إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

الإمام علي وحقوق الإنسان

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الإمام علي وحقوق الإنسان

    الإمام علي وحقوق الإنسان

    بسم الله الرحمن الرحيم
    أرى أن الحديث عن سياسة الإمام علي (عليه السلام) وعن مواقفه الخالدة في مجال حقوق الإنسان لابدّ أن يتنزل ضمن الرؤية الشمولية لحقوق الإنسان في الإسلام، فقد كانت مواقفه معبرة أصدق تعبير عن هذه الرؤية، مستميتاً في الدفاع عنها قولاً وعملاً إلى آخر لحظة في حياته.
    ولما تغيرت الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمع الإسلامي، وأصبح الناس كما وصفهم صديقه الوفي الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري، (رحمه الله) قائلاً: (كان الناس ورداً بلا شوك، فأمسوا شوكاً بلا ورد)، ازداد تمسكه الشديد بهذه الحقوق، والذود عنها، وخصوصاً بعد بيعته بالخلافة، وقد اتضح ذلك من خلال ممارسته اليومية للسلطة، ومن خلال تربيته للمسلمين، وغرس مبادئ الإسلام في نفوسهم، وفي مقدمتها مبادئ حقوق الإنسان.
    ولما ظهرت محاولات الحزب الأموي لتحويل مؤسسة الخلافة إلى ملك عضوض يحرم الناس حقوقهم، ويسلط عليهم ألواناً من القهر والعسف تفطّن الإمام علي (عليه السلام) إلى محاولات الانحراف، وإلى الخطر الداهم فازداد تمسكه بمبادئ حقوق الإنسان والدفاع عنها، ولا غرابة في ذلك فقد تشبّع بروحها من القرآن الكريم، ومن السيرة النبوية الشريفة، وهو أعلم الناس بهما دون منازع.
    وأود في هذا الصدد إبداء الملاحظات الأساسية التالية:
    - أولاً: امتزاج مفهوم حقوق الإنسان عند الإمام علي (عليه السلام) بحقوق الأمة، فلا يمكن أن تحترم حقوق الإنسان وتصان إلا في مجتمع الحق والحرية والعدل الاجتماعي. ومن هنا فإن السلطة لم تكن أبداً في نظره غاية في حدّ ذاتها، ولم يسعَ إليها في يوم من الأيام، بل كان من أزهد الناس في السلطة، ولما جاء المسلمون لمبايعته بالخلافة قبل أن يتولى المسؤولية الأولى في جهاز الدولة الإسلامية الفتية (أي الخلافة) لتكون أداة المقاومة مظاهر الحيف والانحراف ولإرجاع الحقوق إلى أصحابها، دخل عليه صفيه وتلميذه عبد الله بن عباس يوماً فوجده يخصف نعله فعجب ابن عباس من أن يخصف أمير المؤمنين نعله بنفسه، وهو يحكم مناطق شاسعة من العالم القديم، فقال لابن عباس:
    (ما قيمة هذه؟) - مشيراً إلى نعله - قال: لا قيمة لها.
    فقال الإمام: (والله لهي أحب إليّ من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً).
    فالسلطة تعني عنده - إذن - إقامة الحقوق، ومقاومة الباطل وأهله.
    - ثانياً: قد يقول قائل: إن الإمام علي (عليه السلام) قد خاض حروباً طاحنة، وقاتل طيلة أربعين سنة، وأصاب سيفه مئات الناس فكيف نوفّق بين هذا وبين دفاعه عن حقوق الإنسان؟ قد يشتبه الأمر عند البعض، وأقول إجابة على مثل هذا التساؤل:
    أ: إن الدفاع عن حقوق الإنسان اقتضى بالأمس، ويقتضي اليوم أيضاً مقاومة أهل الظلم والبغي وكل قوى الشر المعادية للإنسان ولحقوقه.
    ب: تُجمع الروايات التاريخية على أن الإمام لم يقاتل إلا دفاعاً عن العدل ليقيم الحق ويقاوم الظلم بشتى مظاهره، وبخاصة الظلم السياسي والاجتماعي.
    - ثالثاً: إنه من المعروف تاريخياً أن تمسكه بالحق وصرامته في تطبيقه قد جعلت كثيراً من سادة قريش وزعماء العرب يعادونه، ويلتحقون بصفوف معاوية، وقد ضاقوا خصوصاً بالتسوية في القسمة بينهم وبين العامة وهم الرؤساء، وقد كان واعياً بذلك ولكنه لم يتنازل قيد أنملة، فقال عنهم:
    (.. وقد عرفوا العدل ورأوه وسمعوه ووعوه، وعلموا أن الناس عندنا في الحق أسوة (سواء) فهربوا إلى الأثرة فبعداً لهم وسحقاً).
    إنه كان (عليه السلام) شديداً في الحق حتى مع أقرب الناس إليه، مع أفراد أسرته، وقصته مع ابنته التي زينت بلؤلؤة من بيت المال مشهورة فقال:
    من أين لها هذه؟ لله علي أن أقطع يدها.
    قال ابن أبي رافع، وقد كان خازناً لعلي (عليه السلام) على بيت المال:
    فلما رأيت جدّه في ذلك قلت: أنا والله يا أمير المؤمنين زينت بها ابنة أخي، ومن أين كانت تقدر عليها لو لم أعطها فسكت (1).
    وكتب مرة إلى أحد عماله مؤنباً، وقد بلغه أنه أصاب شيئاً من بيت المال، وزعم أنه حقه وختم رسالته قائلاً:
    (.. فوالله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة ولما تركتهما حتى آخذ الحق منهما).
    - رابعاً: إن نموذج الإمام علي (عليه السلام) في الدفاع عن حقوق الإنسان يتجاوز المجتمع الإسلامي ليشمل المجتمع البشري كله، فإذا أصبح موضوع حقوق الإنسان اليوم معروفاً (ويخطئ البعض عندما يرطبه بالثورة الفرنسية) ويتجاهل تراث الحضارات الأخرى، وفي مقدمتها الحضارة الإسلامية وهي حضارة تفخر بأنها أنجبت نموذجاً نادراً في مقاومة جميع مظاهر الحيف، ونصرة حقوق الإنسان، هذا النموذج القدوة هو الإمام علي (عليه السلام). سيسجل تاريخ الإنسانية المواقف الخالدة التي وقفها الإمام علي (عليه السلام) في الدفاع عن حقوق الإنسان. رحمك الله يا أبا الحسن فقد عشت ما يربو عن أربعين سنة حاملاً لواء العلم والسيف في مقاومة البغي والظلم، وفي الذود عن حقوق الإنسان.
    إن الدارس لمواقف الإمام علي (عليه السلام) من قضايا حقوق الإنسان يلمس بسهولة بأن جل أقواله، والقيم التي آمن بها، وعلمها المسلمين تخدم حقوق الإنسان وحريته، وتناهض كل سلطة تحاول أن تظلم الإنسان، وتغتصب حقوقه، وخصوصاً حقوقه السياسية والاجتماعية، وهو ما يوضح لنا صرامة المدرسة السياسية الفكرية التي أسسها في نضالها من أجل بناء مجتمع العدل السياسي والاجتماعي، ولقد نبّه المسلمين إلى خطر الانحراف الذي بدأت تبرز معالمه في خلافة عثمان، فقد خطب الإمام في المدينة إثر بيعته قائلاً:
    (.. ألا وإن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيه والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة، ولتغربلن غربلة ولتساطن سوط القدر، حتى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم وليسبقن سابقون كانوا قصروا وليقصرن سباقون كانوا سبقوا) (2).
    وجاء حق الأمة والمجتمع مرتبطاً بحقوق الفرد في نضال الإمام من أجل حقوق الإنسان، وجاءت ممارسته للسلطة بعد بيعته إماماً تطبيقاً لمواقفه التي عرف بها في هذا المجال منذ عهد الصبا، فقد روي عن ابن عباس أن علياً (عليه السلام) خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة فقال:
    (ألا إن كل قطعة أقطعها عثمان وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فإن الحق القديم لا يبطله شيء ولو وجدته ولد تُزوج به النساء وفُرّق في البلدان لرددته إلى حاله، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عنه الحق فالجور عليه أضيق) (3).
    إن هذا الوضع الذي بلغه انتهاك حقوق الإنسان هو الذي جعل زعيماً عربياً معروفاً مثل عبد الله بن الزبير يقول:
    (لو شايعني الترك والديلم على محاربة بني أمية لشايعتهم وانتصرت بهم) (4).
    وأعود إلى الاستشهاد ببعض أقوال ومواقف الإمام في الدفاع عن حقوق الإنسان الفردية والجماعية منها فقد رأينا مفهومه النبيل السامي للسلطة، وهو مفهوم نادر في تاريخ نظم السلطة السياسية بالأمس واليوم، فنَعْله أحب إلى نفسه من الخلافة أو الإمارة، وهي قمة السلطة إلا أن يقيم حقاً، أو يدفع باطلاً، فأي نظام في الدنيا بلغ هذه النظرية السامية للسلطة؟
    وقد كان (عليه السلام)، حريصاً كل الحرص على حماية حقوق كل فرد من أفراد الرعية بصرف النظر عن لونه أو جنسه أو دينه. فقد سيّر يوماً ما جنداً لمقاومة قوى الشر فكتب إلى أمراء بلاده التي سيمر بها الجند كتاباً يقول فيه:
    (من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من مر به الجيش من جباة الضرائب وعمال البلاد: أما بعد، فإني سيرت جنوداً هي مارة بكم إن شاء الله، وقد أوصيتهم بما يجب عليهم من كف الأذى وصرف الشذى (الشر). وأنا أبرأ إليكم، وإلى ذمتكم من معرة (أذى) الجيش إلا من جوعة المضطر الذي لا يجد عنها مذهباً إلى شبعه فنكلوا (عاقبوا) من تناول منهم شيئاً ظلماً عن ظلمهم، وكفوا أيدي سفهائكم عن مضارتهم، والتعرض لهم فيما استثنيناه منهم).
    وأود الملاحظة في نهاية هذه الكلمة أن الإمام (عليه السلام) قد كان واعياً بأن المدافعين عن حقوق الإنسان في عصره قد أصبحوا قلة فقد قال:
    (اعلموا رحمكم الله أنّا في زمان القائل فيه بالحق قليل، واللسان عن الصدق كليل، واللازم للحق ذليل...).

    __________________
    ياصاحب الأمر أدركنا

    فليس لنا ورد هنياً
    ولا عيش ولا رغد
    طالت علينا ليالي الأنتظار

  • #2
    الحريات البدنية

    وهي الموازية، في بعض وجوهها، للهابياس كوربس Hapeas corpus الإنكليزية. فقد حرّمت قوانين الدول المتقدمة التضييق على شخص الإنسان بشكل غير مشروع، واعترفت بحرية التنقل، ومنعت التعذيب لانتزاع الإقرار من المتهمين، كما قضت بالتعويض على المسجونين إذا تبينت براءتهم. وهذه الأمور لم تحظ عملياً بالاهتمام والاحترام في معظم دول العالم، وحتى في البلدان الغربية التي عرفت النهضة الحديثة، فإن تبتني هذه المبادئ ليس مطلقاً، لا سيما المبدأ الأخير القاضي بالتعويض على المسجونين ظلماً الذي يطبق، عندما يطبق، بشكل خجول (1)..
    وما زال الناس يسجنون لفترات طويلة جداً على ذمة التحقيق. فإذا بُرّئوا لم ينالوا التعويض الملائم عن تعطيلهم، وعما يمكن أن يكون لحق بهم وبعائلاتهم من أذى. على أن التدابير المتخذة والتعويض الجزئي إذا حصل، فهي لا تطال الأجانب، بل فقط المواطنين. وهذا ما يدل على عدم الإيمان الفعلي بهذه الأمور، بل فقط على الالتزام بقانون ملزم.
    وما زالت الإنسانية اليوم تكافح لمنع السجن الاحتياطي الطويل، والإفراج عن عشرات ألوف المساجين السياسيين في مختلف بقاع العالم، ممن يقضون حياتهم في السجون، أو القسم الأهم منها، بحيث يخرجون، إذا خرجوا، عاجزين أو مرضى.
    أما في الإسلام، فإن الأمر مختلف تماماً، ذلك بأنّه يؤمّن الحرية للناس جميعاً، لعربيّهم وعجميّهم، أبيضهم وأحمرهم، وأسودهم، كما أنه يمنع من الظلم والتعسف، وهذا ما طبّقه علي، حيث تسنّى له أن يطبقه.
    فهو لم يقيد حرية الحركة والانتقال، حتى لأولئك الذين كان يخشى أن يتحركوا ضده، فهو لم يمنع طلحة والزبير من ترك المدينة إلى مكة، رغم أنه كان يعرف أنهما لم يقصدا العمرة التي ادعيا بل الغدرة كما قال (2).
    وهو لم يقيد حركة الخوارج، كما رأينا، ولم يمنع الفارين إلى معاوية. كما حرّم علي ممارسة العنف على الناس بدون وجه حق. فالمتهم لا يجوز تعذيبه مهما كانت تهمته. فحتى في تهمة القتل قضى علي (عليه السلام) بـ(التلطف في استخراج الإقرار من الظنين) (3)، ثم هو رفع العقوبة عن المقر إذا كان إقراره نتيجة لعنف على شخصه أو ماله أو نتيجة لتهديد. فكان يقول: (من أقر عن تجريد أو حبس أو تخويف أو تهديد فلا حد عليه) (4).
    وحتى في حال ثبوت الجريمة وإنزال العقاب، فإنه يجب عدم التجاوز. فقد كان علي يعرض السجون كل يوم جمعة، فمن كان عليه حد أقامه عليه، ومن لم يكن عليه حد خلّى سبيله) (5).
    أما في حال التهمة، فكان علي لا يسجن على ذمة التحقيق إلا متهماً بدم، كما كان لا يسجن بعد معرفة الحق وإنزال الحدود، لأن الحبس بعد ذلك ظلم (6).
    أما حق الدفاع فكان لا يجوز المساس به. فالمحاكمة يجب أن تكون متناقضة، بمعنى أنه يجري النقاش بين مدع ومدعى عليه. لا أن يعول على أقوال أحدهما فقط، يقول علي مفسراً هذا الأمر: (إن الحدود لا تستقيم إلا عن المحاجّة والمقاضاة وإحضار البينة) (7)، من هنا امتنع القضاء على غائب (8).
    أما في المسائل المالية فكان علي لا يقرّ السجن إلا في حالات استثنائية تدخل اليوم في قانون الجزاء. فكان لا يسجن إلا الغاصب، ومن أكل مال اليتيم ظلماً، ومن ائتمن على أمانة فذهب بها، وكان يسجن المفاليس من الأغنياء، أي من يدعي ذلك أو يبذر ليحرم دائنيه من حقوقهم. أما المدين العادي فهو لا يقيد ولا يضرب ولا يضيق عليه في شيء (9)، ولا يحبس المعسر (المدين) ولا المفلسين (10). أما إذا كان له مال فيباع لتسديد الدين (11).
    أما السجن فإنه ليس وضعاً للإنسان في ظروف لا تطاق قد تدفع به إلى المعصية، فعلي كان يخرج فئات من أهل السجن ليشهدوا الجمعة بشروط معينة ثم يعيدهم (12). كما كان يسمح لزوجة السجين بأن تسجن معه إذا أرادت ذلك في بعض الحالات (13).
    وأخيراً، فإن الدولة تضمن أخطاء القضاة بحيث تدفع ما يستحق للمظلوم أو لأوليائه في الدم والقطع (14).

    __________________
    ياصاحب الأمر أدركنا

    فليس لنا ورد هنياً
    ولا عيش ولا رغد
    طالت علينا ليالي الأنتظار

    تعليق


    • #3
      الحق في الحياة

      كان الحكام في السابق يتصرفون على أنهم المالكون لأرواح الناس، فكان لا يمنعهم مانع من قتلهم أو التضحية بأرواحهم بإرادتهم الخاصة، ولكن الأديان السماوية أتت لتضع حداً لهذا الحق المزعوم، معتبرة أن الله هو رب البشر لا الملوك والأباطرة، فقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَ خَطَأً) (1). وأكّد ذلك الرسول (صلّى الله عليه وآله) بتشدده في حرمة دم المؤمن (2)، وهذا ما تقيّد به علي وأمر عماله أن يتقيّدوا به.
      يقول (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر عندما ولاّه مصر: (إيّاك والدماء وسفكها بغير حلها، فإنه ليس من شيء أدعى لنقمة ولا أعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة، من سفك الدماء بغير حقها والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا فيه من الدماء يوم القيامة. فلا تقوّين سلطانك بسفك دم حرام، فإن ذلك ممّا يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله. ولا عذر لك عند الله وعندي في قتل العمد، لأن فيه قود البدن) (3).
      هذا مبدأ طبّقه عليّ بكل دقّة، لا سيما في مشاكله مع الخوارج، فهؤلاء خرجوا من الكوفة والبصرة وتجمعوا مسلحين، فلم يبادر الإمام إلى قتالهم وقتل أي منهم، فيما كان يجهز للمسير إلى الشام، فكان جماعته يتخوّفون من انقضاض الخوارج على النساء والذراري، أثناء غياب الرجال في الحرب، لذلك كانوا يطالبون بضربهم. ولكن علياً كان يرفض، معتبراً أن ليس له الحق في هذا الأمر (4)، وكان يقول للخوارج: (لا نبدأكم بحرب حتى تبدأونا به) (5).
      وهذا ما طبّقه علي في مناسبات أخرى. فقد أتاه الخرّيت بن راشد ذات يوم فقال له: (... إني خشيت أن يفسد عليك عبد الله بن وهب وزيد بن حصين - من رؤوس الخوارج - فقد سمعتهما يذكرانك بأشياء لو سمعتها لم تفارقهما حتى تقتلهما).
      فقال علي: (إني مستشيرك فيهما. فماذا تأمرني؟).
      فقال الخريت: (آمرك أن تدعو بهما فتضرب رقبتيهما).
      فقال علي (عليه السلام): (لقد كان ينبغي لك أن تعلم أني لا أقتل من لم يقاتلني ولم يظهر لي عداوة وكان ينبغي لك، لو أنني أردت قتلهما، أن تقول لي: اتق الله، بم تستحل قتلهما ولم يقتلا أحد ولم ينابذاك ولم يخرجا عن طاعتك) (6).
      على أن ما تقيد علي بحرمته ليس فقط دماء المسلمين، بل دماء أهل الذمة أيضاً، إذ يوصي مالك بن الحارث الأشتر بالرحمة بالناس مسلمهم وذميّهم بقوله: (ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين وإما نظير لك بالخلق) (7).
      كما يوصي ابنه الحسن بأهل الذمة بقوله: (الله الله في ذمة نبيّكم، فلا يظلمن بين أظهركم) (8).
      ولعل قصة حجر بن عدي الكندي وصحبه، وهم من أفاضل أنصار الإمام علي، الذين تمّ قتلهم بأمر من معاوية بن أبي سفيان، كانت في أساسها دفاعاً عن أهل الذمة، ذلك أن عربياً مسلماً قتل ذمياً، فرفض زياد، عامل معاوية، أن يقيده منه، ولكن حجراً تحرك حتى اضطر زياداً إلى إمضاء الحكم والكتابة إلى معاوية، الذي أمره أن ينتظر أول فرصة تمكنه من الانتقام من حجر ليفعل، وهذا ما حصل فعلاً، دون أن يقيم معاوية وزناً للمبدأ القائل: (أهل الذمة دماؤهم كدمائنا)، وأن (دم الذمي كدم المسلم حرام).
      وهكذا، فإن حياة الإنسان يجب الحفاظ عليها، ولا يجوز سفك الدماء إلا عندما يكون ذلك تنفيذاً لأمر الله عزّ وجلّ الذي يقول: (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) (9)، والذي يقول: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا...) (10)، بهذا تتضح الأحوال التي يجوز فيها القتل وهي حالات الدفاع عن الجماعة أو عن الدين.
      أما إذا قتل الحاكم أحد الأفراد خطأً، فإنه مسؤول عن ديته، يقول الإمام مخاطباً مالك الأشتر: (وإن ابتليت بخطأ وأفرط عليك سوطك أو سيفك أو يدك بالعقوبة، فإن في الوكزة فما فوقها مقتلة، فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم) (11).
      أما إذا قتل إنسان ولم يعرف بالتحديد قاتله، فإن ديته على بيت مال المسلمين، كأن يقتل في زحام يوم الجمعة أو بأية طريقة أخرى. بناء على مبدأ أقره الإمام علي (12)، ولم تتوصل الإنسانية حتى اليوم إلى إقرار مثيل له.

      __________________
      ياصاحب الأمر أدركنا

      فليس لنا ورد هنياً
      ولا عيش ولا رغد
      طالت علينا ليالي الأنتظار

      تعليق


      • #4
        الحقوق الاجتماعية والاقتصادية

        تعتبر الحقوق الاقتصادية والاجتماعية أحدث فئة من فئات حقوق الإنسان. فقد تبلورت بعد الحرب الأولى، وترسخت وتأكدت بعد الحرب الثانية، فكانت نتيجة للفكر الاشتراكي والفكر الفاشي، كما أتت لمعالجة ذيول الحرب، ولمواجهة الأزمة الاقتصادية الكبرى، التي أصابت النظام الرأسمالي، وآثار الحرب والأزمة، التي أصابت الفئات الدنيا في المجتمع. فالفكر الاشتراكي يوفر العمل للجميع ويلغي الملكية الفردية، فتصبح وسائل الإنتاج ملكاً للدولة. والفكر الفاشي يمركز السلطة ويحشد طاقات المجتمع، فيعطيه إمكانية التطور السريع ويخفف مؤقتاً من حدة الأزمات.
        أما الحروب والأزمات الاقتصادية، وخصوصاً الأزمة الكبرى لسنة 1929، فقد أفرزت شرائح واسعة جداً من الفقراء المعوزين، الذين أخذوا يهدّدون السلم الاجتماعي.
        كل هذا دفع الأنظمة الليبرالية، المؤمنة بالملكية الخاصة وبالمبادرة الفردية الحرة، إلى تعديل نظرتها إلى أسس النظام الذي أقامته على حرية المرور وحرية العمل. فوضعت بعض القيود على هذه الحرية، وسمحت بالمساس بالملكية الفردية من أجل تحصيل ضرائب ورسوم وتكليفات جديدة، لتأمين الحد الأدنى من مقومات الحياة للفئات الدنيا في المجتمع.
        ولكن الإسلام في زمن الضيق كما في زمن البحبوحة، بعدما اتسعت دولته واستقرت وتنامت مواردها، أقام نظاماً للضمان الاجتماعي شديد التطور، كانت بداياته في المدينة عندما تخلى الأنصار للمهاجرين عن شطر من أموالهم.
        وقد أعطى الإمام علي (عليه السلام) لهذا الضمان شكله الأرقى الملائم لعصره، والذي يشكل الأساس له في العصور اللاحقة، إذ أقامه على نمط من العدالة الاجتماعية، لم يعرف العالم لهما مثيلاً قديماً وحديثاً وذلك على الأسس التالية:
        • الغنى والفقر
        تقوم فلسفة الإمام علي الاجتماعية على الإيمان بأن الحقوق المفروضة في أموال الأغنياء لصالح الفقراء، كافية لرفع الحاجة، في المجتمع. فهو يقول: (إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما متّع به غني، أو بما منع منه غني والله تعالى سائلهم عن ذلك) (1). من هنا، فإنه يكفي أن يدفع الأغنياء التزاماتهم الشرعية المفروضة عليهم، حتى يكتفي الفقراء، وليس فقط ليتبلّغوا أو ليتقوّتوا، وهذا يفهم، بشكل واضح، من وصايا علي لعماله، فهو يقول لعبد الله بن العباس عامله على البصرة: (أما بعد فانظر ما اجتمع عندك من غلات المسلمين وفيئهم فاقسمه فيمن قبلك حتى تغنيهم، وابعث إلينا بما فضل نقسمه فيمن قبلنا والسلام) (2).
        هذه النظرة تتناقض مع الاشتراكية، التي تلغي الملكية الفردية فينعدم الأغنياء المكلفون، كما تختلف عن الرأسمالية الليبرالية، التي تمنح الحرية الاقتصادية للقوى الجبّارة، كي تنافس القوى الأقل كفاءة، وتنتهي بسحق الفئات الدنيا. ثم هي لا تتفق تماماً مع التدخلية الحديثة، التي تؤمّن بعض حاجات الفئات المعوزة من المجتمع، لأن الإمام يعتبر أن جميع الناس يجب أن توفر لهم حاجاتهم الضرورية، حتى ليأمر بالبحث عن أفراد الطبقة السفلى في المجتمع لا سيما أولئك الذين لا يمدون أيديهم ويقنعون بأقل الأشياء، ليعاملوا على قدم المساواة مع غيرهم من الفقراء.
        وحتى يتمكن الوالي من ذلك فإن عليه أن يكلف أهل التواضع بالبحث عن هؤلاء، ورفع حوائجهم، وكذلك حوائج الأيتام والعجزة. يقول الإمام في عهده إلى مالك الأشتر عندما ولاهّ مصر: (ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، من المساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمنى، فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعترّاً. واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكلٌّ قد استرعيت حقه، ولا يشغلنك عنهم بطر، فإنك لا تعذر بتضييع التافه لإحكامك الكثير المهم. فلا تشخص همك عنهم ولا تصعّر خدك لهم، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم، ممّن تقحمه العيون وتحقره الرجال. ففرّغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع فليرفع إليك أمورهم، ثم أعمل فيهم بالإعذار إلى الله سبحانه يوم تلقاه، فإن هؤلاء، من بين الرعية، أحوج إلى الإنصاف من غيرهم... وتعهّد أهل اليتم وذوي الرقة في السن، ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه) (3).
        على أن الإسلام خصّ فئات من الناس بموارد محددة كالزكاة، مثلاً، التي توزّع على الفقراء والمساكين، وفي سبيل عتق الرقاب، وفك دين العاجزين عن الوفاء، وللمسافرين الذين تنقطع بهم السبيل، من جملة من توزّع عليهم كما تقول الآية 60، سورة التوبة (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
        كما أن أخماس الغنائم توزع أيضاً فيمن توزع عليهم، على ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. فقد جاء في الآية 41 من سورة الأنفال: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
        • الحالات الاستثنائية
        أشرنا إلى أن الدولة الحديثة تعتبر دولة القانون، وإلى أن الدساتير والقوانين الجزائية تضمن الحريات العامة والحقوق الفردية. وذكرنا أن هذه الضمانة ليست مطلقة، بل هي تخرق في الحالات الاستثنائية، بحيث تبيح القوانين إقامة الديكتاتورية أو إعلان حالة الطوارئ، أو حالة الحصار.
        فمن جهة، يتمتع رئيس الدولة - إذا ما تعرض النظام للخطر - بصلاحيات ديكتاتورية، تسمح له بأن يتخذ جميع الاحتياطات، بما فيها الحلول محل السلطات العامة جميعاً، ومصادرة الحريات العامة، حتى يتمكن من إعادة الأمور إلى مجراها الأساسي. وهذا ما تعترف به المادة 16 من الدستور الفرنسي للرئيس، فتعطيه الحرية في تقدير: أن مؤسسات الجمهورية أصبحت في خطر وأنها تتعرض للشلل، أو أن وفاء الدولة بالتزاماتها تجاه الغير قد أعيق. فعندها يعلن الرئيس حالة الديكتاتورية المؤقتة ويتخذ كافة الإجراءات والتدابير التي يراها كفيلة بإعادة الأحوال إلى نصبها دون رقيب أو حسيب، اللهم إلا البرلمان الذي لا يمتلك، في هذه الحالة، إلا إمكانية اتهام الرئيس بالخيانة العظمى، أو خرق الدستور، ومحاكمته، وهذه مسألة يكاد حصولها أن يكون مستحيلاً.
        كما أن الدستور الأميركي يعطي رئيس الدولة صلاحيات استثنائية في حالة الحرب، تسمح له بمصادرة الحريات على أوسع نطاق. وقد استخدم الرئيس روزفلت هذا الحق، إبان الحرب العالمية الثانية، فاعتقل اليابانيين المقيمين في الولايات المتحدة، أو ضيق على حرياتهم، كما اعتقل بعض الأميركيين من أصل ياباني، وذلك بشكل إداري، احتياطاً من أن يكونوا طابوراً خامساً.
        وأخيراً فإن المادة 81 من الدستور الألماني تعطي السلطة التنفيذية إمكانية انتزاع صلاحية التشريع من البندستاغ، في حالة الضرورة التي لها حق إعلانها بنفسها.
        وإلى هذا فإن الحكومات تستطيع إعلان حالة الطوارئ أو حالة الحصار، فتسمح لنفسها، ضمن مهلة معينة، أن تعلق إمكانية التمتع بما تراه من الحقوق والحريات، فتصادر الأموال والأشخاص، وتمنع التجمعات، وتحدد إقامة الأشخاص الذين تعتبرهم خطرين، وتحل السلطة العسكرية محل السلطة المدنية. كل ذلك إذا كان الخطر داهماً. أما تقدير هذا الأمر فيعود إلى السلطة التنفيذية نفسها، فإذا وافقتها السلطة التشريعية فإنها تستطيع أن تستمر في ممارسة هذه الصلاحيات لفترة طويلة.
        هذا في القرن العشرين، بعد كل ما عانته الإنسانية حتى توصلت إلى إقرار الحقوق والحريات المعروفة. أما الإمام علي فقد اعتبر أن حريات الإنسان وحقوقه لا يمكن المساس بها، لا في زمن الحرب ولا في السلم. وقد علمنا أن فترة حكمه كانت كلها حالة استثنائية تبرر، في أنظمة اليوم، اللجوء إلى الديكتاتورية، وتسمح بإعلان حالة الطوارئ.
        ولكنه لم يغير أي شيء، ولم يعط نفسه أية صلاحيات إضافية. فهو عندما بويع، كانت الأحوال مضطربة، وما أن هدأت شيئاً ما، حتى أعلن معاوية تمرده في الشام. وفي هذا الجو أبلغه طلحة والزبير بأنهما مغادران المدينة لقضاء العمرة في مكة. وكان ذلك بعدما تقدما إليه بلوائح مطالبهما غير المقبولة، وكان يدرك أنهما سيتحركان ضده. ولكنه لم يمنعهما من السفر، ولو أن الأمر حصل اليوم، في أية دولة ديمقراطية في حالة حرب، لمنعتهما، أو حددت إقامتهما.
        والخوارج، عندما تركوا الكوفة والبصرة، وراحوا يتجمعون فيما الإمام يجهز الجيش للمسير إلى الشام للحرب الفاصلة، لم يقاتلهم رغم إلحاح قادته، ورغم توفر إمكانية أن ينقضوا على الكوفة، بعد مغادرة الجيش إلى الشام. ولكن الإمام رفض معتبراً أن ما يسمح له بحربهم غير متوفر، ولم يتعلل بالظروف لاستثنائية. وهو لم يقاتلهم إلا بعد أن أفسدوا في الأرض وقتلوا النفس التي حرّم الله.. وبعد معركة النهروان، ومعاودة الخوارج ترك الكوفة لم يقاتلهم الإمام، إلا بعد أن أفسدوا في الأرض من جديد.
        أما مسألة المصادرة، فقد رأينا أن الإمام كان يرفضها بشكل مطلق، فهو كان يأمر قادته بعدم إرغام الناس على العمل، أو استخدام وسائل النقل المتوفرة لديهم - الدواب - إلا برضاهم ومقابل أجر. كما أنه لم يسمح بأي نوع آخر من الاستيلاء، حتى أنه منع جيشه من شرب الماء إلا برضا أصحابه كما رأينا، كل هذا يدل على إيمان مطلق بالأوامر والنواهي الإلهية. وتلك كانت معجزة علي فعلاً، وهي تشكّل تحدّياً لكل الحضارات وفي مقدمها الحضارة المعاصرة، التي اعتبرت الإنسان هو القيمة الأساس في الكون، التي تسخر كل الإمكانات من أجلها، فهل تستطيع هذه الحضارة أن تفكر بالالتزام بما التزم به علي تجاه الإنسان.
        • ضمانة ضوابط الحكام، محاسبة الحاكمين
        شكّلت مسألة الثورة على الحاكم الظالم هاجساً لكل الذين اهتمّوا بحقوق الإنسان في أوروبا، منذ الشرعة العظمى البريطانية في سنة 1215 حتى الأمس القريب.
        فقد حوت الشرعة، أنه إذا خالفها الملك، يتولى أربعة بارونات لفت نظره ليصحح خلال أربعين ويوماً، فإن رفض، رفع الأمر إلى بقية البارونات الخمسة والعشرين، وعُمّم على أفراد الشعب لكي يناهضوا الملك.
        ثم أعطت شرعة الحقوق البريطانية المواطنين حق الإدّعاء بوجه الملك أمام القضاء، عن تصرفات موظفيه غير المحقّة.
        أما في فرنسا فقد اعترف دستور سنة 1793 بحق الثورة للشعب، أو لفئة، بسبب تعدي الحكومة على حقوقه واعتبر ذلك حقاً مقدساً.
        إلا أن دستور سنة 1795 ألغى هذا الحق معتبراً أن الشعب لا يحتاج إلى ضمانة دستورية للثورة ضد الحكام المتجاوزين للحدود.
        وأتى أخيراً ميثاق عصبة الأمم لينظم جهة ترفع إليها الشكاوى ضد الحكومات، ولكن فقط في حال خرق حقوق الأقليات. ثم استعاد الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان إمكانية الإدعاء ضد الدول التي تمارس الظلم. كما نظمت كل الدول طرقاً للوصول إلى الحكم، وأقامت أنظمة قضائية للنظر بالتجاوزات الحكومية، كما كلّفت البرلمان بمحاسبة الوزارة سياسياً وأحياناً بمحاسبة رئيس الدولة ، كما رأينا.
        وهكذا غاب الحق بالثورة، على أساس أن نشوء الأحزاب، التي كانت محرّمة، إلى ما بعد الثورة الفرنسية، وخوضها اللعبة الديمقراطية، أعطى الشعوب الإمكانية النظرية للتغيير. كما أقيم قضاء خاص أحياناً، وأحياناً كلف القضاء العدلي، نفسه، في النظر في تجاوز حد السلطة على أيدي السلطة التنفيذية، فإذا تحقق من ذلك، أبطل أنظمتها وحكم عليها، أحياناً، بالتعويض.
        كما أصبح بإمكان البرلمان إسقاط الحكومة أو منحها الفرصة للحياة، عن طريق حقّه في حجب الثقة أو إعطائها، على أساس من سياسة الحكومة.
        أما في الأزمنة القديمة، فإن كل هذه التدابير لم تكن معروفة، وكان يجري التغيير فقط بالقوة المسلحة. إلى أن كان الإسلام، الذي أقر محاسبة المسؤولين، وخلعهم عندما يستلزم الأمر ذلك، كما أكده علي. فالإمام يمكن خلعه بسبب حدث يحدثه، وهذا ما أثاره علي مع طلحة والزبير اللذين نكثا ببيعته، فطلب إليهما إن كان أحدث حدثاً أن يسمّوه له (4) كما أنه أكده للأشعث بن قيس (5) في رسالة إليه أنهما خلعا بيعته بدون حدث أحدثه. وقال عن عثمان أنه أحدث أحداثاً (6).
        وقد توسع الإمام في هذه المسألة، فيما بعد، مقرّاً إمكانية المحاسبة على كل الصعد، وأول ما أقرّه علي ونفّذه بنفسه، هو صلاحية القاضي بمحاكمة الخليفة نفسه، ناهيك عن عماله، تماماً كما يحاسب جميع المواطنين.
        أما عن الحق في التغيير، فإن الإمام يعتبره ليس حقاً للشعب فحسب، بل هو واجب على كل من يستطيع التحرك، وبأية وسيلة مستطاعة، على أساس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي أوصى به الله تعالى، وأوصى به الرسول في قوله: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) (7).
        وقد أكّد علي على هذا المعنى مراراً، فهو يقول: (من رأى عدواناً يعمل به، ومنكراً يدعى إليه، فأنكره بقلبه سلم وبرئ، ومن أنكره بلسانه فقد أُجر، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمين هي السفلى، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى، وقام على الطريق، ونوّر قلبه اليقين) (8).
        وتأكيداً على أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومقاومة الظلم يقول علي: (وما أعمال البر كلها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا كنفثة في بحر لجّي.. وأفضل من ذلك كلمة عدل عند إمام جائر) (9).
        ولهذا يصبح الوقوف في وجه معصية الحاكمين، شرطاً لمرضاة الله عن أوليائه، وهو لا يرضى عنهم إذا تخلّوا عنه: (إن الله لا يرضى لأوليائه أن يعصى في الأرض، وهم سكوت لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر) (10).
        كل هذا يأتي تنفيذاً لأوامر الله التي، تحضّه على موالاة الأئمة العدول وتنهى عن موادّة من يخالف الله ورسوله، ويفسد في الأرض ويظلم الناس.

        __________________
        ياصاحب الأمر أدركنا

        فليس لنا ورد هنياً
        ولا عيش ولا رغد
        طالت علينا ليالي الأنتظار

        تعليق


        • #5
          الحقوق السياسية

          إن الاعتراف بالحقوق السياسية حديثٌ - نسبياً - إذ كان الناس في العصور السابقة يجبرون على اتّباع سياسة الملوك والسلاطين، إلى أن جاءت إعلانات الحقوق الحديثة ومن أهمها، في هذا الصدد، مقدمة الدستور الأميركي، في سنة 1791 الذي اعترف بحرية الفكر والتجمع. و(إعلان حقوق الإنسان والمواطن) الفرنسي لسنة 1789، الذي اعترف بحرية التعبير عن الرأي، وأخيراً صدر عن الأمم المتحدة (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) في سنة 1948. ولكن الإسلام سبق الجميع بحظره على الحاكم أن يتعرض للحريات السياسية، وهذا ما كرّسه علي بن أبي طالب في نهجه عند توليه الخلافة.
          لقد بدأ علي بتطبيق هذا المبدأ يوم بيعته، حيث عارضها عدد من المسلمين كعبد الله بن عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص والمغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة الأنصاري وغيرهم... فلم يجبرهم على بيعته.
          وفي حروبه لم يلزم علي أحداً بالانضمام إلى جيشه، لا يوم الجمل، ولا في معركة صفين، ولا النهروان. وأخيراً فإنه لم يتصدّ للخوارج الذين كفّروه، وتركوا الصلاة خلفه، وتجمعوا وساروا في البلاد، وكان يقول: (لا نمنعهم الفيء ولا نحول بينهم وبين دخول مساجد الله، ولا نهيجهم ما لم يسفكوا دماً وما لم ينالوا محرماً)(1).
          وهو لم يقاتلهم إلا بعد مباشرتهم أعمال الفساد في الأرض، عندما تعرضوا لعبد الله بن خباب بن الأرت ولزوجته، فقتلوهما بعد أن بقروا بطن المرأة وهي حامل.
          وكان علي معهم في نقاش حدّي باشره أكثر من مرة بنفسه أو بواسطة عبد الله بن العباس، وحتى في الصلاة، ولم يفتروا ولم يفتر في إلقاء الحجج. فقد قرأ مرة أحد الخوارج وهو خلف علي في المسجد في صلاة الصبح: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَ للهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ)(2) فقرأ علي على الفور: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ)(3).

          __________________
          ياصاحب الأمر أدركنا

          فليس لنا ورد هنياً
          ولا عيش ولا رغد
          طالت علينا ليالي الأنتظار

          تعليق


          • #6
            السخرة

            وفي مجال السخرة، كان الحكام يمارسون أبشع الصلاحيات، إذ كانوا يسوقون الأعداد الكبيرة من المواطنين لتعمل بشكل مجاني، أو شبه مجاني، في الأشغال العامة، وحتى في بناء القصور والمعابد، أو لصالح المجهودات الحربية المخصّصة لخدمة مصالح الحاكمين.
            وقد أتت الرسالات السماوية لتضع حدّاً لهذا الأمر. وقد نفذ علي (عليه السلام) موقف الرسالات السماوية بكل دقة، إذ كان ينهي عماله عن إجبار الناس على عمل من الأعمال وذلك بقوله: (ألا لا تسخروا المسلمين)(1).
            على أن السخرة الممنوعة ليست فقط تلك التي تتم لخدمة السلطان وحسب، بل حتى التي قد تؤدي إلى النفع العام. فقد ورد أن بعض الفلاحين أتوا علياً يعرضون عليه أن يعيدوا حفر نهر كان طمر. فكتب إلى عامله يقول: (... ولست أرى أن تجبر أحداً على عمل يكرهه. فادعهم إليك، فإن كان الأمر في النهر على ما وصفوا، فمن أحب أن يعمل فمره بالعمل، والنهر لمن عمل دون من كرهه)(2).



            __________________
            ياصاحب الأمر أدركنا

            فليس لنا ورد هنياً
            ولا عيش ولا رغد
            طالت علينا ليالي الأنتظار

            تعليق


            • #7
              المساواة

              لم تكن المساواة معروفة في العهود القديمة، لأن الناس كانوا ينقسمون إلى طبقات اجتماعية وفئات، وكانت (الخاصة) تستأثر بالأموال وبالمناصب وتشكل البطانة للحاكمين.
              وكان أقارب الحاكم من أفراد الأسرة المالكة وأبناء عصبيته هم أكثر أهل الخاصة حظوة لدى الحاكم، إلا من يشكل خطراً عليه، فإنه كان يبعد.
              وقد حملت تعاليم الإسلام مبدأ المساواة على أكمل وجه، وإن لم يكن هذا المبدأ قد طبق إلى لحظة بسيطة في التاريخ الإسلامي، إلى أن أتت الدساتير الحديثة منادية به، ولكن بشكل محدود ونسبي، حيث ما زالت المحاباة سائدة بقدر أو بآخر في جميع بلدان العالم، وأخطر دليل عليها ما كان يجري في الولايات المتحدة الأميركية، وما زال يجري بأشكال مختلفة حتى اليوم، من نظام يسمح للرئيس المنتخب بأن يعزل آلاف الموظفين الكبار ليأتي بأنصاره، وبمن وعدهم بالمناصب أثناء حملته الانتخابية، مكانهم وهو ما يعرف بنظام الغنائم.
              فالدساتير اليوم تعترف بالمساواة أمام القانون، أي بالحقوق المتساوية لمن يملكون المؤهلات القانونية المتساوية، أو يكونون في أوضاع حقوقية متشابهة، ولكن المبدأ ليس مقدساً على الصعيد العلمي وحتى على الصعيد النظري، دائماً.
              أما الإسلام فإنه اعتبر الناس متساوين في دمائهم، حيث يقول الرسول (صلّى الله عليه وآله): (المؤمنون أخوة تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم) (1). كما اعتبرهم متساوين في سائر حقوقهم حيث يعتبرهم الرسول سواسية كأسنان المشط.
              أما الإمام علي فقد كافح من أجل ترسيخ هذا المبدأ، في زمن كانت القبلية والوجاهة قد استعادتا من أنفاسهما ما كان الرسول (صلّى الله عليه وآله) قد أخمده.
              فلقد أقام علي المساواة في التكاليف ولم يرش أحداً بها، وطالب عمال عثمان بالمال الذي حصلوا عليه دون غيرهم من المسلمين، بدون وجه حق، من كان منهم من بني أمية أو من غيرهم. وفرض التكاليف على الجميع بشكل عادل، وعلى أموالهم لا على أي أساس آخر.
              وقد تجلّت المساواة عند الإمام بأوضح ما تجلّت في مسألة العطاء، وهو الراتب المعطى لأفراد المجتمع، الذين يشكلون الجيش الاحتياطي الجاهز، وللمعوقين أيضاً.
              ففي هذا الصدد كان الرسول (صلّى الله عليه وآله) يساوي بين الجميع أياً كان بلاؤهم، فيعطي علياً الذي امتاز بكل المآثر المعروفة كما يعطي من كانوا لا يقومون بأي مجهود متميز، وذلك تطبيقاً لنص شرعي موحّد. وقد طبّق أبو بكر مبدأ المساواة في العطاء، ولكن عمر رأى رأياً آخر، فوزّع العطاء بشكل متفاوت، فقسّم المسلمين إلى طبقات على أساس النّسب والسابقة، فكانت الحصص تتراوح بين مائتي درهم واثني عشر ألف درهم. فكان يعطي العباس بن عبد المطلب والسيدة عائشة سنوياً، لكل منهما اثني عشر ألفاً، ولكل من نساء الرسول الأخريات عشرة آلاف، ما عدا ثلاث منهن جويرية وصفية وميمونة، اللواتي خص كلاً منهن بستة آلاف.
              أما المهاجرون، فالبدريون منهم نال الواحد منهم خمسة آلاف فيما نال الواحد من بدريي الأنصار أربعة آلاف. وأما مسلمو ما بين أحد إلى الحديبية، فكان عطاء الواحد منهم أربعة آلاف، وبعد الحديبية ثلاثة آلاف، وأما مسلمو ما بعد وفاة الرسول، فقد نالوا حسب الأحوال: 2500 و2000 و1500 و1000 و200... (2).
              واستفاد عثمان من هذا الاجتهاد ودفع به حتى حدود غير معقولة، فأخذ يخص أقاربه ومريديه بأموال لا عهد للعرب بها في ذلك العصر، ومنهم من كان مطروداً من قبل رسول الله (صلّى الله عليه وآله). فكان من جملة عطاءاته، مثلاً، أن أعطى الحكم بن أبي العاص، وهو عمه، وكان رسول الله قد أهدر دمه ثم طرده، مائة ألف، وأعطى مروان ابنه فدكاً وهي حصة فاطمة (عليها السلام) من أبيها (صلّى الله عليه وآله)، إضافة إلى خمس أرمينيا ومائة ألف درهم، وأعطى عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العاص أربعمائة ألف درهم. أما عبد الله بن سعد بن أبي سرح، الذي ادّعى أنه زوّر في كتابة القرآن (3)، والذي كلّف بقتل محمد بن أبي بكر، فقد نال من عثمان إمارة حمص، ثم ولاية مصر، إضافة إلى خمس أفريقيا. كما نال أبو سفيان في إحدى الأعطيات مائتي ألف، وجرى تقسيم أموال العراق بين أقاربه، كما أقطع ابن عمه الحرث بن الحكم بن أبي العاص سوق نهروز في المدينة، وكان وقفاً على مصالح المسلمين، وزوجه ابنته ونقّطه بمائة ألف، ثم أعطى ابنته جواهر كسرى لتتحلى بها وهي الجواهر التي غنمت وأرسلت إلى المدينة في عهد عمر بن الخطاب فلم يستطع قسمتها، كما لم يستطع أحد شراءها، ليوزّع الثمن على المسلمين، فبقيت.
              هذا وقد أصبح الزبير يمتلك مباني في الكوفة والبصرة ومصر، إضافة إلى أراضي عظيمة ومائة فرس ومائة أمة وخمسين ألف دينار. وكان دخل طلحة من العراق ألف دينار يومياً، وقد امتلك القصور في المدينة والكوفة، وكان عبد الرحمن بن عوف يمتلك نصف مليون دينار، إضافة إلى إبل وخيل (4).
              فلما حكم علي أعاد المساواة بين الجميع في العطاء، بين العربي والأعجمي، وبين سيد القوم وسائر الناس، وبين من أسلم حديثاً أو قديماً، تماماً كما كان يفعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فثارت ثائرة الزعماء ضده.
              لقد حدّد علي أصحاب العطاء فقال: (ألا إنه من استقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، أجرينا عليه أحكام القرآن وأقسام الإسلام) (5).
              ثم حدد علي كيفية التوزيع فقال: (فأما هذا الفيء فليس لأحد فيه على أحد أثرة، قد فرغ الله عزّ وجلّ من قسمه، فهو مال الله وأنتم عباد الله المسلمون) (6).
              ولما احتج القوم قال: (لو كان المال لي لسوّيت بينهم فكيف والمال مال الله) (7).
              ولقد ناقشه مالك الأشتر بأمره المساواة، متمنياً عليه أن يؤثر الزعماء ليستطيع استمالتهم. فقال له: (أنت تأخذهم يا أمير المؤمنين بالعدل وتعمل فيهم بالحق، وتنصف الوضيع من الشريف، فليس لشريف عندك فضل منزلة على الوضيع، فضجت طائفة ممن معك من الحق إذ عموا به، واغتمّوا من العدل إذ صاروا إليه.. فإن تبذل المال يا أمير المؤمنين، تمل إليك أعناق الرجال).
              فأجابه علي: (... ما ذكرت من عملنا وسيرتنا بالعدل كان الله يقول: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) (8)، وأنا من أن أكون مقصراً فيما ذكرت أخوف. وأما ما ذكرت من أن الحق ثقل عليهم ففارقوا لذلك، فقد علم الله أنهم لما يفارقونا من جور ولا لجأوا، إذ فارقوا، لعدل.. وأما ما ذكرت من بذل الأموال واصطناع الرجال، فإنه لا يسعنا أن نؤتي أحداً من الفيء أكثر من حقه.. وقد بعث الله محمداً وحده، فكثّره بعد القلّة، وأعزه بعد الذلّة، وإن يرد الله أن يولينا هذا الأمر، يذلل لنا صعبه ويسهل لنا حزنه) (9).
              وقد عاتبه أيضاً فريق من أصحابه متمنياً عليه ما تمناه الأشتر فقالوا له: (يا أمير المؤمنين، أعطِ فضل هذه الأموال، وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم، واستمل من تخاف خلافه من الناس وفراره (إلى معاوية أثناء الحرب والهدنة).
              فقال لهم علي: (أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور؟ لا والله لا أفعل ما طلعت شمس وما لاح في السماء نجم) (10).
              أما لماذا هذه المساواة؟ فلأن (آدم لم يلد عبداً ولا أمة، وأن الناس كلهم أحرار... فمن كان له بلاء فصبر في الخير فلا يمنّن به على الله عزّ وجلّ) (11).
              ولما عاتبه عثمان بن حنيف لإعطائه نفس ما أعطى غلاماً أعتقه قبلها بيوم، وعاتبته عربية (12) لمساواته إياها بأعجمية كان يقول: (والله لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفيء فضلاً عن بني إسحاق).
              هذا العداء لا يخضع إذاً لأي معيار سوى الإسلام، وهو (فيء المسلمين وجلب أسيافهم فمن شركهم في حربهم كان له مثل حظهم، وإلا فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم) (13).
              على أن آخذ العطاء يجب أن يقاتل كلما دعاه الإمام إلى الجهاد، فإن تخلّف فهو يحرم منه. كان هذا هو الموقف الذي اتخذه علي من عبد الله بن عمر، ومن سعد بن أبي وقاص، ومن محمد بن مسلمة الأنصاري، ومن المغيرة بن شعبة، الذين أتوا الإمام بعد صفين يطالبون بعطائهم.
              فسألهم الإمام (14): ما خلّفكم عني؟
              فقالوا: قتل عثمان ولا ندري أحل دمه أم لا، وقد كان أحدث أحداثاً ثم استتابوه فتاب... ثم دخلتم في قتله، فلسنا ندري أصبتم أم أخطأتم، مع أنّا عارفون بفضلك يا أمير المؤمنين وسابقتك وهجرتك.
              فقال علي: (ألستم تعلمون أن الله عزّ وجلّ أمركم أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر، فقال: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (15).
              فقال سعد: يا علي أعطني سيفاً يعرف الكافر من المؤمن. أخاف أن أقتل مؤمناً فأدخل النار. ولكن علياً لم يوافق على إعطائهم العطاء. وقد قال لابن عمر: (شككت في حربنا فشككنا بعطائك).
              هذا هو المعيار وقد طبّقه علي على خاصة أهله. فهذه ابنته أم كلثوم، التي استعارت عقداً من صاحب بيت المال، فردّه علي وقال لها: (ليس إلى ذلك من سبيل حتى لا تبقى امرأة من المسلمين إلا ولها مثل ما لك) (16).
              وهذا عبد الله بن جعفر الطيار بن أبي طالب يقول لعمه: (يا أمير المؤمنين، لو أمرت لي بمعونة أو نفقة، فوالله ما لي نفقة إلا أن أبيع دابّتي) فيجيبه علي: (لا والله لا أجد لك شيئاً إلا أن تأمر عمك أن يسرق فيعطيك) (17).
              ثم إن أمر حديدة عقيل بن أبي طالب أشهر من أن تذكر.
              وهذا هو سلوك علي مع نفسه. (فهو يحمل سيفه ليبيعه في السوق ويشتري بثمنه إزاراً) (18). على أن الناس لم يرضخوا أو يقروا جميعاً هذا النهج، بل أن بعضهم شنّها حرباً دامية ضد علي، وكانوا أحياناً من كبار المسلمين، كطلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة. فقد طلب الشيخان المذكوران أن يبقيا متميزين في العطاء. ولكن الإمام رفض. فلما أصرّا وذكراه بعطاء عمر وتفضيله أهل السابقة. قال لهما: (كأن عمر حري بأن يصيب دون رسول الله (صلّى الله عليه وآله)) (19).
              ولقد حذّر الإمام القوم فأبلغ قائلاً لهم: (... أيها الناس فلا يقولن رجال قد كانت الدنيا غمرتهم، فاتخذوا العقار وفجروا الأنهار، وركبوا أفره الدواب، ولبسوا ألين الثياب، فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً، إن لم يغفر لهم الغفار، إذ منعتهم ما كانوا فيه يخوضون وصيّرتهم إلى ما يستوجبون، فينقمون ذلك وسيتنكرون ويقولون: ظلمنا ابن أبي طالب، وحرمنا، ومنعنا حقوقنا، فالله عليهم المستعان) (20).
              ولكن التحذير والنصح لم ينفعا، فما كان من القوم إلا أن ساروا إلى البصرة، فسفكوا فيها من الدماء ما يفوق التصور. ولكن كل ذلك لم يثن علياً عن المبدأ الذي تمسّك به، فتابع سيرته يقسم بالسوية، ولا يدّخر أي شيء في بيت المال مهما صغر شأنه، فقد قسم رغيفاً واحداً على كل أهل الكوفة (21)، كما كان يقسم كميات التوابل القليلة (22) تماماً كما المال (23).
              على أن المساواة في العطاء لم تكن عند علي إلا النموذج للمساواة في كل الأمور. ومنها مساواته بين نفسه وبين رجل من أهل الذمة أمام القاضي، وهو الخليفة (24).
              وها هو يغضب عندما يكنّيه عمر ويدعو خصمه اليهودي باسمه وهما ماثلان كخصمين أمامه.
              كما يساوي علي بين نفسه وبين عامة الناس، فيرفض التعظيم والتبجيل. ويقول لحرب بن شرحبيل الشبامي الذي مشى إلى جانبه وهو راكب: (ارجع فإن مشي مثلك مع مثلي فتنة للوالي ومذلّة للمؤمن) (25).
              ويخاطب دهاقين الأنبار، الذين ترجلوا له وأسرعوا أمامه عند مسيره إلى الشام، فيقول: (ما هذا الذي صنعتموه؟) فيقولون: (خلق منّا نعظّم به أمراءنا). فيقول: (والله ما ينتفع بهذا أمراؤكم، وإنكم لتشقّون على أنفسكم في دنياكم وتشقون به في آخرتكم، وما أخسر المشقة وراءها العقاب، وأربح الدعة معها الأمان من النار) (26).
              هذا وكان علي يوصي عمّاله بالعدل بين الناس، ومساواتهم في كل الأمور والرفق بهم. يقول موصياً محمد بن أبي بكر: (... واخفض للرعية جناحك... وآسِ بينهم في اللحظة والنظرة والإشارة والتحية، حتى لا يطمع العظماء في حيفك ولا ييأس الضعفاء من عدلك) (27).
              لقد آمن علي بالمساواة حتى كان تقشّفه مواساة للفقراء ويفسر ذلك بقوله: (إن الله تعالى فرض على أئمة الحق أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيّغ بالفقير فقره) (28).
              ولهذا كان الإمام يأكل أقراص الشعير غير المنخول (29)، واللبن شديد الحموضة (30)، ويلبس الطمر البالي (31).

              __________________
              ياصاحب الأمر أدركنا

              فليس لنا ورد هنياً
              ولا عيش ولا رغد
              طالت علينا ليالي الأنتظار

              تعليق


              • #8
                حرمة الحياة الخاصة

                إن هذه الحرمة هي من أكثر حقوق الإنسان امتهاناً منذ القدم وحتى اليوم، حيث كان الترويع ودخول البيوت ليلاً، وخصوصاً في ساعات الفجر الأولى، والتجسس على المواطنين وما يزال، ديدن الكثير من الحكومات. وإذا كانت بعض الأنظمة الديمقراطية وضعت حداً لكل هذا في الأحوال العادية وعلى النطاق النظري، إلا أن حرمة الحياة الخاصة ما زالت عرضة للانتهاك الذي يسمح به القانون. فقد كشف، مثلاً، سنة 1979 أن في فرنسا مائة ألف خط هاتفي مراقب وقِس على هذا.
                أما الإسلام فقد حمى الحياة الخاصة أشد الحماية بقوله تعالى: (وَلاَ تَجَسَّسُوا) (1)، و(لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) (2)، و(وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) (3) لأن (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) (4).
                وهذا ما حرص عليه علي (عليه السلام) أشد الحرص، في السلم كما في الحرب، فنهى في الحرب عن المسير ليلاً (5)، وعن الهجوم (6)، وهذا أمر لا قيمة له في أذهان قادة الجيوش اليوم.
                كما أنه نهى، حتى في الحرب، مقاتليه عن دخول البيوت من تلقائهم، بقوله: (ولا تدخلوا داراً إلا بإذني) (7).
                كما نهى علي عن تتبع العورات، إذ جاء في عهده لمالك الأشتر: (وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمعايب الناس، فإن في الناس عيوباً الوالي أحق مَن سترها، فلا تكشفن عما غاب عنك منها، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك.. فاستر العورة ما استطعت... وتغاب عن كل ما لا يصح لك، ولا تعجلن على تصديق ساع، فإن الساعي غاش وإن تشبّه بالناصحين) (8).
                أما إذا خيف من ارتكاب المعاصي، فإن الله هو المتكفّل بعقاب المذنبين في حال الخفاء، أما الوالي فما عليه الخوف على رعيته في هذه الحالة، لأن المعصية، كما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إذا أخفيت لم تضر إلا بصاحبها، ولكن إذا أظهرت أضرت بالعامة). يقول علي بنفس المعنى: (والله يحكم على ما غاب عنك) (9).
                وكل هذا يأتي منسجماً مع وصايا الرسول (صلّى الله عليه وآله) في أحاديثه الشريفة، إذ ينهى عن التجسس، ويأمر بتسر العورة فيقول: (إنّا قد نهينا عن التجسّس..) (10) فـ(من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موؤودة) (11)، فـ(لا تتبعوا عورات المؤمنين) (12) لأن في تتبع عورات الناس إفساداً لهم) (13).
                __________________
                ياصاحب الأمر أدركنا

                فليس لنا ورد هنياً
                ولا عيش ولا رغد
                طالت علينا ليالي الأنتظار

                تعليق


                • #9
                  حق الملكية الخاصة

                  وكما كان الحكام يعتبرون أنفسهم قديماً مالكين للبشر، كانوا يتصرفون على أنهم المالكون لثروات رعاياهم أيضاً، يتصرفون بها عندما يحلو لهم مصادرة، أو على شكل ضرائب ورسوم تقررها وتحددها مصالحهم. وقد استمر هذا الأمر في بلدان الشرق والغرب إلى أن قامت في أوروبا هيئات تمثل المواطنين مهمتها البتّ في مسألة الضرائب، واعترف لها أخيراً بحق واسع جداً في هذا المجال (1)، وإن يكن حصل مؤخراً التفاف على هذا الحق، عن طريق إقرار قيود على حق البرلمان في هذا الصدد، إذ أن الكثير من البرلمانات اليوم لا يحق لها أن تقترح ما يزيد النفقات أو يقلّص واردات الخزينة، كما أن هناك اعتمادات لا يحق لها أن تتصدى لها كالمصروفات الملكية في بريطانيا ورواتب القضاة. (2)
                  أما الرسالات السماوية فقد وضعت حدّاً للحكام في مجال المساس بأموال المواطنين، إذ رسمت حدود الله، ومنعت من تعديها. وهذا ما يؤكّده الرسول (صلّى الله عليه وآله) بقوله: (لا يحل مال المسلمين) (3) ويأمر أن يقاتل الإنسان دفاعاً عن ماله، (فمن قتل دون ماله مظلوماً فهو شهيد) (4).
                  ومن هنا كانت الملكية الخاصة مصونة في رأي الإمام علي، فلا يجوز للسلطة ولا لغيرها الاعتداء عليها. ذلك أن (أعظم الخطايا اقتطاع مال امرئ مسلم - أو غير مسلم) (5) بغير حق، لذلك فكان علي يوصي عماله بالقول: (ولا تمسن مال أحد من الناس مسلم ولا معاهد) (6)، كما كان يؤكد كل ذلك بقوله لقادته: (ولا تستأثرن على أهل المياه بمياههم، ولا تشربن مياههم إلا بطيب أنفسهم، ولا تظلمن معاهداً ولا معاهدة ولا تسخرن بعيراً ولا حماراً وإن ترجلت وحبست) (7).
                  وأكثر من هذا، فإن علياً كان يوصي، حتى عند تحصيل الحقوق العامة - الضرائب - أن يصار إلى ذلك بالتؤدة واللين، ودون استعمال أي نوع من أنواع العنف على الأشخاص والأموال، فهو يقول لرجل من ثقيف استعمله على الخراج: (إيّاك أن تضرب مسلماً أو يهودياً أو نصرانياً في درهم خراج، أو تبيع دابة يحمل عليها في درهم. فإنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو) (8).
                  وقد تكررت هذه الوصية لسائر عماله على الخراج وكان يضيف عليها: (ولا تبيعن الناس في الخراج كسوة شتاء ولا صيف) (9).
                  أما تحصيل الزكاة، فكان الإمام يعتمد فيه على إرادة المكلّف بالدفع إلى أبعد الحدود، ودون أي مظهر من مظاهر القوة أو السلطة، فيقول لأحد عماله: (انطلق على تقوى الله وحده لا شريك له، ولا تروعنّ مسلماً ولا تجتازنّ عليه كارهاً، ولا تأخذ منه أكثر من حق الله في ماله، فإذا قدمت على الحي، فأنزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم. ثم امضِ إليهم بالسكينة والوقار، حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم، ولا تخدج (تقصّر) بالتحية لهم ثم تقول: (عباد الله، أرسلني إليكم ولي الله وخليفته، لآخذ منكم حق الله في أموالكم، فهل لله في أموالكم من حق فتؤدّونه إلى الله. فإن قال قائل: لا، فلا تراجعه وإن أنعم لك فنعم. فانطلق معه من غير أن تخيفه أو توعده أو تعسفه أو ترهقه، فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضلة، فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلا بإذنه فإن أكثرها له.
                  فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلط عليه ولا عنيف به، ولا تنفرن بهيمة، ولا تفزعنّها ولا تسوء صاحبها منها. واصدع المال صدعين ثم خيّره، فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره. ثم اصدع الباقي صدعين ثم خيّره، فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره، فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله في ماله. فاقبض حق الله منه. فإن استقال (طلب الإعادة) فأقله، ثم اخلطها ثم اصنع مثل الذي صنعت أولاً حتى تأخذ حق الله في ماله) (10).
                  على أن الحقوق المالية تبقى محفوظة ولا يجوز انتهاكها، حتى ولو عوقب صاحبها أشد العقوبات. فإن أعدم توزع على ورثته، وإن أقيم عليه الحد لا تسقط عنهم. يقول علي في نقاشه مع الخوارج: (وقد علمتم أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) رجم الزاني المحصن ثم صلى عليه ثم ورّثه أهله. وقطع السارق وجلد الزاني غير المحصن، ثم قسم عليهما من الفيء، ونكحهما المسلمات. فأخذهم الرسول (صلّى الله عليه وآله) بذنوبهم، وأقام حق الله فيهم، ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام، ولم يخرج أسماءهم من بين أهله) (11).

                  __________________
                  ياصاحب الأمر أدركنا

                  فليس لنا ورد هنياً
                  ولا عيش ولا رغد
                  طالت علينا ليالي الأنتظار

                  تعليق


                  • #10
                    علي والقانون الإنساني في الحرب

                    شكلت الحرب الهاجس الأهم للإنسانية، منذ وجدت المجتمعات البشرية على وجه الأرض حتى اليوم، لما تسببه من مآس وويلات، تلحق بالمقاتلين وبالأبرياء، كما تصيب الممتلكات ومظاهر العمران والحضارة بشكل عام.
                    ولقد لجأ الإنسان إلى الحرب، كلما وجدها ضرورية لتحقيق أهدافه، فكان يشنّها للحصول على الخيرات، وللتحكم والسيطرة، ولتحقيق غير ذلك من الغايات.
                    وكانت الحرب وما زالت بحدود واسعة جداً، طليقة من القيود، إلا ما يرتضيه القائمون بها، الذين قد يمتنعون عما لا يجديهم نفعاً، دون استبعاد أساليب الانتقام والثأر وانفلات الغرائز.
                    وقد حملت التوراة المتداولة حثّاً لليهود على القتل والذبح والقضاء على الزرع والضرع لدى الشعوب المعادية.
                    أما الإسلام فقد وضع حداً للمآسي، ولم يسمح بالحرب إلا في حالات محددة، تلخصت في عهد الرسول، بالدفاع عن النفس، وبتسهيل إيصال الدعوة الإلهية إلى البشرية، من طريق ضرب من يتصدى لهذا الأمر، ثم تطورت لكي تستخدم، بعد إيصال الدعوة وانتشار الإسلام، ليقتصر استخدامها ضد الخارجين بالقوة على سلطة الإمام.
                    ولكن القواعد التي أتى بها الإسلام، لم يجرِ احترامها وتطبيقها بدقة وإخلاص، وكأنها نوع من الوصايا المنسية غالباً، والتي كان يتذكر منها هذا القائد أو ذاك بعض التفاصيل، عندما كان التمسك بها لا يكلفه ثمناً يخشاه.
                    ولكن نهاية المطاف لم تكن هناك، بل أن البشرية، التي اكتوت بنار الحروب ولا سيما بعد اكتشاف الأسلحة الانفجارية كالمدافع والبنادق ووسائل الدمار، التي أدّت إلى إزهاق أرواح عشرات ملايين البشر، أخذت تقتنع شيئاً فشيئاً بضرورة تقييد العمليات العسكرية، ببعض القواعد الحقوقية ذات الطابع الإنساني.
                    وقد كان للمفكرين اللاهوتيين الدور في العصور الوسطى، إلا أن المحاولات لم تثمر إلا في زمن متأخّر جداً، وخاصة في القرن العشرين.
                    لقد اقتنعت البشرية، بعدما دفعت الثمن الباهظ، بضرورة إلزام المحاربين بأن لا يستخدموا العنف المجاني، فيسببوا الآلام والخسائر دون أن يكون لذلك تأثير على سير الحروب، فأخذ المفكرون السياسيون والحقوقيون يعملون على تقييد العمليات العسكرية بالاقتصار على استخدام وسائل الدمار والقتل بالقدر الضروري للقضاء على قوة الخصم القتالية، وبممارسة وسائل الرحمة تجاه رعايا العدو من غير المقاتلين، أو الذين أصبحوا عاجزين عن القتال.
                    وعلى الرغم من التطور الحقوقي، الذي حصل في مجال (أنسنة) الحرب، فإن مبادئ الإسلام ما زالت تعتبر مثالية ومتعذرة التطبيق، وستبقى كذلك بالنسبة إلى المفكرين من أرباب القانون الوضعي الغربي، الذي يعتبر القانون الشامل في كل بقاع الأرض اليوم تقريباً.
                    فالإسلام إذا ما روعيت قواعده من قبل الجميع، فإنه يمكن أن ينهي الحروب إلى الأبد. وهذا ما لا يمكن أن توافق عليه القوى المتفوقة، التي تريد الحصول على ما ليس لها بحق، لا سيما وأن مبرر الحروب الرئيسي اليوم، والذي لا يستحيي الأقوياء من التذرع به، هو المصلحة وليس الحق بالضرورة.
                    قواعد الحرب التي وضعها الإمام علي (عليه السلام)
                    لقد التزم الإمام علي (عليه السلام)، وألزم جيشه بكافة القواعد التي، وضعها الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وقد شدّد أكثر ما شدّد على مسألتين:
                    - الأولى: تحريم الغدر ونقض العهود حيث يقول: (إن الوفاء توأم الصدق، ولا أعلم جُنّة أوقى منه، وما يغدر من علم كيف المرجع) (1).
                    كما يؤكد في عهده إلى مالك الأشتر، عندما ولاه مصر، فيقول: (وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة، فحط عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالأمانة... لا تغدرنّ بذمتك، ولا تخيسنّ بعهدك، ولا تختلن عدوك..) (2).
                    - والثانية: عدم التعرض للنساء، إذ يوصي جنوده قائلاً: (.. ولا تهيّجوا امرأة بأذى... إن كنا لنؤمر بالكف عنهن وإنهن لمشركات، وإن كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهلية بالفهر أو الهراوة، فيعيّر بها وعقبه من بعده) (3).
                    أما القواعد، التي يمكن أن تنسب إلى الإمام علي (عليه السلام) في موضوع الحرب، فتتناول العديد من المسائل، التي لم تتوافق البشرية إلا على بعضها حتى اليوم، ودون التمكن من فرض احترامها بشكل دائم. في حين أن البعض الآخر ما زال بعيداً عن أن يكون ولو مجرد حلم حتى اليوم:

                    أ- القواعد التي توصلت البشرية إلى التوافق عليها
                    تندرج هذه القواعد تحت ثلاثة عناوين: مشروعية الحرب، معاملة الجرحى، معاملة المستسلمين.
                    1- مشروعية الحرب
                    جرى التمييز في عدد من الاتفاقات والقوانين الدولية بين الحرب المشروعة والحرب غير المشروعة، فسوّغت الأولى واعتبرت الثانية خرقاً للقانون الدولي.
                    وقد اعتبرت حرباً مشروعة، الحرب لدفع اعتداء، أو لحماية حق ثابت. وهذا ما أكّده كل من ميثاق عصبة الأمم وميثاق هيئة الأمم المتحدة.
                    وكان الإمام علي (عليه السلام) يهتم بالمقابل بموضوع (الإعذار) والإعذار هو إيضاح الأمر لدى الخصم ولدى الناس (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (4).
                    فقد كان الإمام (عليه السلام) يدعو الخصم إلى حكم الإسلام، وتحكيم القرآن، ويناقشه مناقشة مستفيضة، حتى لا يبقى له من حجة، ثم يعطيه الفرص الإضافية لعله يرعوي، حتى كان أصحابه يأخذونه بالتذمر، كما حصل قبل بدء العمل العسكري ضد أهل الشام في صفين، حيث تأخر الإمام (عليه السلام) عن السماح بالقتال، ليتيح لكل من يرغب في معرفة الحق، بأن يعرفه. وكان جوابه لما فوتح بذلك أن قال: (والله ما دفعت الحرب يوماً إلا وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة، فتهتدي بي وتعشو إلى ضوئي) (5).
                    فإذا أصر الخصم على مواقفه الخاطئة، عند ذلك كان الإمام (عليه السلام) يرى أن الحرب لابدّ واقعة. والمواقف الخاطئة التي يراها الإمام مسوّغة للحرب تتلخص باثنتين (6):
                    الأولى: أن يدعي امرؤ ما ليس له.
                    والثانية: أن يمنع الذي عليه، في ظل الحكومة الشرعية بطبيعة الحال.
                    فالحق المدعى المشار إليه هو محاولة اغتصاب، أو اغتصاب فعلي لسلطة، أو لميزة يسأل الإمام عن الدفاع عنهما. أما الحق الممنوع فهو من الصنف الذي يجب على الإمام فرض احترامه.
                    وإذا حاولنا المقارنة مع قواعد الحرب الحديثة المعمول بها، فإننا نكتشف سموّ وتجرّد موقف الإمام (عليه السلام). ذلك أن الدول القوية اليوم تتوسع في تفسير كلمة (الاعتداء) الذي يبرر الحرب، فتعتبر أي مساس بمصالحها، كما رأينا، اعتداء يستوجب ردعه اللجوء إلى الأعمال العسكرية، حتى وإن كانت هذه المصالح لا تستند إلى أي حق ولو وهمي مزعوم، أو لا تستند إلى أي حق بالمرة، وترى بعد ذلك أن حربها مشروعة، بينما تكمن المشروعية في نظر الإمام (عليه السلام) في تبيان مخالفة موقف الخصم للكتاب والسنة بكل وضوح وجلاء.
                    2- معاملة الجرحى
                    أرسى الإمام (عليه السلام) مبدأ عدم استعمال القوة ضد من يعجز عن الدفاع عن نفسه، أو من يرفض هذا الدفاع، ومن هذا الصنف الجرحى، ذلك لأنهم فقدوا القدرة على التصدي ومنع إحقاق الحق، لذلك كان (عليه السلام) يأمر قادته وجنوده باستمرار أن لا يجهزوا على جريح. وقد حمل (نهج البلاغة) بكل وضوح هذه الأوامر، التي صدرت بمناسبة حرب الجمل وكذلك حرب صفين وغيرهما (7).
                    وبعد أكثر من ثلاثة عشر قرناً، أقر القانون الدولي ضرورة العناية بجرحى الخصم، والامتناع عن تعمّد زيادة آلامهم (8).
                    وإذا كان الإمام (عليه السلام) لم يأمر بنقل جرحى خصومه إلى المستشفيات، لعدم وجود تلك المستشفيات بشكل فعلي، فقد كان يترك أمر العناية بهم إلى قيادتهم، عن طريق عدم التعرض لمن يمكن أن يتولوا العناية بهم، إذا كان هؤلاء لا يباشرون قتالاً كما سنرى، وهذا قبل إنشاء الصليب الأحمر بقرون طويلة.
                    3- معاملة المستسلمين
                    كان الإمام (عليه السلام) يأمر بعدم التعرض للعاجزين والممتنعين عن القتال بقوله: (ولا تصيبوا معوراً) أي الذي أمكن من نفسه فلا يدافع عنها. وهكذا فإن الأسير في هذه الحالة سيكون بمنجى عن أي أذى، بل إن القواعد الإسلامية العامة تقضي بإطعامه والرفق به (9). وهذا ما لم يكرس إلا في اتفاقية جنيف المؤرخة بـ12 آب 1949، التي طورت اتفاقية جنيف لسنة 1929 ونظام لاهاي لسنة 1907.

                    ب- القواعد التي لم تتفق عليها الإنسانية حتى اليوم
                    تتلخص هذه القواعد بأربع وهي:
                    قاعدة البدء بالقتال، الموقف من الفارين من جنود العدو ومن المختبئين، مسألة توفير الماء، ومسألة الغنائم.
                    1- البدء بالقتال: بعد أن كان الإمام (عليه السلام) يحاول بكل جهوده تلافي سفك الدماء، وبعد أن كان الخصم يصر على عدوانه، كان (عليه السلام) يترك لهذا الخصم أن يبدأ هو القتال كدليل على إفلاس حجته. وهكذا فقد كان يوصي قادته وجنوده بالتمسك بمبدأ: (لا تبدأوهم بقتال)، بل هو كان يوصيهم، أكثر من ذلك، بعدم ترك الفرصة للخصم كي يظن بأنهم سيبدأونه بالقتال. فقد أوصى معقل بن يزيد الرياحي، الذي أرسله على مقدمته لملاقاة جند معاوية بقوله: (... ولا تدنُ من القوم دنوّ من يريد أن ينشب الحرب..) (10).
                    2- الموقف من الفارين
                    كان الإمام ينهى عن اللحاق بالفارين من المعركة، والمتراجعين الذين يتركون الحرب، على أساس أن لا يكونوا ممن يتراجعون تراجعاً تكتيكياً، ليلتحقوا بالقطعات الأخرى من رفاقهم. فكان (عليه السلام) يقول: (إذا كانت الهزيمة بإذن الله لا تقتلوا مدبراً..) (11).
                    وليس هذا فحسب، بل كان (عليه السلام) ينهى عن كشف الستر ودخول المخابئ، التي يتلجئ إليها جنود عدوه، الذين يتركون المعركة، فيقول: (إذا وصلتم إلى رحال القوم، فلا تهتكوا ستراً، ولا تدخلوا داراً إلا بإذني).
                    وقد طبّق (عليه السلام) هذا المبدأ أحسن تطبيق، وذلك في حرب الجمل عندما وجد في مواجهة بيت اختبأ فيه كل من عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم وغيرهما، بعد هزيمة جيش الجمل، فامتنع عن فتح البيت والدخول إليه (12).
                    3- موضوع الماء
                    كان الإمام (عليه السلام) يأمر بعدم منع عدوه من الحصول على الماء، حتى ولو كان تحت سيطرته، وحتى ولو كان هذا العدو نفسه قد منع الماء عن جند الإمام سابقاً. ففي حرب صفين كان جند معاوية، بقيادة الأعور السلمي، قد سيطروا على شريعة الفرات، ومنعوا جند الإمام (عليه السلام) من ورود الماء. فأمر الإمام (عليه السلام) بعض قادته بأن يتقدموا ويطردوا السلمي وجنوده من مواقع سيطرتهم تلك. فلما تمّ لهم ذلك، حاولوا أن يثأروا بمنع جنود معاوية من الوصول إلى شريعة النهر. ولكن الإمام رفض ذلك وخاطبهم بقوله: (لا... خلوا بينهم وبينه، لا أفعل ما فعله الجاهلون) (13).
                    هل ينطبق هذا الموقف على الغذاء؟
                    إن سيرة الإمام لم تفصح عن ذلك، ولكن إذا جاز لنا القياس فإننا نقول بأن علة عدم منع الماء يمكن أن تكون نفسها علة عدم منع الغذاء، وهذه العلة هي حق الحصول على ما يسدّ الحاجات الأولية الضرورية. ممّا يحصل عليه جميع الناس وحتى الحيوانات. ولعل الذي يعزّز هذا الرأي أن الإمام (عليه السلام) كان لا يسمح باغتنام الأموال، وهذه القاعدة يمكن أن تنطبق على الغذاء باعتباره من الأموال. وهذا ما سنراه في ما يلي:
                    4- الغنائم
                    لم يكن الإمام (عليه السلام) يسمح بالاستيلاء على الغنائم من الجيش المعادي، إلا ممّا يمكن استخدامه في القتال. فقد كان يوصي قادته وجنوده بقوله: (ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم، إلا ما وجدتم في عسكرهم من عدة الحرب وأدواتها...) (14). لأن المسلم لا يجوز الاستيلاء على ماله إلا بثمنه، فهو ملك له ولورثته من بعده.

                    __________________
                    ياصاحب الأمر أدركنا

                    فليس لنا ورد هنياً
                    ولا عيش ولا رغد
                    طالت علينا ليالي الأنتظار

                    تعليق

                    المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                    حفظ-تلقائي
                    x

                    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                    صورة التسجيل تحديث الصورة

                    اقرأ في منتديات يا حسين

                    تقليص

                    لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

                    يعمل...
                    X