قال ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة في ترجمة عبد الوهاب بن الحكم : وقال زكريا بن الفرج : سألت عبد الوهاب غير مرة عن أبي ثور ؟ فأخبرني أنّ أبا ثور جهمي ، وذلك أنه قطع بقول أبي يعقوب الشعراني . حكى أنه سأل أبا ثور عن خلق آدم (ع) على صورته ؟ فقال : إنما هو على صورة آدم ، ليس على صورة الرحمن .
قال زكريا : فقلت بعد ذلك لعبد الوهاب : ما تقول في أبي ثور ؟ فقال : ما أدين فيه إلا بقول أحمد بن حنبل ، يُهجر أبو ثور ومن قال بقوله .
قال زكريا : وقلت لعبد الوهاب مرة أخرى وقد تكلم قـوم في هـذه المسألة : خلق الله آدم على صورته ؟ فقال : من لم يقل إنّ الله خلق آدم على صورة الرحمن فهو جهمي . (2)
(1) الشريعة للآجري ص 315 ط. دار الكتب العلمية .
(2) طبقات الحنابلة ج1 ص 212 رقم 281 .

الإنصاف في مسائل الخلاف ج1 .................................................. .............. 395

بعد أنْ نقل كلام أحمد بن حنبل المتقدم رداً على من يقول بأنّ الضمير في حديث : خلق الله آدم على صورته يعود على آدم (ع) : قال أبو إسحاق بن شاقلا بعد ذلك : فإنْ كان رفعه صحيحاً إلى النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم فقد سقط العذر ، وإنْ كان ابن عمر القائل فقد إندحض بقول ابن عمر تأويل من حمل قوله على صورته .
إلى أنْ قال : قوله : > خلق آدم على صورته < لا يتأول لآدم على صورة آدم لما قاله أحمد : وأي صورة كانت لآدم قبل خلقه ؟ فقد فسد تأويلك من هذا الوجه ، وفسد أيضاً بقول ابن عمر عـن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم : إنّ الله خلق آدم على صورة الرحمن تبارك وتعالى … الخ (1)
وهو محمد بن محمد بن أبي بكر القرشي المقري التلمساني ، نقل عنه حفيده أحمد بن محمد المقري التلمساني أنه قال : أعطي يوسف شطر الحسن ، يعني حسن آدم ، لأنه إنْ لم يكن في الإمكان أبدع مما كان فقد خلقه بيده في أحسن تقويم ، ثم نفخ فيه من روحه لتتم علة الأمر بسجود التحية والتكريم ، فكان كما قال من أنزل عليه الفرقان : خلق الله آدم على صورة الرحمن … الخ . (2)
(1) طبقات الحنابلة ج2 ص 132 .
(2) نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب ج5 ص 320 .

396 .................................................. ....................... التشبيه والتجسيم

كتب الشيخ عبد الرحمن التويجـري كتاباً سمـاه : عقيـدة أهـل الإيمان في خلـق آدم على صـورة الرحمن ، وقد قرضـه شيخ الوهـابية عبـد العـزيز بن باز . (1)
وبعد أنْ تبين كلام ابن قتيبة ومن تبعه من علماء الحنابلة كأبي يعلى الفراء وابن البنا الحنبلي بأنّ صورة الباري عز وجل تشبه صورة الإنسان ، رأيت الكلمات الكثيرة المتكررة ومنها كلام إمام الحنابلة بشأنّ أنْ صورة آدم هي نفس صورة الرحمن تبارك وتعالى عما يقولون علواً كبيراً ، ورغم إصرار أحمد بن حنبل وأئمة الحنابلة وبعض من تبعهم على ذلك فإنّ عدة من علماء السنة لم يستطيعوا قبول ذلك منهم ابن خزيمة في كتاب التوحيد
(1) البشارة والإتحاف للسقاف ص 34 ، وراجع أيضاً هامش كتاب المختار في أصول السنة ص145 ، وقد أرجع محقق الكتاب من أراد التفصيل إليه .

الإنصاف في مسائل الخلاف ج1 .................................................. .............. 397

وحكم بضعف الحديث ، والحديث روي بلفظ : > خلق الله آدم على صورته < ، وهذا الحديث ليس مشكلاً من حيث المضمون ، إذْ لا بد مـن أنْ يعـود الضمـير على آدم ، فيكـون المعنى أنّ الله عـز وجل خلق آدم (ع) على شكله الذي هو عليه ، والغرض منه المنع عن الازدراء والاستهانة بأشكال البشر ، لأنّ الله عز وجل هو الذي خلقها بتلك الكيفيات ، فمقتضى تقديسه و تجليله تبارك وتعالى أنْ لا يستهان بما خلق ، بل ورد الحديث المتقدم في كثير من ألفاظه بلفظ > أنّ رسول الله (ص) مر برجلين يتسابان ، فسمع أحدهما يقول لصاحبه : قبح الله وجهك ووجه من يشبهك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا عبـد الله لا تقـل لأخيـك هـذا فإنّ الله عز وجل خلق آدم على صورته < . (1)
وعلى المعنى الذي تقدم فسر عدة من علماء الشيعة والسنة الحديث المتقدم . (2) ، ولكن كبار أئمة الحنابلة وعلى رأسهم احمد بن حنبل إلى أنْ جاء ابن تيمية وتلميذه
(1) التوحيد للشيخ الصدوق قدس سره ص 153 .
(2) راجع مثلاً : تنزيه الأنبياء (ع) للسيد المرتضى قدس سره ص 167 ط. دار الأضواء / بيروت سنة 1409هـ- 1989م ، دفع شُبه التشبيه لابن الجوزي ص 144 ، أساس التقديس للفخر الرازي ص 110 ، البشارة والإتحاف للسقاف ص 34 .

398 .................................................. ....................... التشبيه والتجسيم

ابن قيم الجوزية أصروا على أنّ الضمير يعود إلى الباري عز وجل ، بل حكم أحمد بن حنبل بانحراف من لم يقل بأنّ الله عز وجل لم يخلق آدم (ع) على صورة الرحمن تبارك وتعالى ، ولكن مع ذلك يدافعون عن أنفسهم بلا كيفية ولا تشبيه ، فإذا لم يكن هذا تشبيها فلا معنى للتشبيه .
وبالجملة فقد اختلفوا في حديث > خلق الله آدم على صورته < على ثلاثة أقوال :
الأول : أنّ الضمير يعود لآدم (ع) ، وهو الذي عليه غالبية علماء المسلمين .
الثاني : أنّ الضمـير يعـود للبـاري عز وجل ، ولكن بتأويل أنّ الله عز وجل خلق آدم (ع) بصورته ، أي التي صورها ، فنسب الصورة بنفسه لا بمعنى أنّ صورة آدم تشبه صورته ، والعياذ بالله عز وجل من هذا القول ، بل بمعنى أنه تلك الصورة هي من صنعه عز وجل ، وبهذا يراد تعظيم مكانة الإنسان وأنّ الذي صنعه بهذا الشكل هو الباري عز وجل ، ونتيجته كنتيجة القول الأول .
الثالث : أنّ الضمير يعود للباري عز وجل مع عدم جواز التأويل ، ولذا صرح ابن قتيبة وابن البنا الحنبلي بإثبات الصورة للرب ، التي رووا أنّ الباري عز وجل ذكر بأنّ بني إسرائيل

الإنصاف في مسائل الخلاف ج1 .................................................. .............. 399

خلقوا عليها ، وصرح عدد كبير منهم بعدم جواز تأويل هذه الصفات بأي نحو من الأنحاء ، بل لا بد من التسليم بها كما جاءت بلا تأويل ، وهو قول عدد كبير من الحنابلة وهو ما أوقعهم في القول بالتجسيم والتشبيه ، مضافاً إلى أنهم بعدما قبلوا الروايات الصريحة في التجسيم والتشبيه ، فكان قبول هذا القول عندهم سهل يسير يكفر بعضهم من خالفهم فيه .
ويمكن القول أنّ أقوالهم السابقة واللاحقة تدل على أنهم يريدون بما تقدم التشبيه والتجسيم ، فقد قبلوا بأنّ الباري عز وجل يرى في صورة شاب أمرد ، وأنّ له أعضاء ، وأنّ له صوتاً كالرعد أو كجر السلسة إلى غير ذلك ، مضافاً لما صرح به عدة من أئمتهم من رفض التأويل ، ولـزوم حمل اللفظ بلا تأويل .
ومما تقدم يظهر أنّ الباري عز وجل في نظر عدة من علماء الحنابلة هو الإنسان الكامل المنزه عن الآفات وأنه فقط ليس لديه لا اللحية ولا العورة ، ولكنـه عنـدهم مـع ذلك في صـورة شاب أمـرد ولـه شعر أجعـد ، نعوذ بالله تعالى من هذه الأقوال التي تفوح منها رائحة الضلال والتآمر على الإسلام .