قد صاغ الشارع المقدس العبادة بطريقة جعلت منها في اغلب الأحيان أداة ووسيلة لعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان ، والتأكيد على أن العلاقة العبادية ذات دور اجتماعي في حياة الإنسان ، ولا تكون ناجحة إلاّ حين تكون قوة فعّالة في توجيه ما يواكبها من علاقات اجتماعية توجيهاً صحيحاً ، فالإنسان لم يخلق ولم يوجد أساساً إلاّ في محيط ونسيج إنساني عام لا ينسجم ولا يحفظ كيانه إلا مع تعاليم الله سبحانه وتعالى ، فجعل الإنسان مرتبطاً بالمجموعة البشرية بقانونين من التعامل والسلوك :
الأول:- حب الآخرين ، فكل مسلم بل كل إنسان مطالب بحب الآخرين وعدم حمل الحقد والضغينة في قلبه عليهم ، ويلزمه أن يترجم ذلك في إحساسه وسلوكه ، فيتألم لألم الآخرين ويحزن لحزنهم ويفرح لفرحهم .
الثاني :- السعي في حوائج الآخرين ، وهذا القانون يمثل الترجمة الخارجية والتطبيق العملي الواقعي لما حسّ وشعر به تطبيقاً للقانون الأول .
وقد تصدى الشارع المقدس متمثلاً بالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) لتطبيق القانونين السابقين حيث نـجـد حـضـورهـم (صلوات الله عليهم ) فـي الـساحـة الاجـتـماعـيـة ، وإحساسهم بما يحس به المجتمع ومعرفة حاجة الناس العملية والمعنوية العبا دية والأخلاقية ، كان ذلك وفق ما يسمح لهم وما قدروا عليه كل بحسب ظروفه الخاصة والظروف العامة المحيطة بـه ، ونتيجـة مجـموع ما أعـطـى المعـصومـون (عليهم السلام) هـو الصـــورة الكاملة الواضحة التي تفرز المجتمع المسلم وتميزه عن المجتمعات المتوحشة الغائبة عن الإيمان والارتباط بالله تعالى والبعيدة عن الأخلاق ، اذكر في هذا المقام بعض التطبيقات العبادية والأخلاقية والاجتماعية التي صدرت من المعصومين (عليهم السلام) على المستوى العملي والنظري :
1- ما ورد عن أمير المؤمنين (u) وهو يصور أخلاق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) :{ كان أجود الناس كفا ، وأجرأ النـاس صدرا ، وأصدق الناس لهجة ، وأوفاهم ذمة وألينهم عريكة ، وأكرمهم عشرة ، من رآه بديهة هابه ، ومن خالطه فعرفه أحبه ، لم أرَ مثله قبله ولا بعده } .
2- ما ورد عن أمير المؤمنين (u) : { إن يهودياً كان له على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دنانير ، فتقاضاه .
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) له : يا يهود ي ما عندي ما أعطيك.
فقال اليهودي : فإني لا أفارقك يا محمد حتى تقضيني .
فقال(صلى الله عليه وآله وسلم) : إذن أجلس معك .
فجلس معه حتى صلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك الموضع ، الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة ، وكان أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يتهــدّدونـــه ويتوعّــدونــه فــنـظـر رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم فقال : ما الذي تصنعون به؟
فقالوا : يا رسول الله , يهودي يحبسك .
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : لم يبعثني ربي عز وجل بان أظلم معاهدا ولا غيره.
فلمّا علا النهار قال اليهودي : أشهد أن لا اله إلاّ الله وأشهد أن محمّدا عبده ورسوله ، وشطر مالي في سبيل الله ، أما والله ما فعلت بك الذي فعلت إلاّ لأنظر إلى نعتك في التوراة ، فإني قرأت في التوراة ( محمّد بن عبد الله مولده بمكّة ، ومها جره بطيبة ، وليس بفظ ولا غليظ ، ولا سخاب ، ولا متزين بالفحش ، ولا قول الخنا) .
وأنا أشهد أن لا اله إلاّ الله وأنك رسول الله وهذا مالي فاحكم فيه بما أنزل الله } .
3- ما ورد عن الإمام الحسن العسكري (u) { ورد على أمير المؤمنين (u) أخوان مؤمنان (أب وابن) فقام إليهما وأكرمهما وأجلسهما في صدر مجلسه وجلس بين يديهما ، ثم أمر بطعام فأحضر، فأكلا منه ، ثم جاء قنبر بطست وإبريق خشب ومنديل ، فأخذ أمير المؤمنين(u) الإبريق فغسل يد الرجل بعد أن كان الرجل يمتنع من ذلك وتمرغ في التراب وأقسمه أمير المؤمنين (u) أن يغتسل مطمئنا، كما كان يغسل لو كان الصاب عليه قنبر ، ففعل . ثم ناول الإمام علي(u) الإبريق محمد بن الحنفية وقال(u) يا بني لو كان هذا الابن حضرني دون أبيه لصببت على يده ولكن الله عز وجل يأبى أن يسوي بين ابن وأبيه إذا جمعهما مكان ، ولكن قد صب الأب على الأب، فليصب الابن على الابن ، فصب محمد بن الحنفية على الابن } .
ثم قال الإمام العسكري(u):{ فمن اتبع علي على ذلك فهو الشيعي حقا} .
4- ما ورد عن الإمام الباقر(u):{ إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا } .
5- ما ورد عن الإمام الصادق (u):{ ما يقدم المؤمن على الله تعالى بعمل بعد الفرائض ، أحب إلى الله تعالى من أن يسع الناس بخلقه }
6- ما ورد عن الإمام الصادق (u):{ الخلق الحسن يميت الخطيئة كما تميت الشمس الجليد} .
7- ما ورد عن الإمام الصادق (u):{ إن الله تعالى ليعطي العبد من الثواب على حسن الخلق كما يعطي المجاهد في سبيل الله ، يغدو عليه ويروح } .
8- ما ورد عن صادق آل محمد (u):{ إن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل } .
9- ما ورد عــن النبي الأكـرم (صلى الله عليه وآله وسلم):{ عليكم بحسن الخلق فإن حسن الخلق في الجنة لا محالة ، وإياكم وسوء الخلق ، فإن سوء الخلق في النار لا محالة } .
10- ما ورد عن المصطفى الصادق الأمين(صلى الله عليه وآله وسلم):{ أبى الله لصاحب الخلق السيء بالتوبة } .
قيل : فكيف ذلك يا رسول الله ؟
قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : {لأنه إذا تاب من ذنب وقع في ذنب أعظم منه } .
وهكذا الكثير من المواقف والأقوال الصادرة من الشارع المقدّس والتي تحدد مسار العمل العبادي الصحيح والمتكامل لخدمة الفرد والمجتمع ولتهيئة النفس ووصولها إلى مرحلة الاستعداد للترقّي في مقامات الفيوضات الإلهية للوصول إلى السعادة الأخروية بعد التخلّي عن الصفات والأخلاق الرذيلة ، والتحلّي بالصفات والأخلاق الفاضلة المرضية ، وسنشير إلى بعض تلك المسارات عند التعرض لبعض التطبيقات العبادية ، إنشاء الله تعالى .