عليّ بن شعبة مرسلاً قال: لمّا حضرعليّ بن موسى عليهما السّلام مجلس المأمون وقد اجتمع فيه جماعة علماء أهل العراق وخراسان، فقال المأمون: أخبروني عن معنى هذه الآية: «ثُمَّ أوْرَثْنَا الْكِتابَ الّذينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا...»(1)، فقالت العلماء: أراد الله الأُمّة كلّها. فقال المأمون: ما تقول يا أبا الحسن؟
فقال الرّضا عليه السلام: لا أقول كما قالوا ولكن أقول: أراد الله تبارك وتعالى بذلك العترة الطّاهرة عليهم السّلام، قال المأمون: وكيف عنى العترة دون الأمّة؟
فقال الرّضا عليه السّلام: لو أراد الأمّة لكانت بأجمعها في الجنّة، لقول الله: «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبيرُ»(2)، ثمّ جعلهم في الجنّة، فقال عزّوجلّ: « جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها»(3) فصارت الوراثة للعترة الطّاهرة لا لغيرهم. ثمّ قال الرّضا عليه السّلام: هم الّذين وصفهم الله في كتابه فقال: «إنّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيراً»(4) وهم الّذين قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «إنّي مخلِّف فيكم الثّقلينِ: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، لن يفترقا حتّى يردا علَيّ الحوض، انظروا كيف تخلفوني فيهما، يا أيّها النّاس! لا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم».
قالت العلماء: أخبرنا يا أباالحسن عن العترة، هم الآل أو غير الآل؟ فقال الرّضا عليه السّلام: هم الآل.
فقالت العلماء: فهذا رسول الله يُؤثَر عنه أنّه قال: «أمّتي آلي»، وهؤلاء أصحابه يقولون بالخبر المستفيض الّذي لا يمكن دفعه: «آل محمّد أمّته».
فقال الرّضا عليه السّلام: أخبروني هل تحرم الصّدقة على آل محمّد؟ قالوا: نعم.
قال عليه السلام: فتحرم على الأمّة؟ قالوا: لا.
قال عليه السّلام: هذا فرق بين الآل وبين الأمّة. ويْحكم أين يُذهَب بكم؟! أصرفتم عن الذكر صفحاً أم أنتم قوم مسرفون؟! أما علمتم أنّما وقعت الرّواية في الظّاهرعلى المصطفين المهتدين دون سائرهم؟!
قالوا: من أين قلت يا أباالحسن؟
قال عليه السّلام: من قول الله: «لَقَدْ أرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرّيّتِهِما النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ، وَكَثيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ»(5) فصارت وراثة النّبوّة والكتاب في المهتدين دون الفاسقين.
أما علمتم أنّ نوحاً سأل ربّه، وقال «رَبِّ إنّ ابْنِي مِنْ أهْلي وَإنّ وَعْدَكَ الْحَقُّ»(6)؟!، وذلك أنّ الله وعده أن يُنجيه وأهله، فقال له ربّه تبارك وتعالى: «إنَّه ليسَ مِنْ أهلِك إنّه عملٌ غيرُ صالحٍ فلا تَسألْنِ ما ليسَ لكَ بهِ علمٌ إنّي أَعِظُكَ أنْ تكونَ مِن الجاهِلين»(7).
فقال المأمون: فهل فضّل الله العترة على سائرالنّاس.
فقال الرّضا عليه السّلام: إنّ الله العزيز الجبّار فضّل العترة على سائر النّاس في محكم كتابه.
قال المأمون: أين ذلك من كتاب الله؟
فقال الرّضا عليه السّلام: في قوله تعالى: «إنّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إبْراهيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمينَ ذُرّيّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ»(8) وقال في موضع آخر: «أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظيماً»(9).
ثمّ ردّ المخاطبة في أثر هذا إلى سائرالمؤمنين فقال: «يا أيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا أطيعُوا اللهَ وأطيعُواالرّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ»(10)، يعني الّذين أورثهم الكتاب والحكمة وحُسِدوا عليهما بقوله: «أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبْراهيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظيماً»، يعني الطّاعة للمصطفين الطّاهرين، والملك هاهنا الطّاعة لهم.
قالت العلماء: هل فسّر الله تعالى الاصطفاء في الكتاب؟ فقال الرّضا عليه السّلام: فسّر الاصطفاء في الظاهر سوى الباطن في اثني عشر موضعاً: فأوّل ذلك قول الله: «وَأنْذِرْ عَشيرَتَكَ الاَقْرَبين»(11) ـ ورهطك المخلصين هكذا في قراءة أُبيّ بن كعب وهي ثابتة في مصحف عبدالله بن مسعود ـ، فلمّا أمر عثمان زيدَ بن ثابت أن يجمع القرآن خنس هذه الآية، وهذه منزلة رفيعة وفضل عظيم وشرف عالٍ حين عنى الله عزّوجلّ بذلك الآل فهذه واحدة.
والآية الثّانية في الاصطفاء قول الله: «إنّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيراً» وهذا الفضل الّذي لا يجحده معاندٌ، لأنّه فضل بيّن.
والآية الثّالثة حين ميّز الله الطّاهرين من خلقه أمر نبيَّه في آية الابتهال، فقال: «قل» يا محمّد! «تَعالَوْا نَدْعُ أبْناءَنا وَأبْناءَكُم وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأنْفُسَنا وَأنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكاذِبينَ»(12) فأبرز النّبيّ صلّى الله عليه وآله عليّاً والحسنين وفاطمة عليهم السّلام فقرن أنفسهم بنفسه، فهل تدرون ما معنى قوله: «وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ»؟ قالت العلماء: عنى به نفسه.
قال أبوالحسن عليه السلام: غلطتم، إنّما عنى به عليّاً عليه السّلام، وممّا يدلّ على ذلك قول النّبيّ صلّى الله عليه وآله حين قال: لينتهينّ بنو وليعة أوْ لأبعثنّ إليهم رجلاً كنفسي ـ يعني عليّاً عليه السّلام. فهذه خصوصيّة لا يتقدّمها أحد، وفضل لا يختلف فيه بشر، وشرف لا يسبقه إليه خلق، إذ جعل نفس عليّ عليه السّلام كنفسه، فهذه الثّالثة.
وأمّا الرّابعة: فإخراجه النّاس من مسجده ما خلا العترة حين تكلّم النّاس في ذلك وتكلّم العباس، فقال: يا رسول الله! تركت عليّاً وأخرجتنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله: ما أنا تركته وأخرجتكم، ولكنّ الله تركه وأخرجكم. وفي هذا بيان قوله لعليٍّ عليه السّلام:«أنت منّي بمنزلة هارون من موسى». قالت العلماء: فأين هذا من القرآن؟
قال أبوالحسن عليه السّلام: أوجدكم في ذلك قرآناً أقرأه عيلكم، قالوا: هات.
وقال عليه السّلام قول الله عزّوجلّ: «وَأوْحَيْنا إلى هارُونَ وَأخِيهِ أنْ تَبَوّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً»(13)، في هذه الآية منزلة هارون من موسى وفيها أيضاً منزلة عليٍّ عليهم السّلام من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. ومع هذا دليل ظاهر في رسول الله صلّى الله عليه وآله و سلّم حين قال: «إنّ هذا المسجد لا يحلّ لجُنب ولا لحائض إلاّ لمحمّدٍ وآل محمّدٍ».
فقال العلماء: هذا الشرح وهذا البيان لا يوجد إلاّ عندكم ـ معشر أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
قال أبوالحسن عليه السّلام: ومن ينكر لنا ذلك ورسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: «أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها، فمن أراد مدينة العلم فليأتها من بابها»؟! ففيما أوضحنا وشرحنا من الفضل والشرف والتّقدمة والاصطفاء والطّهارة ما لاينكره إلاّ معاند، ولله عزّوجلّ الحمد على ذلك، فهذه الرّابعة.
وأمّا الخامسة فقول الله عزّوجلّ: «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ»(14) خصوصيّة خصّهم الله العزيز الجبّار بها واصطفاهم على الأمّة، فلمّا نزلت هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: أُدعوا لي فاطمة، فدعوها له، فقال: يا فاطمة! قالت: لبّيك يا رسول الله! فقال: إنّ فدك لم يُوجَف عليها بخيل ولاركاب، وهي لي خاصّة دون المسلمين، وقد جعلتها لكِ لما أمرني الله به، فخذيها لك ولولدك، فهذه الخامسة.
وأمّا السّادسة: فقول الله عزّوجلّ: «قُلْ لا أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى»(15)، فهذه خصوصيّة للنّبيّ صلّى الله عليه وآله دون الأنبياء، وخصوصيّة للآل دون غيرهم، وذلك أنّ الله حكى عن الأنبياء في ذكر نوح عليه السّلام: «يا قَوْمِ لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إنْ أجْرِيَ إلاّ عَلَى اللهِ وَما أنَا بِطَارِدِ الّذِينَ آمَنُوا إنّهُمْ مُلاقُو رَبّهِمْ وَلكِنّي أراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ»(16).
وحكى عن هود عليه السّلام قال: «لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إنْ أجْرِيَ إلاّ عَلَى الّذِي فَطَرَنِي أفَلا تَعْقِلُونَ؟!» (17)، وقال لنبيّه صلّى الله عليه وآله: «قُلْ لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبى». ولم يفرّض الله مودتّهم إلاّ وقد علم أنّهم لا يرتدّون عن الدّين أبداً، ولا يرجعون إلى ضلالة أبداً.
وأخرى أن يكون الرّجل وادّاً للرّجل فيكون بعض أهل بيته عدوّاً له فلا يسلم قلبٌ، فأحبّ الله أن لا يكون في قلب رسول الله صلّى الله عليه وآله على المؤمنين شيء إذ فرض عليهم مودّة ذي القربى، فمن أخذ بها وأحبّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وأحبّ أهل بيته عليهم السّلام لم يستطع رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يبغضه. ومن تركها ولم يأخذها وأبغض أهل بيت نبيّه صلّى الله عليه وآله فعلى رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يبغضه؛ لأنّه قد ترك فريضة من فرائض الله. وأيّ فضيلة وأيّ شرف يتقدّم هذا ؟
ولمّا أنزل الله هذه الآية على نبيّه صلّى الله عليه وآله: «قُلْ لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبى» قام رسول الله صلّى الله عليه وآله في أصحابه، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «أيّها النّاس! إنّ الله قد فرض عليكم فرضاً، فهل أنتم مؤدُّوه؟» فلم يجبه أحد، فقام فيهم يوماً ثانياً، فقال مثل ذلك، فلم يجبه أحد. فقام فيهم يوم الثالث فقال: «أيّها النّاس! إنّ الله قد فرض عليكم فرضاً، فهل أنتم مؤدُّوه» فلم يجبه أحد فقال: أيّها النّاس أنّه ليس ذهباً ولا فضّةً ولا مأكولاً ولا مشروباً، قالوا: فهات إذاً؟ فتلا عليهم هذه الآية، فقالوا أمّا هذا فنعم، فما وفى به أكثرهم.
ثمّ قال أبوالحسن عليه السّلام: حدّثني أبي، عن جدّي، عن آبائه، عن الحسين بن عليّ عليهم السّلام
قال: اجتمع المهاجرون والأنصار إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله فقالوا: إنّ لك يا رسول الله مؤنة في نفقتك وفيمن يأتيك من الوفود، وهذه أموالنا مع دمائنا فاحكم فيها بارّاً مأجوراً، أعط ما شئت وأمسك ما شئت من غير حرجٍ.
فأنزل الله عزّوجلّ عليه الرّوح الأمين فقال: يا محمّد! «قُلْ لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبى»، لا تؤذوا قرابتي من بعدي. فخرجوا فقال أُناس منهم: ما حمل رسول الله صلّى الله عليه وآله على ترك ما عرضنا عليه إلاّ ليحثّنا على قرابته من بعده، إن هو إلاّ شيء افتراه في مجلسه. وكان ذلك من قولهم عظيماً، فأنزل الله هذه الآية: «أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فيهِ كَفى بِهِ شَهيداً بَيْني وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرّحيمُ»(18).
فبعث إليهم النّبيّ صلّى الله عليه وآله فقال: هل من حدث؟ فقالوا: أي والله يا رسول الله، لقد تكلّم بعضنا كلاماً عظيماً فكرهناه. فتلا عليهم رسول الله صلّى الله عليه وآله فبكوا واشتدّ بكاؤهم فأنزل الله تعالى: «وَهُوَ الّذِي يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوعَنِ السّيّئاتِ، وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ»(19)، فهذه السّادسة.
فقال الرّضا عليه السلام: لا أقول كما قالوا ولكن أقول: أراد الله تبارك وتعالى بذلك العترة الطّاهرة عليهم السّلام، قال المأمون: وكيف عنى العترة دون الأمّة؟
فقال الرّضا عليه السّلام: لو أراد الأمّة لكانت بأجمعها في الجنّة، لقول الله: «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبيرُ»(2)، ثمّ جعلهم في الجنّة، فقال عزّوجلّ: « جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها»(3) فصارت الوراثة للعترة الطّاهرة لا لغيرهم. ثمّ قال الرّضا عليه السّلام: هم الّذين وصفهم الله في كتابه فقال: «إنّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيراً»(4) وهم الّذين قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «إنّي مخلِّف فيكم الثّقلينِ: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، لن يفترقا حتّى يردا علَيّ الحوض، انظروا كيف تخلفوني فيهما، يا أيّها النّاس! لا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم».
قالت العلماء: أخبرنا يا أباالحسن عن العترة، هم الآل أو غير الآل؟ فقال الرّضا عليه السّلام: هم الآل.
فقالت العلماء: فهذا رسول الله يُؤثَر عنه أنّه قال: «أمّتي آلي»، وهؤلاء أصحابه يقولون بالخبر المستفيض الّذي لا يمكن دفعه: «آل محمّد أمّته».
فقال الرّضا عليه السّلام: أخبروني هل تحرم الصّدقة على آل محمّد؟ قالوا: نعم.
قال عليه السلام: فتحرم على الأمّة؟ قالوا: لا.
قال عليه السّلام: هذا فرق بين الآل وبين الأمّة. ويْحكم أين يُذهَب بكم؟! أصرفتم عن الذكر صفحاً أم أنتم قوم مسرفون؟! أما علمتم أنّما وقعت الرّواية في الظّاهرعلى المصطفين المهتدين دون سائرهم؟!
قالوا: من أين قلت يا أباالحسن؟
قال عليه السّلام: من قول الله: «لَقَدْ أرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرّيّتِهِما النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ، وَكَثيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ»(5) فصارت وراثة النّبوّة والكتاب في المهتدين دون الفاسقين.
أما علمتم أنّ نوحاً سأل ربّه، وقال «رَبِّ إنّ ابْنِي مِنْ أهْلي وَإنّ وَعْدَكَ الْحَقُّ»(6)؟!، وذلك أنّ الله وعده أن يُنجيه وأهله، فقال له ربّه تبارك وتعالى: «إنَّه ليسَ مِنْ أهلِك إنّه عملٌ غيرُ صالحٍ فلا تَسألْنِ ما ليسَ لكَ بهِ علمٌ إنّي أَعِظُكَ أنْ تكونَ مِن الجاهِلين»(7).
فقال المأمون: فهل فضّل الله العترة على سائرالنّاس.
فقال الرّضا عليه السّلام: إنّ الله العزيز الجبّار فضّل العترة على سائر النّاس في محكم كتابه.
قال المأمون: أين ذلك من كتاب الله؟
فقال الرّضا عليه السّلام: في قوله تعالى: «إنّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إبْراهيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمينَ ذُرّيّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ»(8) وقال في موضع آخر: «أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظيماً»(9).
ثمّ ردّ المخاطبة في أثر هذا إلى سائرالمؤمنين فقال: «يا أيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا أطيعُوا اللهَ وأطيعُواالرّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ»(10)، يعني الّذين أورثهم الكتاب والحكمة وحُسِدوا عليهما بقوله: «أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبْراهيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظيماً»، يعني الطّاعة للمصطفين الطّاهرين، والملك هاهنا الطّاعة لهم.
قالت العلماء: هل فسّر الله تعالى الاصطفاء في الكتاب؟ فقال الرّضا عليه السّلام: فسّر الاصطفاء في الظاهر سوى الباطن في اثني عشر موضعاً: فأوّل ذلك قول الله: «وَأنْذِرْ عَشيرَتَكَ الاَقْرَبين»(11) ـ ورهطك المخلصين هكذا في قراءة أُبيّ بن كعب وهي ثابتة في مصحف عبدالله بن مسعود ـ، فلمّا أمر عثمان زيدَ بن ثابت أن يجمع القرآن خنس هذه الآية، وهذه منزلة رفيعة وفضل عظيم وشرف عالٍ حين عنى الله عزّوجلّ بذلك الآل فهذه واحدة.
والآية الثّانية في الاصطفاء قول الله: «إنّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيراً» وهذا الفضل الّذي لا يجحده معاندٌ، لأنّه فضل بيّن.
والآية الثّالثة حين ميّز الله الطّاهرين من خلقه أمر نبيَّه في آية الابتهال، فقال: «قل» يا محمّد! «تَعالَوْا نَدْعُ أبْناءَنا وَأبْناءَكُم وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأنْفُسَنا وَأنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكاذِبينَ»(12) فأبرز النّبيّ صلّى الله عليه وآله عليّاً والحسنين وفاطمة عليهم السّلام فقرن أنفسهم بنفسه، فهل تدرون ما معنى قوله: «وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ»؟ قالت العلماء: عنى به نفسه.
قال أبوالحسن عليه السلام: غلطتم، إنّما عنى به عليّاً عليه السّلام، وممّا يدلّ على ذلك قول النّبيّ صلّى الله عليه وآله حين قال: لينتهينّ بنو وليعة أوْ لأبعثنّ إليهم رجلاً كنفسي ـ يعني عليّاً عليه السّلام. فهذه خصوصيّة لا يتقدّمها أحد، وفضل لا يختلف فيه بشر، وشرف لا يسبقه إليه خلق، إذ جعل نفس عليّ عليه السّلام كنفسه، فهذه الثّالثة.
وأمّا الرّابعة: فإخراجه النّاس من مسجده ما خلا العترة حين تكلّم النّاس في ذلك وتكلّم العباس، فقال: يا رسول الله! تركت عليّاً وأخرجتنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله: ما أنا تركته وأخرجتكم، ولكنّ الله تركه وأخرجكم. وفي هذا بيان قوله لعليٍّ عليه السّلام:«أنت منّي بمنزلة هارون من موسى». قالت العلماء: فأين هذا من القرآن؟
قال أبوالحسن عليه السّلام: أوجدكم في ذلك قرآناً أقرأه عيلكم، قالوا: هات.
وقال عليه السّلام قول الله عزّوجلّ: «وَأوْحَيْنا إلى هارُونَ وَأخِيهِ أنْ تَبَوّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً»(13)، في هذه الآية منزلة هارون من موسى وفيها أيضاً منزلة عليٍّ عليهم السّلام من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. ومع هذا دليل ظاهر في رسول الله صلّى الله عليه وآله و سلّم حين قال: «إنّ هذا المسجد لا يحلّ لجُنب ولا لحائض إلاّ لمحمّدٍ وآل محمّدٍ».
فقال العلماء: هذا الشرح وهذا البيان لا يوجد إلاّ عندكم ـ معشر أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
قال أبوالحسن عليه السّلام: ومن ينكر لنا ذلك ورسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: «أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها، فمن أراد مدينة العلم فليأتها من بابها»؟! ففيما أوضحنا وشرحنا من الفضل والشرف والتّقدمة والاصطفاء والطّهارة ما لاينكره إلاّ معاند، ولله عزّوجلّ الحمد على ذلك، فهذه الرّابعة.
وأمّا الخامسة فقول الله عزّوجلّ: «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ»(14) خصوصيّة خصّهم الله العزيز الجبّار بها واصطفاهم على الأمّة، فلمّا نزلت هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: أُدعوا لي فاطمة، فدعوها له، فقال: يا فاطمة! قالت: لبّيك يا رسول الله! فقال: إنّ فدك لم يُوجَف عليها بخيل ولاركاب، وهي لي خاصّة دون المسلمين، وقد جعلتها لكِ لما أمرني الله به، فخذيها لك ولولدك، فهذه الخامسة.
وأمّا السّادسة: فقول الله عزّوجلّ: «قُلْ لا أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى»(15)، فهذه خصوصيّة للنّبيّ صلّى الله عليه وآله دون الأنبياء، وخصوصيّة للآل دون غيرهم، وذلك أنّ الله حكى عن الأنبياء في ذكر نوح عليه السّلام: «يا قَوْمِ لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إنْ أجْرِيَ إلاّ عَلَى اللهِ وَما أنَا بِطَارِدِ الّذِينَ آمَنُوا إنّهُمْ مُلاقُو رَبّهِمْ وَلكِنّي أراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ»(16).
وحكى عن هود عليه السّلام قال: «لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إنْ أجْرِيَ إلاّ عَلَى الّذِي فَطَرَنِي أفَلا تَعْقِلُونَ؟!» (17)، وقال لنبيّه صلّى الله عليه وآله: «قُلْ لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبى». ولم يفرّض الله مودتّهم إلاّ وقد علم أنّهم لا يرتدّون عن الدّين أبداً، ولا يرجعون إلى ضلالة أبداً.
وأخرى أن يكون الرّجل وادّاً للرّجل فيكون بعض أهل بيته عدوّاً له فلا يسلم قلبٌ، فأحبّ الله أن لا يكون في قلب رسول الله صلّى الله عليه وآله على المؤمنين شيء إذ فرض عليهم مودّة ذي القربى، فمن أخذ بها وأحبّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وأحبّ أهل بيته عليهم السّلام لم يستطع رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يبغضه. ومن تركها ولم يأخذها وأبغض أهل بيت نبيّه صلّى الله عليه وآله فعلى رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يبغضه؛ لأنّه قد ترك فريضة من فرائض الله. وأيّ فضيلة وأيّ شرف يتقدّم هذا ؟
ولمّا أنزل الله هذه الآية على نبيّه صلّى الله عليه وآله: «قُلْ لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبى» قام رسول الله صلّى الله عليه وآله في أصحابه، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «أيّها النّاس! إنّ الله قد فرض عليكم فرضاً، فهل أنتم مؤدُّوه؟» فلم يجبه أحد، فقام فيهم يوماً ثانياً، فقال مثل ذلك، فلم يجبه أحد. فقام فيهم يوم الثالث فقال: «أيّها النّاس! إنّ الله قد فرض عليكم فرضاً، فهل أنتم مؤدُّوه» فلم يجبه أحد فقال: أيّها النّاس أنّه ليس ذهباً ولا فضّةً ولا مأكولاً ولا مشروباً، قالوا: فهات إذاً؟ فتلا عليهم هذه الآية، فقالوا أمّا هذا فنعم، فما وفى به أكثرهم.
ثمّ قال أبوالحسن عليه السّلام: حدّثني أبي، عن جدّي، عن آبائه، عن الحسين بن عليّ عليهم السّلام
قال: اجتمع المهاجرون والأنصار إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله فقالوا: إنّ لك يا رسول الله مؤنة في نفقتك وفيمن يأتيك من الوفود، وهذه أموالنا مع دمائنا فاحكم فيها بارّاً مأجوراً، أعط ما شئت وأمسك ما شئت من غير حرجٍ.
فأنزل الله عزّوجلّ عليه الرّوح الأمين فقال: يا محمّد! «قُلْ لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبى»، لا تؤذوا قرابتي من بعدي. فخرجوا فقال أُناس منهم: ما حمل رسول الله صلّى الله عليه وآله على ترك ما عرضنا عليه إلاّ ليحثّنا على قرابته من بعده، إن هو إلاّ شيء افتراه في مجلسه. وكان ذلك من قولهم عظيماً، فأنزل الله هذه الآية: «أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فيهِ كَفى بِهِ شَهيداً بَيْني وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرّحيمُ»(18).
فبعث إليهم النّبيّ صلّى الله عليه وآله فقال: هل من حدث؟ فقالوا: أي والله يا رسول الله، لقد تكلّم بعضنا كلاماً عظيماً فكرهناه. فتلا عليهم رسول الله صلّى الله عليه وآله فبكوا واشتدّ بكاؤهم فأنزل الله تعالى: «وَهُوَ الّذِي يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوعَنِ السّيّئاتِ، وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ»(19)، فهذه السّادسة.
تعليق