الأديان و ألوان قوس قزح
لا يوجد إنسانٌ عديم الفهم. فالمسألة مسألة نضوج داخلي، نضوج في الوعي. وهذا النضوج، لكي يحصل، لا بدَّ من خبرة وتجربة أو تجارب. ولكي تحصل هذه الخبرة أو التجربة، ندخل في حقل الزمن. عامل الزمن هو معيار النموِّ الداخلي، هو مقياس النضوج. والنضوج أو النمو أو التطور هو بلوغ الحقيقة. وبلوغ الحقيقة يقتضي المعرفة. والمعرفة هي الجانب الدينامي من الحقيقة.
الكون نور!
الكلام هو الثرثرة الناشئة عن صخب المادة وضجيجها. لذا فهو مَثار نزاع وشقاق بين البشر. أما الحديث فهو لغة القلب، هو المناجاة بين الكائنات، هو لغة الصمت. في الصمت يستطيع الإنسانُ أن يعبِّر عن أفكاره ونواياه ومشاعره ومحبته أكثر بكثير من الكلام.
فليتعلم المرءُ ممارسة الصمت والسلوك والتخلِّي عن الكلام. فالأخير هو مسرح الغشِّ والخداع والكذب ومظهر من مظاهر عدوانية الأنا.
عندما يتحدث الإنسان، يجب أن يمسك قلبه بيديه ويعصره للآخرين – وإلا فالأفضل له ألا يفتح شفتيه!
على صخرة الصمت يقوم الهيكلُ الحقيقي للإله.
الصمت بلسمٌ يشفي النفس.
سيدي،
لقد خبأتُ دموعي
في جِرار من الصمت،
وها أنا ذا أراها
في وجوه الآخرين.
الإيمان هو الجسر الذي يربط الروح بمصدرها – الله.
بقدر ما تؤمن النفس، تتصل بالروح، فتعود إلى مصدرها.
الطاقة–الليبيدو هي الحرارة الداخلية التي يبعثها حضورُ الأنثى الدافئ. وهذه الحرارة هي مبدأ الحياة الداخلية، منطلَق النشاطات التصعيدية والاجتماعية، حتى تبلغ بها أحيانًا مستوى الإبداع. هذه الحرارة هي التي توقظ الأحلام والوجدان، توقظ الجسد من حالة الركود إلى دينامية الخلق، تدفعه إلى ممارسة هذه الوظيفة الكونية على مستوى كوكب الأرض.
الخلاص يكمن في إدراك البُعد السرَّاني في حياتنا – ذلك الحضور القدسي الذي نسمِّيه المسيح. فبقدر ما نغوص في هذا البُعد، نشعر بهذا الحضور حيًّا، فتغمرنا رحمتُه، ونغتسل بنعمته، وننفتح على العقل الكلِّي الذي هو المسيح في الكون، ونعاين بذلك أن باب ملكوته لم يوصَد لحظةً البتة، أنه ما برح مفتوحًا أبدًا.
ينشأ الإيمانُ من وجود حقيقة محتجبة في الشيء. وجود هذه الحقيقة يخلق الإيمان. عندما نؤمن بشيء ما، فنحن في الواقع نؤمن بالحقيقة الكامنة في هذا الشيء. والحقيقة الكامنة هي حقيقة الشيء في النهاية.
لا وجود للإيمان من دون حقيقة. ووجود الحقيقة يشير إلى المعرفة. فالإيمان والحقيقة والمعرفة مرتبط بعضُها ببعض.
الإيمان كشفٌ عن الحقيقة المختبئة في الشيء، أو في الرمز، أو خلف الحرف. فالانكشاف أو الرؤيا هما حركة الإيمان في ذات الحقيقة.
الإيمان هو تلقائية الروح نحو حقيقتها، توق الحقيقة إلى ذاتها.
الحب وحده يحوِّل الإنسان من الداخل. وفي المحبة يكمن الخلاص. حسب الإنسان أن يحب في إخلاص أحدًا ما في حياته ليكون هذا الحب شفيعَه في اليوم الأخير. أن يحب الإنسانُ شخصًا ما في حياته حبًّا صادقًا يكفي لكي ينوِّر هذا الحب حياته.
على الإنسان أن يتيقَّن من أن شعلة الحب تكمن في داخله، وأن في وسعه أن يصطلي بها في صقيع عالم خالٍ من الحب. إن معضلة العالم تكمن في غربته عن الحب: الإنسان يعيش حياته غريبًا عن الحب، يجتاز مرحلةً بعد مرحلة، ويقضي عملاً في إثر عمل، ويلبس أقنعةً مختلفة، ويحسب نفسه حيًّا. وهو مادام بعيدًا عن الحب فهو هامشي. أن تكون على الهامش متفرجًا يعني أنك بعيد عن الحب، لأن الحب يُقحِمُك في معمعة الحياة متحررًا من الخوف، قابلاً للتضحية في سبيل مَن تحب، خائضًا في صروف الحياة – مرِّها وحلوها – من أجل الحب.
الحب صرخةٌ أزلية تحرِّر الإنسان من قيوده، تجعله قويًّا، قادرًا على مواجهة مصاعب الحياة والتحدي الذي تحمله معها. الحب وحده يضع حدًّا لشقاء الإنسان ويُدخِله أرضًا غير منظورة، فيها تكمن السعادةُ والإيمانُ والأمل.
شعلة الحب في الداخل لا يستطيع الإنسان الاقترابَ منها وحده دون الآخرين. إذا ما اقترب وحده، فالأنانية تحجبه عنها. أما إذا أحبَّ أحدًا فإنه يقترب منها، لأنها اليقين الذي في داخله بأنه يحب فعلاً.
حياتنا الأرضية هي فرصة لكي نحب، لكي نتعلم الحب ونتدرب عليه.
لكي يتخلص الإنسان من أنانيته عليه أن يتعلم، بادئ ذي بدء، أن يحبَّ أهله الذين يحيطون به لأنهم قاعدة الانطلاق إلى حبِّ الإنسانية جمعاء.
الحب هو الطريق والحق والحياة.
الحب هو ذلك النور الذي يضحك لنا في نهاية نفق مظلم.
الحب يضفي معنى على حياة لا معنى لها، يغدق عليها مسحةً قدسيةً مليئةً بالشغف الروحي.
عندما نُقبِل نحو الحب يتفجر في داخلنا ينبوعُ سلام وحياة عميقين.
تقول أسطورة پروميثيوس إن پروميثيوس لا يستطيع أن ينال الخلود الإلهي ما لم يوافق أحدٌ على مبادلته مصيره. فكان أن اتفق مع القنطور خيرون – وهو كائن أسطوري نصفُه الأسفل حصان ونصفُه الأعلى إنسان، رماه هرقل بسهم مسموم، وكان في حالة يأس من أن يبرأ من جرحه أبدًا – لوضع حدٍّ لعذابه. التمس خيرون من كبير الآلهة السماحَ له بالنزول إلى الجحيم بدلاً من پروميثيوس، فوافق زِفْس على طلبه. ومنذ ذلك الحين اتخذ پروميثيوس مكانه الدائم على الأولمپ.
الرغبة – إيروس – أشبه بالتنين الذي يحمي الكنز المنطوي في الدافع. والطاقة–الليبيدو، إنْ لم يبتلعها التنين–الرغبة، تتفتح عن القوة الروحية الكامنة فيها، وتفصح عن صوفية الدافع الجنسي المتمثلة في الاتحاد مع الكون. لذا يجب الاحتراس من الإغواء الذي يمارسه التنين–الرغبة عندما يزهر الدافعُ في الداخل.
ربة الجمال أفروديتي وحورياتها تقفن عند أحد جانبَي الطاقة، والعذراء وملائكتها عند الجانب الآخر؛ وكلا الفريقين وجهان لطاقة أصلية واحدة. العذراء وملائكتها تمثل أسمى درجات تفتُّح الطاقة الداخلية عن الحقيقة الكامنة فيها. فالحقيقة تكمن في دوافعنا: عندما نمتثل للجانب الحتمي للدوافع، تغيب عنا معرفتُها؛ أما عندما نفطن إلى الجانب الآخر منها، فإننا ندرك الحرية: "تعرفون الحق والحق يحرركم"، يقول المعلِّم.
التوبة، التقشف، العفة، الخبرة الروحية، إنْ هي إلا درجات ترتقي من خلالها الطاقةُ على سلَّم معرفة حقيقتنا العميقة.
الماضي أشبه بدائرة أفقية تدور، وندور معها. أشياء الماضي تظل تعود وتعود لتُبقينا في إسارها. أما عندما نبدأ في التحرر من الماضي فإن الدائرة الأفقية ترتفع لتتحول إلى لولب. وهكذا يتم صعودُنا اللولبي نحو الإنسان الحي.
الشعور أشبه بنهر يتدفق. عندما نتعلق به فإنه يلتف على نفسه كدوامة تعيق تدفُّقه. كذا فإن التعلق بالشعور يشكِّل بؤرةً يخنق فيها الشعورُ نفسَه. لذا يجب أن نتخلَّى عن المقاومة والتعلق وافتعال الشعور قسرًا لأن طبيعتنا أصلاً في تدفق دائم. نحن نولد من جديد في كلِّ لحظة. فحريٌّ بنا أن ننساق مع التيار الجَوَّاني لحظة بلحظة، وألا يُعمِل الفكرُ مسباره فيه. إنه الحياة نفسها فينا. والحياة تحب الحرية وتسعى إليها: فهي لا تطيق أن تؤسَر في قفص أو في مصطلح أو في قيد.
الذِّكر أشبه بإدخال خيط في سُمِّ الخياط.
هناك، في الأعلى، تنتصب قامةُ الأرض لتصبح سقف العالم، قمة القمم. وفي أعلى هذه القمة تكمن حفنة ثلج يحتضنها صمتٌ عظيم تتدفق منه ينابيع الفرح جداول وأنهارًا تملأ العالم.
هناك الثلج والصمت، حيث النقاء يشع ضياءً والصمت يتدفق فرحًا.
الكون يروي لنا قصة الله العصيَّة على الفهم.
الحب يتسامى بالفرد نحو المستويات العليا من وجوده، ويصعِّد دوافعَه ليجعلها تتكامل مع الروح. الحب يؤتي روحَ الفهم. ومن هذه الأخيرة تنبعث شرارةُ الإيمان.
طاقة الحب هي الناظم لسائر الطاقات الأخرى. هي الفاعل في الداخل؛ لا بل هي الجسر الذي يربط الداخل بالخارج. هي العمق في الأعماق، وهي الطاقة التي تحوِّل التراب إلى ذهب وتجعل الكون مزهرًا بالروحانية. هي الفرح العميق بالحرية.
الحب يحرِّر، ويشفي، ويقدِّس. هو الإشراق العميق الذي يبدِّل النفس.
المحبة تعني حبَّ كلِّ شيء. في المحبة اتحاد الضحية بالقاتل: المحبة هي القاتل وهي المقتول، إذ هي ما وراء ثنائية الأضداد. بها ندرك الحرية الأولى... والأخيرة.
المحبة تعني أن نحب كلَّ شيء، أن نتحرر من الكره نهائيًّا، وأن نتطهَّر من البغض والغيرة والحسد والنرجسية وحب الظهور.
المحبة هي المفتاح لولوج سرِّ الله. بها تنطفئ الجحيم وتشتعل الجنة.
افتح نوافذ قلبك واستقبل شعاع الإيمان الذي يبثه الكل – الإيمان في كلِّ شيء... أجل، جدِّد إيمانك ليبعثك بعثًا جديدًا. الإيمان ينقلك من الظلمة إلى النور، ومن الموت إلى الحياة. الإيمان يجدد الرجاء، يخبز الطمأنينة في قلبك، ويحرِّر طاقاتِك من كبوتها؛ يرسل شعاعَه من عينيك، فيفيض قلبُك غبطة.
الإيمان هو التواحد مع الحقيقة، هو الانتباه والتيقظ لحضور الله الدائم.
عندما نعبر عتبة الدين إلى اللادين، إذ نخرج من قوقعة الدين التقليدي، فإننا نلاقي أول ما نلاقي الصمت الحقيقي الذي يتآخى فيه كلُّ دين ويتوافق مع الأديان الأخرى في تأليف دين كوني، حيث الأديان المختلفة أنهارٌ تصب في خضمِّه العظيم.
الصمت الحقيقي هو اللانهائي. فيه نفهم المقدس والطاهر وينبوع كلِّ طهارة. في الصمت نكف عن الفعل، ويدركنا السلام العميق. فالصمت هو معبد الدين الكوني الذي لا نستطيع أن ندخله من خلال الدين والفعل، بل من خلال اللادين واللافعل – فوحدهما يجيزان لنا دخوله. طقوس هذا الدين هي التركيز والتأمل والاستغراق.
الصمت، كالهواء، لا يُمسَك باليد، وهو لا يُدرَك؛ يظل ما وراء المدرَك والملموس. وكونه غير مُدرَك وغير ملموس لا ينفي عنه الوجود. لكن وجوده منزَّه عن الصفات، وهو الذي يصلِّي فينا. إننا عبثًا نصلِّي بألسنتنا، برغبتنا وإرادتنا. إنه اليقظة فينا والانتباه، وهو الذي يعلِّمنا الصلاة. وإذ نصلِّي، فهو الذي يصلِّي فينا.
الحب أقوى من الزمان والمكان؛ ولذلك فهو كلِّي الحضور، أزلي–أبدي. هو الملكوت الداخلي في أعماق الإنسان. لا حرية خارج الحب.
الصمت الحقيقي هو أن تذوب الأنا في لجَّة الكون اللامتناهي، فلا يبقى منها أثرٌ في النفس الإنسانية. وأن تذوب الأنا فهذا يعني أن يكون الكائنُ الإنساني كلِّي الحضور والانتباه والوعي، ذاهلاً عن نفسه التي تتلاشى في كلِّية الكون الفسيح.
الصمت الحقيقي هو مصدر الوجود: "به نوجد ونحيا ونتحرك". نتوق إليه في أعماقنا لأننا منه نتنفس الوجود.
الحقيقة الإلهية تكمن في القلب. وعندما تستيقظ نحيا في حضورها، في جوِّها، إذ تكون كلاًّ في الكل. نراها إذ ذاك تتجلَّى في تنوُّع الإنسان الواحد في جميع الناس، وندرك أن الأشياء كلَّها تنطق عنها. وفي النهاية، الحقيقة الإلهية هي ما نحن عليه، أي مَن نحن – ماهيَّتنا الحق. فالحقيقة الإلهية هي نحن، ونحن هي. فيها تكمن حريتنا القصوى. أن نعي حضورها فينا وفي الآخرين، في الطبيعة وفي الكون – ذلكم هو الإيمان. وعندما تكفُّ الأنا عن الفعل، فإننا نصبح إناءً ينضح بهذه الحقيقة التي تفعل فينا، فتكون إرادتُها إرادتَنا، وقوَّتُها قوتَنا، وصلاتُها صلاتَنا.
الحب اتصال بالكل – فإذا الكل واحد.
الصمت عالم مترع بالرحيق الإلهي الذي يداوي أوجاعَنا، وفيه تكمن صورةُ الله الخفية. هذه الصورة هي حضور الصمت في أعماق الزهرة، في أعماق كلِّ شيء. والحياة تضرب بجذورها السرِّية في تربة هذا الصمت.
الصليب هو البذرة، والحب هو الثمرة.
الصليب الحقيقي هو محكُّ التطور الداخلي الصاعد نحو الحقيقة العليا.
الصمت معلِّم سرِّي يقبع في الأعماق السحيقة للكون، ما برح يردِّد صلاةً مقدسة لا تمسُّها شفاهُ الأنا عندما نتخلَّى عن الفعل والرغبة والمقاومة.
الصمت معلِّم سرِّي يقبع خلف عالم الأشكال والظاهرات. يأتينا في الهدوء والسكينة ليعلِّمنا الوحدة البدئية للخليقة كلِّها – وحدة الأديان، وحدة الأعراق، وحدة الأقطاب والثنائيات: الرجل والمرأة، الصحة والمرض، الخير والشر، النور والظلمة، السكوت والضوضاء، الحرب والسلم.
الصمت معلِّم سرِّي يمسك بيديه مفاتيح الأبواب لدخول الملكوت الداخلي، حيث السلام والوفاق مع الكائنات.
في الصمت ينمو برعم الروح من تلقاء ذاته دون قسر خارجي ودون رغبة.
في الصمت تكمن بذرة الوعي الكوني.
كلانا يبحث عن الآخر: متى أضعتُك أضعتَني، ومتى وجدتَني وجدتُك.
هيا، افتح الباب، اقتحم فراغ حياتي، واملأه بحضورك المجيد.
الصليب هو الطريق إلى السماء: فيه تتحقق المصالحةُ مع الطبيعة والكائنات والله.
الشعور يحيي الأشياء ويُرَوْحِنُها.
الشعور هو اللغة التي نستطيع من خلالها أن نتواصل مع الطبيعة والكائنات والله.
الشعور ألقٌ في النفس، وحدةٌ عميقة مع الأشياء، وصلاةٌ سامية نرفعها لأبي الأكوان.
الشعور شجرةٌ تضرب جذورُها في اللحظة الحاضرة، وتتسامى أغصانُها حتى الأبدية.
الشعور أن تفتح قلبك وتستقبل الكلَّ فيه.
الشعور أن تسبر أغوار كلِّ شيء وتتحد معه.
وحده الشعور يستطيع أن يسبر الآلام البشرية ويتحد معها. ولذلك فهو موقف صدق مع الذات، مع الآخر، ومع الله.
لا يوجد إنسانٌ عديم الفهم. فالمسألة مسألة نضوج داخلي، نضوج في الوعي. وهذا النضوج، لكي يحصل، لا بدَّ من خبرة وتجربة أو تجارب. ولكي تحصل هذه الخبرة أو التجربة، ندخل في حقل الزمن. عامل الزمن هو معيار النموِّ الداخلي، هو مقياس النضوج. والنضوج أو النمو أو التطور هو بلوغ الحقيقة. وبلوغ الحقيقة يقتضي المعرفة. والمعرفة هي الجانب الدينامي من الحقيقة.
الكون نور!
الكلام هو الثرثرة الناشئة عن صخب المادة وضجيجها. لذا فهو مَثار نزاع وشقاق بين البشر. أما الحديث فهو لغة القلب، هو المناجاة بين الكائنات، هو لغة الصمت. في الصمت يستطيع الإنسانُ أن يعبِّر عن أفكاره ونواياه ومشاعره ومحبته أكثر بكثير من الكلام.
فليتعلم المرءُ ممارسة الصمت والسلوك والتخلِّي عن الكلام. فالأخير هو مسرح الغشِّ والخداع والكذب ومظهر من مظاهر عدوانية الأنا.
عندما يتحدث الإنسان، يجب أن يمسك قلبه بيديه ويعصره للآخرين – وإلا فالأفضل له ألا يفتح شفتيه!
على صخرة الصمت يقوم الهيكلُ الحقيقي للإله.
الصمت بلسمٌ يشفي النفس.
سيدي،
لقد خبأتُ دموعي
في جِرار من الصمت،
وها أنا ذا أراها
في وجوه الآخرين.
الإيمان هو الجسر الذي يربط الروح بمصدرها – الله.
بقدر ما تؤمن النفس، تتصل بالروح، فتعود إلى مصدرها.
الطاقة–الليبيدو هي الحرارة الداخلية التي يبعثها حضورُ الأنثى الدافئ. وهذه الحرارة هي مبدأ الحياة الداخلية، منطلَق النشاطات التصعيدية والاجتماعية، حتى تبلغ بها أحيانًا مستوى الإبداع. هذه الحرارة هي التي توقظ الأحلام والوجدان، توقظ الجسد من حالة الركود إلى دينامية الخلق، تدفعه إلى ممارسة هذه الوظيفة الكونية على مستوى كوكب الأرض.
الخلاص يكمن في إدراك البُعد السرَّاني في حياتنا – ذلك الحضور القدسي الذي نسمِّيه المسيح. فبقدر ما نغوص في هذا البُعد، نشعر بهذا الحضور حيًّا، فتغمرنا رحمتُه، ونغتسل بنعمته، وننفتح على العقل الكلِّي الذي هو المسيح في الكون، ونعاين بذلك أن باب ملكوته لم يوصَد لحظةً البتة، أنه ما برح مفتوحًا أبدًا.
ينشأ الإيمانُ من وجود حقيقة محتجبة في الشيء. وجود هذه الحقيقة يخلق الإيمان. عندما نؤمن بشيء ما، فنحن في الواقع نؤمن بالحقيقة الكامنة في هذا الشيء. والحقيقة الكامنة هي حقيقة الشيء في النهاية.
لا وجود للإيمان من دون حقيقة. ووجود الحقيقة يشير إلى المعرفة. فالإيمان والحقيقة والمعرفة مرتبط بعضُها ببعض.
الإيمان كشفٌ عن الحقيقة المختبئة في الشيء، أو في الرمز، أو خلف الحرف. فالانكشاف أو الرؤيا هما حركة الإيمان في ذات الحقيقة.
الإيمان هو تلقائية الروح نحو حقيقتها، توق الحقيقة إلى ذاتها.
الحب وحده يحوِّل الإنسان من الداخل. وفي المحبة يكمن الخلاص. حسب الإنسان أن يحب في إخلاص أحدًا ما في حياته ليكون هذا الحب شفيعَه في اليوم الأخير. أن يحب الإنسانُ شخصًا ما في حياته حبًّا صادقًا يكفي لكي ينوِّر هذا الحب حياته.
على الإنسان أن يتيقَّن من أن شعلة الحب تكمن في داخله، وأن في وسعه أن يصطلي بها في صقيع عالم خالٍ من الحب. إن معضلة العالم تكمن في غربته عن الحب: الإنسان يعيش حياته غريبًا عن الحب، يجتاز مرحلةً بعد مرحلة، ويقضي عملاً في إثر عمل، ويلبس أقنعةً مختلفة، ويحسب نفسه حيًّا. وهو مادام بعيدًا عن الحب فهو هامشي. أن تكون على الهامش متفرجًا يعني أنك بعيد عن الحب، لأن الحب يُقحِمُك في معمعة الحياة متحررًا من الخوف، قابلاً للتضحية في سبيل مَن تحب، خائضًا في صروف الحياة – مرِّها وحلوها – من أجل الحب.
الحب صرخةٌ أزلية تحرِّر الإنسان من قيوده، تجعله قويًّا، قادرًا على مواجهة مصاعب الحياة والتحدي الذي تحمله معها. الحب وحده يضع حدًّا لشقاء الإنسان ويُدخِله أرضًا غير منظورة، فيها تكمن السعادةُ والإيمانُ والأمل.
شعلة الحب في الداخل لا يستطيع الإنسان الاقترابَ منها وحده دون الآخرين. إذا ما اقترب وحده، فالأنانية تحجبه عنها. أما إذا أحبَّ أحدًا فإنه يقترب منها، لأنها اليقين الذي في داخله بأنه يحب فعلاً.
حياتنا الأرضية هي فرصة لكي نحب، لكي نتعلم الحب ونتدرب عليه.
لكي يتخلص الإنسان من أنانيته عليه أن يتعلم، بادئ ذي بدء، أن يحبَّ أهله الذين يحيطون به لأنهم قاعدة الانطلاق إلى حبِّ الإنسانية جمعاء.
الحب هو الطريق والحق والحياة.
الحب هو ذلك النور الذي يضحك لنا في نهاية نفق مظلم.
الحب يضفي معنى على حياة لا معنى لها، يغدق عليها مسحةً قدسيةً مليئةً بالشغف الروحي.
عندما نُقبِل نحو الحب يتفجر في داخلنا ينبوعُ سلام وحياة عميقين.
تقول أسطورة پروميثيوس إن پروميثيوس لا يستطيع أن ينال الخلود الإلهي ما لم يوافق أحدٌ على مبادلته مصيره. فكان أن اتفق مع القنطور خيرون – وهو كائن أسطوري نصفُه الأسفل حصان ونصفُه الأعلى إنسان، رماه هرقل بسهم مسموم، وكان في حالة يأس من أن يبرأ من جرحه أبدًا – لوضع حدٍّ لعذابه. التمس خيرون من كبير الآلهة السماحَ له بالنزول إلى الجحيم بدلاً من پروميثيوس، فوافق زِفْس على طلبه. ومنذ ذلك الحين اتخذ پروميثيوس مكانه الدائم على الأولمپ.
الرغبة – إيروس – أشبه بالتنين الذي يحمي الكنز المنطوي في الدافع. والطاقة–الليبيدو، إنْ لم يبتلعها التنين–الرغبة، تتفتح عن القوة الروحية الكامنة فيها، وتفصح عن صوفية الدافع الجنسي المتمثلة في الاتحاد مع الكون. لذا يجب الاحتراس من الإغواء الذي يمارسه التنين–الرغبة عندما يزهر الدافعُ في الداخل.
ربة الجمال أفروديتي وحورياتها تقفن عند أحد جانبَي الطاقة، والعذراء وملائكتها عند الجانب الآخر؛ وكلا الفريقين وجهان لطاقة أصلية واحدة. العذراء وملائكتها تمثل أسمى درجات تفتُّح الطاقة الداخلية عن الحقيقة الكامنة فيها. فالحقيقة تكمن في دوافعنا: عندما نمتثل للجانب الحتمي للدوافع، تغيب عنا معرفتُها؛ أما عندما نفطن إلى الجانب الآخر منها، فإننا ندرك الحرية: "تعرفون الحق والحق يحرركم"، يقول المعلِّم.
التوبة، التقشف، العفة، الخبرة الروحية، إنْ هي إلا درجات ترتقي من خلالها الطاقةُ على سلَّم معرفة حقيقتنا العميقة.
الماضي أشبه بدائرة أفقية تدور، وندور معها. أشياء الماضي تظل تعود وتعود لتُبقينا في إسارها. أما عندما نبدأ في التحرر من الماضي فإن الدائرة الأفقية ترتفع لتتحول إلى لولب. وهكذا يتم صعودُنا اللولبي نحو الإنسان الحي.
الشعور أشبه بنهر يتدفق. عندما نتعلق به فإنه يلتف على نفسه كدوامة تعيق تدفُّقه. كذا فإن التعلق بالشعور يشكِّل بؤرةً يخنق فيها الشعورُ نفسَه. لذا يجب أن نتخلَّى عن المقاومة والتعلق وافتعال الشعور قسرًا لأن طبيعتنا أصلاً في تدفق دائم. نحن نولد من جديد في كلِّ لحظة. فحريٌّ بنا أن ننساق مع التيار الجَوَّاني لحظة بلحظة، وألا يُعمِل الفكرُ مسباره فيه. إنه الحياة نفسها فينا. والحياة تحب الحرية وتسعى إليها: فهي لا تطيق أن تؤسَر في قفص أو في مصطلح أو في قيد.
الذِّكر أشبه بإدخال خيط في سُمِّ الخياط.
هناك، في الأعلى، تنتصب قامةُ الأرض لتصبح سقف العالم، قمة القمم. وفي أعلى هذه القمة تكمن حفنة ثلج يحتضنها صمتٌ عظيم تتدفق منه ينابيع الفرح جداول وأنهارًا تملأ العالم.
هناك الثلج والصمت، حيث النقاء يشع ضياءً والصمت يتدفق فرحًا.
الكون يروي لنا قصة الله العصيَّة على الفهم.
الحب يتسامى بالفرد نحو المستويات العليا من وجوده، ويصعِّد دوافعَه ليجعلها تتكامل مع الروح. الحب يؤتي روحَ الفهم. ومن هذه الأخيرة تنبعث شرارةُ الإيمان.
طاقة الحب هي الناظم لسائر الطاقات الأخرى. هي الفاعل في الداخل؛ لا بل هي الجسر الذي يربط الداخل بالخارج. هي العمق في الأعماق، وهي الطاقة التي تحوِّل التراب إلى ذهب وتجعل الكون مزهرًا بالروحانية. هي الفرح العميق بالحرية.
الحب يحرِّر، ويشفي، ويقدِّس. هو الإشراق العميق الذي يبدِّل النفس.
المحبة تعني حبَّ كلِّ شيء. في المحبة اتحاد الضحية بالقاتل: المحبة هي القاتل وهي المقتول، إذ هي ما وراء ثنائية الأضداد. بها ندرك الحرية الأولى... والأخيرة.
المحبة تعني أن نحب كلَّ شيء، أن نتحرر من الكره نهائيًّا، وأن نتطهَّر من البغض والغيرة والحسد والنرجسية وحب الظهور.
المحبة هي المفتاح لولوج سرِّ الله. بها تنطفئ الجحيم وتشتعل الجنة.
افتح نوافذ قلبك واستقبل شعاع الإيمان الذي يبثه الكل – الإيمان في كلِّ شيء... أجل، جدِّد إيمانك ليبعثك بعثًا جديدًا. الإيمان ينقلك من الظلمة إلى النور، ومن الموت إلى الحياة. الإيمان يجدد الرجاء، يخبز الطمأنينة في قلبك، ويحرِّر طاقاتِك من كبوتها؛ يرسل شعاعَه من عينيك، فيفيض قلبُك غبطة.
الإيمان هو التواحد مع الحقيقة، هو الانتباه والتيقظ لحضور الله الدائم.
عندما نعبر عتبة الدين إلى اللادين، إذ نخرج من قوقعة الدين التقليدي، فإننا نلاقي أول ما نلاقي الصمت الحقيقي الذي يتآخى فيه كلُّ دين ويتوافق مع الأديان الأخرى في تأليف دين كوني، حيث الأديان المختلفة أنهارٌ تصب في خضمِّه العظيم.
الصمت الحقيقي هو اللانهائي. فيه نفهم المقدس والطاهر وينبوع كلِّ طهارة. في الصمت نكف عن الفعل، ويدركنا السلام العميق. فالصمت هو معبد الدين الكوني الذي لا نستطيع أن ندخله من خلال الدين والفعل، بل من خلال اللادين واللافعل – فوحدهما يجيزان لنا دخوله. طقوس هذا الدين هي التركيز والتأمل والاستغراق.
الصمت، كالهواء، لا يُمسَك باليد، وهو لا يُدرَك؛ يظل ما وراء المدرَك والملموس. وكونه غير مُدرَك وغير ملموس لا ينفي عنه الوجود. لكن وجوده منزَّه عن الصفات، وهو الذي يصلِّي فينا. إننا عبثًا نصلِّي بألسنتنا، برغبتنا وإرادتنا. إنه اليقظة فينا والانتباه، وهو الذي يعلِّمنا الصلاة. وإذ نصلِّي، فهو الذي يصلِّي فينا.
الحب أقوى من الزمان والمكان؛ ولذلك فهو كلِّي الحضور، أزلي–أبدي. هو الملكوت الداخلي في أعماق الإنسان. لا حرية خارج الحب.
الصمت الحقيقي هو أن تذوب الأنا في لجَّة الكون اللامتناهي، فلا يبقى منها أثرٌ في النفس الإنسانية. وأن تذوب الأنا فهذا يعني أن يكون الكائنُ الإنساني كلِّي الحضور والانتباه والوعي، ذاهلاً عن نفسه التي تتلاشى في كلِّية الكون الفسيح.
الصمت الحقيقي هو مصدر الوجود: "به نوجد ونحيا ونتحرك". نتوق إليه في أعماقنا لأننا منه نتنفس الوجود.
الحقيقة الإلهية تكمن في القلب. وعندما تستيقظ نحيا في حضورها، في جوِّها، إذ تكون كلاًّ في الكل. نراها إذ ذاك تتجلَّى في تنوُّع الإنسان الواحد في جميع الناس، وندرك أن الأشياء كلَّها تنطق عنها. وفي النهاية، الحقيقة الإلهية هي ما نحن عليه، أي مَن نحن – ماهيَّتنا الحق. فالحقيقة الإلهية هي نحن، ونحن هي. فيها تكمن حريتنا القصوى. أن نعي حضورها فينا وفي الآخرين، في الطبيعة وفي الكون – ذلكم هو الإيمان. وعندما تكفُّ الأنا عن الفعل، فإننا نصبح إناءً ينضح بهذه الحقيقة التي تفعل فينا، فتكون إرادتُها إرادتَنا، وقوَّتُها قوتَنا، وصلاتُها صلاتَنا.
الحب اتصال بالكل – فإذا الكل واحد.
الصمت عالم مترع بالرحيق الإلهي الذي يداوي أوجاعَنا، وفيه تكمن صورةُ الله الخفية. هذه الصورة هي حضور الصمت في أعماق الزهرة، في أعماق كلِّ شيء. والحياة تضرب بجذورها السرِّية في تربة هذا الصمت.
الصليب هو البذرة، والحب هو الثمرة.
الصليب الحقيقي هو محكُّ التطور الداخلي الصاعد نحو الحقيقة العليا.
الصمت معلِّم سرِّي يقبع في الأعماق السحيقة للكون، ما برح يردِّد صلاةً مقدسة لا تمسُّها شفاهُ الأنا عندما نتخلَّى عن الفعل والرغبة والمقاومة.
الصمت معلِّم سرِّي يقبع خلف عالم الأشكال والظاهرات. يأتينا في الهدوء والسكينة ليعلِّمنا الوحدة البدئية للخليقة كلِّها – وحدة الأديان، وحدة الأعراق، وحدة الأقطاب والثنائيات: الرجل والمرأة، الصحة والمرض، الخير والشر، النور والظلمة، السكوت والضوضاء، الحرب والسلم.
الصمت معلِّم سرِّي يمسك بيديه مفاتيح الأبواب لدخول الملكوت الداخلي، حيث السلام والوفاق مع الكائنات.
في الصمت ينمو برعم الروح من تلقاء ذاته دون قسر خارجي ودون رغبة.
في الصمت تكمن بذرة الوعي الكوني.
كلانا يبحث عن الآخر: متى أضعتُك أضعتَني، ومتى وجدتَني وجدتُك.
هيا، افتح الباب، اقتحم فراغ حياتي، واملأه بحضورك المجيد.
الصليب هو الطريق إلى السماء: فيه تتحقق المصالحةُ مع الطبيعة والكائنات والله.
الشعور يحيي الأشياء ويُرَوْحِنُها.
الشعور هو اللغة التي نستطيع من خلالها أن نتواصل مع الطبيعة والكائنات والله.
الشعور ألقٌ في النفس، وحدةٌ عميقة مع الأشياء، وصلاةٌ سامية نرفعها لأبي الأكوان.
الشعور شجرةٌ تضرب جذورُها في اللحظة الحاضرة، وتتسامى أغصانُها حتى الأبدية.
الشعور أن تفتح قلبك وتستقبل الكلَّ فيه.
الشعور أن تسبر أغوار كلِّ شيء وتتحد معه.
وحده الشعور يستطيع أن يسبر الآلام البشرية ويتحد معها. ولذلك فهو موقف صدق مع الذات، مع الآخر، ومع الله.
تعليق