بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلي على محمد وال محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد: هذا ما كتبه الشيخ عباس بن محمد رضا بن أبي القاسم القمي صاحب مفاتيح الجنان في كتابه الانوار البهية في تواريخ الحجج الالهية عن الامام الكاظم (ع)
النور التاسع .. الإِمام السابع، ابو الحسن موسى بن جعفر الكاظم ...
باب الحوائج الى اللّه تعالى العبد الصالح عليه السلام
قال كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي في حقّه : هو الإِمام الكبير القدر، العظيم الشأن، الكثير التهجد، الجاد في الاجتهاد، المشهور بالعبادة، المواظب على الطاعات، المشهود بالكرامات، يبيت الليل ساجداً وقائماً، ويقطع النهار متصدقاً وصائماً، ولفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين عليه، دُعي كاظماً، كان يجازي المسيء باحسانه اليه، ويقابل الجاني عليه بعفوه عنه، ولكثرة عباداته كان يسمى بالعبد الصالح، ويعرف في العراق بباب الحوائج الى اللّه، لنجح المتوسلين الى اللّه تعالى به، كراماته تحار منها العقول، وتقضي بان له عند اللّه تعالى قدم صدق لا تزل ولا تزول. انتهى.
ولد (عليه السلام) بالابواء منزل بين مكة والمدينة، يوم الاحد(1) لسبع خلون من صفر سنة 128 هجري(2) ثمان وعشرين ومئة.
امه : (عليه السلام) حميدة المصفاة البربرية، وكانت من اشراف الأعاجم، قال الصادق (عليه السلام) : حميدة مصفاة من الادناس كسبيكة
______________________
(1) وقيل في الثلاثاء.
(2) وقيل سنة 129 في خلافة ابراهيم بن وليد.
الذهب، ما زالت الاملاك تحرسها، حتى أدَّت اليّ كرامة من اللّه لي، والحجّة من بعدي، ويظهر من بعض الروايات ان الصادق (عليه السلام) كان يأمر النساء في اخذ الاحكام اليها.
روي عن ابي بصير قال : كنت مع ابي عبد اللّه (عليه السلام) في السنة التي ولد فيها ابنه موسى (عليه السلام) فلما نزلنا الابواء، وضع لنا ابو عبد اللّه (عليه السلام) الغداء ولأصحابه، وكان عليه السلام إذا وضع الطعام لاصحابه اكثره واطابه، فبينا نحن نتغدى اذ اتاه رسول حميدة : ان الطلق قد ضربني، وقد امرتني ان لا اسبقك بابنك هذا، فقام ابو عبد اللّه (عليه السلام) فرحاً مسروراً فلم يلبث ان عاد الينا حاسراً عن ذراعيه، ضاحكاً سنّهُ، فقلنا اضحك اللّه سنك، واقر عينك ما صنعت حميدة، فقال : وهب اللّه لي غلاماً، وهو خير من برأ اللّه(1) ولقد خبرتني بأمر كنت اعلم به منها، قلت : جعلت فداك وما خبرتك عنه حميدة، قال ذكرت انه لما وقع من بطنها وقع واضعاً يديه على الأرض، رافعاً رأسه الى السماء، فأخبرتها ان تلك امارة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)، وامارة الإِمام من بعده، الخ.
روى البرقي عن منهال القصاب، قال : خرجت من مكة وانا أريد المدينة فمررت بالابواء وقد ولد لأبي عبد اللّه (عليه السلام)، فسبقته الى المدينة ودخل (عليه السلام) بعدي بيوم فأطعم الناس ثلاثاً، فكنت آكل فيمن يأكل، فما أكل شيئاً الى الغد حتى اعود فآكل، فكنت بذلك ثلاثاً اطعم حتى أرتفق ثم لا اطعم شيئاً الى الغد، قال الفيروزآبادي ارتفق (اتكأ على مرفق يده او على المخدة وامتلأ).
وروى انه قيل لأبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) ما بلغ بك من حبك ابنك موسى (عليه السلام)، فقال : وددت ان ليس لي ولد غيره حتى لا يشاركه في حبّي له احد.
__________________________
(1) أي خلق اللّه من العدم.
في معاجز طفولته عليه السلام
روى الشيخ المفيد عن يعقوب السراج قال دخلت على ابي عبد اللّه (عليه السلام) وهو واقف على رأس ابي الحسن موسى (عليه السلام) وهو في المهد، فجعل يساره طويلاً، فجلست حتى فرغ، فقمت اليه، فقال ادنُ الى مولاك، فسلم عليه، فدنوت فسلمت عليه، فرد عليَّ بلسان فصيح، ثم قال لي : اذهب فغير اسم ابنتك التي سميتها امس، فانه اسم يبغضه اللّه، وكانت ولدت لي بنت فسميتها بالحميراء، فقال ابو عبد اللّه (عليه السلام) : انته الى امره ترشد، فغيرت اسمها.
وفي ثاقب المناقب، قال اشتهر عند الخاص والعام من حديث ابي حنيفة حين دخل دار الصادق (عليه السلام) فرأى موسى (عليه السلام) في دهليز داره وهو صبيّ، فقال في نفسه : ان هؤلاء يزعمون انهم يعطون العلم صبية وانا اسبر(1) ذلك، فقال له يا غلام اذا دخل الغريب بلدة، اين يحدث، فنظر اليه نظر مغضب وقال : يا شيخ اسأت الأدب، فاين السلام، قال : فخجلت ورجعت حتى خرجت من الدار وقد نَبُلَ(2) في عيني، ثم رجعت اليه وسلمت عليه وقلت : يا ابن رسول اللّه، الغريب اذا دخل بلدة اين يحدث، فقال (صلوات اللّه عليه)، يتوقى شطوط البلد (الانهار خ د) ومشارع الماء، وفيء(3) النُزَّال، ومسقط الثمار، وافنية(4) الدور، وجاد الطرق، ومجاري المياه ورواكدها، ثم يحدث اين شاء، قال، قلت : يا ابن رسول اللّه ممن المعصية، فنظر الي وقال : اما أن تكون من اللّه
_________________________
(1) أي امتحن (منه).
(2) أي كبر وعظم، والنبالة : النجابة والفضل.
(3) أي الظل الذي يستريح فيه الواردون.
(4) جمع فناء وهو الساحة او امام البيت.
او من العبد او منهما معاً، فان كانت من اللّه فهو اكرم ان يؤاخذه بما لم يجنه، وان كانت منهما فهو اعدل من ان يأخذ العبد بما هو شريك فيه، فلم يبق الا أن يكون من العبد، فان عفا فبفضله، وان عاقب فبعدله، قال ابو حنيفة فاغرورقت عيناي وقرأت : ذرية بعضها من بعض واللّه سميع عليم.
وروى الصدوق وغيره عن هشام بن الحكم ان جاثليقاً من جثالقة النصارى يقال له بريهة، قد مكث في النصرانية سبعين سنة، فكان يطلب الإِسلام ويطلب من يحتج عليه ممن يقرأ كتبه، ويعرف المسيح بصفاته ودلائله وآياته، قال : وعرف بذلك حتى اشتهر في النصارى والمسلمين واليهود والمجوس، حتى افتخرت به النصارى وقالت : لو لم يكن في دين النصرانية إلاّ بريهة لأجزأنا، وكان طالباً للحق والإِسلام مع ذلك، وكانت معه امرأة تخدمه طال مكثها معه، وكان يستر ضعف النصرانية وضعف حجتها، قال : فعرفت ذلك منه، فضرب بريهة الامر ظهراً لبطن واقبل يسائل عن ائمة المسلمين وعن صلحائهم وعن علمائهم واهل الحجى منهم، وكان يستقرئ فرقة فرقة لا يجد عند القوم شيئاً، وقال لو كانت ائمتكم ائمة على الحق لكان عندكم بعض الحق، فوصفت له الشيعة ووصف له هشام بن الحكم، فقال يونس بن عبد الرحمان : فقال لي هشام : بينما انا على دكاني على باب الكرخ جالس، وعندي قوم يقرأون عليَّ القرآن، فاذا انا بفوج من النصارى، ما بين القسيسين الى غيرهم من نحو مئة رجل، عليهم السوار والبرانس، والجاثليق الاكبر فيهم بريهة، حتى بركوا (نزلوا خد) حول دكاني، وجعل لبريهة كرسي يجلس عليه، فقامت الاساقفة والرهابنة على عصيهم(1) وعلى رؤوسهم برانسهم فقال بريهة : ما بقي للمسلمين احد ممن يذكر بالعلم بالكلام الا وقد ناظرته في النصرانية فما عندهم شيء فقد جئت اناظرك الإِسلام ثم ذكر مناظرته معه وغلبة هشام عليه في حديث طويل،
_____________________
(1) جمع عصا وهي ما يتوكأ عليها.
حتى افترق النصارى وهم يتمنون ان لا يكونوا رأوا هشاماً ولا اصحابه، ورجع بريهة مغتماً مهتماً حتى صار الى منزله، فقالت امرأته التي تخدمه : مالي اراك مهتماً مغتماً، فحكى لها الكلام الذي بينه وبين هشام، فقالت لبريهة : ويحك اتريد أن تكون على حق او باطل، قال بريهة بل على الحق، فقالت له : اينما وجدت الحق فمل اليه، واياك واللجاجة فان اللجاجة شك، والشك شؤم، واهله في النار، قال : فصوَّب قولها وعزم على الغدو على هشام، قال : فغدا اليه وليس معه احد من اصحابه، فقال : يا هشام الك من تصدر عن رأيه، فترجع الى قوله وتدين بطاعته، قال هشام : نعم يا بريهة، ثم سأله بريهة عن صفته فوصف له هشام الإِمام (عليه السلام)، فاشتاق بريهة اليه (عليه السلام)، فارتحلا حتى أتيا المدينة، والمرأة معهما، وهما يريدان ابا عبد اللّه (عليه السلام)، فلقيا موسى بن جعفر (عليه السلام) في الدهليز، وفي رواية ثاقب المناقب : فسلم هشام عليه وسلم بريهة عليه، ثم اخبرهما بما جاءا له، وكان (صلوات اللّه عليه) صبياً، وفي رواية الصدوق : فحكى له هشام الحكاية، قال موسى بن جعفر (عليه السلام) يا بريهة كيف علمك بكتابك ؟ قال : انا به عالم، قال : كيف ثقتك بتأويله ؟ قال ما اوثقني بعلمي به، قال : فابتدأ موسى (عليه السلام) يقرأ الأنجيل، قال بريهة : والمسيح لقد كان يقرأ هكذا، وما قرأ هذه القراءة الا المسيح، قال بريهة اياك كنت اطلب منذ خمسين سنة او مثلك، قال : فآمن وحسن ايمانه وآمنت المرأة وحسن ايمانها، قال : فدخل هشام وبريهة والمرأة على أبي عبد اللّه (عليه السلام)، فحكى هشام الحكاية والكلام الذي جرى بين موسى (عليه السلام) وبريهة، فقال ابو عبد اللّه (عليه السلام) : ذرية بعضها من بعض واللّه سميع عليم، قال بريهة : جعلت فداك أنَّى لكم التوراة والانجيل وكتب الانبياء، قال : هي عندنا وراثة من عندهم، نقرأها كما قرأوها ونقولها كما قالوها، ان اللّه لا يجعل حجة في ارضه يسأل عن شيء فيقول لا ادري، فلزم بريهة ابا عبد اللّه حتى مات ابو عبد اللّه (عليه السلام)، ثم لزم موسى (عليه السلام) حتى مات في زمانه، فغسله(عليه السلام) بيده وكفّنه بيده ولحده بيده، وقال هذا حواري من حواريي(1) المسيح (عليه السلام)، يعرف حق اللّه عليه فتمنى اكثر اصحابه ان يكونوا مثله.
____________________
(1) حواري : ناصر الانبياء والمراد به انصار عيسى (عليه السلام) واصحابه.
اللهم صلي على محمد وال محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد: هذا ما كتبه الشيخ عباس بن محمد رضا بن أبي القاسم القمي صاحب مفاتيح الجنان في كتابه الانوار البهية في تواريخ الحجج الالهية عن الامام الكاظم (ع)
النور التاسع .. الإِمام السابع، ابو الحسن موسى بن جعفر الكاظم ...
باب الحوائج الى اللّه تعالى العبد الصالح عليه السلام
قال كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي في حقّه : هو الإِمام الكبير القدر، العظيم الشأن، الكثير التهجد، الجاد في الاجتهاد، المشهور بالعبادة، المواظب على الطاعات، المشهود بالكرامات، يبيت الليل ساجداً وقائماً، ويقطع النهار متصدقاً وصائماً، ولفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين عليه، دُعي كاظماً، كان يجازي المسيء باحسانه اليه، ويقابل الجاني عليه بعفوه عنه، ولكثرة عباداته كان يسمى بالعبد الصالح، ويعرف في العراق بباب الحوائج الى اللّه، لنجح المتوسلين الى اللّه تعالى به، كراماته تحار منها العقول، وتقضي بان له عند اللّه تعالى قدم صدق لا تزل ولا تزول. انتهى.
ولد (عليه السلام) بالابواء منزل بين مكة والمدينة، يوم الاحد(1) لسبع خلون من صفر سنة 128 هجري(2) ثمان وعشرين ومئة.
امه : (عليه السلام) حميدة المصفاة البربرية، وكانت من اشراف الأعاجم، قال الصادق (عليه السلام) : حميدة مصفاة من الادناس كسبيكة
______________________
(1) وقيل في الثلاثاء.
(2) وقيل سنة 129 في خلافة ابراهيم بن وليد.
الذهب، ما زالت الاملاك تحرسها، حتى أدَّت اليّ كرامة من اللّه لي، والحجّة من بعدي، ويظهر من بعض الروايات ان الصادق (عليه السلام) كان يأمر النساء في اخذ الاحكام اليها.
روي عن ابي بصير قال : كنت مع ابي عبد اللّه (عليه السلام) في السنة التي ولد فيها ابنه موسى (عليه السلام) فلما نزلنا الابواء، وضع لنا ابو عبد اللّه (عليه السلام) الغداء ولأصحابه، وكان عليه السلام إذا وضع الطعام لاصحابه اكثره واطابه، فبينا نحن نتغدى اذ اتاه رسول حميدة : ان الطلق قد ضربني، وقد امرتني ان لا اسبقك بابنك هذا، فقام ابو عبد اللّه (عليه السلام) فرحاً مسروراً فلم يلبث ان عاد الينا حاسراً عن ذراعيه، ضاحكاً سنّهُ، فقلنا اضحك اللّه سنك، واقر عينك ما صنعت حميدة، فقال : وهب اللّه لي غلاماً، وهو خير من برأ اللّه(1) ولقد خبرتني بأمر كنت اعلم به منها، قلت : جعلت فداك وما خبرتك عنه حميدة، قال ذكرت انه لما وقع من بطنها وقع واضعاً يديه على الأرض، رافعاً رأسه الى السماء، فأخبرتها ان تلك امارة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)، وامارة الإِمام من بعده، الخ.
روى البرقي عن منهال القصاب، قال : خرجت من مكة وانا أريد المدينة فمررت بالابواء وقد ولد لأبي عبد اللّه (عليه السلام)، فسبقته الى المدينة ودخل (عليه السلام) بعدي بيوم فأطعم الناس ثلاثاً، فكنت آكل فيمن يأكل، فما أكل شيئاً الى الغد حتى اعود فآكل، فكنت بذلك ثلاثاً اطعم حتى أرتفق ثم لا اطعم شيئاً الى الغد، قال الفيروزآبادي ارتفق (اتكأ على مرفق يده او على المخدة وامتلأ).
وروى انه قيل لأبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) ما بلغ بك من حبك ابنك موسى (عليه السلام)، فقال : وددت ان ليس لي ولد غيره حتى لا يشاركه في حبّي له احد.
__________________________
(1) أي خلق اللّه من العدم.
في معاجز طفولته عليه السلام
روى الشيخ المفيد عن يعقوب السراج قال دخلت على ابي عبد اللّه (عليه السلام) وهو واقف على رأس ابي الحسن موسى (عليه السلام) وهو في المهد، فجعل يساره طويلاً، فجلست حتى فرغ، فقمت اليه، فقال ادنُ الى مولاك، فسلم عليه، فدنوت فسلمت عليه، فرد عليَّ بلسان فصيح، ثم قال لي : اذهب فغير اسم ابنتك التي سميتها امس، فانه اسم يبغضه اللّه، وكانت ولدت لي بنت فسميتها بالحميراء، فقال ابو عبد اللّه (عليه السلام) : انته الى امره ترشد، فغيرت اسمها.
وفي ثاقب المناقب، قال اشتهر عند الخاص والعام من حديث ابي حنيفة حين دخل دار الصادق (عليه السلام) فرأى موسى (عليه السلام) في دهليز داره وهو صبيّ، فقال في نفسه : ان هؤلاء يزعمون انهم يعطون العلم صبية وانا اسبر(1) ذلك، فقال له يا غلام اذا دخل الغريب بلدة، اين يحدث، فنظر اليه نظر مغضب وقال : يا شيخ اسأت الأدب، فاين السلام، قال : فخجلت ورجعت حتى خرجت من الدار وقد نَبُلَ(2) في عيني، ثم رجعت اليه وسلمت عليه وقلت : يا ابن رسول اللّه، الغريب اذا دخل بلدة اين يحدث، فقال (صلوات اللّه عليه)، يتوقى شطوط البلد (الانهار خ د) ومشارع الماء، وفيء(3) النُزَّال، ومسقط الثمار، وافنية(4) الدور، وجاد الطرق، ومجاري المياه ورواكدها، ثم يحدث اين شاء، قال، قلت : يا ابن رسول اللّه ممن المعصية، فنظر الي وقال : اما أن تكون من اللّه
_________________________
(1) أي امتحن (منه).
(2) أي كبر وعظم، والنبالة : النجابة والفضل.
(3) أي الظل الذي يستريح فيه الواردون.
(4) جمع فناء وهو الساحة او امام البيت.
او من العبد او منهما معاً، فان كانت من اللّه فهو اكرم ان يؤاخذه بما لم يجنه، وان كانت منهما فهو اعدل من ان يأخذ العبد بما هو شريك فيه، فلم يبق الا أن يكون من العبد، فان عفا فبفضله، وان عاقب فبعدله، قال ابو حنيفة فاغرورقت عيناي وقرأت : ذرية بعضها من بعض واللّه سميع عليم.
وروى الصدوق وغيره عن هشام بن الحكم ان جاثليقاً من جثالقة النصارى يقال له بريهة، قد مكث في النصرانية سبعين سنة، فكان يطلب الإِسلام ويطلب من يحتج عليه ممن يقرأ كتبه، ويعرف المسيح بصفاته ودلائله وآياته، قال : وعرف بذلك حتى اشتهر في النصارى والمسلمين واليهود والمجوس، حتى افتخرت به النصارى وقالت : لو لم يكن في دين النصرانية إلاّ بريهة لأجزأنا، وكان طالباً للحق والإِسلام مع ذلك، وكانت معه امرأة تخدمه طال مكثها معه، وكان يستر ضعف النصرانية وضعف حجتها، قال : فعرفت ذلك منه، فضرب بريهة الامر ظهراً لبطن واقبل يسائل عن ائمة المسلمين وعن صلحائهم وعن علمائهم واهل الحجى منهم، وكان يستقرئ فرقة فرقة لا يجد عند القوم شيئاً، وقال لو كانت ائمتكم ائمة على الحق لكان عندكم بعض الحق، فوصفت له الشيعة ووصف له هشام بن الحكم، فقال يونس بن عبد الرحمان : فقال لي هشام : بينما انا على دكاني على باب الكرخ جالس، وعندي قوم يقرأون عليَّ القرآن، فاذا انا بفوج من النصارى، ما بين القسيسين الى غيرهم من نحو مئة رجل، عليهم السوار والبرانس، والجاثليق الاكبر فيهم بريهة، حتى بركوا (نزلوا خد) حول دكاني، وجعل لبريهة كرسي يجلس عليه، فقامت الاساقفة والرهابنة على عصيهم(1) وعلى رؤوسهم برانسهم فقال بريهة : ما بقي للمسلمين احد ممن يذكر بالعلم بالكلام الا وقد ناظرته في النصرانية فما عندهم شيء فقد جئت اناظرك الإِسلام ثم ذكر مناظرته معه وغلبة هشام عليه في حديث طويل،
_____________________
(1) جمع عصا وهي ما يتوكأ عليها.
حتى افترق النصارى وهم يتمنون ان لا يكونوا رأوا هشاماً ولا اصحابه، ورجع بريهة مغتماً مهتماً حتى صار الى منزله، فقالت امرأته التي تخدمه : مالي اراك مهتماً مغتماً، فحكى لها الكلام الذي بينه وبين هشام، فقالت لبريهة : ويحك اتريد أن تكون على حق او باطل، قال بريهة بل على الحق، فقالت له : اينما وجدت الحق فمل اليه، واياك واللجاجة فان اللجاجة شك، والشك شؤم، واهله في النار، قال : فصوَّب قولها وعزم على الغدو على هشام، قال : فغدا اليه وليس معه احد من اصحابه، فقال : يا هشام الك من تصدر عن رأيه، فترجع الى قوله وتدين بطاعته، قال هشام : نعم يا بريهة، ثم سأله بريهة عن صفته فوصف له هشام الإِمام (عليه السلام)، فاشتاق بريهة اليه (عليه السلام)، فارتحلا حتى أتيا المدينة، والمرأة معهما، وهما يريدان ابا عبد اللّه (عليه السلام)، فلقيا موسى بن جعفر (عليه السلام) في الدهليز، وفي رواية ثاقب المناقب : فسلم هشام عليه وسلم بريهة عليه، ثم اخبرهما بما جاءا له، وكان (صلوات اللّه عليه) صبياً، وفي رواية الصدوق : فحكى له هشام الحكاية، قال موسى بن جعفر (عليه السلام) يا بريهة كيف علمك بكتابك ؟ قال : انا به عالم، قال : كيف ثقتك بتأويله ؟ قال ما اوثقني بعلمي به، قال : فابتدأ موسى (عليه السلام) يقرأ الأنجيل، قال بريهة : والمسيح لقد كان يقرأ هكذا، وما قرأ هذه القراءة الا المسيح، قال بريهة اياك كنت اطلب منذ خمسين سنة او مثلك، قال : فآمن وحسن ايمانه وآمنت المرأة وحسن ايمانها، قال : فدخل هشام وبريهة والمرأة على أبي عبد اللّه (عليه السلام)، فحكى هشام الحكاية والكلام الذي جرى بين موسى (عليه السلام) وبريهة، فقال ابو عبد اللّه (عليه السلام) : ذرية بعضها من بعض واللّه سميع عليم، قال بريهة : جعلت فداك أنَّى لكم التوراة والانجيل وكتب الانبياء، قال : هي عندنا وراثة من عندهم، نقرأها كما قرأوها ونقولها كما قالوها، ان اللّه لا يجعل حجة في ارضه يسأل عن شيء فيقول لا ادري، فلزم بريهة ابا عبد اللّه حتى مات ابو عبد اللّه (عليه السلام)، ثم لزم موسى (عليه السلام) حتى مات في زمانه، فغسله(عليه السلام) بيده وكفّنه بيده ولحده بيده، وقال هذا حواري من حواريي(1) المسيح (عليه السلام)، يعرف حق اللّه عليه فتمنى اكثر اصحابه ان يكونوا مثله.
____________________
(1) حواري : ناصر الانبياء والمراد به انصار عيسى (عليه السلام) واصحابه.
تعليق