منشورات أبي النور السرّية ؛ المنشور الأول
السا دة رواد هذا الموقع الكرام ؛
اليكم بعض المقالات التي وقعت في حوزتي منذ ما يزيد عن عشرة سنوات منسوخة باليد وغفلة من ذكر أي اسم أو توقيع ((للتهرب من الجمرك و رقابة المطبوعات .. ربما )) . وقد وصلت الى يدي بطريقة خيالية , لا مجال لذكرها الآن , و بالتالي ليس من المبالغة أن أطلق عليها اسم المنشورات السرية , و اليكم المنشور الأول
لغة الموتى
مشكلة اللغة أن كلماتها لا تنقسم الى صحيح و خطأ فقط, كما يقول النحاة , بل تنقسم أيضا الى كلمة حية , و كلمة ميتة , و هو انقسام حقيقي , و شامل , و فعّال جدا , لكن علم النحو , لا يستطيع أن يكشفه , لأنه لا يظهر في بناء اللغة , بل يكمن وراء سلوك الناس .
علامة الكلمة الميتة , أنها مطوعة - تاريخيا - لخدمة أغراض السحرة . فقد بدأت مسيرة اللغة المكتوبة , بتعاظم الحاجة الى تبرير نظرية الحكم الفردي , في اقطاعيات الشرق القديم. و تطوع الكهنة لأداء هذه المهمة المستحيلة , قبل أن يعرفوا أنها مستحيلة حقا . فخلال وقت قصير , كان من الواضح , أن مبدأ الحكم الفردي , فكرة غير طبيعية , لا يمكن تبريرها الاّ بمنهج الأسطورة , و كان الكهنة - الذين صار اسمهم (علماء) -مشغولين بتوفير هذه الأسطورة تحريريا , على ألواح من الطين المجفف.
أول لوح , صدر في سومر , عند مطلع الألف الثالثة قبل الميلاد , و حمل تقريرا سياسيا مؤدّاه أن ( الأله شمش الذي يعيش في العالم الآخر , قد نزل ليلا الى هذا العالم , و وهب مفاتيح الأقاليم الأربعة للملك جلجامش ). و من قاموس هذه القصة الليلية , ولدت لغة الأسطورة رسميا .
فكلمة (العالم الآخر) التي نحتها الكهنة من لغة الناس , لم تكن كلمة , بل كانت (( عالما آخر مجهولا بأكمله)) , له ثلاث صفات جديدة , مجهزة عمدا على مقاس السحرة :
الصفة الأولى ؛ أنه عالم غائب عن عيون الناس , لا يعرف أسراره أحد, سوى الكاهن الذي يتكهن بأسرار الغيب . و هي مغالطة شفوية بحتة , لكنها ضمنت للكهنة , أن يحتكروا تفسير الشرائع حتى الآن .
الصفة الثانية ؛ أنه عالم حيّ, لكن بوابته الوحيدة, تقع وراء الموت , مما يعني عمليا , أن مستقبل الناس الأحياء , يبدأ - فقط - بعد أن يموتوا .
الصفة الثالثة ؛ أنه عالم خارج عن سنن الطبيعة , تنطق فيه الأصنام , و ترتاده التنانين المجنحة , لكنه هو العالم الحقيقي , لأنه أزلي و خالد . و هي صياغة تريد أن تقول - فقط - أن عالم الناس الأحياء , ليس عالما حقيقيا .
خلال قرن واحد من عمر سومر , كان الكهنة قد ضمنوا لأنفسهم المقام الثاني في أول دولة أقطاعية عرفها التاريخ , و كان أهل سومر , قد خرجوا من الحياة الدنيا دون أن يدروا , وذهبوا للحياة , في عالم آخر , و جديد , و غائب , و خرافي , و غير معقول الى ما لا نهاية .
هذا العالم الآخر , لم يكتشفه الكهنة في السماء , بل ابتدعوه - شفويا - في لغة الناس على الأرض . انهم لم يخلقوا عالما غائبا , بل خلقوا لغة غائبة , مسخرة للحديث عن عالم أسطوري , لا يعرفه أحد من الأحياء على الأقل . و في ظل هذه الخدعة الشفوية , كان بوسع الكاهن , أن يقلب لغة الناس رأسا على عقب :
انه يذبح طفلا حيا , على قدمي صنم ميت . لكن الناس لا يسمونه ( رجلا مجنونا ) بل يسمونه ( حكيما عالما بأسرار الغيب ) , فهو لا يذبح الطفل حقا , بل يرسله الى الحياة الخالدة في عالم آخر . و ذبح الطفل ليس جريمة دنيئة , بل شعائر دينية في قاموس العالم الآخر. ان كل مايفعله الكاهن المميت , يمكن تبريره للناس الأحياء , بلغتهم الحية , ما دامت اللغة نفسها , لا تخاطب عالم الأحياء أصلا .
لهذا السبب ...
و ردا على هذه الخدعة الشفوية بالذات , ولدت لغة الدين . و قد تميز ميلادها , بظهور كتاب مقدس ( لم يكتبه الكهنة) , له لغة مقدسة ( غير لغة الكهنة ) , لا ينكر ألوهية الصنم فحسب , بل ينكر عالمه الغائب من أساسه . و في نصّ هذا الكتاب المقدس , تكلم الأله الحيّ و سكت الصنم الميت , و بات العالم قابلا للتفسير بلسان الأحياء فقط .
فكلمة ( عالم الغيب ) في لغة الأنسان الحيّ تعني - حرفيا - عالم المستقبل , لأن المستقبل, هو العالم الوحيد الغائب الذي يعرفه الناس الأحياء , و يتوقنون بوجوده , دون أن يروه , و يعلمون أنه آت , و يتحملون مسؤوليته شرعا . و قد التزم الدين بهذا التفسير الحي , و رفض كل تفسير سواه , و جعله شريعة الهية , و سماه ( مقدسا ) لكي يميزه عن تفسير السحرة , و نجح بذلك في استعادة اللغة الغائبة في السماء , الى واقع الناس على الأرض .ان العالم الذي قلبه الكهنة , يستعيد توازنه فجأة , في ثلاثة مواقع رئيسية :
في الموقع الأول ؛ لم يعد علم الغيب , غائبا عن عيون الناس , بل صار اسمه المستقبل , و صار بوسع الناس أن يعرفوا مستقبلهم سلفا , بقليل من المنطق و علم الحساب .
في الموقع الثاني ؛ لم يعد عالم الغيب خارجا عن سنن الطبيعة , بل صار طبيعيا , و صار قابلا للتفسير العلمي , حتى اذا نطقت فيه الأصنام , و أرتادته التنانين المجنحة . فمستقبل الأنسان عالم مدهش - مثل عالم السحرة الغائب - لكنه لا يحتاج الى لغة الأساطير .
هذا التفسير الديني لكلمة ( عالم الغيب ) , رفضه الكهنة في جميع العصور , بحجة أنه تفسير ألحادي , قائم على أنكار البعث بعد الموت . و هي تهمة مقلوبة مثل كل شيء في لغة السحرة , لأن الدين لا يؤكد فكرة البعث فحسب , بل يفسرها باللغة الوحيدة التي يفهمها الأحياء :
فالناس لا يرون الميت حيا في السماء , بل يرونه حيا في أعماله على الأرض . انهم لا يحتاجون الى دليل على صحة البعث؛ لأن واقعهم نفسه هو الدليل . و قد التزم الدين بما تراه عيون الناس , فأعلن أن البعث رهن بلأعمال وحدها , و أن (( من يعمل مثقال خير يره و من يعمل مثقال ذرة شر يره )) هنا في واقع الناس على الأرض , و في مستقبلهم معا . و هو تفسير لا يقول أن الأنسان يفنى بعد الموت , بل يقول أنه لا يستطيع أن يفنى - حتى اذا أراد - أنه يعيش مع أعماله في لوح محفوظ .
ان الدين لا ينكر حق الحي في الحياة الخالدة , لكنه لا يتحدث عن الموتى , و لا يكلم الناس الحاضرين , عن عالم غير حاضر , بل يخاطب الأحياء , بلغة الأحياء , و يقول انهم مسؤولون شرعا عن الحاضر و المستقبل , لأنهم مسؤولون حقا , و عمليا , و بالفعل , و بالمنطق , و بالعدل , وبالحساب .
في كالديا - جارة سومر - افتتح النبي ابراهيم مسيرة الدين , بدعوة معلنة الى تحطيم الأصنام , و تحريم القربان البشري . و بدأت بذلك معركة هائلة بين شريعتين , تتقاتلان بالسيوف في لغة واحدة .
شريعة تعني فيها كلمة (( الرب )) صنما ميتا , و شريعة تعني فيه الكلمة نفسها الها حيا . احداهما تقول ان عالم الغيب غائب عن عيون الناس , لا تراه سوى عين الكاهن . و الأخرى تقول ان عالم الغيب , اسمه المستقبل , و ان الناس يرون مستقبلهم جيدا , لأنه يولد في حاضرهم , و يكون من صنع أيديهم . ان الفرق الهائل بين هاتين الشريعتين , لا يظهر في بناء اللغة , بل يظهر في بناء المواطن .
فشريعة السحرة , تتكلم بلسان الصنم الغائب , و تخاطب مواطنا مغيبا عن حاضره, علامة غيابه , انه ينكر ما تراه عيناه , و ينكر ما يقوله عقله , حتى يسجد خاشعا في حضرة صنم .
و شريعة الدين , تتكلم بلسان الأله الحيّ , و تخاطب مواطنا حاضرا في عالم الآحياء , علامة حضوره , انه مسؤول شخصيا عن واقعه و مستقبله , لأنه لا يعول على ما يقوله الساحر .
بين هذين المواطنين ثمة فجوة واسعة , بقدر الفجوة بين رجل حيّ و جثة رجل . وهي فجوة منظورة , و ظاهرة للعيان في وضح النهار , تعيش مثل الناس الأحياء أنفسهم , و تتنفس في مجتمعهم , و قوانينهم , و نظم حكمهم , كما تحل الروح في الجسد . و في ضوء هذا المقياس العلني , يكون التمييز سهلا - و علنيا - بين ما يدعى باسم الصحوة الدينية و بين صحوة الدين نفسه .
أن الدعوة التي ترتفع حاليا , تحت شعار (( الصحوة الأسلامية )) , دعوة لا تتكلم لغة الأسلام , لأنها لا تنادي بمسؤولية الأحياء عن حاضرهم و مستقبلهم , بل تنادي بمسؤولية الأئمة و المشايخ و رجال الدين . و هي علامة معروفة في لغة الصنم يستحيل تمريرها بوسائل الفصاحة , لأنها تنطق علنا في سلوك الناس .
ففي ظل هذه الصحوة الأسلامية , يولد الآن مجتمع أسلامي مغيّب , علامة غيابه أنه ينكر ما تراه عيناه , و ينكر ما يقوله عقله , و يفعل ذلك علنا , و رسميا , و باسم الأسلام نفسه , لأنه يملك اسلاما شفويا قادرا على تبرير الخطيئة بالكلام .
في هذا المجتمع الغائب , يحكم الصنم - و عائلته - باسم الشرع , و يقاد المسلمون بالعصي و الكلاب المدربة , كما تقاد الخرفان . لكن الشريعة الشفوية , لا تسمي القطيع قطيعا , بل تسميه (( رعية )) في استعراض واضح لما تستطيع اللغة أن تفعله على يد رجل بليغ .
في هذا المجتمع الغائب , تقضي المرأة المسلمة عقوبة السجن المؤبد , في زنزانة متنقلة , اسمها (( الحجاب)) . و تداهمها أمراض السجناء علنا , من العمى المبكر , الى التخلف العقلي , لكن الشريعة الشفوية , لا تسميها (( امرأة سجينة )) بل تسميها (( سيدة مصون )) , بحذف التاء من رأس النون , زيادة في طلب الفصاحة .
في هذا المجتمع الغائب , يولد الطفل البريء , تحت اسم ( عفريت) . و يتولى معلمه حبسه في القمقم , بضربه و ركله , و قرصه , و لعنه , لكن الشريعة الشفوية , لا تسمي التعذيب تعذيبا , بل تسميه (( تهذيبا)) لأن الجناس و الطباق أفضل من الصدق .
في هذا المجتمع الغائب , يعادي رجال الدين الوقورون جسد الأنسان , و يسمون وجه المرأة (( عورة )) , و هي اهانة لا يستحقها وجه الذئب نفسه , لكن الشريعة الشفوية لا تفرق بين الجوه .
في هذا المجتمع الغائب , يزدهر السحر في ثياب الحكمة , و يتولى الوعّاظ الأميون ارشاد الناس في شؤون الدنيا و الأخرة معا , من دون معرفة أو تأهيل . لكن الشريعة الشفوية , لا تسمي الواعظ الأمي ساحرا , بل تسميه (( رجل الله العارف بالأسرار الخفية )), في فتوى لا بد منها لتغطية رأس الجهل بطاقية الأخفاء .
في هذا المجتمع الغائب ,تسود قيم اخلاقية اسمها (( حميدة )), و كل الناس يحمدون ربهم , تحت ادارة تقر حكم الفرد , و تقر منطق القوة , و تعترف بشرعية القتل , و تكذب علنا في جميع وسائل اعلامها الرسمية , و في مناخ أجتماعي من هذا النوع , تكون القيم الحميدة فعلا - و المفيدة فعلا - هي الكذب و الغش و الخداع والنفاق و القسوة والأغواء , و القدرة على التعايش مع الظلم الى ما لا نهاية , لكن الشريعة الشفوية , لا ترى حجم الفرق بين مواطن يشرب من النهر , و مواطن يركض وراء السراب
ان هذه (( الصحوة الأسلامية )) التي تريد أن يستيقظ الأسلام , و ينام المسلمون , دعوة ينقصها صوت الأله الحيَ, و ليس بوسعها أن تعوض هذا النقص , بالفصاحة أو بالشطارة , و ادعاء الغيرة على الدين , و ليس بوسعها أن تجنّب المسلمين الخلود في النار , الاّ اذا اكتشفت الفجوة القائمة بين لغة الأسلام و بين لغة الكهنة , و عادت من عالمها الغائب في أقوال الأئمة و المشايخ , و ضمنت مسؤولية المواطن الحيّ عن الحاضر و المستقبل , في نظام اداري قادر على توفير الضمان .
من دون هذه الشروط , ينقطع الجسر القائم بين المسلمين و بين الأسلام , و يدير كلاهما ظهره للآخر في السرّ و العلن , على غرار ما يحدث الآن , باسم (( الصحوة الأسلامية )) فالدين لا يخاطب المواطن الحيّ , الاّ اذا خاطب واقعه المعاش , و تكلم بلسانه , و أعاد اليه صوته في شؤون الأدارة و الحكم . و هو شرط لا يوفي به اسلام يقوم على سلطة الموتى , بل اسلام يقوم على سلطة الأحياء .
مع خالص المودة و الأحترام .
تعليق