بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ وعَجِّلْ فَرَجَهُمْ وسَهِّلْ مَخْرَجَهُمْ والعَنْ أعْدَاءَهُم
مفهوم التقوى في نهج البلاغة
إنّ كلمة التقوى من أكثر كلمات نهج البلاغة استعمالاً،
فليس هناك كتاب يركّز فيه على التقوى أكثر من نهج البلاغة،
وليس هناك في نهج البلاغة مفهوم أو معنى اعتنى به أكثر من التقوى،
فما هي التقوى؟
يفترض الكثيرون أنّ التقوى من الوقاية،
والوقاية تعني الحذر والاحتراز والبعد والاجتناب،
فهي إذن سيرة عملية سلبية،
وكلّما كان الحذر أكثر كانت التقوى أكمل!
وعلى هذا التفسير تكون التقوى:
أوّلاً) أمراً منتزعاً عن السيرة العملية.
وثانياً) هي سيرة عملية سلبية لا إيجابية.
وثالثاً) كلّما كانت سلبيتها أكثر كانت التقوى أكمل.
ولهذا نرى أنّ المتظاهرين بالتقوى يحذرون التدخّل في أي عمل،
ويجتنبون كل رطب وجامد وحار وبارد،
حرصاً على سلامة تقواهم!
ولا شك أنّ الحذر والاجتناب هو من أصول الحياة للإنسان العاقل،
فإنّ الحياة لا تخلو عن مقارنة بين السلب والإيجاب والنفي والإثبات
والفعل والترك والإقدام والإحجام.
بل لا يصل الإنسان إلى الإيجاب إلاّ عن طريق السلب،
ولا إلى الإثبات إلاّ بعد النفي،
وليست كلمة التوحيد: لا إله إلاّ الله،
إلاّ كلمة جامعة بين النفي والإثبات،
ولا يمكن إثبات التوحيد إلاّ بعد نفي ما سوى الله تعالى.
ولذلك نرى أنّ الإيمان والكفر مقترنان والطاعة والعصيان ملتزمان،
أي أنّ كل طاعة تتضمّن معصية،
وكل إيمان يشتمل على كفر:
{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}،
ولكن..
أوّلاً) إنّ البعد والنفي والعصيان والكفر لا تصح إلاّ للعبور إلى أضدادها،
ولا تصح إلاّ أن تكون مقدّمات للارتباط بمقابلاتها،
ولذلك فلابد أن يكون للابتعاد المفيد حدوداً وأهدافاً،
فالسيرة العملية السلبية بلا حدود ولا قيود ولا أهداف،
ليست مقدّسة ولا يحمد عقباها.
وثانياً) إنّ مفهوم التقوى في نهج البلاغة لا يرادف كلمة الحذر
(حسب المفهوم المنطقي للفظة الترادف)،
فـإنّ التقوى في نهج البلاغة:
قوّة روحية تتولّد للإنسان من التمرين العملي
الذي يحصل من الحذر المعقول من الذنوب.
فالحذر المعقول والمنطقي يكون مقدّمة للحصول على هذه الحالة الروحية،
وهو ـ من ناحية أخرى ـ من لوازم حالة التقوى ونتائجها.
إنّ هذه الحالة تهب للروح قوّة ونشاطاً، وتصونه من الانحراف والشطط،
ومن لم يحظ بهذه الحالة لابدّ له، إذا أراد حفظ نفسه عن المعصية
من أن يبعد نفسه عن أسبابها،
وحيث أنّ البيئة الاجتماعية مليئة بأسباب المعاصي
فلابد له من أن يختار الانزواء التام!
وعلى هذا فلابد إمّا أن نكون أتقياء،
وحينئذ يجب علينا أن نبتعد عن البيئة الاجتماعية بصورة مطلقة!
أو أن نرد المجتمع فنودّع التقوى إطلاقاً!
وعلى هذا: كلّما كان الشخص أكثر انزواءً وعزلة عن المجتمع
كان أكمل في التقوى وأجمع!
أمّا إذا حصلت الروح الإنسانية على ملكة التقوى،
فلا يضطر صاحبها إلى ترك المجتمع والاعتزال.
إذ هو حينئذ يحفظ نفسه من دون أن يخرجها عن المجتمع،
فمن كانت تقواه بالمعنى الأوّل
كان كمن يأوي إلى جبل ليعصمه من المرض المعدي،
أمّا من كانت تقواه بالمعنى الصحيح
كان كمن يقي نفسه من المرض المعدي بالتلقيح ضدّه،
فلا يضطر إلى أن يخرج من البلد أو يجتنب الناس،
بل يسعى إلى مساعدة المرضى كي ينقذهم ممّا هم فيه من الألم الممضّ.
أمّا نهج البلاغة، فإنّه يصف التقوى كما وصفناها نحن،
بأنّها قوّة معنوية روحية، تحصل على أثر التمرين والممارسة،
ولها آثار ونتائج، منها تيسير الحذر من الذنوب.
" ذِمَّتِي بِمَا أَقُولُ رَهِينَةٌ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ
إِنَّ مَنْ صَرَّحَتْ لَهُ الْعِبَرُ عَمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْمَثُلَاتِ
حَجَزَتْهُ التَّقْوَى عَنْ تَقَحُّمِ الشُّبُهَاتِ ...
أَلَا وَ إِنَّ الْخَطَايَا خَيْلٌ شُمُسٌ حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا
وَ خُلِعَتْ لُجُمُهَا فَتَقَحَّمَتْ بِهِمْ فِي النَّارِ
أَلَا وَ إِنَّ التَّقْوَى مَطَايَا ذُلُلٌ حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا
وَ أُعْطُوا أَزِمَّتَهَا فَأَوْرَدَتْهُمُ الْجَنَّةَ ".
فقد وصف الإمام (عليه السلام) التقوى في خطبته هذه بأنّها:
حالة روحية معنوية من آثارها ضبط النفس وامتلاك أزمتها،
وأنّ من لوازم اتباع الهوى وترك التقوى هو انعدام الشخصية
وضعف النفس أمام هواها وعند حركة شهواتها،
وأنّ فاقد التقوى حينئذ يكون كراكب ضعيف لا إرادة له في تسيير مركبه،
بل المركب هو الذي يسير حيث يشاء ويهوى،
وأنّ من لوازم التقوى قوّة الإرادة وامتلاك الشخصية المختارة،
كراكب ماهر على فرس مدرّب يسير به في الناحية التي يختارها
بكل اقتدار وسلطة، فيطيعه الفرس بكل يسر.
يتبع..
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ وعَجِّلْ فَرَجَهُمْ وسَهِّلْ مَخْرَجَهُمْ والعَنْ أعْدَاءَهُم
مفهوم التقوى في نهج البلاغة
إنّ كلمة التقوى من أكثر كلمات نهج البلاغة استعمالاً،
فليس هناك كتاب يركّز فيه على التقوى أكثر من نهج البلاغة،
وليس هناك في نهج البلاغة مفهوم أو معنى اعتنى به أكثر من التقوى،
فما هي التقوى؟
يفترض الكثيرون أنّ التقوى من الوقاية،
والوقاية تعني الحذر والاحتراز والبعد والاجتناب،
فهي إذن سيرة عملية سلبية،
وكلّما كان الحذر أكثر كانت التقوى أكمل!
وعلى هذا التفسير تكون التقوى:
أوّلاً) أمراً منتزعاً عن السيرة العملية.
وثانياً) هي سيرة عملية سلبية لا إيجابية.
وثالثاً) كلّما كانت سلبيتها أكثر كانت التقوى أكمل.
ولهذا نرى أنّ المتظاهرين بالتقوى يحذرون التدخّل في أي عمل،
ويجتنبون كل رطب وجامد وحار وبارد،
حرصاً على سلامة تقواهم!
ولا شك أنّ الحذر والاجتناب هو من أصول الحياة للإنسان العاقل،
فإنّ الحياة لا تخلو عن مقارنة بين السلب والإيجاب والنفي والإثبات
والفعل والترك والإقدام والإحجام.
بل لا يصل الإنسان إلى الإيجاب إلاّ عن طريق السلب،
ولا إلى الإثبات إلاّ بعد النفي،
وليست كلمة التوحيد: لا إله إلاّ الله،
إلاّ كلمة جامعة بين النفي والإثبات،
ولا يمكن إثبات التوحيد إلاّ بعد نفي ما سوى الله تعالى.
ولذلك نرى أنّ الإيمان والكفر مقترنان والطاعة والعصيان ملتزمان،
أي أنّ كل طاعة تتضمّن معصية،
وكل إيمان يشتمل على كفر:
{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}،
ولكن..
أوّلاً) إنّ البعد والنفي والعصيان والكفر لا تصح إلاّ للعبور إلى أضدادها،
ولا تصح إلاّ أن تكون مقدّمات للارتباط بمقابلاتها،
ولذلك فلابد أن يكون للابتعاد المفيد حدوداً وأهدافاً،
فالسيرة العملية السلبية بلا حدود ولا قيود ولا أهداف،
ليست مقدّسة ولا يحمد عقباها.
وثانياً) إنّ مفهوم التقوى في نهج البلاغة لا يرادف كلمة الحذر
(حسب المفهوم المنطقي للفظة الترادف)،
فـإنّ التقوى في نهج البلاغة:
قوّة روحية تتولّد للإنسان من التمرين العملي
الذي يحصل من الحذر المعقول من الذنوب.
فالحذر المعقول والمنطقي يكون مقدّمة للحصول على هذه الحالة الروحية،
وهو ـ من ناحية أخرى ـ من لوازم حالة التقوى ونتائجها.
إنّ هذه الحالة تهب للروح قوّة ونشاطاً، وتصونه من الانحراف والشطط،
ومن لم يحظ بهذه الحالة لابدّ له، إذا أراد حفظ نفسه عن المعصية
من أن يبعد نفسه عن أسبابها،
وحيث أنّ البيئة الاجتماعية مليئة بأسباب المعاصي
فلابد له من أن يختار الانزواء التام!
وعلى هذا فلابد إمّا أن نكون أتقياء،
وحينئذ يجب علينا أن نبتعد عن البيئة الاجتماعية بصورة مطلقة!
أو أن نرد المجتمع فنودّع التقوى إطلاقاً!
وعلى هذا: كلّما كان الشخص أكثر انزواءً وعزلة عن المجتمع
كان أكمل في التقوى وأجمع!
أمّا إذا حصلت الروح الإنسانية على ملكة التقوى،
فلا يضطر صاحبها إلى ترك المجتمع والاعتزال.
إذ هو حينئذ يحفظ نفسه من دون أن يخرجها عن المجتمع،
فمن كانت تقواه بالمعنى الأوّل
كان كمن يأوي إلى جبل ليعصمه من المرض المعدي،
أمّا من كانت تقواه بالمعنى الصحيح
كان كمن يقي نفسه من المرض المعدي بالتلقيح ضدّه،
فلا يضطر إلى أن يخرج من البلد أو يجتنب الناس،
بل يسعى إلى مساعدة المرضى كي ينقذهم ممّا هم فيه من الألم الممضّ.
أمّا نهج البلاغة، فإنّه يصف التقوى كما وصفناها نحن،
بأنّها قوّة معنوية روحية، تحصل على أثر التمرين والممارسة،
ولها آثار ونتائج، منها تيسير الحذر من الذنوب.
" ذِمَّتِي بِمَا أَقُولُ رَهِينَةٌ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ
إِنَّ مَنْ صَرَّحَتْ لَهُ الْعِبَرُ عَمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْمَثُلَاتِ
حَجَزَتْهُ التَّقْوَى عَنْ تَقَحُّمِ الشُّبُهَاتِ ...
أَلَا وَ إِنَّ الْخَطَايَا خَيْلٌ شُمُسٌ حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا
وَ خُلِعَتْ لُجُمُهَا فَتَقَحَّمَتْ بِهِمْ فِي النَّارِ
أَلَا وَ إِنَّ التَّقْوَى مَطَايَا ذُلُلٌ حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا
وَ أُعْطُوا أَزِمَّتَهَا فَأَوْرَدَتْهُمُ الْجَنَّةَ ".
فقد وصف الإمام (عليه السلام) التقوى في خطبته هذه بأنّها:
حالة روحية معنوية من آثارها ضبط النفس وامتلاك أزمتها،
وأنّ من لوازم اتباع الهوى وترك التقوى هو انعدام الشخصية
وضعف النفس أمام هواها وعند حركة شهواتها،
وأنّ فاقد التقوى حينئذ يكون كراكب ضعيف لا إرادة له في تسيير مركبه،
بل المركب هو الذي يسير حيث يشاء ويهوى،
وأنّ من لوازم التقوى قوّة الإرادة وامتلاك الشخصية المختارة،
كراكب ماهر على فرس مدرّب يسير به في الناحية التي يختارها
بكل اقتدار وسلطة، فيطيعه الفرس بكل يسر.
يتبع..
تعليق