن كل ما كان يقوله نوري المالكي يتم تسجيله في جهاز الموبايل . و الكلام الذي سجِّل لو قدِّر أن يستمع إليه أحدهم فلا شك انه سيُصدَم و النائب الملمّح إليه يحتفظ بالتسجيلات لوقت ( العوزة ) وقد سمعنا بعضها فنالنا العجب . إضافة المزيد سيجعلنا في فم الأسد و أنا أيها السادة رجل مسكين على قدر حالي . ما أستطيع تأكيده أن السيد المالكي يتدحرج على سفح غروره و سينتهي به المطاف إلى حيث لم يحتسب و سينفضّ من حوله المؤيدون بعدما غنموا الغنائم السياسية التي طالما بحثوا عنها فيما سيفلس المالكي و معه كل من عانى من ظلم و اضطهاد الماضي و للأسف منهم من هو مأخوذ الآن بما يشبه أحلام اليقظة .
باحث سياسي – بابل