مشكلة القيادة في العمل الإسلامي من المشكلات التي صاحبت هذا العمل منذ بدايته بعد انقطاع الوحي بوفاة مؤسس الدولة رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولأن القيادة صمام الأمان في كل مجتمع ، وجدنا مجتمعاتنا فوضى ، تعمل ولا نتيجة لعملها ، وتزرع ولا تجني إلا قبض الريح . ويميل بعض علماء السياسة والإجتماع الى رد الفشل في إفراز قيادة واحدة واعية إلى سوء الشعب أو ( القوم ) نفسه ، بينما يرى البعض الآخر عكس ذلك ، أي أن فشل القوم أساسه سوء القيادة وفشلها . وكل من هؤلاء وأولئك يسوق لتأييد رأيه أدلة وبراهين . والحقيقة أن العلاقة بين القيادة والشعب أو الجمهور أو القوم أو غير ذلك من مترادفات اصطلاحية سياسية للتعبير عن ( الناس ) إنما هي علاقة
--------------------------------------------------------------------------------
( 16 )
ديناميكية يؤثر فيها كل طرف في الطرف الآخر ويتأثر به . فهي علاقة ازدواجية التفاعل لا أحاديته . ومن ثم وجدنا بين أيدينا أحاديث وأقوالاً ظاهرها التناقض وهى ليست كذلك . فيقال مثلاً ( الناس على دين ملوكهم ) ومعناه أن الحاكم إذا صلح صلحت الرعية وبالعكس ، ويقال أيضاً ( كما تكونوا يولى عليكم ) وهو ما يعني أن الشعب إذا صلح صلحت القيادة أو الحاكم والعكس بالعكس . لكن الأمر لا يخلو من تناقض إذ العلاقة بين الطرفين ـ كما أسلفت ـ علاقة ازدواجية متبادلة يؤثر فيها سوء أحد الطرفين أو صلاحه في الطرف الآخر سلباً وإيجاباً ، فتقع المسئولية على كليهما .
ولقد ظهرت مشكلة القيادة في المجتمع الإسلامي بعد وفاة مؤسس الدولة وواضع منهجها والمشرف على سيرها رسول الله عليه وآله الصلاة والسلام ، ثم اختلفت المذاهب الإسلامية بشأنها على النحو الموضح في كتب الكلام والعقيدة والسياسة لدى كل منها .
--------------------------------------------------------------------------------
( 17 )
والحقيقة أن مطالعة ما عند الفرق الإسلامية من بضاعة في موضوع الإمامة أو الخلافة كما سموها يؤكد أن أهل السنة يخلطون الإمامة بالخلافة برئاسة الجمهورية ، وأنهم استخدموا اصطلاح الإمامة حيناً والخلافة أحياناً للتعبير عن معنى واحد هو رئاسة الدولة ، فالإصطلاح عندهم غير محدد يستوى في ذلك القدماء كالماوردي وابن خلدون ، والمحدثون كالمودودي ورشيد رضا وأبي زهرة . لكننا لا نقف على شيء من هذا الخلط عند الشيعة قديماً وحديثاً فنظرية الإمامة عندهم ـ والقيادة جزء منها ـ مؤصلة مؤطرة .
وما يهمنا في هذا كله ـ لوقد أغمضنا العين عن رؤية الخلط ـ حكم الإمامة أو القيادة الشرعي عند كليهما ، فهي عند الشيعة أصل من أصول الدين (1) يسوقون في تأييده أدلة عقلية ونقلية كثيرة لا يهمنا إيرادها هنا فالمجال مختصر محدود ، وهي عند السنة
____________
(1) الشيعة في عقائدهم وأحكامهم ، أمير محمد الكاظمي القزويني ص42 وما بعدها ، لبنان1972 .
--------------------------------------------------------------------------------
( 18 )
فرض كفاية (1) كصلاة الجنازة ورد التحية وهو ما يوضح بذاته منزلة هذا المنصب الخطير في فكرهم السياسي .
أما الدليل على أنها فرض كفاية، فليس عندهم غير إجماع الصحابة، دون نص من كتاب أو سنة . ولست أبغي ـ في هذا المجال الضيق ـ استقصاء آراء الأصوليين في هذه النقطة ، وهل يتقرر الفرض فرضاً بإجماع الصحابة فعلاً أو قولاً أو تقريراً ، وأسأل : إذا كان الصحابة رضوان الله عليهم قد شعروا بخطورة هذا المنصب وأهميته فأجمعوا على ضرورة إيجاده ـ وهذا كله عملية عقلية محضة ناتجة عن إعمال العقل والفكر في غياب النص ـ فهل يتوقع منهم كمال العقل وإدراك حاجة الدولة ونظامها ، ولا يتوقع ذلك من الله ورسوله وهو الذي نص على أن الدين قد اكتمل ، والكتاب قد تم ( اليوم أكملت لكم دينكم ) المائدة ـ 3 ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) الأنعام ـ 38 .
____________
(1) الاحكام السلطانية للمارودي ص3 طبع المطبعة المحمودية مصر بدون تاريخ ، الأحكام السلطانية لأبي يعلي الحنبلي ص3 ، مصر 1938 ، المقدمة لابن خلدون ص191 ، لبنان ، الطبعة الخامسة 1984 .
--------------------------------------------------------------------------------
( 19 )
وأختلف بشدة مع ابن خلدون في أن الخـلافـة ـ وهي عندي كما قلـت قيادة ـ لم تكن مهمة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) ومن ثم لم يترك فيها شيئاً .
ومع أن أبا يعلى يقول أن طريق وجوبها السمع لا العقل (2) إلا أنه لم يقدم لنا نصاً مسمو عاً يؤيد مذهبه ، إلا أن يكون قد أراد سماع أحداث السقيفة وما تلاها فنعود الى نفس العقدة ، وهي محل ألف نظر. .
كما أن أحكام مشايخنا ـ نحن أهل السنة ـ واعتبارهم القيادة من أمور الدنيا والمصالح العامة المتروكة للخلق يفعلون بها ما شاؤوا (3) تتناقض وتاريخنا ، ولولا أن القيادة حجر زاوية في ديننا لما استشهد في سبيل تطهيرها من دنس الطواغيت أبرارنا منذ
____________
(1) المقدمة ص213 .
(2) الأحكام السلطانية ص3 .
(3) مقدمة ابن خلدون ص212 . الملل والنحل للشهرستاني : هامش ص144 ج1 ، مصر1948 .
--------------------------------------------------------------------------------
( 20 )
القدم حتى اليوم ، فهل هي حقاً من أصول ديننا كما يعتقد إخواننا الشيعة (1) وإذا كانت المسألة ليس فيها نص مما جعل ابن خلدون والماوردي ومن سار سيرتهما من كتَّاب السلاطين وزعماء التبرير ، يجتهدون ويفتون بما أفتوا ، فلماذا نقيد حياتنا في القرن العشرين بآراء هؤلاء وقد عاشوا في بيئة غير بيئتنا ، وظروف اجتماعية وسياسية غير ظروفنا ، وتحت نظم حكم غير التي تحكمنا ؟ ولماذا نقدس من لا يستحق التقديس ؟ .
إن هذا الأمر يحتاج الى صرخة قوية في وجه علمائنا أن يجتهدوا ويبينوا لنا وفق روح العصر حكم الإسلام في القيادة التي هي أهم أمر في جميع الدول وأنظمتها ، ولئن كنت أعتقد أن قحط الرجال قد عم وغلب ، لكني لا أعتقد أن البقية الباقية من الرجال قد ابتليت بقحط الفكر .
ولقائل أن يقول إن شيخ الإسلام ابن تيمية اعتبرها من أعظم واجبات الدين ، وأقول : صحيح وقد قال ( إن ولاية أمر الناس
____________
(1) الكافي ، حديث رقم ( 1 ) من باب في فضل الإمام وصفاته .
--------------------------------------------------------------------------------
( 21 )
من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين إلا بها ، فإن بني آدم لا تتم مصالحتهم إلا بالإجتماع لحاجة بعضهم الى البعض ، ولابد لهم عند الإجتماع من رأس ، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم . .. فالواجب إتخاذ الإمارة ديناً وقربة يتقرب بها الى الله ، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات ) (1) لكن كلامه هذا عن جميع المناصب لا عن القيادة خاصة فدخل فيه إمارة بيت المال والقضاء وغيره من مناصب الدولة . كما أنه أيضاً لم يأت بدليل صريح على هذا ، بل استنبطه استنباطاً بالعقل من أحاديث عامة كما ترى. على أن رأيه ل ا يمثل كثرة أهل السنة، ولم يذكر كيف تُعين القيادة العامة بل ردد نفس المقولات التي مرت بنا من قبل .
**
____________
(1) السياسة الشرعية ، نشر دار المتنبي ببغداد ، ص165 ـ 166 .
--------------------------------------------------------------------------------
( 16 )
ديناميكية يؤثر فيها كل طرف في الطرف الآخر ويتأثر به . فهي علاقة ازدواجية التفاعل لا أحاديته . ومن ثم وجدنا بين أيدينا أحاديث وأقوالاً ظاهرها التناقض وهى ليست كذلك . فيقال مثلاً ( الناس على دين ملوكهم ) ومعناه أن الحاكم إذا صلح صلحت الرعية وبالعكس ، ويقال أيضاً ( كما تكونوا يولى عليكم ) وهو ما يعني أن الشعب إذا صلح صلحت القيادة أو الحاكم والعكس بالعكس . لكن الأمر لا يخلو من تناقض إذ العلاقة بين الطرفين ـ كما أسلفت ـ علاقة ازدواجية متبادلة يؤثر فيها سوء أحد الطرفين أو صلاحه في الطرف الآخر سلباً وإيجاباً ، فتقع المسئولية على كليهما .
ولقد ظهرت مشكلة القيادة في المجتمع الإسلامي بعد وفاة مؤسس الدولة وواضع منهجها والمشرف على سيرها رسول الله عليه وآله الصلاة والسلام ، ثم اختلفت المذاهب الإسلامية بشأنها على النحو الموضح في كتب الكلام والعقيدة والسياسة لدى كل منها .
--------------------------------------------------------------------------------
( 17 )
والحقيقة أن مطالعة ما عند الفرق الإسلامية من بضاعة في موضوع الإمامة أو الخلافة كما سموها يؤكد أن أهل السنة يخلطون الإمامة بالخلافة برئاسة الجمهورية ، وأنهم استخدموا اصطلاح الإمامة حيناً والخلافة أحياناً للتعبير عن معنى واحد هو رئاسة الدولة ، فالإصطلاح عندهم غير محدد يستوى في ذلك القدماء كالماوردي وابن خلدون ، والمحدثون كالمودودي ورشيد رضا وأبي زهرة . لكننا لا نقف على شيء من هذا الخلط عند الشيعة قديماً وحديثاً فنظرية الإمامة عندهم ـ والقيادة جزء منها ـ مؤصلة مؤطرة .
وما يهمنا في هذا كله ـ لوقد أغمضنا العين عن رؤية الخلط ـ حكم الإمامة أو القيادة الشرعي عند كليهما ، فهي عند الشيعة أصل من أصول الدين (1) يسوقون في تأييده أدلة عقلية ونقلية كثيرة لا يهمنا إيرادها هنا فالمجال مختصر محدود ، وهي عند السنة
____________
(1) الشيعة في عقائدهم وأحكامهم ، أمير محمد الكاظمي القزويني ص42 وما بعدها ، لبنان1972 .
--------------------------------------------------------------------------------
( 18 )
فرض كفاية (1) كصلاة الجنازة ورد التحية وهو ما يوضح بذاته منزلة هذا المنصب الخطير في فكرهم السياسي .
أما الدليل على أنها فرض كفاية، فليس عندهم غير إجماع الصحابة، دون نص من كتاب أو سنة . ولست أبغي ـ في هذا المجال الضيق ـ استقصاء آراء الأصوليين في هذه النقطة ، وهل يتقرر الفرض فرضاً بإجماع الصحابة فعلاً أو قولاً أو تقريراً ، وأسأل : إذا كان الصحابة رضوان الله عليهم قد شعروا بخطورة هذا المنصب وأهميته فأجمعوا على ضرورة إيجاده ـ وهذا كله عملية عقلية محضة ناتجة عن إعمال العقل والفكر في غياب النص ـ فهل يتوقع منهم كمال العقل وإدراك حاجة الدولة ونظامها ، ولا يتوقع ذلك من الله ورسوله وهو الذي نص على أن الدين قد اكتمل ، والكتاب قد تم ( اليوم أكملت لكم دينكم ) المائدة ـ 3 ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) الأنعام ـ 38 .
____________
(1) الاحكام السلطانية للمارودي ص3 طبع المطبعة المحمودية مصر بدون تاريخ ، الأحكام السلطانية لأبي يعلي الحنبلي ص3 ، مصر 1938 ، المقدمة لابن خلدون ص191 ، لبنان ، الطبعة الخامسة 1984 .
--------------------------------------------------------------------------------
( 19 )
وأختلف بشدة مع ابن خلدون في أن الخـلافـة ـ وهي عندي كما قلـت قيادة ـ لم تكن مهمة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) ومن ثم لم يترك فيها شيئاً .
ومع أن أبا يعلى يقول أن طريق وجوبها السمع لا العقل (2) إلا أنه لم يقدم لنا نصاً مسمو عاً يؤيد مذهبه ، إلا أن يكون قد أراد سماع أحداث السقيفة وما تلاها فنعود الى نفس العقدة ، وهي محل ألف نظر. .
كما أن أحكام مشايخنا ـ نحن أهل السنة ـ واعتبارهم القيادة من أمور الدنيا والمصالح العامة المتروكة للخلق يفعلون بها ما شاؤوا (3) تتناقض وتاريخنا ، ولولا أن القيادة حجر زاوية في ديننا لما استشهد في سبيل تطهيرها من دنس الطواغيت أبرارنا منذ
____________
(1) المقدمة ص213 .
(2) الأحكام السلطانية ص3 .
(3) مقدمة ابن خلدون ص212 . الملل والنحل للشهرستاني : هامش ص144 ج1 ، مصر1948 .
--------------------------------------------------------------------------------
( 20 )
القدم حتى اليوم ، فهل هي حقاً من أصول ديننا كما يعتقد إخواننا الشيعة (1) وإذا كانت المسألة ليس فيها نص مما جعل ابن خلدون والماوردي ومن سار سيرتهما من كتَّاب السلاطين وزعماء التبرير ، يجتهدون ويفتون بما أفتوا ، فلماذا نقيد حياتنا في القرن العشرين بآراء هؤلاء وقد عاشوا في بيئة غير بيئتنا ، وظروف اجتماعية وسياسية غير ظروفنا ، وتحت نظم حكم غير التي تحكمنا ؟ ولماذا نقدس من لا يستحق التقديس ؟ .
إن هذا الأمر يحتاج الى صرخة قوية في وجه علمائنا أن يجتهدوا ويبينوا لنا وفق روح العصر حكم الإسلام في القيادة التي هي أهم أمر في جميع الدول وأنظمتها ، ولئن كنت أعتقد أن قحط الرجال قد عم وغلب ، لكني لا أعتقد أن البقية الباقية من الرجال قد ابتليت بقحط الفكر .
ولقائل أن يقول إن شيخ الإسلام ابن تيمية اعتبرها من أعظم واجبات الدين ، وأقول : صحيح وقد قال ( إن ولاية أمر الناس
____________
(1) الكافي ، حديث رقم ( 1 ) من باب في فضل الإمام وصفاته .
--------------------------------------------------------------------------------
( 21 )
من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين إلا بها ، فإن بني آدم لا تتم مصالحتهم إلا بالإجتماع لحاجة بعضهم الى البعض ، ولابد لهم عند الإجتماع من رأس ، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم . .. فالواجب إتخاذ الإمارة ديناً وقربة يتقرب بها الى الله ، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات ) (1) لكن كلامه هذا عن جميع المناصب لا عن القيادة خاصة فدخل فيه إمارة بيت المال والقضاء وغيره من مناصب الدولة . كما أنه أيضاً لم يأت بدليل صريح على هذا ، بل استنبطه استنباطاً بالعقل من أحاديث عامة كما ترى. على أن رأيه ل ا يمثل كثرة أهل السنة، ولم يذكر كيف تُعين القيادة العامة بل ردد نفس المقولات التي مرت بنا من قبل .
**
____________
(1) السياسة الشرعية ، نشر دار المتنبي ببغداد ، ص165 ـ 166 .