بسم الله الرحمن الرحيم
الشيخ جون فيلبي!
اهتم الإنجليز اهتماماً كبيراً برعاية الحركة الوهابية الناشئة، كيف لا وفيها بارقة الأمل لا للقضاء على ذروة سنام الإسلام فحسب بل إلى شغل المسلمين بأنفسهم، فأخذوا يرعونها بواسطة عملائهم، الواحد تلو الآخر من الزعماء الأوائل الذين يسقطون من على النجائب! إلى شكسبير الذي قتل في معركة الجراب بين الوهابية وآل رشيد ثمَّ جون فيلبي، وفي مقالنا هذا سنتعرض لهذه الشخصية بشيء من التعريف نظراً لقيامها بدور مباشر في القيادة للوهابية عسكرياً وسياسياً ردحاً طويلا من الدهر.
من هو فيلبي؟:
هو الكولونيل هاري جون سانت فيلبي ولد في 3 أبريل 1885 في جزيرة سيلان[1]، وانتقل مع أبيه إلى بريطانيا سنة 1891 وأكمل دراسته في جامعة كامبردج سنة 1907، ثم درس التاريخ والقانون الهندي، وتعلم اللغات الفرنسية والألمانية والهندستانية والفارسية والعربية، وعاد إلى الشرق ضمن أفواج المخابرات البريطانية، أمثال كتشنر ولورنس ومكماهون، وكوكس ومس بل وكلايتون، وغلوب وولسون وغيرهم.
أرسل فيلبي إلى الهند عام 1908ليعمل في المخابرات الإنجليزية هناك، وترقى عام 1914 ليصبح نائب حاكم (لايلابور) ثم انتقل ليرأس دائرة الصحافة في البنجاب، ولكن بعد انفجار الحرب العالمية الأولى بدأت بريطانيا تعد العدة لانتزاع ما يمكن انتزاعه من ممتلكات الدولة العثمانية وفي مقدمتها العراق، فشقت البحرية البريطانية طريقها إلى البصرة في نوفمبر 1914 يترأسها السير برسي كوكس ومن أبرز معاونيه المستر فيلبي الذي عيِّن ضمن الجهاز الإداري الذي يرأسه كوكس.
بعد عام واحد عيِّن فيلبي مساعداً مالياً في البصرة وأنيط به تحرير صحيفة (الأوقات البصْرية) التي تصدرها دائرة المندوب السياسي البريطاني. وقد كان لجولاته في جنوب العراق لجمع المعلومات ولقائه بديكسون الذي سبقه إلى المنطقة في سوق الشيوخ[2] أثر بالغ عليه للولع بالعمل في الصحراء.
بعد احتلال بغداد في 17 مايو 1916 عين فيلبي مساعداً ثانياً للحاكم هناك واشترك مع القسيس ماري الكرملي في إصدار صحيفة (العرب) فكان رئيس تحريرها.
دخول الجزيرة العربية:
بعد مقتل الكابتن شكسبير في معركة الجراب سنة 1915، في مواجهة آل رشيد الذين رأت فيهم بريطانيا ولاءً للسلطة العثمانية، والذين استطاع الوهابية مشاغلتهم فلم ينجدوا السلطة العثمانية ساعة احتلال القوات البريطانية للبصرة، توجه زعيم الوهابية في حينه إلى البصرة[3] ليسلحه الإنجليز بقائد آخر جديد يدبِّر له أموره، ولم يكن هذا القائد إلا المستر فيلبي، فوصل في بعثة متكاملة لدراسة الوضع الجديد ومعه المال والسلاح للوهابية إلى ميناء العقير بالإحساء بتاريخ 17 أكتوبر 1917 مرتدياً الملابس العربية واتجه إلى الرياض ليستقبله هاملتون الوكيل السياسي البريطاني بالكويت[4]، ولكنه لم يلبث طويلاً فخرج في مهمة لم تتضح أهدافها في ذلك الوقت فقام باختراق منطقة الجزيرة من الجنوب إلى الشمال ثم عبر الحجاز إلى مصر ليعود من هناك عن طريق البحر إلى البصرة مخططاً المنطقة المطلة على البحر الأحمر، لقد كانت المهمة تخطيط ما سيصبح من بعد مملكة مترامية الأطراف للدولة الوهابية!
سلَّم فيلبي مخططه لبرسي كوكس المعتمد البريطاني ومسئول المخابرات البريطانية في المنطقة ثم ما لبث أن عاد إلى نجد يحمل معه المال والسلاح الإضافي والتقى بزعيم الوهابية في صحراء الدهناء.
كانت مهمة فيلبي تتمثل في ثلاثة محاور هي:
المحور الأول: المساهمة في جمع المعلومات للمخابرات البريطانية عن الجزيرة العربية.
المحور الثاني: تربية جيل يستطيع حمل المهمة من بعده يلبس لبوس أهل البلاد.
المحور الثالث: القضاء على نفوذ الدولة العثمانية المتمثل في:
(أ) آل رشيد في الشمال الشرقي.
(ب) الأسرة الهاشمية في الحجاز.
بالنسبة للمحورين الأول والثاني فقد قام بهما فيلبي خير قيام[5]، وقد أشرف على تربية أكثر من بديل للزعامة الوهابية، وأما بالنسبة للمحور الثالث فبعد وصوله وجد أن القوات الوهابية قد انسحبت إلى بريدة، وانسحب آل رشيد إلى القصيم، فكانت الأوامر البريطانية بضرورة سرعة إعادة تحريك القوات الوهابية لاستئناف التحرشات بابن رشيد، وقد تم الاتفاق مع الوهابية على مباشرة مهمتهم فور وصول الإمدادات اللازمة، وتعهدت بريطانيا بتقديم الأموال والأسلحة والمشورة العسكرية.[6]
وقد بدأت كميات الأسلحة تصل تباعا، وكانت دفعة منها تبلغ خمسة آلاف بندقية ومائة صندوق ذخيرة.
كانت أولى معارك جون فيلبي ضد آل رشيد، ولم يجرؤ فيلبي خلالها على المشاركة الفعلية خوفاً من مصير شبيه بمصير النقيب شكسبير، بل اكتفى بمراقبتها من شرفة عالية في برج قريب[7].
لقد عمد فيلبي خلال إدارته للدولة الوهابية إلى أساليب جديدة لم تستخدم قبله منها إعلان إسلامه الذي لم يثبت بل جاهر في كتبه من بعد بأن اسمه جون فيلبي ولم يذكر أن اسمه عبدالله كما يظن أعراب نجد لذا فإن ديكسون صديقه يقول: (كان البدو يسمون فيلبي عبدالله هيلبي)[8]!! ومن أساليبه استخدام المال وتقديم المغريات كوسيلة لتحريك الحساسيات والعصبيات بين القبائل وضدَّ أمراء المناطق، فساعده بعض آل رشيد على الاستيلاء على بعض قرى منطقة حائل عاصمة آل رشيد.
وكان هذا من مسهلات معركة (الروضة) حيث احتلت قريتا (بيضاء نثيل) و(الشعيبة) وقتل الوهابية المصلين في صلاة الفجر بالمساجد في شهر رمضان على أساس أنهم من المشركين، كما هتكت الأعراض ونهبت الأموال.
ثمَّ استطاعوا بمعاونة بعض العملاء من الاستيلاء على جبل شمَّر (جبل طيء سابقا: أجأ وسلمى) وأخذوا يمارسون الإرهاب ضدَّ أهله، ولا سيما في قرية (عقدة)، وبعض القرى المجاورة، حيث قتلوا عدداً من الفلاحين الآمنين[9]، وهكذا انفتح الطريق أمام الوهابيين إلى حائل وكان للخيانة - كما خطط لها فيلبي - دور كبير في سقوطها، بعد أن حشد لها الوهابية جيشاً كبيرا، فسقطت في أيديهم في 29 صفر 1340 / 2 نوفمبر 1922[10].
أما بالنسبة للأشراف في الحجاز: فقد كان قرار التأديب البريطاني باستخدام العصا الوهابية بعد أن رفض الشريف حسين قبول الاتفاقات التي نعرفها اليوم بين الإنجليز والفرنسيين والصهاينة بخصوص ما أسموه بمنطقة الشرق الأوسط من اتفاقية سايكس بيكو (1916) إلى وعد بلفور (1917)، على الرغم من محاولات الرشوة والتهديد من البريطانيين، يقول الدكتور صلاح العقاد (والحق أن معارضته (الشريف) الوطن القومي اليهودي في فلسطين، وما ترتب على ذلك من رفض معاهدة فرساي كان أقوى الأسباب التي باعدت بين الشريف حسين والحكومة البريطانية)[11]
ورداً على الشريف هيأ الإنجليز للوهابية الهجوم على الحجاز، ولم يكتفوا بالمشورة والإمدادات العسكرية هذه المرة، فقد استطاعوا إمدادهم بالتغطية الشرعية عن طريق استصدار الفتاوى لا من أتباع محمد بن عبدالوهاب فقط بل حتى من بعض مستعمرات التاج البريطاني، كما قاموا أيضاً بتخريب مقومات القوة العسكرية الشريفية، ولا سيما الطائرات الحربية التي كانت بحوزتها، والتي استطاع العملاء البريطانيون السريون تعطيلها.
وفيلبي هو الذي استطاع خداع الشريف فطرح وساطته بينه وبين الوهابية عند زحفهم على الحجاز، فاستطاع أن يطَّلع على أوضاع الجيش الشريفي ليضع للوهابية الخطط الكفيلة بالقضاء عليه. فبعد أن زار جدة أكد فيلبي لقائد الوهابية أنها (من الناحية العسكرية عاجزة عن الصمود كما أكد له أن غالبية أهلها يريدون نهاية سريعة).
يقول فيلبي (بعد أن يئسنا من الحسين حركنا جنود الإخوان بقيادة خالد بن لؤي وفيصل الدويش وسلطان بن بجاد لسفك دماء غزيرة في الطائف لتوقع الرعب في قلوب الحجازيين: البادية والحاضرة، ونوفر بها على بقية المدن الحجازية دماء أخرى إن أمكن الأمر، وإلا فإن دماء غزيرة لابد من إراقتها لأن الإنجليز قرروا إسقاط حكم الشريف حسين بأي ثمن بعد أن رفض الأمر والطلبات بإعطاء فلسطين لليهود المشردين المساكين، وبعد أن رفض الحسين ما عرضناه عليه بأن يكتفي بالحجاز وحده، وأن يغير وجهة نظره في توحيد البلاد العربية كلها تحت حكمه)[12]
ومنذ بداية 1926 أصبح فيلبي المستشار الخاص لزعماء الوهابية فبقي ملازما لهم ردحاً طويلا من الدهر، وقد أسهم إسهاماً كبيراً في تعميق الروابط بين الوهابية والصهاينة، حيث قدم حاييم وايزمان الزعيم اليهودي رشوته لقادة الوهابية عن طريق فيلبي؛ ليعينوهم على إقامة دولة صهيونية في فلسطين[13]، بل إن فيلبي هذا هو الذي رتَّب للقاء بين زعيم الوهابية وسمحا إيرلخ مندوب ديفيد بن غوريون سنة 1945 الذي مُنح يومها من الوهابية مبلغ عشرة آلاف جنيه إسترليني كمساعدة للصهيونية العالمية.[14]
النهاية:
بعد طرد الجنود الوهابية من البريمي، وتوتر العلاقات الوهابية البريطانية[15] مع بداية عصر التدخل الأمريكي، وفي مايو 1955 أذاع راديو جدّة قرار الملك سعود إخراج فيلبي من السعودية (مع منحه جميع أملاكه وأمواله، لأنه أخذ يتجه اتجاهات غير ملائمة)[16]، فخرج الرجل الذي كوَّن وحكم من وراء الستار أكبر مملكة في شبه الجزيرة بعد أكثر من ثلث قرن متجهاً إلى بيروت، ومن هناك بدأ يهدد بنشر الوثائق السرية لبيع الوهابية لفلسطين، وله كتب مطبوعة تخص المنطقة منها (أيام عربية) و (أربعون عاماً في جزيرة العرب) و(تاريخ نجد وتاريخ الشيخ محمد بن عبدالوهاب)[17].
بقي أن نذكر أن الشيخ فيلبي هو والد هارولد كيم فيلبي الذي كان دبلوماسياً بريطانياً رفيع المستوى، ومن كبار ضباط الاستخبارات البريطانية، ولكنه في نفس الوقت كان عميلاً مزدوجاً للمخابرات الروسية (كي. جي.بي)، ثمَّ هرب إلى روسيا عام 1936م بعد افتضاح أمره، وقد ذكر قصته (بيتر رايت) في كتابه الشهير (صائد الجواسيس)، وهكذا كان الأب جون فيلبي متهماً بازدواجية العمالة للمخابرات الأمريكية (سي.آي.إيه.)، مع عمله في المخابرات البريطانية.
هذا بإيجاز أما الكثير من أفعاله وأقواله فستجد خبرها في مقالاتنا المختلفة بهذا الكتاب.[18]
الشيخ جون فيلبي!
اهتم الإنجليز اهتماماً كبيراً برعاية الحركة الوهابية الناشئة، كيف لا وفيها بارقة الأمل لا للقضاء على ذروة سنام الإسلام فحسب بل إلى شغل المسلمين بأنفسهم، فأخذوا يرعونها بواسطة عملائهم، الواحد تلو الآخر من الزعماء الأوائل الذين يسقطون من على النجائب! إلى شكسبير الذي قتل في معركة الجراب بين الوهابية وآل رشيد ثمَّ جون فيلبي، وفي مقالنا هذا سنتعرض لهذه الشخصية بشيء من التعريف نظراً لقيامها بدور مباشر في القيادة للوهابية عسكرياً وسياسياً ردحاً طويلا من الدهر.
من هو فيلبي؟:
هو الكولونيل هاري جون سانت فيلبي ولد في 3 أبريل 1885 في جزيرة سيلان[1]، وانتقل مع أبيه إلى بريطانيا سنة 1891 وأكمل دراسته في جامعة كامبردج سنة 1907، ثم درس التاريخ والقانون الهندي، وتعلم اللغات الفرنسية والألمانية والهندستانية والفارسية والعربية، وعاد إلى الشرق ضمن أفواج المخابرات البريطانية، أمثال كتشنر ولورنس ومكماهون، وكوكس ومس بل وكلايتون، وغلوب وولسون وغيرهم.
أرسل فيلبي إلى الهند عام 1908ليعمل في المخابرات الإنجليزية هناك، وترقى عام 1914 ليصبح نائب حاكم (لايلابور) ثم انتقل ليرأس دائرة الصحافة في البنجاب، ولكن بعد انفجار الحرب العالمية الأولى بدأت بريطانيا تعد العدة لانتزاع ما يمكن انتزاعه من ممتلكات الدولة العثمانية وفي مقدمتها العراق، فشقت البحرية البريطانية طريقها إلى البصرة في نوفمبر 1914 يترأسها السير برسي كوكس ومن أبرز معاونيه المستر فيلبي الذي عيِّن ضمن الجهاز الإداري الذي يرأسه كوكس.
بعد عام واحد عيِّن فيلبي مساعداً مالياً في البصرة وأنيط به تحرير صحيفة (الأوقات البصْرية) التي تصدرها دائرة المندوب السياسي البريطاني. وقد كان لجولاته في جنوب العراق لجمع المعلومات ولقائه بديكسون الذي سبقه إلى المنطقة في سوق الشيوخ[2] أثر بالغ عليه للولع بالعمل في الصحراء.
بعد احتلال بغداد في 17 مايو 1916 عين فيلبي مساعداً ثانياً للحاكم هناك واشترك مع القسيس ماري الكرملي في إصدار صحيفة (العرب) فكان رئيس تحريرها.
دخول الجزيرة العربية:
بعد مقتل الكابتن شكسبير في معركة الجراب سنة 1915، في مواجهة آل رشيد الذين رأت فيهم بريطانيا ولاءً للسلطة العثمانية، والذين استطاع الوهابية مشاغلتهم فلم ينجدوا السلطة العثمانية ساعة احتلال القوات البريطانية للبصرة، توجه زعيم الوهابية في حينه إلى البصرة[3] ليسلحه الإنجليز بقائد آخر جديد يدبِّر له أموره، ولم يكن هذا القائد إلا المستر فيلبي، فوصل في بعثة متكاملة لدراسة الوضع الجديد ومعه المال والسلاح للوهابية إلى ميناء العقير بالإحساء بتاريخ 17 أكتوبر 1917 مرتدياً الملابس العربية واتجه إلى الرياض ليستقبله هاملتون الوكيل السياسي البريطاني بالكويت[4]، ولكنه لم يلبث طويلاً فخرج في مهمة لم تتضح أهدافها في ذلك الوقت فقام باختراق منطقة الجزيرة من الجنوب إلى الشمال ثم عبر الحجاز إلى مصر ليعود من هناك عن طريق البحر إلى البصرة مخططاً المنطقة المطلة على البحر الأحمر، لقد كانت المهمة تخطيط ما سيصبح من بعد مملكة مترامية الأطراف للدولة الوهابية!
سلَّم فيلبي مخططه لبرسي كوكس المعتمد البريطاني ومسئول المخابرات البريطانية في المنطقة ثم ما لبث أن عاد إلى نجد يحمل معه المال والسلاح الإضافي والتقى بزعيم الوهابية في صحراء الدهناء.
كانت مهمة فيلبي تتمثل في ثلاثة محاور هي:
المحور الأول: المساهمة في جمع المعلومات للمخابرات البريطانية عن الجزيرة العربية.
المحور الثاني: تربية جيل يستطيع حمل المهمة من بعده يلبس لبوس أهل البلاد.
المحور الثالث: القضاء على نفوذ الدولة العثمانية المتمثل في:
(أ) آل رشيد في الشمال الشرقي.
(ب) الأسرة الهاشمية في الحجاز.
بالنسبة للمحورين الأول والثاني فقد قام بهما فيلبي خير قيام[5]، وقد أشرف على تربية أكثر من بديل للزعامة الوهابية، وأما بالنسبة للمحور الثالث فبعد وصوله وجد أن القوات الوهابية قد انسحبت إلى بريدة، وانسحب آل رشيد إلى القصيم، فكانت الأوامر البريطانية بضرورة سرعة إعادة تحريك القوات الوهابية لاستئناف التحرشات بابن رشيد، وقد تم الاتفاق مع الوهابية على مباشرة مهمتهم فور وصول الإمدادات اللازمة، وتعهدت بريطانيا بتقديم الأموال والأسلحة والمشورة العسكرية.[6]
وقد بدأت كميات الأسلحة تصل تباعا، وكانت دفعة منها تبلغ خمسة آلاف بندقية ومائة صندوق ذخيرة.
كانت أولى معارك جون فيلبي ضد آل رشيد، ولم يجرؤ فيلبي خلالها على المشاركة الفعلية خوفاً من مصير شبيه بمصير النقيب شكسبير، بل اكتفى بمراقبتها من شرفة عالية في برج قريب[7].
لقد عمد فيلبي خلال إدارته للدولة الوهابية إلى أساليب جديدة لم تستخدم قبله منها إعلان إسلامه الذي لم يثبت بل جاهر في كتبه من بعد بأن اسمه جون فيلبي ولم يذكر أن اسمه عبدالله كما يظن أعراب نجد لذا فإن ديكسون صديقه يقول: (كان البدو يسمون فيلبي عبدالله هيلبي)[8]!! ومن أساليبه استخدام المال وتقديم المغريات كوسيلة لتحريك الحساسيات والعصبيات بين القبائل وضدَّ أمراء المناطق، فساعده بعض آل رشيد على الاستيلاء على بعض قرى منطقة حائل عاصمة آل رشيد.
وكان هذا من مسهلات معركة (الروضة) حيث احتلت قريتا (بيضاء نثيل) و(الشعيبة) وقتل الوهابية المصلين في صلاة الفجر بالمساجد في شهر رمضان على أساس أنهم من المشركين، كما هتكت الأعراض ونهبت الأموال.
ثمَّ استطاعوا بمعاونة بعض العملاء من الاستيلاء على جبل شمَّر (جبل طيء سابقا: أجأ وسلمى) وأخذوا يمارسون الإرهاب ضدَّ أهله، ولا سيما في قرية (عقدة)، وبعض القرى المجاورة، حيث قتلوا عدداً من الفلاحين الآمنين[9]، وهكذا انفتح الطريق أمام الوهابيين إلى حائل وكان للخيانة - كما خطط لها فيلبي - دور كبير في سقوطها، بعد أن حشد لها الوهابية جيشاً كبيرا، فسقطت في أيديهم في 29 صفر 1340 / 2 نوفمبر 1922[10].
أما بالنسبة للأشراف في الحجاز: فقد كان قرار التأديب البريطاني باستخدام العصا الوهابية بعد أن رفض الشريف حسين قبول الاتفاقات التي نعرفها اليوم بين الإنجليز والفرنسيين والصهاينة بخصوص ما أسموه بمنطقة الشرق الأوسط من اتفاقية سايكس بيكو (1916) إلى وعد بلفور (1917)، على الرغم من محاولات الرشوة والتهديد من البريطانيين، يقول الدكتور صلاح العقاد (والحق أن معارضته (الشريف) الوطن القومي اليهودي في فلسطين، وما ترتب على ذلك من رفض معاهدة فرساي كان أقوى الأسباب التي باعدت بين الشريف حسين والحكومة البريطانية)[11]
ورداً على الشريف هيأ الإنجليز للوهابية الهجوم على الحجاز، ولم يكتفوا بالمشورة والإمدادات العسكرية هذه المرة، فقد استطاعوا إمدادهم بالتغطية الشرعية عن طريق استصدار الفتاوى لا من أتباع محمد بن عبدالوهاب فقط بل حتى من بعض مستعمرات التاج البريطاني، كما قاموا أيضاً بتخريب مقومات القوة العسكرية الشريفية، ولا سيما الطائرات الحربية التي كانت بحوزتها، والتي استطاع العملاء البريطانيون السريون تعطيلها.
وفيلبي هو الذي استطاع خداع الشريف فطرح وساطته بينه وبين الوهابية عند زحفهم على الحجاز، فاستطاع أن يطَّلع على أوضاع الجيش الشريفي ليضع للوهابية الخطط الكفيلة بالقضاء عليه. فبعد أن زار جدة أكد فيلبي لقائد الوهابية أنها (من الناحية العسكرية عاجزة عن الصمود كما أكد له أن غالبية أهلها يريدون نهاية سريعة).
يقول فيلبي (بعد أن يئسنا من الحسين حركنا جنود الإخوان بقيادة خالد بن لؤي وفيصل الدويش وسلطان بن بجاد لسفك دماء غزيرة في الطائف لتوقع الرعب في قلوب الحجازيين: البادية والحاضرة، ونوفر بها على بقية المدن الحجازية دماء أخرى إن أمكن الأمر، وإلا فإن دماء غزيرة لابد من إراقتها لأن الإنجليز قرروا إسقاط حكم الشريف حسين بأي ثمن بعد أن رفض الأمر والطلبات بإعطاء فلسطين لليهود المشردين المساكين، وبعد أن رفض الحسين ما عرضناه عليه بأن يكتفي بالحجاز وحده، وأن يغير وجهة نظره في توحيد البلاد العربية كلها تحت حكمه)[12]
ومنذ بداية 1926 أصبح فيلبي المستشار الخاص لزعماء الوهابية فبقي ملازما لهم ردحاً طويلا من الدهر، وقد أسهم إسهاماً كبيراً في تعميق الروابط بين الوهابية والصهاينة، حيث قدم حاييم وايزمان الزعيم اليهودي رشوته لقادة الوهابية عن طريق فيلبي؛ ليعينوهم على إقامة دولة صهيونية في فلسطين[13]، بل إن فيلبي هذا هو الذي رتَّب للقاء بين زعيم الوهابية وسمحا إيرلخ مندوب ديفيد بن غوريون سنة 1945 الذي مُنح يومها من الوهابية مبلغ عشرة آلاف جنيه إسترليني كمساعدة للصهيونية العالمية.[14]
النهاية:
بعد طرد الجنود الوهابية من البريمي، وتوتر العلاقات الوهابية البريطانية[15] مع بداية عصر التدخل الأمريكي، وفي مايو 1955 أذاع راديو جدّة قرار الملك سعود إخراج فيلبي من السعودية (مع منحه جميع أملاكه وأمواله، لأنه أخذ يتجه اتجاهات غير ملائمة)[16]، فخرج الرجل الذي كوَّن وحكم من وراء الستار أكبر مملكة في شبه الجزيرة بعد أكثر من ثلث قرن متجهاً إلى بيروت، ومن هناك بدأ يهدد بنشر الوثائق السرية لبيع الوهابية لفلسطين، وله كتب مطبوعة تخص المنطقة منها (أيام عربية) و (أربعون عاماً في جزيرة العرب) و(تاريخ نجد وتاريخ الشيخ محمد بن عبدالوهاب)[17].
بقي أن نذكر أن الشيخ فيلبي هو والد هارولد كيم فيلبي الذي كان دبلوماسياً بريطانياً رفيع المستوى، ومن كبار ضباط الاستخبارات البريطانية، ولكنه في نفس الوقت كان عميلاً مزدوجاً للمخابرات الروسية (كي. جي.بي)، ثمَّ هرب إلى روسيا عام 1936م بعد افتضاح أمره، وقد ذكر قصته (بيتر رايت) في كتابه الشهير (صائد الجواسيس)، وهكذا كان الأب جون فيلبي متهماً بازدواجية العمالة للمخابرات الأمريكية (سي.آي.إيه.)، مع عمله في المخابرات البريطانية.
هذا بإيجاز أما الكثير من أفعاله وأقواله فستجد خبرها في مقالاتنا المختلفة بهذا الكتاب.[18]
تعليق