عمر بن الخطاب يقول الحق ! !
ولعمر بن الخطاب مواقف غلب فيها على أهواء النفس وهمزات الشيطان ، وأزال فيها عن الحق ما علق به من غبار ، ولكن بعد انكسار الزجاجة وانسكاب ما كان فيها ! قال عمر ابن الخطاب في أيام خلافته لابن عباس :
يا ابن عباس ، أتدري ما منع قومكم منكم ؟
فقال ابن عباس : فكرهت أن أجيبه
فقلت : إن لم أكم أدري ، فإن أمير المؤمنين يدري .
فقال عمر : كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتبجحوا على قومكم بجحا بجحا ، فاختارت قريش لأنفسها ، فأصابت ووفقت !
قال ابن عباس : يا أمير المؤمنين ، إن تأذن لي في الكلام ، وتمط عني الغضب تكلمت . قال عمر: تكلم .
قال ابن عباس : فقلت : أما قولك يا أمير المؤمنين : اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت . . فلو أن قريشا اختارت لأنفسها من حين اختار الله لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود . وأما قولك إنهم أبوا أن تكون النبوة والخلافة . . فإن الله عز وجل وصف قوما بالكراهة ، فقال : ( ذلك كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم )
فقال عمر: هيهات يا ابن عباس ! قد كانت تبلغني عنك أشياء أكره أن أقرك عليها فتزيل منزلتك مني .
قال ابن عباس : فقلت : ما هي يا أمير المؤمنين ؟ فإن كانت حقا فما ينبغي أن تزيل منزلتك مني ، وأن كانت باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه .
فقال عمر : بلغني أنك تقول : إنما حرفوها عنا ، حسدا وبغيا وظلما .
فقال ابن عباس : أما قولك حسدا ، فإن آدم حسد ونحن ولده المحسودون .
فقال عمر : هيهات هيهات ! أبت والله قلوبكم يا بني هاشم إلا حسدا لا يزول .
قال ابن عباس : فقلت : مهلا يا أمير المؤمنين ! لا تصف بهذا قلوب قوم أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا " ( 1 ) .
ولعمر بن الخطاب مواقف غلب فيها على أهواء النفس وهمزات الشيطان ، وأزال فيها عن الحق ما علق به من غبار ، ولكن بعد انكسار الزجاجة وانسكاب ما كان فيها ! قال عمر ابن الخطاب في أيام خلافته لابن عباس :
يا ابن عباس ، أتدري ما منع قومكم منكم ؟
فقال ابن عباس : فكرهت أن أجيبه
فقلت : إن لم أكم أدري ، فإن أمير المؤمنين يدري .
فقال عمر : كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتبجحوا على قومكم بجحا بجحا ، فاختارت قريش لأنفسها ، فأصابت ووفقت !
قال ابن عباس : يا أمير المؤمنين ، إن تأذن لي في الكلام ، وتمط عني الغضب تكلمت . قال عمر: تكلم .
قال ابن عباس : فقلت : أما قولك يا أمير المؤمنين : اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت . . فلو أن قريشا اختارت لأنفسها من حين اختار الله لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود . وأما قولك إنهم أبوا أن تكون النبوة والخلافة . . فإن الله عز وجل وصف قوما بالكراهة ، فقال : ( ذلك كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم )
فقال عمر: هيهات يا ابن عباس ! قد كانت تبلغني عنك أشياء أكره أن أقرك عليها فتزيل منزلتك مني .
قال ابن عباس : فقلت : ما هي يا أمير المؤمنين ؟ فإن كانت حقا فما ينبغي أن تزيل منزلتك مني ، وأن كانت باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه .
فقال عمر : بلغني أنك تقول : إنما حرفوها عنا ، حسدا وبغيا وظلما .
فقال ابن عباس : أما قولك حسدا ، فإن آدم حسد ونحن ولده المحسودون .
فقال عمر : هيهات هيهات ! أبت والله قلوبكم يا بني هاشم إلا حسدا لا يزول .
قال ابن عباس : فقلت : مهلا يا أمير المؤمنين ! لا تصف بهذا قلوب قوم أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا " ( 1 ) .
1 - الكامل في التاريخ : 3 : 24 - حوادث سنة 23 ، سيرة عمر ، السقيفة لأبي بكر الجوهري : ص 52 ونقله ابن أبي الحديد شرح النهج 2 : 57 . ( * )
إن قول عمر : " كرهوا يجمعوا لكم النبوة والخلافة . . فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت " يفرض علينا طرح سؤال لا بد منه ، إذ أن في قوله هذا نوعا من الابهام وتمويها للحقيقة . .
فسؤالنا : من هم قوم أهل البيت الذين كرهوا أن يجمعوا النبوة والخلافة لهم ؟
ومن هي قريش تلك التي اختارت لأنفسها فأصابت ووفقت ؟ !
إن المطالع لحوادث السقيفة يعلم أن أولئك القوم هم المهاجرون من قريش ، كما يعلم أيضا أن الذين كانوا في مقابلة الأنصار يوم السقيفة من المهاجرين لم يكونوا سوى أبي بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف ، فهؤلاء الثلاثة هم الذين كانوا من المهاجرين المتصدين لدفع الأنصار عن مقام الخلافة .
وفي حوارهم مع الأنصار:
لم يقدم أبو بكر عليا معرفا إياه للأنصارعلى أنه صاحب الحق في خلافة ، بل قدم لهم عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف ليختار الأنصار منهما واحدا .
إذا ، فهو بتقديمه هؤلاء الاثنين يصرف الخلافة عن علي وأهل البيت النبوي ، كما هو واضح . ولما رفض عمر ذلك لم يقل لأبي بكر : قدم عليا فهو أحق ، بل قال لأبي بكر : مد يدك يا أبا بكر أبا يعك ، فمد يده وبايعه عمر . إذا ، فلو كان قوم أهل البيت في قول عمر : " أتدري ما منع قومكم منكم . . ؟ ! " هم الذين كرهوا اجتماع النبوة والخلافة لأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله ، فهؤلاء القوم هم المهاجرون بلا ريب .
ولما لم يكن من المهاجرين في السقيفة غير أبي بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف .
فهم القوم الذين كرهوا ذلك . بل عندما جاء عمر إلى بيت النبي صلى الله عليه وآله والمسلمون قد تجمعوا هناك وعلي مشغول في غسل جسد النبي صلى الله عليه وآله الطاهر - أخبر عمر أبا بكر باجتماع الأنصار في السقيفة خفية ، ولم يطلع عليا بذلك .
وبهذا يتضح أن الذين كرهوا اجتماع النبوة والخلافة لأهل البيت وأن قريشا التي اختارت لأنفسها . . ليسوا سوى أبي بكر وعمر، فهما اللذان كرها واختارا ، وهما اللذان استصغرا عليا عليه السلام على الخلافة.
فقد قال عمر لابن عباس : " يا ابن عباس ، ما أرى صاحبك ( يعني عليا ) إلا مظلوما " ، غير أنه قال هذه المرة : يا ابن عباس ، ما أظن منعهم عنه إلا أنه استصغره قومه !
قال ابن عباس : فقلت : والله ما استصغره الله ورسوله حين أمراه أن يأخذ " براءة " من صاحبك " ( 1 ) ، يعني بذلك أبا بكر .
1 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 : 105 . ( * )
وقد وضح لك من هم القوم الذين استصغروا عليا .
بيد أن الصغر أو الكبر في العمر ليسا دليلا على القدرة أو عدمها في القيام بأعباء المسؤوليات . والأمثلة كثيرة لتأييد ذلك ، فقد ولى النبي صلى الله عليه وآله أسامة بن زيد قيادة الجيش في حرب الروم وله من العمر - على أكثر التقديرات - عشرون عاما ، وكان أبو بكر وعمر وطلحة والزبير وغيرهم من المهاجرين والأنصار جنودا في ذلك الجيش يعلمون بأمر أسامة .
فهل كان النبي صلى الله عليه وآله يولي الصغار والأطفال على كبار السن ، ويسند إليهم قيادة الجيوش لعبا ولهوا ؟ ! بل قال النبي صلى الله عليه وآله عن أسامة عندما طعن الناس فيه : " إنه لخليق للإمارة " . . فكيف صار خليقا بها وهو صغير السن ؟ ! وكيف صار علي صغيرا على الخلافة غير خليق ؟ ! فصغر العمر أو كبره ليس معيارا للعظمة أو القدرة على القيام بالمسؤولية أبدا .
إن الإمام علي عليه السلام لما أعلن مؤازرته للنبي صلى الله عليه وآله في " يوم الدار " لم يقل له النبي صلى الله عليه وآله : إجلس يا علي ، فإنك صغير على أمر الخلافة ! بل أخذه من رقبته ، وقال لكبار قريش ، وفيهم حمزة والعباس وأبو لهب وأبو طالب : إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا .
فالقول بأن الإمام عليا صغير على الخلافة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله هو :
أولا : خلاف لما كان يراه النبي صلى الله عليه وآله الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، فإذا أعلن الوحي خلافة علي في سن العاشرة ، فما بالك به وهو في سن الثلاثين ؟ !
ثانيا : أن القول بصغر الإمام على الخلافة فيه ظلم شنيع للإمام ، فهو على أقل تقدير لا يقل من حيث العقل والحنكة والتدبير عن أسامة بن زيد شيئا ، فظلم أن يوصف بذلك وهو الذي له من هذا العقل وهذه الحنكة والتدبير ما له .
ولهذا قال عمر لابن عباس : ما أري صاحبك إلا مظلوما ! إذ لو كان حقا صغيرا لما وقع الظلم هذا ، ولكن . . كان القوم يعلمون في قرارة نفوسهم بعلو مكانه ورفعة مقامه وقدرته على القيام بأعباء الخلافة .
وقال عمر مرة لابن عباس : كيف خلفت ابن عمك ؟
قال ابن عباس : فظننته يعني عبد الله بن جعفر . . . فقلت : خلفته مع أترابه .
فقال عمر: لم أعن ذلك ، إنما عنيت عظيمكم أهل البيت .
قال ابن عباس : قلت : خلفته يمتح بالغرب ( 1 )
وهو يقرأ القرآن .
قال عمر : يا عبد الله ، عليك دماء البدن إن كتمتنيها . . هل بقي نفسه شئ من أمر الخلافة ؟
قال ابن عباس : قلت : نعم .
قال عمر : أيزعم أن رسول الله صلى الله عليه وآله نص عليه ؟
1 - الغرب : الدلو العظيمة . والمتح : جذب حبل الدلو ، تمد بيد وتأخذ بيد على رأس البئر . والماتح : الذي يملأ الدلو من أسفل البئر .
قال ابن عباس : قلت : نعم وأزيدك ، سألت أبي عما يدعي - أي النص على الخلافة - فقال : صدق . فقال عمر :" كان من رسول الله في أمره ذرو من قول لا يثبت حجة ، ولا يقطع عذرا ، ولقد كان يربع في أمره وقتا ، ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعته من ذلك " ( 1 ) .
1 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 : 97 . ( * )
نعم ، وذلك عندما كان النبي صلى الله عليه وآله مريضا والحجرة غاصة بالناس من حوله ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله : " قربوا أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده " . فقال عمر : " إن الرجل قد غلب عليه الوجع ، إن الرجل ليهجر ! حسبنا كتاب الله ، عندنا القرآن " . وردد الناس ما قال عمر ! فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله غاضبا : قوموا ! . . ولم يكتب الكتاب الذي كان سيصرح فيه باسم علي عليه السلام ، إذ أن عمر منعه من ذلك بما قاله من قول نسج الناس عليه ، كما عرفت ! على أن النبي صلى الله عليه وآله لم يترك التصريح لفظا باسم علي عليه السلام ، كما مر عليك ، إذ قال صلى الله عليه وآله : " ألا إني مخلف فيكم كتاب الله عز وجل وعترتي " . . ثم أخذ بيد علي وقال : " هذا علي مع القرآن ، والقرآن مع علي ، لا يفترقان حتى يردا علي الحوض " .
فكان من النبي صلى الله عليه وآله والوحي استخلاف علي والتصريح باسمه ، وكان من قريش المنع والاعتراض وكراهة اجتماع النبوة والخلافة في أهل البيت !
غير أن القوم لم يكتفوا بصرف الخلافة عن علي وعترة النبي صلى الله عليه وآله ، بل أخذوا عليا عنوة لبيعة أبي بكر ، فجئ به يساق - كما قال معاوية - كالجمل المخشوش ، وهو يقول : " أنا عبد الله وأخو رسول الله " ! فقيل له : بايع ! قال علي : أنا أحق بهذا الأمر منكم .
لا أبايع ، وأنتم أولي بالبيعة لي . أخذتم هذا الأمر من الأنصار ، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وتأخذونه منا أهل البيت غصبا . ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم ، لما كان محمد منكم ، فأعطوكم المقادة وسلموا إليكم الإمارة ؟ فإذا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم على الأنصار ، نحن أولى برسول الله حيا وميتا ، فانصفونا إن كنتم تؤمنون ، وإلا فبوؤوا بالظلم وأنتم تعلمون .
فقال له عمر : إنك لست متروكا حتى تبايع !
فقال له علي : احلب حلبا لك شطره ، وشد له اليوم يردده عليك غدا .
ثم قال : والله يا عمر، لا أقبل قولك ولا أبايعه فقال أبو بكر : إن لم تبايع ، فلا أكرهك .
ثم قال عليه السلام : الله الله يا معشر المهاجرين ! لا تخرجوا سلطان محمد في العرب من داره وقعر بيته، إلى دوركم وقعور بيوتكم ، وتدفعون أهله عن مقامه في الناس وحقه ، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أحق الناس به لأنا أهل البيت . ونحن أحق بهذا الأمر منكم ، ما كان فينا القارئ لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ، العالم بسنن رسول الله ، المتطلع لأمر الرعية ، الدافع عنهم الأمور السيئة ، القاسم لهم بالسوية ، والله إنه لفينا ، فلا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل الله فتزدادوا عن الحق بعدا . فقال له بشير بن سعيد الأنصاري : لو كان هذا كلام سمعته منك الأنصار قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلف عليك ! " ( 1 ) .
وهكذا ظل الإمام رافضا مهادنة أبي بكر ستة أشهر حتى رأى مصلحة الإسلام في الصبر والجلوس في بيته ، ومهادنة القوم ، كما يوضح ذلك هو بنفسه عليه السلام : يقول الإمام علي عليه السلام : " وأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام ، يدعون إلى محق دين محمد صلى الله عليه وآله ، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلما وهدما تكون المصيبة له علي أعظم من فوت ولايتكم التي هي متاع أيام قلائل ، يزول منها ما كان كما يزول السراب ، وكما ينقشع السحاب " .
1 - السقيفة لأبي بكر الجواهري ص 60 - 61 . ( * )
وقال عليه السلام : " ولقد تقمصها ( أي لبسها قميصا ، يعني الخلافة ) ابن أبي قحافة ، وهو يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى : ينحدر عني السيل ، ولا يرقى إلي الطير ، فسدلت عنها ثوبا وطويت عنها كشحا ، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه . . فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجى ، أرى تراثي نهبا . . . " ( 1 ) .
( 1 ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 : 25 - الخطبة رقم 3 ( الشقشقية ) . ( * )
ومعنى هذا كله أن حادثة الظلم الذي أقر بوقوعه الفاروق في حق الإمام علي هي حقيقة تاريخية لا تخلو منها مدونات التاريخ ، واعترف بها شهود العيان اعترافهم بالمسلمات .
ومنها ما ضمنه معاوية بن أبي سفيان رده على خطاب محمد بن أبي بكر الصديق مشيرا إلى ذلك الظلم بشكل أوضح ، يكشف ثقل الظلم الذي وقع على أمير المؤمنين ، بحيث اعترف به عمر بن الخطاب ، لأن وقوعه ليس من قبيل ما ينكر أو يخفى .
كتب محمد بن أبي بكر رضي الله عنه خطابا إلى معاوية ، يردعه على تطاوله على أمير المؤمنين علي عليه السلام ، ويبين فيه شأن الإمام ورفعة مقامه . . يقول فيه : " من محمد بن أبي بكر ، إلى الغاوي معاوية بن صخر . سلام على أهل طاعة الله ، ممن هو سلم لأهل ولاية الله . أما بعد : فإن الله بجلاله وعظمته وسلطانه وقدرته ، خلق خلقه بلا عبث منه ولا ضعف في قوته ، ولا حاجة به إلى خلقهم ، لكنه خلقهم عبيدا وجعل منهم غويا ورشيدا ، وشقيا وسعيدا . ثم اختار ، على علم ،فاصطفى وانتخب منهم محمدا ( ص ) ، فاختصه برسالته ، واختاره لوحيه ، وائتمنه على أمره ، وبعثه رسولا ومبشرا ونذيرا ، مصدقا لما بين يديه من الكتب ، ودليلا على الشرائع ، فدعا إلى سبيل أمره بالحكمة والموعظة الحسنة ، فكان أول من أجاب وأناب وآمن وصدق وسلم : أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) . صدقه بالغيب المكتوم ، وآثره على كل حميم ، ووقاه بنفسه من كل هول ، وواساه بنفسه في كل خوف ، و حارب حربه وسالم سلمه ، فلم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات الأزل ومقامات الروع ، حتى برز سابقا لا نظير له في جهاده ، ولامقارب له في فعله . وقد رأيت تساويه ، وأنت أنت ، وهو السابق المبرز في كل خير ، أول الناس إسلاما ، وأصدق الناس نية ، وأفضل الناس ذريه ، وخير الناس زوجة ، وأفضل الناس ابن عم . أخوه الشاري لنفسه يوم مؤتة ، وعمه سيد الشهداء يوم أحد ، وأبوه الذاب عن رسول الله ( ص ) وعن حوزته . وأنت اللعين ابن اللعين ، لم تزل أنت وأبوك تبغيان لدين الله الغوائل ، وتجهدان في إطفاء نور الله ، تجمعان على ذلك الجموع ، وتبذلان فيه المال ، وتؤلبان عليه القبائل . على هذا مات أبوك ، وعلى ذلك خلفته ، والشاهد عليك بذلك من تدنى ويلجأ إليك من بقية الأحزاب ورؤساء النفاق والشقاق لرسول الله( ص ) . والشاهد لعلي - مع فضله المبين وسابقته القديمة - أنصاره الذين معه ، الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن ، فضلهم وأثنى عليهم من المهاجرين والأنصار ، فهم معه كتائب وعصائب ، يجالدون حوله بأسيافهم ، ويهرقون دماءهم دونه ، يرون الحق في اتباعه والشقاء في خلافه . فكيف ، يا لك الويل ، تعدل نفسك بعلي ، وهو وارث رسول الله ( ص ) ووصيه وأبو ولده ، وأول الناس له اتباعا وأقربهم به عهدا ، يخبره بسره ويطلعه على أمره ، وأنت عدوه وابن عدوه ؟ ! فتمتع في دنياك ما استطعت بباطلك ، وليمددك ابن العاص في غوايتك ، فكان أجلك قد انقضى ، وكيدك قد وهى ، وسوف يتبين لك لمن تكون العاقبة العليا . واعلم أنك إنما تكايد ربك الذي قد أمنت كيده ، وأيست من روحه ، وهو لك بالمرصاد ، وأنت منه في غرور . والسلام على من اتبع الهدى " . ( 1 )
1 - مروج الذهب للمسعودي 2 : 59 : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 : 283 : جمهرة رسائل العرب 1 : 457 . ( * )
فهذا كان خطاب محمد بن أبي بكر إلى معاوية ، وقد وضحت لك عباراته وانكشفت معانيها . ووضح لك فضل أمير المؤمنين من حيث إنه أول الناس إيمانا برسول الله ، ومن حيث إنه فاق غيره جهادا وارتباطا برسول الله ، وهو الوارث له . كما وضح لك قدر معاوية وشأنه . . فماذا قال معاوية في رده على محمد بن أبي بكر ؟ !
يقول ابن هند : من معاوية بن صخر إلى الزاري على أبيه محمد بن أبي بكر . سلام على أهل طاعة الله . أما بعد : فقد أتاني كتابك تذكر فيه ما الله أهله في عظمته وقدرته وسلطانه ، وما أصدق به رسول الله ( ص ) مع كلام كثير ألفته ووضعته لرأيك في تضعيف ، ولأبيك فيه تعنيف . ذكرت فيه فضائل ابن أبي طالب وقديم سوابقه وقرابته مع رسول الله ( ص ) ونصرته له ومواساته إياه في كل هول وخوف ، فكان احتجاجك علي وفخرك بفضل غيرك لا بفضلك ، فاحمد ربا صرف هذا الفضل عنك وجعله لغيرك . فقد كنا وأبوك معنا في حياة نبينا نعرف حق ابن أبي طالب لازما لنا وفضله مبرزا علينا ، فلما اختار الله لنبيه ( عليه الصلاة والسلام ) ما عنده وأتم له ما وعده ، وأظهر دعوته ، وأفلج حجته ، وقبضه الله إليه ( صلوات الله عليه ) ، كان أبوك وفاروقه أول من ابتزه حقه وخالفه على أمره، على ذلك اتفقا واتسقا. ثم دعواه إلى بيعتهما فأبطأ عنهما وتلكأ عليهما ، فهما به الهموم وأرادا به العظيم . ثم إنه بايعهما وسلم لهما ، وأقاما لا يشركانه في أمرهما ، ولا يطلعانه على سرهما ، حتى قبضهما الله ، وانقضى أمرهما . ثم قام ثالثهما عثمان فهدى بهما وسار بسيرتهما فعبته أنت وصاحبك حتى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي ، فطلبتما له الغوائل حتى بلغتما فيه منا كما. فخذ حذرك يا ابن أبي بكر ، فسترى وبال أمرك ، وقس شبرك بفترك تقصر عن أن توازي أو تساوي من يزن الجبال حمله ، ولا تلين على قسر قناته ، ولا يدرك ذو مدى أناته . أبوك مهد له مهاده ، وبنى ملكه وشاده ، فإن يك ما نحن فيه صوابا فأبوك أوله ، وإن يك جورا فأبوك استبد به ، ونحن شركاؤه ، فبهديه أخذنا وبفعله اقتدينا .
لو لا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب ، ولسلمنا إليه ، لكنا رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا ، فأخذنا بمثاله واقتدينا بفعاله ، فعب أباك بما بدا لك أو دع . والسلام على من أناب ورجع من غوايته وتاب . ( 1 )
1 - نفس المصدر السابق . ( * )
وها هو خطاب معاوية في رده على خطاب محمد بن أبي بكر ، فتدبر في قوله : " فقد كنا وأبوك معنا في حياة نبينا نعرف حق ابن أبي طالب لازما لنا وفضله مبرزا علينا " .
فما هو حق علي بن أبي طالب الذي كان لازما لمعاوية وأبي بكر وبقية الصحابة في حياة النبي صلى الله عليه وآله ؟ !
ثم أين ذلك الحق بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله ؟ !
وأما قوله : " كان أبوك وفاروقه أول ابتزه حقه وخالفه على أمره " ففيه بيان الأساس الذي قامت عليه خلافة الصديق وعمر من بعده ، والشاهد على هذا الأساس معاوية نفسه تصريحا ومحمد بن أبي بكر إقرارا . وعلى هذا الابتزاز والمخالفة ، تم الاتفاق والاتساق بين أبي بكر وفاروقه ، كما أوضح معاوية .
وإشارة معاوية إلى هذا توضح اشتراكه في ذلك ، إذ أن أبا بكر هو الذي مهد وشيد له ملكه بسنه ابتزاز حق الإمام ومخالفته في أمره ، بعد أن كان حقه لازما لهم في حياة النبي صلى الله عليه وآله . فما هي العلاقة والارتباط بين ما وقع من ابتزاز لحق الإمام ومخالفته على أمره ، وبين قول النبي الأكرم لأبي بكر : " لا أدري ما تحدثون بعدي " ؟ !
وهكذا انشعب الإسلام بعد تلك الحوادث ، وانشعب الناس على أساس ذلك إلى قوم تعبدوا بما تمخضت عنه الحوادث بعد وفاة رسول الله في السقيفة ، واقتدوا بأهل البيت السقيفي ، وقوم ولوا الظهور لذلك وصوبوا نحو أهل البيت النبوي ، يقتدون بعلي
وأهل بيته عملا ولفظا ، ويمزجون حبهم للعترة باقتفاء الآثار منهم . . ليس كمن مزج حبهم باقتفاء آثار غيرهم من الفقهاء والعلماء وهم يخالفونهم في كثير من المسائل .
فهلموا - أيها الناس - إلى سبيل المؤمنين من أهل بيت الرسول وأبناء البتول ، فهم أمان للناس من الغرق في مفاوز الضلال وشعاب الاختلاف .
يقول علي عليه السلام : " أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا ، كذبا علينا أن رفعنا الله ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم ؟ ! بنا يستعطى الهدى ، ويستجلى العمى ، إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم " ( 1 ) .
ويقول عليه السلام : " حتى إذا قبض رسول الله صلى الله عليه وآله ، رجع قوم على الأعقاب ، وغالتهم السبل واتكلوا على الولائج ، ووصلوا غير الرحم ، وهجروا السبب الذي أمروا بمودته ، ونقلوا البناء عن رص أساسه ، فبنوه في غير مواضعه معادن كل خطيئة ، وأبواب كل ضارب في غمرة ، وقد ماروا في الحيرة ، وذهلوا في السكرة ، على سنة من آل فرعون ، من منقطع إلى الدنيا راكن ، أو مفارق للدين مباين " ( 2 ) . "
فيا عجبي ! وما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على الاختلاف حججها في دينها ؟ ! لا يقتفون أثر نبي ، ولا يقتدون بعمل وصي ! " ( 3 ) .
1 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2 : 36 . 2 - نفس المصدر السابق 2 : 48 . 3 - نفسه 1 : 145 . ( * )
والحمد لله على منه وتوفيقه
تعليق