
المتنبي واحد من الذين قتلتهم قصائدهم، ولعل من الملفت للنظر أنه لم يلق حتفه على يد كافور أو حاشيته ممن كانت تدين له أرض مصر ، رغم ما سلطه المتنبي عليه من أهاج مدوِّية ترددت على الألسنة، إنما كان حتف هذا الشاعر البائس على يد رجلٍ من عامة الناس ثأر لقريب له سلقه المتنبي بلسانه، فانظر إلى المفارقة!
والقصيدة القاتلة هجا بها المتنبي رجلاً يُدعى ضبة بن يزيد العيني ، فأفحش في القول وأقذع.يقول المتنبي :
فلا بمن مات فخرٌ ولا بمن عاش رَغبـهْ
وإنما قلتُ مـا قلـ ـلتُ رحمةً لا محبهْ
وحِيلةً لك حتى عُذرِتَ لو كنت تِيْبـهْ
وَمَنْ يُبَالِي بِذمّ إذا تَعَوّدَ كَسْبـهْ
أمَا تَرَى الخيْلَ فى النّخـ ـل سُرْبةً بَعْدَ سُرْبهْ
فَسَلْ فُؤادَكَ يَا ضَبـ ـب أيْنَ خَلّفَ عُجْبَـهْ
وَإنْ يَخُنْكَ لَعَمْـرِي لَطَالمَا خَـانَ صَحْبَـهْ
وَكَيْفَ تَرْغَبُ فِيـه وقد تَبَـيّـنْتَ رُعْبَـهْ
مَـا كُنْتَ إلاَّ ذُبَـابـاً نَفَتْكَ عَنّا مذبّهْ
وكُنْتَ تَفْخَر تيهاً فَـصرْتَ تَضْرطُ رَهْبـهْ
وإنْ بَعُـدْنَا قَليـلاً حَمَلْتَ رُمْحاً وَحَرْبهْ
وَقُلْتَ لَيْتَ بكَفّي عِنَانَ جَرْدَاءَ شَطْبَهْ
إنْ أوْحَشَتْكَ المعَالِي فـإنّها دَارُ غُـرْبهْ
أوْ آنَسَتكَ المخَـازي فَإنها لَكَ نِسْبَـهْ
وإنْ عَرَفْتَ مُـرَادي تَكَشّفتْ عَنْكَ كُـرْبـهْ
وإنْ جَهلتَ مُـرَادي فَـإنّهُ بِكَ أشْبَـهْ
هذا ما قاله المتنبي في ( ضبة ) المذكور، وهو كما نقل ابن النديم : ما للمتنبي شعر أسخف من هذا الشعر ولا أوهى كلاماً، فكان على سخافته وركاكته سبب قتله وقتل ابنه وذهاب ماله.
لمّا سمع فاتك الأسدي (خال ضبة ) بهذا الشعر داخلته الحمية لابن أخته ( ضبة )، فقرر الثأر له بقتل المتنبي ، ولندع الربعي يروي لنا قصة مقتل المتنبي عمن عاصر أحداثها: وهو محمد بن المبارك الجبلي(1) .قال الجبلي :
وأمَّا ما سألتما عنه من خبر مقتل أبي الطيب رحمه الله، فأنا أنسُقُهُ لكما وأشرحه شرحاً بَيّناً.
اعلما أنّ مَسيره كان من واسط في يوم السبت لثلاث عَشرةَ ليلة بقيت من شهر رمضان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، قُتِلَ بـبيزع(1) ضيَعةٍ تَقرُبُ من دير العاقول ، في يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من شهر رمضان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، والذي تولَّى قتلَه وقتلَ ابنه وغلامه رجلٌ من بني أسَد يقال له: فاتك بن أبي الجهل بن فراس بن بداد ، وكان من قوله لمّا قتله وهو مُنعَفِرٌ: قبحاً لهذه اللحية يا سَبَّاب!؛ وذلك أنّ فاتكاً هذا قَرَابةٌ لوالدة ضبة بن يزيد العيني ، الذي هجاه المتنبي بقوله:
ويقال: إن فاتكاً ، خالُ ضبة ، وإن الحميّة داخلته لما سمع ذكرَها بالقبيح في الشعر، وما للمتنبي شعرٌ أسخفَ من هذا الشعر ولا أوْهَى كلاماً، فكان على سخافته وركاكته سببَ قتْله وقتلِ ابنه وذَهابِ ماله.
وأما شرحُ الخبر: فإن فاتكاً ، كان صديقاً لي، وكان كما سُمِّي فاتكاً لسفكه الدماء وإقدامه على الأهوال، فلما سمع الشعر الذي هُجيَ به ضبة أحفظه ذلك واشتدّ عليه، ورَجَعَ على ضبة باللوم، وقال له: قد كان يجب أن لا تجعل لشاعر عليك سبيلاً! وأضمر غـيرَ ما أظهر، واتّصل به خَبَرٍ انصراف المتنبي من بلد فارس إلى العراق ، وأنّ اجـتيازه بـجبل و دير العاقول ، فلم يكن ينزل عن فرسِه. وجماعة من بني عَمِّه رأيُهم في المتنبي مثل رأيه في طلبه واستعلام خبره من كل صادر ووارد، وكان فاتك يتحرّى خوفـاً أن يفوته.
وكان كثيراً ما يجيئني وينـزل عندي، فقلت له يوماً -وقد جاءني وهو يسأل قوماً مُجتازين عنه: قد أكثرت المسألةَ عن هذا الرجل، فأيّ شيء عزمك أن تفعله متى لقيتَهُ؟
قال: ما عزمي إلا للجميل، وأن أعذُلَه على ما أفحش فيه من الهجاء.
فقلت له: هذا الأليقُ بأخلاقك والأشبهُ بأفعالك.
فتضاحك ثم قال: والله يا أبا نصر ، لئن اكتحلت عيني به أوْ جمعتني وإيّاه بقعةٌ لأسفكنَّ دمه ولأمْحَقَنَّ حياته، إلا أن يُحال بيني وبينه.
فقلت له: كُفَّ -عافاكَ الله- عن هذا القول، وارجع إلى الله، وأزل هذا الرأي من قلبك، فإن الرجل شهير الاسم بعيدُ الصوت، وقَتلُكَ إيّاه في شعر قاله لا يحسُن، وقد هجت الشعراءُ الملوكَ في الجاهلية والخلفاء في الإسلام، فما علمنا أن شاعراً قُتِلَ بهجاءٍ (وقد قال الشاعر):
ولم يبلغ جُرْمُهُ ما يوجب قَتله!
فقال: يفعلُ الله ما يشاء! وانصرف.فلم يمض لهذا القول إلاّ ثلاثة: (أيَّام حتى وَافى) المتنبي ومعه بِغَالٌ مُوقَرَةٌ كُلَّ شيء من الذهب والفضة والثياب والطِّيب والجوهر والآلة؛ لأنه إذا (كان مسافراً لم يُخَلّف) في منزله درهماً ولا ديناراً ولا ثوباً ولا شيئاً يُساوي درهماً واحداً فما فوقه، وكان أكثُر إشْفاقه على دفاتره؛ لأنه كان قد انتخبها، وأحكمها قراءةً وتصحيحاً.
قال: فتلقيتُهُ وأنزلْتُه داري وساءَلْتُه عن أخباره؟
وعمَّن لقي؟
وكيف وجد مَن قَصَدَه؟
(فعرَّفني) من ذلك ما سُررت به، وأقبل يصف لي ابن العميد وفضلَه وأدبَه وعلْمَه وكرمَه، وسَماحة المَلِك أبي شجاع فناخسرو ، ورغبَتَهُ في الأدب ومَيلَه إلى أهله.
فلما أمسينا قلت له: على أي شيء أنت مُجْمع؟
قال: على أن أتَّخذ الليل جملاً، فإن السير يخفّ فيه عليَّ.
قلت: هذا هو الصواب -رَجَاء أن يخفِيَهُ الليلُ، ولا يصبحُ إلا وقد قطع بلداً بعيداً- والوَجْهُ أن يكون معك من رَجَّالَة هذه المدينة الذين يَخبُرونَ الطريق ويعرفون المواضع المَخُوفة فيه، جَماعَةٌ يمشون بين يديك إلى بغداد . فقطَّب وقال: ولم قلتَ هذا القول؟
قلت: تستأنس بهم.
قال: أمَّا والجرازُ في عنقي فما بي حاجة إلى مُؤنسٍ غيره.
قلت: الأمر كما تقول، والرأي فيما أشرتُ به عليك.
فقال: تلويحك هذا يُنبي عن تعريض، وتعريضك يُخبر عن تصريح، فعرِّفني الأمَر وبيّن لي الخَطْب.
قلت: إن هذا الجاهل: فاتكاً الأسدي ، كان عندي منذ ثلاثة أيام، وهو مُحفَظٌ عليك؛ لأنك هجوت ابنَ أختِه، وقد تكلَّم بأشياء توجب الاحتراس والتيقّظ، ومعه أيضاً نحو العشرين فارساً من بني عمّه قَولُهُمْ مِثلُ قَوْله- قال: وغلامه كان عاقلاً لبيباً فارساً يسمع كلامنا -فقال: الصوابُ ما رآه أبو نصر ، خُذ معك عشرين راجلاً يسيرون بين يديك إلى بغداد .
فاغتاظ غيظاً شديداً وشتم الغلامَ شتماً قبيحاً، وقال: والله لا تُحُدّث عني أني سِرتُ في خفارةٍ غير سيفي.
فقلت له: يا هذا، فأنا أوَجِّهُ قوماً من قِبَلي في حاجة يسيرون بمسيرك ويكونون في خُفارتك.
قال: والله لا فعلتَ شيئاً من هذا، وقال لي: يا أبا نصر ، أبخُروءِ الطير تُخَشَّيني، ومن عَبيد العصا تخاف عَليّ.! والله لو أن مِخْصَرَتي ملقاةٌ على شاطئ الفرات وبنو أسَد مُعطِشون لخَمس، وقد نظروا إلى الماء كبطون الحيَّات، ما جَسرَ لهم خُفّ ولا ظِلفٌ أن يَرِدَهُ.! حاشَ لله من فكر أشغَلُه بهِم لحظةَ العَين.
فقلت له: قل إن شاء الله.
فقال: كلمة مَقُولةٌ لا تَدفع مقضيّا ولا تستجلب آتياً! ثم ركب فكان آخر العهد به.
قال: ولما صح عندي خبر قتله وجهت من دفنه وابنه وغلامه، وذهبت دماؤهم هدَرَاً. أهـ.
ويقال : بأن المتنبي لما خرج عليه فاتك ورجاله أراد أن ينهزم، فقاله له ابنه: يا أبهْ:
وأين قولك:
الخيل والليل والبيداء تعرفني والطعن والضرب والقرطاس والقلمُ؟
فقال له: قتلتني يا ابن اللخناء!
ثم قاتل حتى قُتل.
فقيل: بأن هذا البيت هو الذي قتله.
وبعد: فقد قتل المتنبي لكن لم يقتل إبداعه وحكمته، وذبح أبو الطيب ولم تذبح عبقريته، لقد بقي معنا حيّاً بشعره ونبوغه وأمثاله وشوارده، ولكن العبرة من قتله أن على العاقل أن يحاسب لفظه ويراقب ربّه، فبئس بشعر يقطع رأس صاحبه ويسيل دم قائله.
أين بُعد النظر وتقليب عين البصيرة قبل الهذيان والثرثرة وإطلاق القول على عواهنه، وهذا المتنبي خسر نفسه من أجل أبيات زهيدة، فكيف بعذاب الله لمن أساء الأدب معه، وسب رسله وتعرض لأوليائه، إن أخسر الناس صفقة من باع دينه بدنياه، فأرسل لسانه بالإفك الأثيم، وهؤلاء ملوك الدنيا الفانية يغضبون لملكهم، ولله المثل الأعلى وهو ملك الملوك، وهو الذي لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد، فويل لمن عصى ربه وحارب مولاه، وقدح في شرعه وسب رسله وشهد شهادة الزور: ((سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ)).
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
تعليق