بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
اللهم صل على محمد وآل محمد
مسلم يقول: البخاري طعن في الأسانيد ببدعة وقول فاسد ساقط مخالف للمتفق عليه بين أهل العلم
مسلم صاحب الصحيح تعرَّض في مقدمة صحيحه إلى نقد لاذع للبخاري ومن مشى على نهجه، وعدَّ مقولة البخاري التي ينتقدها طعناً في الأسانيد ببدعة وقول ساقط وفاسد مخالف للمتفق عليه بين أهل العلم، وإليك نص كلام مسلم في مقدمة صحيحه:
(وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ مُنْتَحِلِي الْحَدِيثِ مِنْ أَهْلِ عَصْرِنَا فِي تَصْحِيحِ الْأَسَانِيدِ وَتَسْقِيمِهَا بِقَوْلٍ لَوْ ضَرَبْنَا عَنْ حِكَايَتِهِ وَذِكْرِ فَسَادِهِ صَفْحًا لَكَانَ رَأْيًا مَتِينًا وَمَذْهَبًا صَحِيحًا؛ إِذْ الْإِعْرَاضُ عَنْ الْقَوْلِ الْمُطَّرَحِ أَحْرَى لِإِمَاتَتِهِ وَإِخْمَالِ ذِكْرِ قَائِلِهِ، وَأَجْدَرُ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا لِلْجُهَّالِ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّا لَمَّا تَخَوَّفْنَا مِنْ شُرُورِ الْعَوَاقِبِ، وَاغْتِرَارِ الْجَهَلَةِ بِمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، وَإِسْرَاعِهِمْ إِلَى اعْتِقَادِ خَطَإِ الْمُخْطِئِينَ، وَالْأَقْوَالِ السَّاقِطَةِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ؛ رَأَيْنَا الْكَشْفَ عَنْ فَسَادِ قَوْلِهِ وَرَدَّ مَقَالَتِهِ بِقَدْرِ مَا يَلِيقُ بِهَا مِنْ الرَّدِّ أَجْدَى عَلَى الْأَنَامِ وَأَحْمَدَ لِلْعَاقِبَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَزَعَمَ الْقَائِلُ الَّذِي افْتَتَحْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْحِكَايَةِ عَنْ قَوْلِهِ وَالْإِخْبَارِ عَنْ سُوءِ رَوِيَّتِهِ، أَنَّ كُلَّ إِسْنَادٍ لِحَدِيثٍ فِيهِ فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ وَقَدْ أَحَاطَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُمَا قَدْ كَانَا فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَى الرَّاوِي عَمَّنْ رَوَى عَنْهُ قَدْ سَمِعَهُ مِنْهُ وَشَافَهَهُ بِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَعْلَمُ لَهُ مِنْهُ سَمَاعًا، وَلَمْ نَجِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُمَا الْتَقَيَا قَطُّ أَوْ تَشَافَهَا بِحَدِيثٍ، أَنَّ الْحُجَّةَ لَا تَقُومُ عِنْدَهُ بِكُلِّ خَبَرٍ جَاءَ هَذَا الْمَجِيءَ، حَتَّى يَكُونَ عِنْدَهُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُمَا قَدْ اجْتَمَعَا مِنْ دَهْرِهِمَا مَرَّةً فَصَاعِدًا، أَوْ تَشَافَهَا بِالْحَدِيثِ بَيْنَهُمَا، أَوْ يَرِدَ خَبَرٌ فِيهِ بَيَانُ اجْتِمَاعِهِمَا وَتَلَاقِيهِمَا مَرَّةً مِنْ دَهْرِهِمَا فَمَا فَوْقَهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمُ ذَلِكَ وَلَمْ تَأْتِ رِوَايَةٌ صَحِيحَةٌ تُخْبِرُ أَنَّ هَذَا الرَّاوِيَ عَنْ صَاحِبِهِ قَدْ لَقِيَهُ مَرَّةً وَسَمِعَ مِنْهُ شَيْئًا، لَمْ يَكُنْ فِي نَقْلِهِ الْخَبَرَ عَمَّنْ رَوَى عَنْهُ عِلْمُ ذَلِكَ وَالْأَمْرُ كَمَا وَصَفْنَا حُجَّةٌ، وَكَانَ الْخَبَرُ عِنْدَهُ مَوْقُوفًا، حَتَّى يَرِدَ عَلَيْهِ سَمَاعُهُ مِنْهُ لِشَيْءٍ مِنْ الْحَدِيثِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ فِي رِوَايَةٍ مِثْلِ مَا وَرَدَ.
وَهَذَا الْقَوْلُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فِي الطَّعْنِ فِي الْأَسَانِيدِ قَوْلٌ مُخْتَرَعٌ مُسْتَحْدَثٌ غَيْرُ مَسْبُوقٍ صَاحِبُهُ إِلَيْهِ وَلَا مُسَاعِدَ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْلَ الشَّائِعَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ وَالرِّوَايَاتِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا أَنَّ كُلَّ رَجُلٍ ثِقَةٍ رَوَى عَنْ مِثْلِهِ حَدِيثًا وَجَائِزٌ مُمْكِنٌ لَهُ لِقَاؤُهُ وَالسَّمَاعُ مِنْهُ لِكَوْنِهِمَا جَمِيعًا كَانَا فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ فِي خَبَرٍ قَطُّ أَنَّهُمَا اجْتَمَعَا وَلَا تَشَافَهَا بِكَلَامٍ فَالرِّوَايَةُ ثَابِتَةٌ وَالْحُجَّةُ بِهَا لَازِمَةٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ أَنَّ هَذَا الرَّاوِيَ لَمْ يَلْقَ مَنْ رَوَى عَنْهُ أَوْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ شَيْئًا فَأَمَّا وَالْأَمْرُ مُبْهَمٌ عَلَى الْإِمْكَانِ الَّذِي فَسَّرْنَا فَالرِّوَايَةُ عَلَى السَّمَاعِ أَبَدًا حَتَّى تَكُونَ الدَّلَالَةُ الَّتِي بَيَّنَّا فَيُقَالُ لِمُخْتَرِعِ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي وَصَفْنَا مَقَالَتَهُ أَوْ لِلذَّابِّ عَنْهُ...) .
إلى أن قال: (وَمَا عَلِمْنَا أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ مِمَّنْ يَسْتَعْمِلُ الْأَخْبَارَ وَيَتَفَقَّدُ صِحَّةَ الْأَسَانِيدِ وَسَقَمَهَا مِثْلَ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ وَابْنِ عَوْنٍ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَشُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ فَتَّشُوا عَنْ مَوْضِعِ السَّمَاعِ فِي الْأَسَانِيدِ كَمَا ادَّعَاهُ الَّذِي وَصَفْنَا قَوْلَهُ مِنْ قَبْلُ...) .
إلى أن قال: (وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ الَّذِي أَحْدَثَهُ الْقَائِلُ الَّذِي حَكَيْنَاهُ فِي تَوْهِينِ الْحَدِيثِ بِالْعِلَّةِ الَّتِي وَصَفَ أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُعَرَّجَ عَلَيْهِ وَيُثَارَ ذِكْرُهُ إِذْ كَانَ قَوْلًا مُحْدَثًا وَكَلَامًا خَلْفًا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ سَلَفَ وَيَسْتَنْكِرُهُ مَنْ بَعْدَهُمْ خَلَفَ فَلَا حَاجَةَ بِنَا فِي رَدِّهِ بِأَكْثَرَ مِمَّا شَرَحْنَا إِذْ كَانَ قَدْرُ الْمَقَالَةِ وَقَائِلِهَا الْقَدْرَ الَّذِي وَصَفْنَاهُ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى دَفْعِ مَا خَالَفَ مَذْهَبَ الْعُلَمَاءِ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ) . انتهى.
والآن نعلِّق ونوضِّح ما نقلناه من كلام مسلم (صاحب الصحيح) بما يلي:
1 – إنَّ مسلماً صاحب الصحيح صرَّح بأن صنيع البخاري يدخل ضمن: محدثات الأمور (البدع) ، والقول الفاسد، والأقوال الساقطة التي لا تستحق هي ولا قائلها الإطالة بالرد عليها. وهو قول مخالف لما اتفق عليه أهل العلم من السَّلَف، وهو مما يستنكره الْخَلَفُ من بعدهم. وهذا القول المبتدع فضلاً عن أنه باطل في نفسه فإنه يطعن به في الأسانيد والأحاديث، وهو ناتج عن سوء رويَّة البخاري، ومعنى سوء الروية: سوء النظر والفكر.
2 – قد روى أهل السنة في ذم الإحداث والابتداع أحاديث منها ما فيه: (...َإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ) . أخرجه غير واحد من حفاظهم، منهم: أحمد وأبو داود والترمذى – وقال: حسن صحيح - ، وابن ماجه وابن جرير والحاكم والبيهقى عن العرباض بن سارية. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم: 2735.
أقول: فبضم الحديث إلى شهادة مسلم بابتداع البخاري تكون النتيجة أن البخاري إمام ضلالة، فتسقط عدالته.
فإن قلت: قد برَّر مسلم ابتداع البخاري بسوء النظر وليس سوء النية والقصد، وقد يقال إن المقصود بالبدعة المسقطة للعدالة: خصوص ما كان عن سوء نية وقصد.
قلتُ: هذا تخصيص بلا دليل، وذم البدعة وأهلها مطلق من هذه الجهة، أضف إلى ذلك أنَّ كل مبتدع يسعه أن يزعم لنفسه أو لسلفه هذا، فلا يبقى مع ذلك وجهٌ لجريان الحديث.
3 – ولعلك تسأل: من أين عرفنا أن الكلام اللاذع الذي وجهه مسلم يقصد به البخاري؛ فإن مسلماً لم يسمِّه باسمه؟
فنجيب عرفنا ذلك من قول الذهبي في سير أعلام النبلاء (12/573) :
(ثم إنَّ مسلماً، لحدة في خلقه، انحرف أيضاً عن البخاري، ولم يذكر له حديثاً، ولا سماه في صحيحه، بل افتتح الكتاب بالحط على من اشترط اللقي لمن روى عنه بصيغة عن، وادعى الإجماع في أن المعاصرة كافية، ولا يتوقف في ذلك على العلم بالتقائهما، ووبخ من اشترط ذلك. وإنما يقول ذلك أبو عبد الله البخاري، وشيخه علي بن المديني، وهو الأصوب الأقوى. وليس هذا موضع بسط هذه المسألة) انتهى.
4 – قد لاحظت في التعليقة السابقة أنَّ الحافظ الذهبي يريد أن يبرر كلام مسلم صاحب الصحيح بحدة في الطبع، أي أن السبب في انحراف مسلم عن البخاري وشدة نقده له، هو المزاج الحاد والعصبي عند مسلم..! ونحن نقول للذهبي ومن يرضى بقوله: إن كان تبريركم صحيحاً فإنه يوجب سقوط عدالة مسلم؛ لأن الشخص الذي يكون مزاجُه بهذه الدرجة من الغلبة على طبعه بحيث يجرح العدول ويسمهم بالابتداع والقول الساقط ويبتكر الإجماعات وينحرف عن جادة الحق وأهله، فمثل هذا هو أبرز مصاديق الفاسق الذي لا يعتني بدينه وقوانين الشريعة التي ينتمي إليها، بل هو ينجرف مع تيار مزاجه الحادّ وعصبيته المفرطة متجاهلاً الضوابط الدينية. فالحصيلة: إمَّا أن تقبلوا بجرح مسلم للبخاري؛ فتسقط عدالة البخاري، وإمَّا أن تقبلوا بتبرير الحافظ الذهبي؛ فتسقط عدالة مسلم.
5 – تنبيه: يقول بعض علماء أهل السنة، كالألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، أنَّ شرط البخاري هو شرط كمال وليس شرط صحة. أقول: هذا ـ فضلاً عن أنه تخطئة لكل من البخاري ومسلم معاً ـ لا يجدي في الدفاع عن البخاري، بل هو تعديل طفيف وغير مؤثر على النقد الموجه إليه؛ لأن معناه أن البخاري جعل ما هو شرط للكمال شرطاً للصحة، وبذلك يبقى نقد مسلم في محله؛ لأن مسلم يقول: إن البخاري بجعله هذا الشرط شرطاً للصحة ابتدع ما به يُطعن على الأحاديث. فرأي الألباني ومن قال بما قال به يخرج علماء أهل السنة من ورطة الطعن في ما هو صحيح، ولكنه لا يخرجهم من ورطة الابتداع، ولكنه لا ينجي البخاري ومن قال بقوله من التهمة الموجهة إليهم من قبل مسلم؛ لأنه لم يقل إن هذا شرط كمال، بل قال هو شرط صحة.
والحمد لله رب العالمين.
(وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ مُنْتَحِلِي الْحَدِيثِ مِنْ أَهْلِ عَصْرِنَا فِي تَصْحِيحِ الْأَسَانِيدِ وَتَسْقِيمِهَا بِقَوْلٍ لَوْ ضَرَبْنَا عَنْ حِكَايَتِهِ وَذِكْرِ فَسَادِهِ صَفْحًا لَكَانَ رَأْيًا مَتِينًا وَمَذْهَبًا صَحِيحًا؛ إِذْ الْإِعْرَاضُ عَنْ الْقَوْلِ الْمُطَّرَحِ أَحْرَى لِإِمَاتَتِهِ وَإِخْمَالِ ذِكْرِ قَائِلِهِ، وَأَجْدَرُ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا لِلْجُهَّالِ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّا لَمَّا تَخَوَّفْنَا مِنْ شُرُورِ الْعَوَاقِبِ، وَاغْتِرَارِ الْجَهَلَةِ بِمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، وَإِسْرَاعِهِمْ إِلَى اعْتِقَادِ خَطَإِ الْمُخْطِئِينَ، وَالْأَقْوَالِ السَّاقِطَةِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ؛ رَأَيْنَا الْكَشْفَ عَنْ فَسَادِ قَوْلِهِ وَرَدَّ مَقَالَتِهِ بِقَدْرِ مَا يَلِيقُ بِهَا مِنْ الرَّدِّ أَجْدَى عَلَى الْأَنَامِ وَأَحْمَدَ لِلْعَاقِبَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَزَعَمَ الْقَائِلُ الَّذِي افْتَتَحْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْحِكَايَةِ عَنْ قَوْلِهِ وَالْإِخْبَارِ عَنْ سُوءِ رَوِيَّتِهِ، أَنَّ كُلَّ إِسْنَادٍ لِحَدِيثٍ فِيهِ فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ وَقَدْ أَحَاطَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُمَا قَدْ كَانَا فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَى الرَّاوِي عَمَّنْ رَوَى عَنْهُ قَدْ سَمِعَهُ مِنْهُ وَشَافَهَهُ بِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَعْلَمُ لَهُ مِنْهُ سَمَاعًا، وَلَمْ نَجِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُمَا الْتَقَيَا قَطُّ أَوْ تَشَافَهَا بِحَدِيثٍ، أَنَّ الْحُجَّةَ لَا تَقُومُ عِنْدَهُ بِكُلِّ خَبَرٍ جَاءَ هَذَا الْمَجِيءَ، حَتَّى يَكُونَ عِنْدَهُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُمَا قَدْ اجْتَمَعَا مِنْ دَهْرِهِمَا مَرَّةً فَصَاعِدًا، أَوْ تَشَافَهَا بِالْحَدِيثِ بَيْنَهُمَا، أَوْ يَرِدَ خَبَرٌ فِيهِ بَيَانُ اجْتِمَاعِهِمَا وَتَلَاقِيهِمَا مَرَّةً مِنْ دَهْرِهِمَا فَمَا فَوْقَهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمُ ذَلِكَ وَلَمْ تَأْتِ رِوَايَةٌ صَحِيحَةٌ تُخْبِرُ أَنَّ هَذَا الرَّاوِيَ عَنْ صَاحِبِهِ قَدْ لَقِيَهُ مَرَّةً وَسَمِعَ مِنْهُ شَيْئًا، لَمْ يَكُنْ فِي نَقْلِهِ الْخَبَرَ عَمَّنْ رَوَى عَنْهُ عِلْمُ ذَلِكَ وَالْأَمْرُ كَمَا وَصَفْنَا حُجَّةٌ، وَكَانَ الْخَبَرُ عِنْدَهُ مَوْقُوفًا، حَتَّى يَرِدَ عَلَيْهِ سَمَاعُهُ مِنْهُ لِشَيْءٍ مِنْ الْحَدِيثِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ فِي رِوَايَةٍ مِثْلِ مَا وَرَدَ.
وَهَذَا الْقَوْلُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فِي الطَّعْنِ فِي الْأَسَانِيدِ قَوْلٌ مُخْتَرَعٌ مُسْتَحْدَثٌ غَيْرُ مَسْبُوقٍ صَاحِبُهُ إِلَيْهِ وَلَا مُسَاعِدَ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْلَ الشَّائِعَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ وَالرِّوَايَاتِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا أَنَّ كُلَّ رَجُلٍ ثِقَةٍ رَوَى عَنْ مِثْلِهِ حَدِيثًا وَجَائِزٌ مُمْكِنٌ لَهُ لِقَاؤُهُ وَالسَّمَاعُ مِنْهُ لِكَوْنِهِمَا جَمِيعًا كَانَا فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ فِي خَبَرٍ قَطُّ أَنَّهُمَا اجْتَمَعَا وَلَا تَشَافَهَا بِكَلَامٍ فَالرِّوَايَةُ ثَابِتَةٌ وَالْحُجَّةُ بِهَا لَازِمَةٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ أَنَّ هَذَا الرَّاوِيَ لَمْ يَلْقَ مَنْ رَوَى عَنْهُ أَوْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ شَيْئًا فَأَمَّا وَالْأَمْرُ مُبْهَمٌ عَلَى الْإِمْكَانِ الَّذِي فَسَّرْنَا فَالرِّوَايَةُ عَلَى السَّمَاعِ أَبَدًا حَتَّى تَكُونَ الدَّلَالَةُ الَّتِي بَيَّنَّا فَيُقَالُ لِمُخْتَرِعِ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي وَصَفْنَا مَقَالَتَهُ أَوْ لِلذَّابِّ عَنْهُ...) .
إلى أن قال: (وَمَا عَلِمْنَا أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ مِمَّنْ يَسْتَعْمِلُ الْأَخْبَارَ وَيَتَفَقَّدُ صِحَّةَ الْأَسَانِيدِ وَسَقَمَهَا مِثْلَ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ وَابْنِ عَوْنٍ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَشُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ فَتَّشُوا عَنْ مَوْضِعِ السَّمَاعِ فِي الْأَسَانِيدِ كَمَا ادَّعَاهُ الَّذِي وَصَفْنَا قَوْلَهُ مِنْ قَبْلُ...) .
إلى أن قال: (وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ الَّذِي أَحْدَثَهُ الْقَائِلُ الَّذِي حَكَيْنَاهُ فِي تَوْهِينِ الْحَدِيثِ بِالْعِلَّةِ الَّتِي وَصَفَ أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُعَرَّجَ عَلَيْهِ وَيُثَارَ ذِكْرُهُ إِذْ كَانَ قَوْلًا مُحْدَثًا وَكَلَامًا خَلْفًا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ سَلَفَ وَيَسْتَنْكِرُهُ مَنْ بَعْدَهُمْ خَلَفَ فَلَا حَاجَةَ بِنَا فِي رَدِّهِ بِأَكْثَرَ مِمَّا شَرَحْنَا إِذْ كَانَ قَدْرُ الْمَقَالَةِ وَقَائِلِهَا الْقَدْرَ الَّذِي وَصَفْنَاهُ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى دَفْعِ مَا خَالَفَ مَذْهَبَ الْعُلَمَاءِ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ) . انتهى.
والآن نعلِّق ونوضِّح ما نقلناه من كلام مسلم (صاحب الصحيح) بما يلي:
1 – إنَّ مسلماً صاحب الصحيح صرَّح بأن صنيع البخاري يدخل ضمن: محدثات الأمور (البدع) ، والقول الفاسد، والأقوال الساقطة التي لا تستحق هي ولا قائلها الإطالة بالرد عليها. وهو قول مخالف لما اتفق عليه أهل العلم من السَّلَف، وهو مما يستنكره الْخَلَفُ من بعدهم. وهذا القول المبتدع فضلاً عن أنه باطل في نفسه فإنه يطعن به في الأسانيد والأحاديث، وهو ناتج عن سوء رويَّة البخاري، ومعنى سوء الروية: سوء النظر والفكر.
2 – قد روى أهل السنة في ذم الإحداث والابتداع أحاديث منها ما فيه: (...َإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ) . أخرجه غير واحد من حفاظهم، منهم: أحمد وأبو داود والترمذى – وقال: حسن صحيح - ، وابن ماجه وابن جرير والحاكم والبيهقى عن العرباض بن سارية. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم: 2735.
أقول: فبضم الحديث إلى شهادة مسلم بابتداع البخاري تكون النتيجة أن البخاري إمام ضلالة، فتسقط عدالته.
فإن قلت: قد برَّر مسلم ابتداع البخاري بسوء النظر وليس سوء النية والقصد، وقد يقال إن المقصود بالبدعة المسقطة للعدالة: خصوص ما كان عن سوء نية وقصد.
قلتُ: هذا تخصيص بلا دليل، وذم البدعة وأهلها مطلق من هذه الجهة، أضف إلى ذلك أنَّ كل مبتدع يسعه أن يزعم لنفسه أو لسلفه هذا، فلا يبقى مع ذلك وجهٌ لجريان الحديث.
3 – ولعلك تسأل: من أين عرفنا أن الكلام اللاذع الذي وجهه مسلم يقصد به البخاري؛ فإن مسلماً لم يسمِّه باسمه؟
فنجيب عرفنا ذلك من قول الذهبي في سير أعلام النبلاء (12/573) :
(ثم إنَّ مسلماً، لحدة في خلقه، انحرف أيضاً عن البخاري، ولم يذكر له حديثاً، ولا سماه في صحيحه، بل افتتح الكتاب بالحط على من اشترط اللقي لمن روى عنه بصيغة عن، وادعى الإجماع في أن المعاصرة كافية، ولا يتوقف في ذلك على العلم بالتقائهما، ووبخ من اشترط ذلك. وإنما يقول ذلك أبو عبد الله البخاري، وشيخه علي بن المديني، وهو الأصوب الأقوى. وليس هذا موضع بسط هذه المسألة) انتهى.
4 – قد لاحظت في التعليقة السابقة أنَّ الحافظ الذهبي يريد أن يبرر كلام مسلم صاحب الصحيح بحدة في الطبع، أي أن السبب في انحراف مسلم عن البخاري وشدة نقده له، هو المزاج الحاد والعصبي عند مسلم..! ونحن نقول للذهبي ومن يرضى بقوله: إن كان تبريركم صحيحاً فإنه يوجب سقوط عدالة مسلم؛ لأن الشخص الذي يكون مزاجُه بهذه الدرجة من الغلبة على طبعه بحيث يجرح العدول ويسمهم بالابتداع والقول الساقط ويبتكر الإجماعات وينحرف عن جادة الحق وأهله، فمثل هذا هو أبرز مصاديق الفاسق الذي لا يعتني بدينه وقوانين الشريعة التي ينتمي إليها، بل هو ينجرف مع تيار مزاجه الحادّ وعصبيته المفرطة متجاهلاً الضوابط الدينية. فالحصيلة: إمَّا أن تقبلوا بجرح مسلم للبخاري؛ فتسقط عدالة البخاري، وإمَّا أن تقبلوا بتبرير الحافظ الذهبي؛ فتسقط عدالة مسلم.
5 – تنبيه: يقول بعض علماء أهل السنة، كالألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، أنَّ شرط البخاري هو شرط كمال وليس شرط صحة. أقول: هذا ـ فضلاً عن أنه تخطئة لكل من البخاري ومسلم معاً ـ لا يجدي في الدفاع عن البخاري، بل هو تعديل طفيف وغير مؤثر على النقد الموجه إليه؛ لأن معناه أن البخاري جعل ما هو شرط للكمال شرطاً للصحة، وبذلك يبقى نقد مسلم في محله؛ لأن مسلم يقول: إن البخاري بجعله هذا الشرط شرطاً للصحة ابتدع ما به يُطعن على الأحاديث. فرأي الألباني ومن قال بما قال به يخرج علماء أهل السنة من ورطة الطعن في ما هو صحيح، ولكنه لا يخرجهم من ورطة الابتداع، ولكنه لا ينجي البخاري ومن قال بقوله من التهمة الموجهة إليهم من قبل مسلم؛ لأنه لم يقل إن هذا شرط كمال، بل قال هو شرط صحة.
والحمد لله رب العالمين.
تعليق