المشاركة الثانية :
نصوص إثبات العلو من كلام الأئمة:
كلام السلف في إثبات صفة العلو نجدها كثيرة فمنها:
ما روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه الفاروق يسنده إلى مطيع البلخي: أنه سأل أبا حنيفة لمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؟ فقال الإمام أبو حنيفة: قد كفر، لأن الله تعالى يقول: ((الرحمن على العرش استوى)) وعرشه فوق سبع سموات.
قلت: فإن قال إنه على العرش ولكن يقول لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر لأنه أنكر أنه في السماء فمن أنكر أنه في السماء فقد كفر. وزاد غيره: لأن الله في أعلى عليين.
وروى ابن عبد البر في كتاب التمهيد: قول الإمام مالك: الله في السماء، وعلمه في كل مكان لا يخلو منه مكان.
ونذكر قول أبي عمر الطلمنكي: في كتابه الأصول: أجمع أهل السنة على أن الله تعالى استوى على عرشه بذاته على الحقيقة لا على المجاز، ثم ذكر قول مالك السابق.
وأما قول الإمام الشافعي: فقد قال الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي: حدثنا أبو شعيب وأبو ثور عن محمد بن إدريس الشافعي قال: القول في السنة التي أنا عليها ورأيت أصحابنا عليها أهل الحديث الذين رأيتهم وأخذت عنهم مثل سفيان ومالك، وغيرهما: الإقرار بشاهدة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن الله تعالى على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء وأن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا كيف شاء.
وأما قول الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله: قال الخلال في كتاب السنة أخبرني عبد الملك بن عبد الحميد الميموني قال سألت أحمد ابن حنبل عمن قال: إن الله تعالى ليس على العرش، فقال: كلامهم كله يدور حول الكفر.
وقال أبو طالب سألت أحمد ابن حنبل عن رجل قال إن الله معنا وتلا قوله (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) فقال أحمد يأخذون بآخر الآية ويدعون أولها، هلّا قرأت {ألم ترى أن الله يعلم ما في السموات} فهو بالعلم معهم وغير مماس لشيء من خلقه.
ونذكر أيضاً قصة أبا يوسف في بشر المريسي حينما سمعه يقول وهو ساجد: سبحان ربي الأسفل فأراد أن يقيم عليه الحد لقوله ذلك، فقد أنكر قوله تعالى:{سبح اسم ربك الأعلى} رواه ابن أبي حاتم بسند صحيح.
ونذكر أيضاً قول ابن المبارك حينما سُأل أين الله؟ فأجاب: اللهُ فوق العرش بذاته وهو بائن عن خلقه وهو معهم بعلمه. ( بائن من خلقه: أي مستغنٍ عنهم وهو غني عن العالمين).
ونذكر قول ابن خزيمة: فقد قال أبو عبد الله الحاكم في كتاب تاريخ نيسابور، وفي كتاب علوم الحديث: سمعت محمد بن صالح بن هانئ يقول سمعت إمام الأئمة أبا بكر بن خزيمة يقول: من لم يقر بأن الله على عرشه استوى فوق سبع سماوات وأنه بائن من خلقه فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه وألقي على مزبلة لئلا يتأذى بريحه أهل القبلة وأهل الذمة، ومن ينكر رؤية الله في الآخرة فهو شر من اليهود والنصارى والمجوس وليسوا بمؤمنين عند أهل السنة والجماعة.
وأما قول أبي جعفر محمد بن جرير الطبري في كتابه صريح السنة: وحسب امرئ أن يعلم أن ربه هو الذي على العرش استوى، فمن تجاوز إلى غير ذلك فقد خاب وخسر.
ونذكر قول ابن تيمية رحمه الله في العقيدة الواسطية في باب الإيمان أنّ الله فوق عرشه وأن الله هو الذي أخبر بذلك ورسوله أيضاً وأجمع عليه السلف من أنه فوق سماواته على عرشه وهو مع خلقه أينما كانوا يعلم ما يعملون, كما جمع بين ذلك في قوله: {هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير}. فليس معنى قوله:{وهو معكم أينما كنتم}أنه مختلط بخلقه فإن هذا لا توجبه اللغة وهو خلاف ما أجمع عليه السلف وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، ولله المثل الأعلى أنّك تلاحظ القمر وهو آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته تجده موضوعاً في السماء وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان، والله سبحانه وتعالى فوق عرشه رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطلع عليهم إلى غير ذلك من معاني الربوبية. وكل هذا الكلام الذي ذكره الله من أنه فوق العرش وأنه صواب، حقيقته لا تحتاج إلى تحريف أو تأويل.
ومعنى مهيمن عليهم قال ابن عباس: أي مؤتمنٌّ عليهم، وقال الكسائي: شاهدٌ عليهم، وقال غيره: رقيباً عليهم، فهيمن يهيمن هيمنةً أي رقيباً على كل شيء.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله:{ وهو معكم أينما كنتم} قال: عالم بكم أينما كنتم، وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن سفيان الثوري أنه سأل عن قوله: { وهو معكم أينما كنتم } قال: علمه. وأما قوله:{ وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } أي هو إله من في السماء ومن في الأرض يعبده أهلهما وكلهم خاضعون له أذلاء بين يديه. وهذه الآية كقوله: { وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون }. أي هو الذي يدعوه من في السموات ومن في الأرض لأنه يعلم السر والجهر.
إذاً لماذا نحاول أن نجتهد وأن نؤوّل وأن نفسر على أريحيتنا ونترك تفسير من قد سلف فهم كانوا من أخير الناس وأفضلهم ولا تنسى أن الزمان الذي نعيشه زمان فتن وأهواء وملذات وشهوات زمان كثير فيه خطباؤه قليل فيه علماؤه؟!
والذي يجري الآن أن معظم طلاب العلم والذين يأخذون العلم من المشايخ ويعتمدون تأويلاتهم دون الرجوع إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وماذا قال السلف، فبهذا يعتبرون كلام المشايخ مخطوطة يرجع إليها. ونذكر قول الإمام مالك رحمه الله حينما قال: ((كلٌّ يؤخذ منه ويرد إلا صاحب هذا القبر وأشار إلى قبر الرسول))، ونذكر قول أبي حنيفة: ((نقول الكلام اليوم ونرجع عنه غداً ونقوله غداً ونرجع عنه بعد غد)).
بقي أن نذكر قول ابن مسعود رضي الله عنه: ((من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة، أبرّها قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم)). وقال ابن مسعود أيضاً: ((اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم)).
فلم هذا التعصب الذي نلحظه اليوم للعلماء أم أننا تتبع القاعدة لا تعترض فتنطرد، وهذا هو التقليد الأعمى الذي حدث عنه عدي بن حاتم، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك قال: فطرحته وانتهيت إليه وهو يقرأ في سورة براءة، فقرأ هذه الآية:{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} قال: قلت: يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم ! فقال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال: قلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم .
تمسك بحبل الله واتبع الأثر *** ودع عنك رأياً لا يلائمه خبر
لذلك أقول بعد كل هذا إنه إذا سألك أحد أين الله فأجبه، وأنت مطمئن ((أنه فوق العرش بذاته بائن من خلقه وهو معهم بعلمه)).
أو قل له في السماء واشرحها له حتى لا يقول لك إنك حجرت وحجّمت وحيّزت.
وإن لم تستطع النقاش، فعد إلى إيمان العجائز وإيمان الأطفال أي عد إلى الفطرة واسأل نفسك فستجيبك في الأعلى، فإن خانتك فاسأل طفلاً صغيراً، فسيقول لك فوق في العالي أو ينظر إلى السماء.
صفات الله عز وجل:
وبعد معرفة أين الله قلت: لابد من التكلم بعض الشيء عن موقف أهل السنة والجماعة من أسماء الله وصفاته تبارك وتعالى والرد على من ادعى من أهل التحريف والتعطيل على أهل السنة أنهم أولوا بعض النصوص ليلزموهم بتأويل البقية أو المداهنة فيها:
نقول بداية: أسماء الله تعالى هو كل اسم سمى الله به نفسه في كتابه أو سماه به أعلم الخلق به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
ومنهج أهل السنة والجماعة من هذه الأسماء أنهم يؤمنون بها على أنها أسماء لله تعالى تسمى بها عز وجل وأنها أسماء حسنى ليس فيها نقص كما قال تعالى:{ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون} فهم يثبتون الأسماء على أنها أسماء لله تعالى ويثبتون أيضاً ما تضمنته هذه الأسماء من الصفات فمثلاً من أسماء الله {العليم} فيثبتون العليم اسماً لله سبحانه وتعالى ويثبتون أن العلم صفة له دل عليها اسم العليم فالعليم مشتق من العلم وكل اسم مشتق من معنى فلا بد له أن يتضمن ذلك المعنى الذي اشتق منه وهذا أمر معلوم في العربية واللغات جميعاً.
واعلم أن الأسماء تكون على قسمين متعد ولازم:
فأما المتعدي: لا يتم الإيمان به إلا بأمور ثلاثة هي: الإيمان بالاسم ثم الإيمان بالصفة ثم الإيمان بالأثر، والإيمان بالأثر أي ما دل عليه الاسم من الأثر إذا كان الاسم مشتقاً من مصدر متعدٍ، فمثلاً الرحيم من أسماء الله يؤمنون به ويؤمنون بما تضمنه من صفة الرحمة ويؤمنون بآثار هذه الصفة (الرحمة) والأثر هنا أنه يرحم بهذه الرحمة من يستحقها، قال تعالى: {يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون } .
وأما اللازم: فإنه لا يتم به إلا بإثبات أمرين أحدهما الاسم، والثاني الصفة.
وأما موقف أهل السنة والجماعة في الصفات فهو:
إثبات كل صفة وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لكن إثباتاً بلا تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل سواء كانت هذه الصفة من الصفات الذاتية أم من الصفات الفعلية.
الصفات الذاتية: هي التي تكون ملازمة لذات الخالق أي أنه متصف بها أزلاً وأبداً مثالها (الحياة) صفة ذاتية لأن الله لم يزل ولا يزال حياً كما قال سبحانه:{هو الأول والآخر} وفسرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (....... . أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء) رواه مسلم. وقال تعالى:{وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده} .
فكل صفة لم يزل الله ولا يزال متصفاً بها فإنها من الصفات الذاتية مثل: السمع والبصر والقدرة ..........
وأما الصفات الفعلية: هي التي تتعلق بمشيئته فيفعلها الله تبعاً لحكمته سبحانه ومثلها: استواء الله على العرش فهو من الصفات الفعلية لأنه متعلق بمشيئته، قال تعالى:{إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش} فجعل الفعل معطوفاً على ما قبله بـ (ثم) الدالة على الترتيب.
ولا يغرنّك من فسر الاستواء بالاستيلاء، فهذا مناف للغة العربية فالاستواء معلوم كما بينه الله عز وجل في كتابه، والقرآن نزل بلسان عربي مبين قال تعالى:{والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون، لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون} .
واعلم أنه خير ما فُسر القرآن بالقرآن، أما تفسيره بالاستيلاء فذلك لا تقتضيه اللغة ولا يقتضيه العقل.
فانظر إلى ما قاله أهل اللغة في ذلك، فقد ذكر الأخفش (استوى أي علا ونقول استويت فوق الدابة وعلى ظهر البيت أي علوته) وقال داوود بن علي الأصبهاني: كنت عند ابن الأعرابي فأتاه رجل فقال: ما معنى قوله {الرحمن على العرش استوى} فقال ابن الأعرابي: هو على عرشه كما أخبر فقال: يا أبا عبد الله إنما معناه استولى، فقال ابن الأعرابي ما يدريك؟ فالعرب لا تقول استولى على شيء حتى يكون له ضد، فأيهما غلب فقد استولى أما سمعت قول النابغة:
إلا لمثلك أو من أنت سابقه *** سبق الجواد إذا استولى على الأمد
فمعنى الاستيلاء أن يكون هناك خصمان يتبارزان فينتصر أحدهما على الآخر ويستولي على الذي يريد وهذا كلام أهل اللغة، فالله عز وجل هو الذي خلق العرش فلماذا يستولي عليه والاستيلاء كما ذكرنا وهذا طريق أهل التحريف وأهل الكلام، ودليلهم قول الأخطل:
قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق
فقد قال الحافظ ابن كثير: (وهذا البيت تستدل به الجهمية على أن الاستواء على العرش بمعنى الاستيلاء وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه، وليس في بيت هذا النصراني حجة ولا دليل على ذلك ولا أراد الله عز وجل باستوائه على عرشه استيلاؤه عليه تعالى الله عن قول الجهمية علواً كبيراً، حيث يقال: استولى على الشيء إذا كان ذلك الشيء عاصياً عليه كاستيلاء بشر على العراق، وعرش الرب لم يكن ممتنعاً عليه نفساً واحدة حتى يقال استولى عليه، وهذا البيت ليس فيه حجة والله أعلم) .
بقي قسم آخر من صفات الله سبحانه وهي الصفات السلبية والتي نفاها الله سبحانه عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله، وكلها صفات نقص في حقه كالموت والنوم والجهل والنسيان والعجز والتعب، فيجب نفيها عن الله تعالى وإثبات ضدها على الوجه الأكمل. قال تعالى:{وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيراً} فنفي الموت عنه يتضمن كمال حياته.
وأما الدعوى التي ادعاها أهل التحريف والتعطيل على أهل السنة أنهم أولوا بعض النصوص ليلزموهم بتأويل البقية أو المداهنة فيها طبعاً هذه دعوى تلبيس وتشكيك، فالمعترك القائم بين أهل السنة وأهل البدعة معترك تبين به الفرق الشاسع بين أهل السنة وأهل البدعة فأهل السنة يثبتون النصوص على حقيقتها وظاهرها اللائق بالله من غير تحريف ولا تعطيل.
فالتحريف معناه باطل بكل حال، ذم الله تعالى من سلكه{ يحرفون الكلم عن مواضعه} .
يتبع
نصوص إثبات العلو من كلام الأئمة:
كلام السلف في إثبات صفة العلو نجدها كثيرة فمنها:
ما روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه الفاروق يسنده إلى مطيع البلخي: أنه سأل أبا حنيفة لمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؟ فقال الإمام أبو حنيفة: قد كفر، لأن الله تعالى يقول: ((الرحمن على العرش استوى)) وعرشه فوق سبع سموات.
قلت: فإن قال إنه على العرش ولكن يقول لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر لأنه أنكر أنه في السماء فمن أنكر أنه في السماء فقد كفر. وزاد غيره: لأن الله في أعلى عليين.
وروى ابن عبد البر في كتاب التمهيد: قول الإمام مالك: الله في السماء، وعلمه في كل مكان لا يخلو منه مكان.
ونذكر قول أبي عمر الطلمنكي: في كتابه الأصول: أجمع أهل السنة على أن الله تعالى استوى على عرشه بذاته على الحقيقة لا على المجاز، ثم ذكر قول مالك السابق.
وأما قول الإمام الشافعي: فقد قال الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي: حدثنا أبو شعيب وأبو ثور عن محمد بن إدريس الشافعي قال: القول في السنة التي أنا عليها ورأيت أصحابنا عليها أهل الحديث الذين رأيتهم وأخذت عنهم مثل سفيان ومالك، وغيرهما: الإقرار بشاهدة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن الله تعالى على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء وأن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا كيف شاء.
وأما قول الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله: قال الخلال في كتاب السنة أخبرني عبد الملك بن عبد الحميد الميموني قال سألت أحمد ابن حنبل عمن قال: إن الله تعالى ليس على العرش، فقال: كلامهم كله يدور حول الكفر.
وقال أبو طالب سألت أحمد ابن حنبل عن رجل قال إن الله معنا وتلا قوله (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) فقال أحمد يأخذون بآخر الآية ويدعون أولها، هلّا قرأت {ألم ترى أن الله يعلم ما في السموات} فهو بالعلم معهم وغير مماس لشيء من خلقه.
ونذكر أيضاً قصة أبا يوسف في بشر المريسي حينما سمعه يقول وهو ساجد: سبحان ربي الأسفل فأراد أن يقيم عليه الحد لقوله ذلك، فقد أنكر قوله تعالى:{سبح اسم ربك الأعلى} رواه ابن أبي حاتم بسند صحيح.
ونذكر أيضاً قول ابن المبارك حينما سُأل أين الله؟ فأجاب: اللهُ فوق العرش بذاته وهو بائن عن خلقه وهو معهم بعلمه. ( بائن من خلقه: أي مستغنٍ عنهم وهو غني عن العالمين).
ونذكر قول ابن خزيمة: فقد قال أبو عبد الله الحاكم في كتاب تاريخ نيسابور، وفي كتاب علوم الحديث: سمعت محمد بن صالح بن هانئ يقول سمعت إمام الأئمة أبا بكر بن خزيمة يقول: من لم يقر بأن الله على عرشه استوى فوق سبع سماوات وأنه بائن من خلقه فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه وألقي على مزبلة لئلا يتأذى بريحه أهل القبلة وأهل الذمة، ومن ينكر رؤية الله في الآخرة فهو شر من اليهود والنصارى والمجوس وليسوا بمؤمنين عند أهل السنة والجماعة.
وأما قول أبي جعفر محمد بن جرير الطبري في كتابه صريح السنة: وحسب امرئ أن يعلم أن ربه هو الذي على العرش استوى، فمن تجاوز إلى غير ذلك فقد خاب وخسر.
ونذكر قول ابن تيمية رحمه الله في العقيدة الواسطية في باب الإيمان أنّ الله فوق عرشه وأن الله هو الذي أخبر بذلك ورسوله أيضاً وأجمع عليه السلف من أنه فوق سماواته على عرشه وهو مع خلقه أينما كانوا يعلم ما يعملون, كما جمع بين ذلك في قوله: {هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير}. فليس معنى قوله:{وهو معكم أينما كنتم}أنه مختلط بخلقه فإن هذا لا توجبه اللغة وهو خلاف ما أجمع عليه السلف وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، ولله المثل الأعلى أنّك تلاحظ القمر وهو آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته تجده موضوعاً في السماء وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان، والله سبحانه وتعالى فوق عرشه رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطلع عليهم إلى غير ذلك من معاني الربوبية. وكل هذا الكلام الذي ذكره الله من أنه فوق العرش وأنه صواب، حقيقته لا تحتاج إلى تحريف أو تأويل.
ومعنى مهيمن عليهم قال ابن عباس: أي مؤتمنٌّ عليهم، وقال الكسائي: شاهدٌ عليهم، وقال غيره: رقيباً عليهم، فهيمن يهيمن هيمنةً أي رقيباً على كل شيء.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله:{ وهو معكم أينما كنتم} قال: عالم بكم أينما كنتم، وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن سفيان الثوري أنه سأل عن قوله: { وهو معكم أينما كنتم } قال: علمه. وأما قوله:{ وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } أي هو إله من في السماء ومن في الأرض يعبده أهلهما وكلهم خاضعون له أذلاء بين يديه. وهذه الآية كقوله: { وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون }. أي هو الذي يدعوه من في السموات ومن في الأرض لأنه يعلم السر والجهر.
إذاً لماذا نحاول أن نجتهد وأن نؤوّل وأن نفسر على أريحيتنا ونترك تفسير من قد سلف فهم كانوا من أخير الناس وأفضلهم ولا تنسى أن الزمان الذي نعيشه زمان فتن وأهواء وملذات وشهوات زمان كثير فيه خطباؤه قليل فيه علماؤه؟!
والذي يجري الآن أن معظم طلاب العلم والذين يأخذون العلم من المشايخ ويعتمدون تأويلاتهم دون الرجوع إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وماذا قال السلف، فبهذا يعتبرون كلام المشايخ مخطوطة يرجع إليها. ونذكر قول الإمام مالك رحمه الله حينما قال: ((كلٌّ يؤخذ منه ويرد إلا صاحب هذا القبر وأشار إلى قبر الرسول))، ونذكر قول أبي حنيفة: ((نقول الكلام اليوم ونرجع عنه غداً ونقوله غداً ونرجع عنه بعد غد)).
بقي أن نذكر قول ابن مسعود رضي الله عنه: ((من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة، أبرّها قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم)). وقال ابن مسعود أيضاً: ((اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم)).
فلم هذا التعصب الذي نلحظه اليوم للعلماء أم أننا تتبع القاعدة لا تعترض فتنطرد، وهذا هو التقليد الأعمى الذي حدث عنه عدي بن حاتم، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك قال: فطرحته وانتهيت إليه وهو يقرأ في سورة براءة، فقرأ هذه الآية:{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} قال: قلت: يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم ! فقال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال: قلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم .
تمسك بحبل الله واتبع الأثر *** ودع عنك رأياً لا يلائمه خبر
لذلك أقول بعد كل هذا إنه إذا سألك أحد أين الله فأجبه، وأنت مطمئن ((أنه فوق العرش بذاته بائن من خلقه وهو معهم بعلمه)).
أو قل له في السماء واشرحها له حتى لا يقول لك إنك حجرت وحجّمت وحيّزت.
وإن لم تستطع النقاش، فعد إلى إيمان العجائز وإيمان الأطفال أي عد إلى الفطرة واسأل نفسك فستجيبك في الأعلى، فإن خانتك فاسأل طفلاً صغيراً، فسيقول لك فوق في العالي أو ينظر إلى السماء.
صفات الله عز وجل:
وبعد معرفة أين الله قلت: لابد من التكلم بعض الشيء عن موقف أهل السنة والجماعة من أسماء الله وصفاته تبارك وتعالى والرد على من ادعى من أهل التحريف والتعطيل على أهل السنة أنهم أولوا بعض النصوص ليلزموهم بتأويل البقية أو المداهنة فيها:
نقول بداية: أسماء الله تعالى هو كل اسم سمى الله به نفسه في كتابه أو سماه به أعلم الخلق به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
ومنهج أهل السنة والجماعة من هذه الأسماء أنهم يؤمنون بها على أنها أسماء لله تعالى تسمى بها عز وجل وأنها أسماء حسنى ليس فيها نقص كما قال تعالى:{ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون} فهم يثبتون الأسماء على أنها أسماء لله تعالى ويثبتون أيضاً ما تضمنته هذه الأسماء من الصفات فمثلاً من أسماء الله {العليم} فيثبتون العليم اسماً لله سبحانه وتعالى ويثبتون أن العلم صفة له دل عليها اسم العليم فالعليم مشتق من العلم وكل اسم مشتق من معنى فلا بد له أن يتضمن ذلك المعنى الذي اشتق منه وهذا أمر معلوم في العربية واللغات جميعاً.
واعلم أن الأسماء تكون على قسمين متعد ولازم:
فأما المتعدي: لا يتم الإيمان به إلا بأمور ثلاثة هي: الإيمان بالاسم ثم الإيمان بالصفة ثم الإيمان بالأثر، والإيمان بالأثر أي ما دل عليه الاسم من الأثر إذا كان الاسم مشتقاً من مصدر متعدٍ، فمثلاً الرحيم من أسماء الله يؤمنون به ويؤمنون بما تضمنه من صفة الرحمة ويؤمنون بآثار هذه الصفة (الرحمة) والأثر هنا أنه يرحم بهذه الرحمة من يستحقها، قال تعالى: {يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون } .
وأما اللازم: فإنه لا يتم به إلا بإثبات أمرين أحدهما الاسم، والثاني الصفة.
وأما موقف أهل السنة والجماعة في الصفات فهو:
إثبات كل صفة وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لكن إثباتاً بلا تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل سواء كانت هذه الصفة من الصفات الذاتية أم من الصفات الفعلية.
الصفات الذاتية: هي التي تكون ملازمة لذات الخالق أي أنه متصف بها أزلاً وأبداً مثالها (الحياة) صفة ذاتية لأن الله لم يزل ولا يزال حياً كما قال سبحانه:{هو الأول والآخر} وفسرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (....... . أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء) رواه مسلم. وقال تعالى:{وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده} .
فكل صفة لم يزل الله ولا يزال متصفاً بها فإنها من الصفات الذاتية مثل: السمع والبصر والقدرة ..........
وأما الصفات الفعلية: هي التي تتعلق بمشيئته فيفعلها الله تبعاً لحكمته سبحانه ومثلها: استواء الله على العرش فهو من الصفات الفعلية لأنه متعلق بمشيئته، قال تعالى:{إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش} فجعل الفعل معطوفاً على ما قبله بـ (ثم) الدالة على الترتيب.
ولا يغرنّك من فسر الاستواء بالاستيلاء، فهذا مناف للغة العربية فالاستواء معلوم كما بينه الله عز وجل في كتابه، والقرآن نزل بلسان عربي مبين قال تعالى:{والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون، لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون} .
واعلم أنه خير ما فُسر القرآن بالقرآن، أما تفسيره بالاستيلاء فذلك لا تقتضيه اللغة ولا يقتضيه العقل.
فانظر إلى ما قاله أهل اللغة في ذلك، فقد ذكر الأخفش (استوى أي علا ونقول استويت فوق الدابة وعلى ظهر البيت أي علوته) وقال داوود بن علي الأصبهاني: كنت عند ابن الأعرابي فأتاه رجل فقال: ما معنى قوله {الرحمن على العرش استوى} فقال ابن الأعرابي: هو على عرشه كما أخبر فقال: يا أبا عبد الله إنما معناه استولى، فقال ابن الأعرابي ما يدريك؟ فالعرب لا تقول استولى على شيء حتى يكون له ضد، فأيهما غلب فقد استولى أما سمعت قول النابغة:
إلا لمثلك أو من أنت سابقه *** سبق الجواد إذا استولى على الأمد
فمعنى الاستيلاء أن يكون هناك خصمان يتبارزان فينتصر أحدهما على الآخر ويستولي على الذي يريد وهذا كلام أهل اللغة، فالله عز وجل هو الذي خلق العرش فلماذا يستولي عليه والاستيلاء كما ذكرنا وهذا طريق أهل التحريف وأهل الكلام، ودليلهم قول الأخطل:
قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق
فقد قال الحافظ ابن كثير: (وهذا البيت تستدل به الجهمية على أن الاستواء على العرش بمعنى الاستيلاء وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه، وليس في بيت هذا النصراني حجة ولا دليل على ذلك ولا أراد الله عز وجل باستوائه على عرشه استيلاؤه عليه تعالى الله عن قول الجهمية علواً كبيراً، حيث يقال: استولى على الشيء إذا كان ذلك الشيء عاصياً عليه كاستيلاء بشر على العراق، وعرش الرب لم يكن ممتنعاً عليه نفساً واحدة حتى يقال استولى عليه، وهذا البيت ليس فيه حجة والله أعلم) .
بقي قسم آخر من صفات الله سبحانه وهي الصفات السلبية والتي نفاها الله سبحانه عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله، وكلها صفات نقص في حقه كالموت والنوم والجهل والنسيان والعجز والتعب، فيجب نفيها عن الله تعالى وإثبات ضدها على الوجه الأكمل. قال تعالى:{وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيراً} فنفي الموت عنه يتضمن كمال حياته.
وأما الدعوى التي ادعاها أهل التحريف والتعطيل على أهل السنة أنهم أولوا بعض النصوص ليلزموهم بتأويل البقية أو المداهنة فيها طبعاً هذه دعوى تلبيس وتشكيك، فالمعترك القائم بين أهل السنة وأهل البدعة معترك تبين به الفرق الشاسع بين أهل السنة وأهل البدعة فأهل السنة يثبتون النصوص على حقيقتها وظاهرها اللائق بالله من غير تحريف ولا تعطيل.
فالتحريف معناه باطل بكل حال، ذم الله تعالى من سلكه{ يحرفون الكلم عن مواضعه} .
يتبع
تعليق