مقتل الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام - قراءة الشيخ عبدالزهراء الكعبي
المقتل ليوم العاشر من محرّم الحرام وما جرى على سيد الشهداء الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام حسب ما ورد في قراءة الشيخ عبد الزهراء الكعبي الذي يقرأه برواية السيد عبد الرزاق المقرّم
مقتل الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام
* فجر عاشوراء
لمـا أصـبــح الحسـيـن يوم عـاشـوراء ، وصلّى بـاصحابه صلاة الصبح ، قـام خـطـيبـاً فـيهم ، حـمد اللّه وأثـنى عـليه ، ثمّ قـال : ان اللّه سـبـحانه وتـعالى قـد أذن فـي قتـلكـم وقتـلي في هـذا اليوم ، فعـليكم بــالصـبـر والقتال . ثـمّ صـفـهـم للحـرب ، وكـانـوا سـبعـة وسبعيـن ما بين فارس وراجـل ، فجـعل زهير بـن القين فـي الميمنة ، وحـبيب بن مظـاهر في الميسـرة ، وأعـطـى رايتـه أخاه العباس ، وثبت هو عليه السلام وأهل بيته في القلب وأقـبـل عـمـر بـن سـعد نحـو الحسيـن فـي ثـلاثـين ألفاً ، وعلى الميمنة عمـرو بـن الحـجـاج الزبيدي ، وعـلى الميسـرة شـمر بن ذي الجوشن ، وعلى الخـيل عـزرة بــن قـيـس ، وعلى الرجـالة شـبث بن ربعي ، والراية مـع ذويد مولاه، وأقبـلوا يجـولون حـول البيوت ، فيرون النار تضـطـرم في الخـندق ، فنادى شمر بأعلى صوته : ياحسين تعجلت بالنار قبل يوم القيامة
فقال الحسين : من هذا ، كأنه شمر بن ذي الجوشن؟
قيل : نعم
فقال له يا ابن راعية المعزى أنت أولى بها مني صِلِيّا ورام مسـلم بــن عـوسجـة أن يـرمِيَه بـسهم ، فـمنعه الحـسين وقـال : أكـره أن أبدأهم بقتال .
* خطبة الحسين ( ع ) الأولى
ولما نظـر الحـسـين إلى جـمعـهم كأنه السيل ، رفع يديه بـالدعاء وقال : اللهّم أنـت ثــقـتي فـي كـل كرب ، ورجـائي في كل شـدة ، وأنت لي في كل أمر نـزل بــي ثـقـة وعـدّة ، كـم من هـمّ يضـعف فيه الفؤاد ، وتـقل ُّ فيه الحـيلة ، ويخـذل فـيه الصـديق ، ويشـمـت فيه العـدو ، أنـزلْتُه بِك ، وشكوتـُهُ إليـك ، رغـبـةً مـني اليك عـَمَّن سـواك ، فـكشـفتـَهُ وفرجـته ، فأنت وليُّ كلّ نعمة ، ومنتهى كل رغبةٍ ثـم دعـا بـراحـلتـه فركبها ، ونادى بصـوت عال يسـمعه جـُلُّهُم : أيها الناس إسـمعـوا قولي ولا تـعجـلوا ، حـتى أَعظـكم بـما هو حقُّ لكم عليَّ ، وحتّـى اعـتــذر إليـكـم من مقـدمي عليكم ، فـإن قبــلتـم عُذري ، وصـدقتم قولي ، و أعـطـيتـمـوني النَّصـف من أنْفُسـِكـم كنتم بذلك أسعد ولم يكن لكم علي سـبـيل ، وان لم تـقبلوا مني العـذر ولم تعطـوا النصـف من أنفسكم ، فأجمعوا أمـركـم وشـركاءكم ، ثـمّ لا يكن امركم عـليكم غـمّة،ثمّ اقـضـوا إليَّ ولا تــُنـظـِرون ، إنّ وليّي اللّه الذي نَزّ ل الكـتـاب ، وهو يتـولّى الصــالحــين فـلمّا سـمعـْنَ النساء هـذا منه صـحـْنَ وبـكـْينَ وارتـفعت أصواتهنَّ، فأرسـل اليهنَّ أخـاه العـبـاس وابنهعلياً الأكبر وقال لهما : سكّتـاهنَّ فـلعمري ليكثــر بـكـاؤهنَّ . ولمـا سـكتـْنَ حـمد اللّه واثـنى عـليه ، وصـلّى على محمّـد وعلـى الملائكة والأنبـياء ، وقال فـي ذلك ما لا يُحـصـى ذِكْرُه ،ولم يُسـمَع متـكلـم قـبـله ولا بـعـده أبلغ مـنه فـي منطـقه ، ثـمّ قال : الحمدلله الذي خـلق الدّنيا فـجـعـلها دار فناء وزوال ، مـتـصـرفة بـأهلها حـالاً بعد حال ، فالمغـرور من غـرّتـه ، والشـقـيّ مـن فـتـنتـه ، فلا تغرنكـم هذه الدّنيا ، فإنها تقطـع رجـاء من ركـن إليها ، وتـخـيّب طـمع من طمع فـيها ، وأراكم قـد اجـتمعتمعلى أمر قد أسـخـطـتـم اللّه فيه عليكم ، وأعرض بـوجـهه الكريم عنكم، وأحـلَّ بـكم نقمتـه ، وجنّبكم رحـمته . فنِعمَ الرّب ربُّنا ، وبئس العبيد انتم، أقررتم بـالطـاعـة ، وآمنتـم بـالرسـول محـمّد صـلى اللّه عليه وآله وسلم . ثـمَّ إنكـم زحـفـتـم إلى ذرّيته وعـترته ، تريدون قتلهم ، لقد اسـتحوذ عليكم الشـيطـان ، فأنساكم ذكر اللّه العظيم ، فتـبـاً لكم ولما تريدون، إنالله وانا إليه راجعون ، هؤلاء قوم كفـروا بـعـد إيمانهم ، فبُعداً للقوم الظـالمين. أيّها الناس انسبوني من أنا ؟ ثـمّ ارجـعـوا إلى انفسـكم وعاتـبـوها، وانظـروا هل يحـل لكم قتلي ؟ وانـتـهـاك حـرمـتي ؟ ألسـت ابــن بـنت نبيكم ؟ وابن وصـيّه ؟ وابن عـمه ؟ وأول المـؤمنـيـن بـاللّه ؟ والمصـّدق لرسـوله بـما جـاء من عـند ربّه؟ أوليس حـمزة سـيد الشـهداء عمّ أبـي ؟ أو ليس جـعفر الطّيار عمّي ؟ أوَ لَم يبلغكم قول رسول اللّه لي ولأخي : هذان سيّدا شبـاب أهل الجنّه ؟ فإن صدّقتموني بـمـا أقـول وهو الحـقّ ، واللّه ما تـعـمّدت الكـذب منذ علمت أنَّ اللّه يمقت عليه أهله ، ويضرّ بـه من اخـتـلقه ، وإنْ كذبتموني فإنَّ فيكم مَن إنْ سألتموه عن ذلك أخـبـركم ، سـلوا جـابر بنعبداللّه الأنصـاري ، وأبا سعيد الخدري ، وســهـل بــن سعـد الساعدي ، وزيد بن أرقـم وأنس بن مالك ، يخــبروكم أنهم سـمعـوا هذه المقالة من رسول اللّه لي ولأخـي ، أما في هذا حـاجـزٌ لكم عن سفك دمي؟ فـقـال الشــمـر : هو يـعـبــد اللّه على حــرف إنْ كـانَ يدري ما يقول فقال له حــبــيـب بن مظـاهر واللّه إنّي أراكَ تــبعـد اللّه على سـبعين حـرفـاً ،وأنا أشهدُ انك صادق ما تدري ما يقول ، قد طَبعَ اللّه على قلبك ثـمّ قـال الحـسـين : فـإنْ كـنتـم في شـكّ من هـذا القول،أفتشكّون أني ابـن بــنـت نبـيـكـم ، فـواللّه ما بـين المشــرق والمغــرب ابنُ بنت نبيّ غيري فيكم ولا في غيركم ، ويحـكم أ تـطْلُبـوني بقتيل منكم قتلته أو مالٍ لكم اسـتهلكتُه أو بقصاصِ جِراحةٍ ؟ فأخذوا لا يُكلّمونه فـنـادى : يـا شـبـث بـن ربعـي ، ويا حـجـار بن أبجر ، ويا قـيس بن الاشعث ، ويازيد بـن الحـارث ، ألم تـكتبوا إليّ : أن اقدِم قَد أيْنعـَتِ الثمار ، وأخضـرَّ الجناب وإنّما تَقْدِم على جند لك مجندة ؟
فقالوا : لم نفعل ، قال : سبحان اللّه بلى واللّه لقد فعلتم !!
ثـمّ قـال : أيـهـا النـاس إذا كـرهتــموني فـدعـوني أنصـرفُ عنكم إلى مأمني من الأرض
فـقـال له قيـس بـن الأشـعـث : أوَلا تـنزل على حـكـم بني عمّك؟ فإنهّم لن يُروك إلاّ ما تحب ، ولن يصل إليك منهم مكروه
فـقـال الحـسـيـن : أنت أخـو أخيك ؟ أتريد أن يطـلبَك بنو هـاشـم أكثـر من دم مســلم بــن عـقـيـل ؟ لا واللّه لا اُعطــيهُم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أفـرّ فـرار العـبــيـد . عباد اللّه إنّي عُذت بربي وربِكـم أن ترجــمون ، أعوذ بربي وربــكـم من كلّ متــكبـر لا يـؤمن بـيوم الحـسـاب . ثــمّ أناخَ راحلته وأمر عقبة بن سمعان فعقلها
لم أنســهُ إذ قام فيهـم خاطبـا ل فإذا هـمُ لا يملكـون خطابــا
يدعو ألسـتُ أنا ابن بنت نبيكـم وملاذَكـم إن صرفُ دهرٍ نابا
هل جئت في دين النبـي ببدعــة أم كنتُ في أحكامــه مرتابـا
أم لم يُــوصِّ بنا النـبيُ وأودعَ الثقلـيـن فيكـم عترةً وكتابـا
إن لم تدينــوا بالمعـادِ فراجـعـوا أحسـابَكُـم إن كنـتـمُ أعرابا
فغدوا حيارى لا يَرون َلــوعـظِـهِ إلا الأسنــةَ والسهـــامَ جـوابا
* الزحف ومحاورة عبد الله بن حوزة
وأقبل القوم يـزحـفـون نحوه ، وكـان فيهم عـبـد اللّه بن حوزة َ التميمـي ، فـصاح : أفيكم حسين ؟
وفي الثـالثة قـال أصحاب الحسين : هذا الحسين
فما تريد ؟ قال : يا حسين أبشر بالنار
قال الحـسـين : كذبـت بل أقدم عـلى ربّ غـفور كريم مطـاع شـفيع، فمنْ أنت ؟
قال : ابن حوزة فـرفع الحـسـيـن يديه حتـى بــانَ بـيـاضُ ابطـيَهِ وقـال : اللهم حُزه الى النــار فـغـضـب ابن حــوزة ، وأقـحم الفرس إليـه وكـان بينهما نهر ، فعـلقت قدمه بـالركاب ، وجـالت به الفـرس فسقط عـنها ، وانقطعت قدمه وساقه وفخـذه ، وبـقـي جـانبـه الآخـر مـعـلّقاً بـالركـاب ، وأخذت الفـرس تضـرب به كلَّ حجر وشجر حتىهلك .
قال مسـروق بـن وائل الحـضـرمي : كنت فـي أول الخـيل التي تقدّمَتْ لحرب الحـسـيـن ، لعـلّي ان اُصـيب رأس الحسين ، فـأحظـى به عند ابن زياد ، فلمّا رأيـت مـا صـُنـع بــابـن حـوزة ، عرفـت أن لاهـل هذا البـيت حرمة ومنزلة عند اللّه ، وتركت النّاس وقلتُ : لا أُقاتلهم فأكون في النار
خطاب زهير بن القين
وخــرج إليـهـم زهيرُ بــن القـين عـلى فـرس ذنوب ، وهو شـاك في السلاح فـقـال : يا أهل الكـوفة نذارِ لكم من عـذاب اللّه نذار ، إن حـقاً على المسـلم نصـيحـة أخـيه المـسـلم ، ونحن حتـى الآن اخوة عـلى دين واحد ، ما لم يقـع بـيننا وبينكم السـيف ، وأنتـم للنصيحـة منا أهل ، فإذا وقع السيف انقطعت العـصـمـة ،وكـُنّا اُمّة وأنتـم اُمّه . إن اللّه ابــتلانا وإيـّاكم بـذرية نبـيّه محـمّد ، لينظـر ما نحـن وأنتـم عـاملون ، إنّا ندعوكم إلى نصـرهم ، وخـذلانِ الطـاغية يزيد وعبـيداللّه بن زياد ، فإنكم لا تـدركون منهما إلاّ سـوء عمر سلطـانهما، ليـسـمـلان أعـينكـم ، ويقـطـعان أيديكم وأرجـلكم ، ويمثـّلان بــكم ،و يـرفـعـانـكـم على جـذوع النخـل ، ويقـتـلان أماثـلكم و قراءكم ، أمثال : حـجـر بـن عـدي وأصـحابـه ، وهاني بـن عروة وأشـباهه . فـسـبّوه وأثـنوا عـلى عبــيـداللّه بـن زياد ودعوا له وقـالوا : لا نبـرح حتــى نقتل صــاحبك ومن معه ، أو نبعث به وبأصحابه إلى عبيداللّه بن زياد سلماً
فـقـال زهير: عـبـاد اللّه إنّ ولد فاطـمة أحـقّ بـالوُدّ والنصـر من ابن سـميـة ، فـإن لم تـنصـروهم فاُعـيذكم بـاللّه أنْ تقتلوهم ، فخـلّوا بين هذا الرجـل وبين يزيد ، فلعمري إنّه ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين فـرماه الشـمر بـسـهم وقـال : اسكـتْ ؛ اسكتَ اللّه نامتك ، أبرمتنا بكثـرة كلامك فـقـال زهـيـر : يا ابـن البّوال عـلى عقبيه مـا إياك اُخـاطـب، إنما أنت بهيمة ، واللّه ما أظـنك تـحـكم من كتاب اللّه آيتين ، فـأبشـر بالخـزي يوم القـيامة والعذاب الأليم
فقال الشمر : إن اللّه قاتلك وصاحبك عن ساعة
فـقـال زهـيـر : أفبـالمـوت تخـوفنـي ؟ فواللّه لَلْمَوت معـه أحـبّ إليّ من الخلد معـكم . ثـم أقـبـل على القوم رافـعاً صـوتـه وقال : عباد اللّه لا يغـرّنّكم عن دينـكـم هـذا الجـِلفُ الجافي وأشـبـاهه ، فواللّه لا تـنال شفاعـة مُحـمّد قـوماً هـرقـوا دمـاء ذرّيـتـه وأهل بـيته ، وقتلوا من نصـرهم ، وذبَّ عـن حــريمهـم فـنـاداه رجـل مـن أصـحـابـه : إن أبـا عـبـداللّه يقـول لك : أقبـل ، فلعمري لئن كـان مـؤمن آل فـرعـون نصـح قـومه ، وأبــلغ في الدعاء، فلقد نصحت هؤلاء ، وأبلغت لو نفع النُّصح والإبلاغ
* خطاب برير بن خضير
واسـتـأذن الحـسيـنَ بـريرُ بـن خـضـير فـي أن يكـلّم القـوم ، فأذن له ، وكان شـيخـاً تـابـعـياَ ناسـكاً قـارئاً للقرآن ، ومن شيوخ القرّآء فـي جـامع الكوفـة وله فــي الهمـدانـيين شــرف وقــدر وجــلالة . فوقف قريبــاً منهم ونـــادى : يا معـشـر الناس إن اللّه بـعث محـمداً بشيراً ونذيراً وداعياً إلى اللّه وسراجـاً مـنيراً وهذا ماء الفـرات تقـع فيه خـنازير السـواد و كـلابـه ، وقد حـيل بينه وبين ابن بنت رسول اللّه ، أفجزاءُ محمد هذا ؟
فـقـالوا : يا بـُرير قد أكـثـرت الكلام فاكفف عـنّا ، فواللّه ليعطـش الحـسـين كما عطش من كان قبله
قـال : يا قوم إنّ ثقل محـمّد قد أصـبـح بين أظـهركم ، وهؤلاء ذريّتُه وعـترتُه وبــناتُه وحــُرمُه ، فـهاتوا ما عــنـدكـم وما الذي تريدون أن تصــنعوه بـهم؟
فـقـالوا : نـريـد أن نمكّن مـنكم الأمير عــبــيداللّه بـن زياد فيرى فيهم رأيه
قـال : أفـلا تـقبـلون مـنهم أن يرجـعـوا إلى المكـان الذي جاءوا منه ؟ ويلكم يا أهل الكـوفـة أنـسـيتم كتبـكم ؟ ويلكم أدعـوتم أهل بيت نبيكم وزعمتـم أنـكـم تـقتلون انفـسكم دونهم ، حـتى إذا أتوكم أسلمتموهم إلى ابـن زياد ، وحلأتموهم عن ماء الفرات ، بئس ما خلفتم نبيكم في ذريته مالكم ؟ لا سقاكم اللّه يوم القيامة فبئس القوم أنتم
فقال له نفر منهم : يا هذا ما ندري ما تقول؟
قـال : الحـمـدلله الذي زادني فـيكـم بـصـيرة، اللّهم إني أبرأ إليك من فعال هؤلاء القوم ، اللّهم القِ بـأسـهم بينهم ، حـتـى يلقوك وأنت عـليهم غضـبـان فجعل القوم يرمونه بالسهام فتقهقر إلى ورائه
* خطبة الحسين ( ع ) الثانية
ثـمّ إنَّ الحـسـين ركب فـرسه ، وأخـذ مصـحفاً ونشـره عـلى رأسه ، ووقـف بـإزاء القـوم وقال : يـاقوم إن بيني وبينكـم كتـاب اللّه وسـنّة جـدّي رســول اللّه صـلى اللّه عـليـه وآله وسـلم ثـمّ استــشـهدهم عن نفـسه المقـدّسة ، وما عـليـه مـن سـيف النبـي ودرعه وعمامتـه ، فأجـابوه بالتصـديق . فسألهم عمّا أقدمهم على قتله قالوا : طاعةً للامير عبيداللّه بن زياد
فـقـال عـليه السـلام : تـبـاً لكم أيّتها الجـماعة وترحـاً أحين استصـرخـتمونا والهين ،فأصرخـناكم موجفين ، سللتـم علينا سيفاً لنا في أيمانكم ، وحـششتم عـلينا ناراً اقـتـدحـناها على عدوّنا وعدوّكم فـأصـبـحتم ألباً لأعدائكم علـى أوليـائكـم ، بــغـير عـدل أفـشــوه فيكم ، ولا أمل أصـبـح لكم فيهم ، فهلاّ لكم الويلات تركتمونا والسيف مشيم والجأش طامن والرأي لما يستصحــف ، ولكـن أسـرعـتـم إليـهـا كطـيرة الدبــا ، وتـداعيتم عليها كتهافـت الفراش ثـمّ نـقـضـتـموها فـسـحـقاً لكـم يا عـبـيد الاُمّة ، وشـذاذ الأحزاب ، ونَبَذَةَ الكـتـاب ، ومـحـرّفـي الكلم ، وعـصـبة الإثـم ، ونفثـة الشـيطـان ،ومطفئي السـنن ويحـكم أهؤلاء تـعـضـدون ، وعنا تتخـاذلون أجـَلْ واللّه غـدرٌ فيكـم قـديـم ، و شـجـت عـليه اُصـولكـم، وتأزرت فـروعكم فكنـتم أخـبث ثمر شــجــيٍ للنـاظـر، وأكـلة للغـاصـب. ألا وإنّ الدّعـي بـن الدّعي ـ يعني ابـن زيـاد ـ قـدْ ركـز بــين اثــنتــين ، بـين السـّلة والذّلة ، وهـيهات مـنّا الذّلــة يـأبـى اللّه لنـا ذلك ورسـوله والمـؤمنون ، وحـُجـور طـابت وحجور طهرت واُنوف حـمية ، ونفوس أبـية من أن نؤثـر طـاعـة اللئام على مصـارع الكرام ألا وإنـي زاحـف بــهـذه الاُسـرة عـلى قـلة العدد وخـذلان الناصـر . ثــــم انشد أبيات فروة :
فـإن نهــــزم فهـــزّامــون قدمـا وإن نـُهْـــزَم فغـير مُهـزَّمينــــا
ومــا ان طبنــا جُـــبــْن ولكــن منـايانــا ودولـــة آخـرينــــا
فقـــل للشامتيــن بنــا أفيقـــوا سيلقــى الشامتـون كمــــا لقيـنا
أمـاواللّه لا تـلبــثـون بـعـدها إلاّ كـريـثما يركب الفـرس ، حتى تدور بكم دور الرحـى ، وتـقلِقَ بـكم قلق المحور ، عهد عهدهُ اليّ أبي عن جـدّي رسول اللّه صـلى اللّه عـليه وآله وسـلم فـأجـمعوا أمركـم وشـركاء كم ثـمّ لا يكـن أمـركـم عـليكم غـُمّة ، ثـمّ اقـضـوا إليّ ولا تـُنـظـرون إني تـوكلت على اللّه ربّي وربكّم ، ما من دابة إلاّ هــو آخــذ بناصــيتـــها ، إنّ ربّي عــلى صراط مسـتـقـيم . ثـمّ رفـع يديه وقال : اللّهم احـبـس عنهم قطـر السماء ، وابعث عـليـهـم سـنـين كـسـنيّ يوسـف وسلّط عليهم غـلام ثــقـيف يسقيهم كأساً مـصـبـّرة فـإنهم كـذّبونا وخـذلونا ، وانت ربُّنا عـليك توكّلنا وإليك المصير
* استدعاء عمر بن سعد
واسـتـدعـى عمـر بــن سعد فـدعي له وكـان كارهاً لا يحـب أن يأتيه. فقـال أي عـمـر : أتـزعم أنـك تقـتلني ويوليك الدعي بـلاد الري وجـرجان ؟ واللّـه لا تـتهنّئ بــذلك عـهـد مـعهود فـاصـنع ما أنت صانع ،فانك لاتفرح بعدي بـدنيا ولا آخـرة ، وكـأني بـرأسـك عـلى قـصـبـة يتـراماه الصبـيان بالكوفــة ، ويتخذونه غرضاً بينهم فطرق بوجهه عنه مغضباً
* توبة الحر
ولما سـمع الحـُرُّ بـن يزيد الرياحي كـلام أبـي عبـد اللّه الحسين واستـغـاثـته ، أقبل على عمر بن سعد وقال له: أمقاتل أنت هذا الرجل؟
قال: إي واللّه قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الأيدي قال : مالكم فيما عرضه عليكم من الخصال ؟
فقال :لو كان الأمر إليّ لقبلت ، ولكن أميرك ابن زياد يأبى ذلك فــتــركـه ووقــف مـع النـاس ، وكان إلى جــنب قرّة بن قيـس فقاللقرة : هل سقيت فرسك ؟ فقال : لا
قـال : فـهل تـريد أن تسـقيه ؟ فظـن قرة من ذلك انه يريد الإعـتزال ، ويكره أن يشـاهده أحـد ، فـتـركه فأخـذ الحُرُّ يدنو من الحسـين بـن عـلي قليلا قليلا فـقـال له المـهاجـر بـن أوس : أتـريد أن تحـمل ؟ فسكـت وأخـذتــه الرِّعــدة فارتاب المهاجر من هذا الحال
وقـال له : لو قيـل لي : مـن أشــجــع أهل الكـوفـة ؟ لما عدوتــك ، فما هـذا الذي أراه مـنـك ؟
فـقـال الحــُرُّ : إني أخـيّر نفسـي بــين الجـنة والنار ، واللّـه لا أخـتـار عـلى الجـنـة شـيئاً ولو اُحـرقـت. ثـم ضـرب جواده نحـو الحـسـين بــن عـلي ، مـنكـّسـاً بـرأسه حـياءً من آل الرسول بـما أتـى إليهم وجـعجــع بـهم فـي هذا المكـان عـلى غـير ماء ولا كلأ رافعاً صـوتـه : اللهّم إليك اُنيـب فــَتـُبْ عــليّ ، فقــد أرعـبـت قلوب أوليائك وأولاد نـبيك . يا أبا عـبداللّـــه ، إنّي تـائب فـهـل ترى لي مـن توبة ؟ ـ إلهنا ونحـن نتوب اليك في هذا المقـام الكريم
فـقـال الحـسـيـن : نعـم يتـوبُ اللّه عليك . فسرّه قول أبي عبد اللّه ، وتـيقّن الحـياة الأبـديّة ، والنعيم الدائم ، ووضـح له قول الهاتـف لما خرج من الكوفة ، فـحـدّث الحـسـيـن بـحديثه قـال فيه : لمـا خـرجـت من الكـوفة ، نوديـتُ: أبشر يا حرُّ بالجنّة فـقـلتُ : ويـل للحـر يُبـشـرّ بـالجـنـة ، وهـو يسـير إلى حرب ابن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
فقال له الحسين : لقد أصبت خيراً وأجراً
* نصيحة الحر للقوم
ثمّ استأذن الحسين في أن يُكلّمَ القوم ، فأذِن له
فـنـادى بــأعـلى صــوتـه : يـا أهل الكـوفة لأمـَكم الهَبَل والعبَر أدعوتـم هذا العـبـد الصـالح وزعمتـم أنكم قـاتلو أنفـسـكم دونه حتى إذا جـائكم أخـذتم بــكـظـمـه ، وأحـطـتـم بـه من كل جـانب ، فـمنعـتموه التوجه إلى بلاد اللّه العـريضـة ، حـتـى يأمن وأهل بـيته ، وأصـبح كالأسـير في أيديكم ، لا يملك لنفسـه نفعاً ولا ضراً ، وحـلأتـموه وصبـيته ونساءه وصحبه عن ماء الفرات الجـاري ، الذي يشـربـه اليهود والنـصـارى والمـجوس وَتـتـَمَرَغُ فـيه خـنازير السـواد وكلابـه وها هم قـد صـرعـهم العطـش، بـئس ما خـلفـتـم محـمداً في ذريتـه ، لاسـقـاكـم اللّه يومَ الظـمأ . فـحـملت عـليه رجـّالة ترميه بـالنبـل ، فـتـقـهقر حـتى وقف أمـام الحسـين . اذ انّ الحسين بـن عـلي منع اصحابه وأهـل بـيـتـه مـن أن يبـدأوا القـوم بـقتال قط ، فـلذلك ترىالأصـحـاب في كـل مقـام وعـظ وارشـاد وتـوجـيه يرشقون بـالسـهام او يحـمل عليهم احـد تــراهـم يـتراجـعـون الى ورائهم امتثــالاً لأمر امامهم وسـيدهم ابـي عبـداللّه الحسين اذ انه ما يريد ان يبدأ كُلَّ أحد بقتال أبدا .
* امان الشمر للعباس واخوته
وصاح الشمر بـأعلى صوتـه : أين بنو اختنا ؟ أين العباس واخوته ، فأعرضوا عنه
فقال الحسين عليه السلام : أجيبوه ولو كان فاسقاً
قالوا : ما شأنك وما تريد ؟
فـقال : يا بـني اخـتـي انتم آمنون ، فلا تقتلوا انفسـكم مع الحـسين ، والزموا طاعة أميره ـ أمير الفاسقين يزيد ـ
فـقـال العــبــاس له : لعنـك اللّه ولعن أمـانك . أتـؤمننا وابن رسول اللّه لا أمـان له . وتــأمرنا أن ندخـل فـي طـاعـة اللعناء وأولاد اللعناء .وتقـدّم عمر بـن سـعد نحو عسكر الحسين . ورمى بسهم وقـال : إشـهدوا لي عند الأميرابن زياد أني أول من رمى ثم رمى الناس فلم يبق من أصحاب الحسين أحد إلاّ أصابه من سهامهم فـقـال عـــليه الســلام لاصـحابـه : قومـوا رحــمكـم اللّه إلى المــوت الذي لابـُدّ مـنـه ، فـإنّ هذه السـهام رُسُلُ القـوم إليـكـم . فحـمل أصـحـابـه حملة واحـدة واقتـتلوا ساعة فما انجلت الغبـرة إلاعن خـمسين صريعاً من أصحاب أبي عبد اللّه وخـرج يـسـار مـولى زياد، وسالم مولى عـبــيداللّه بـن زياد ، فـطـلبـا البـراز؟ فـوثـب حـبيب وبرير فلم يأذن لهما الحسـين، فقـام عـبداللّه بن عمير الكـلـبي مـن بــني عـَليم او عُليم وكـنيتـه أبـو وهب وكان طـويلاَ شـديد السـاعديـن ، بـعـيـد مـا بـين المنكـبـين ، شـريفـاً في قـومه شجـاعاً مجرباً فأذن له وقال : أحسبه للأقران قتّالا فقالا له : من أنت ؟ فانتسب لهما فقالا : لا نعرفُك ليخرج إلينا زهير أوحبيب أو برير وكـان يسـار قـريبـاً مـنه ، فـقال له : ياابن الزانيةأوَ بكَ رغـبة عـن مبارزتـي ، ثـمّ شـدّ عـليه بـسـيفـه يضـربـه ؛ وبـينا هو مشتـغـل بـه ؛ إذ شد عليه سالم ، فـصـاح أصحابــه : قـد رهقك العـبد ، فلم يـعبأ به، فضـربه سـالم بالسيف ، فـاتـقـاهـا عـبـداللّه بـيده اليسـرى ، فأطـار أصـابـعها ، ومـال عليه عبداللّه فقتله ، وأقبل إلى الحسين يرتجز وقد قتلهما معاً واخـذت أُم وهـب زوجـته عـموداً وأقـبلت نـحـوه تقول : فـداك أبـي وأُمّي قـاتـل دون الطـيبـين ذرية مـحـمّد ، فـأراد أن يردّها إلى الخيمة فلم تـُطاوعه ، وأخذت تجاذبه ثوبه وتقول : لن أدعك دون أن أموت معك فقال لها : الآن كنت تنهيني عن القتال والآن جئت تقاتلين معي
قالت : لا تلمني ان واعية الحسين كسرت قلبي !
فقال : ما الذي سمعتي منه
قالت : سمعته بباب الخيمة ينادي : واقلة ناصراه !
فنادى الحسين : سيدي أبا عبد اللّه ردها إلى الخيمة
فـنـاداهـا الحـسـين : جـُزيتـم عـن أهل بـيت نبـيكـم خـيراً إرجعي إلى الخيمة فـإنه ليس عـلى النساء قـتـال . فرجـعت . ولمـا نظـر من بـقي من أصـحــاب الحـسين إلى كثـرة من قُتـل منهم؛ أخـذ الرجـلان والثلاثة والأربـعة يستأذنونا لحــسـيـن فـي الذبِّ عـنه ، والدّفع عن حـُرمـه وكـل يحـميالآخر من كيد عدوه
المقتل ليوم العاشر من محرّم الحرام وما جرى على سيد الشهداء الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام حسب ما ورد في قراءة الشيخ عبد الزهراء الكعبي الذي يقرأه برواية السيد عبد الرزاق المقرّم
مقتل الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام
* فجر عاشوراء
لمـا أصـبــح الحسـيـن يوم عـاشـوراء ، وصلّى بـاصحابه صلاة الصبح ، قـام خـطـيبـاً فـيهم ، حـمد اللّه وأثـنى عـليه ، ثمّ قـال : ان اللّه سـبـحانه وتـعالى قـد أذن فـي قتـلكـم وقتـلي في هـذا اليوم ، فعـليكم بــالصـبـر والقتال . ثـمّ صـفـهـم للحـرب ، وكـانـوا سـبعـة وسبعيـن ما بين فارس وراجـل ، فجـعل زهير بـن القين فـي الميمنة ، وحـبيب بن مظـاهر في الميسـرة ، وأعـطـى رايتـه أخاه العباس ، وثبت هو عليه السلام وأهل بيته في القلب وأقـبـل عـمـر بـن سـعد نحـو الحسيـن فـي ثـلاثـين ألفاً ، وعلى الميمنة عمـرو بـن الحـجـاج الزبيدي ، وعـلى الميسـرة شـمر بن ذي الجوشن ، وعلى الخـيل عـزرة بــن قـيـس ، وعلى الرجـالة شـبث بن ربعي ، والراية مـع ذويد مولاه، وأقبـلوا يجـولون حـول البيوت ، فيرون النار تضـطـرم في الخـندق ، فنادى شمر بأعلى صوته : ياحسين تعجلت بالنار قبل يوم القيامة
فقال الحسين : من هذا ، كأنه شمر بن ذي الجوشن؟
قيل : نعم
فقال له يا ابن راعية المعزى أنت أولى بها مني صِلِيّا ورام مسـلم بــن عـوسجـة أن يـرمِيَه بـسهم ، فـمنعه الحـسين وقـال : أكـره أن أبدأهم بقتال .
* خطبة الحسين ( ع ) الأولى
ولما نظـر الحـسـين إلى جـمعـهم كأنه السيل ، رفع يديه بـالدعاء وقال : اللهّم أنـت ثــقـتي فـي كـل كرب ، ورجـائي في كل شـدة ، وأنت لي في كل أمر نـزل بــي ثـقـة وعـدّة ، كـم من هـمّ يضـعف فيه الفؤاد ، وتـقل ُّ فيه الحـيلة ، ويخـذل فـيه الصـديق ، ويشـمـت فيه العـدو ، أنـزلْتُه بِك ، وشكوتـُهُ إليـك ، رغـبـةً مـني اليك عـَمَّن سـواك ، فـكشـفتـَهُ وفرجـته ، فأنت وليُّ كلّ نعمة ، ومنتهى كل رغبةٍ ثـم دعـا بـراحـلتـه فركبها ، ونادى بصـوت عال يسـمعه جـُلُّهُم : أيها الناس إسـمعـوا قولي ولا تـعجـلوا ، حـتى أَعظـكم بـما هو حقُّ لكم عليَّ ، وحتّـى اعـتــذر إليـكـم من مقـدمي عليكم ، فـإن قبــلتـم عُذري ، وصـدقتم قولي ، و أعـطـيتـمـوني النَّصـف من أنْفُسـِكـم كنتم بذلك أسعد ولم يكن لكم علي سـبـيل ، وان لم تـقبلوا مني العـذر ولم تعطـوا النصـف من أنفسكم ، فأجمعوا أمـركـم وشـركاءكم ، ثـمّ لا يكن امركم عـليكم غـمّة،ثمّ اقـضـوا إليَّ ولا تــُنـظـِرون ، إنّ وليّي اللّه الذي نَزّ ل الكـتـاب ، وهو يتـولّى الصــالحــين فـلمّا سـمعـْنَ النساء هـذا منه صـحـْنَ وبـكـْينَ وارتـفعت أصواتهنَّ، فأرسـل اليهنَّ أخـاه العـبـاس وابنهعلياً الأكبر وقال لهما : سكّتـاهنَّ فـلعمري ليكثــر بـكـاؤهنَّ . ولمـا سـكتـْنَ حـمد اللّه واثـنى عـليه ، وصـلّى على محمّـد وعلـى الملائكة والأنبـياء ، وقال فـي ذلك ما لا يُحـصـى ذِكْرُه ،ولم يُسـمَع متـكلـم قـبـله ولا بـعـده أبلغ مـنه فـي منطـقه ، ثـمّ قال : الحمدلله الذي خـلق الدّنيا فـجـعـلها دار فناء وزوال ، مـتـصـرفة بـأهلها حـالاً بعد حال ، فالمغـرور من غـرّتـه ، والشـقـيّ مـن فـتـنتـه ، فلا تغرنكـم هذه الدّنيا ، فإنها تقطـع رجـاء من ركـن إليها ، وتـخـيّب طـمع من طمع فـيها ، وأراكم قـد اجـتمعتمعلى أمر قد أسـخـطـتـم اللّه فيه عليكم ، وأعرض بـوجـهه الكريم عنكم، وأحـلَّ بـكم نقمتـه ، وجنّبكم رحـمته . فنِعمَ الرّب ربُّنا ، وبئس العبيد انتم، أقررتم بـالطـاعـة ، وآمنتـم بـالرسـول محـمّد صـلى اللّه عليه وآله وسلم . ثـمَّ إنكـم زحـفـتـم إلى ذرّيته وعـترته ، تريدون قتلهم ، لقد اسـتحوذ عليكم الشـيطـان ، فأنساكم ذكر اللّه العظيم ، فتـبـاً لكم ولما تريدون، إنالله وانا إليه راجعون ، هؤلاء قوم كفـروا بـعـد إيمانهم ، فبُعداً للقوم الظـالمين. أيّها الناس انسبوني من أنا ؟ ثـمّ ارجـعـوا إلى انفسـكم وعاتـبـوها، وانظـروا هل يحـل لكم قتلي ؟ وانـتـهـاك حـرمـتي ؟ ألسـت ابــن بـنت نبيكم ؟ وابن وصـيّه ؟ وابن عـمه ؟ وأول المـؤمنـيـن بـاللّه ؟ والمصـّدق لرسـوله بـما جـاء من عـند ربّه؟ أوليس حـمزة سـيد الشـهداء عمّ أبـي ؟ أو ليس جـعفر الطّيار عمّي ؟ أوَ لَم يبلغكم قول رسول اللّه لي ولأخي : هذان سيّدا شبـاب أهل الجنّه ؟ فإن صدّقتموني بـمـا أقـول وهو الحـقّ ، واللّه ما تـعـمّدت الكـذب منذ علمت أنَّ اللّه يمقت عليه أهله ، ويضرّ بـه من اخـتـلقه ، وإنْ كذبتموني فإنَّ فيكم مَن إنْ سألتموه عن ذلك أخـبـركم ، سـلوا جـابر بنعبداللّه الأنصـاري ، وأبا سعيد الخدري ، وســهـل بــن سعـد الساعدي ، وزيد بن أرقـم وأنس بن مالك ، يخــبروكم أنهم سـمعـوا هذه المقالة من رسول اللّه لي ولأخـي ، أما في هذا حـاجـزٌ لكم عن سفك دمي؟ فـقـال الشــمـر : هو يـعـبــد اللّه على حــرف إنْ كـانَ يدري ما يقول فقال له حــبــيـب بن مظـاهر واللّه إنّي أراكَ تــبعـد اللّه على سـبعين حـرفـاً ،وأنا أشهدُ انك صادق ما تدري ما يقول ، قد طَبعَ اللّه على قلبك ثـمّ قـال الحـسـين : فـإنْ كـنتـم في شـكّ من هـذا القول،أفتشكّون أني ابـن بــنـت نبـيـكـم ، فـواللّه ما بـين المشــرق والمغــرب ابنُ بنت نبيّ غيري فيكم ولا في غيركم ، ويحـكم أ تـطْلُبـوني بقتيل منكم قتلته أو مالٍ لكم اسـتهلكتُه أو بقصاصِ جِراحةٍ ؟ فأخذوا لا يُكلّمونه فـنـادى : يـا شـبـث بـن ربعـي ، ويا حـجـار بن أبجر ، ويا قـيس بن الاشعث ، ويازيد بـن الحـارث ، ألم تـكتبوا إليّ : أن اقدِم قَد أيْنعـَتِ الثمار ، وأخضـرَّ الجناب وإنّما تَقْدِم على جند لك مجندة ؟
فقالوا : لم نفعل ، قال : سبحان اللّه بلى واللّه لقد فعلتم !!
ثـمّ قـال : أيـهـا النـاس إذا كـرهتــموني فـدعـوني أنصـرفُ عنكم إلى مأمني من الأرض
فـقـال له قيـس بـن الأشـعـث : أوَلا تـنزل على حـكـم بني عمّك؟ فإنهّم لن يُروك إلاّ ما تحب ، ولن يصل إليك منهم مكروه
فـقـال الحـسـيـن : أنت أخـو أخيك ؟ أتريد أن يطـلبَك بنو هـاشـم أكثـر من دم مســلم بــن عـقـيـل ؟ لا واللّه لا اُعطــيهُم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أفـرّ فـرار العـبــيـد . عباد اللّه إنّي عُذت بربي وربِكـم أن ترجــمون ، أعوذ بربي وربــكـم من كلّ متــكبـر لا يـؤمن بـيوم الحـسـاب . ثــمّ أناخَ راحلته وأمر عقبة بن سمعان فعقلها
لم أنســهُ إذ قام فيهـم خاطبـا ل فإذا هـمُ لا يملكـون خطابــا
يدعو ألسـتُ أنا ابن بنت نبيكـم وملاذَكـم إن صرفُ دهرٍ نابا
هل جئت في دين النبـي ببدعــة أم كنتُ في أحكامــه مرتابـا
أم لم يُــوصِّ بنا النـبيُ وأودعَ الثقلـيـن فيكـم عترةً وكتابـا
إن لم تدينــوا بالمعـادِ فراجـعـوا أحسـابَكُـم إن كنـتـمُ أعرابا
فغدوا حيارى لا يَرون َلــوعـظِـهِ إلا الأسنــةَ والسهـــامَ جـوابا
* الزحف ومحاورة عبد الله بن حوزة
وأقبل القوم يـزحـفـون نحوه ، وكـان فيهم عـبـد اللّه بن حوزة َ التميمـي ، فـصاح : أفيكم حسين ؟
وفي الثـالثة قـال أصحاب الحسين : هذا الحسين
فما تريد ؟ قال : يا حسين أبشر بالنار
قال الحـسـين : كذبـت بل أقدم عـلى ربّ غـفور كريم مطـاع شـفيع، فمنْ أنت ؟
قال : ابن حوزة فـرفع الحـسـيـن يديه حتـى بــانَ بـيـاضُ ابطـيَهِ وقـال : اللهم حُزه الى النــار فـغـضـب ابن حــوزة ، وأقـحم الفرس إليـه وكـان بينهما نهر ، فعـلقت قدمه بـالركاب ، وجـالت به الفـرس فسقط عـنها ، وانقطعت قدمه وساقه وفخـذه ، وبـقـي جـانبـه الآخـر مـعـلّقاً بـالركـاب ، وأخذت الفـرس تضـرب به كلَّ حجر وشجر حتىهلك .
قال مسـروق بـن وائل الحـضـرمي : كنت فـي أول الخـيل التي تقدّمَتْ لحرب الحـسـيـن ، لعـلّي ان اُصـيب رأس الحسين ، فـأحظـى به عند ابن زياد ، فلمّا رأيـت مـا صـُنـع بــابـن حـوزة ، عرفـت أن لاهـل هذا البـيت حرمة ومنزلة عند اللّه ، وتركت النّاس وقلتُ : لا أُقاتلهم فأكون في النار
خطاب زهير بن القين
وخــرج إليـهـم زهيرُ بــن القـين عـلى فـرس ذنوب ، وهو شـاك في السلاح فـقـال : يا أهل الكـوفة نذارِ لكم من عـذاب اللّه نذار ، إن حـقاً على المسـلم نصـيحـة أخـيه المـسـلم ، ونحن حتـى الآن اخوة عـلى دين واحد ، ما لم يقـع بـيننا وبينكم السـيف ، وأنتـم للنصيحـة منا أهل ، فإذا وقع السيف انقطعت العـصـمـة ،وكـُنّا اُمّة وأنتـم اُمّه . إن اللّه ابــتلانا وإيـّاكم بـذرية نبـيّه محـمّد ، لينظـر ما نحـن وأنتـم عـاملون ، إنّا ندعوكم إلى نصـرهم ، وخـذلانِ الطـاغية يزيد وعبـيداللّه بن زياد ، فإنكم لا تـدركون منهما إلاّ سـوء عمر سلطـانهما، ليـسـمـلان أعـينكـم ، ويقـطـعان أيديكم وأرجـلكم ، ويمثـّلان بــكم ،و يـرفـعـانـكـم على جـذوع النخـل ، ويقـتـلان أماثـلكم و قراءكم ، أمثال : حـجـر بـن عـدي وأصـحابـه ، وهاني بـن عروة وأشـباهه . فـسـبّوه وأثـنوا عـلى عبــيـداللّه بـن زياد ودعوا له وقـالوا : لا نبـرح حتــى نقتل صــاحبك ومن معه ، أو نبعث به وبأصحابه إلى عبيداللّه بن زياد سلماً
فـقـال زهير: عـبـاد اللّه إنّ ولد فاطـمة أحـقّ بـالوُدّ والنصـر من ابن سـميـة ، فـإن لم تـنصـروهم فاُعـيذكم بـاللّه أنْ تقتلوهم ، فخـلّوا بين هذا الرجـل وبين يزيد ، فلعمري إنّه ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين فـرماه الشـمر بـسـهم وقـال : اسكـتْ ؛ اسكتَ اللّه نامتك ، أبرمتنا بكثـرة كلامك فـقـال زهـيـر : يا ابـن البّوال عـلى عقبيه مـا إياك اُخـاطـب، إنما أنت بهيمة ، واللّه ما أظـنك تـحـكم من كتاب اللّه آيتين ، فـأبشـر بالخـزي يوم القـيامة والعذاب الأليم
فقال الشمر : إن اللّه قاتلك وصاحبك عن ساعة
فـقـال زهـيـر : أفبـالمـوت تخـوفنـي ؟ فواللّه لَلْمَوت معـه أحـبّ إليّ من الخلد معـكم . ثـم أقـبـل على القوم رافـعاً صـوتـه وقال : عباد اللّه لا يغـرّنّكم عن دينـكـم هـذا الجـِلفُ الجافي وأشـبـاهه ، فواللّه لا تـنال شفاعـة مُحـمّد قـوماً هـرقـوا دمـاء ذرّيـتـه وأهل بـيته ، وقتلوا من نصـرهم ، وذبَّ عـن حــريمهـم فـنـاداه رجـل مـن أصـحـابـه : إن أبـا عـبـداللّه يقـول لك : أقبـل ، فلعمري لئن كـان مـؤمن آل فـرعـون نصـح قـومه ، وأبــلغ في الدعاء، فلقد نصحت هؤلاء ، وأبلغت لو نفع النُّصح والإبلاغ
* خطاب برير بن خضير
واسـتـأذن الحـسيـنَ بـريرُ بـن خـضـير فـي أن يكـلّم القـوم ، فأذن له ، وكان شـيخـاً تـابـعـياَ ناسـكاً قـارئاً للقرآن ، ومن شيوخ القرّآء فـي جـامع الكوفـة وله فــي الهمـدانـيين شــرف وقــدر وجــلالة . فوقف قريبــاً منهم ونـــادى : يا معـشـر الناس إن اللّه بـعث محـمداً بشيراً ونذيراً وداعياً إلى اللّه وسراجـاً مـنيراً وهذا ماء الفـرات تقـع فيه خـنازير السـواد و كـلابـه ، وقد حـيل بينه وبين ابن بنت رسول اللّه ، أفجزاءُ محمد هذا ؟
فـقـالوا : يا بـُرير قد أكـثـرت الكلام فاكفف عـنّا ، فواللّه ليعطـش الحـسـين كما عطش من كان قبله
قـال : يا قوم إنّ ثقل محـمّد قد أصـبـح بين أظـهركم ، وهؤلاء ذريّتُه وعـترتُه وبــناتُه وحــُرمُه ، فـهاتوا ما عــنـدكـم وما الذي تريدون أن تصــنعوه بـهم؟
فـقـالوا : نـريـد أن نمكّن مـنكم الأمير عــبــيداللّه بـن زياد فيرى فيهم رأيه
قـال : أفـلا تـقبـلون مـنهم أن يرجـعـوا إلى المكـان الذي جاءوا منه ؟ ويلكم يا أهل الكـوفـة أنـسـيتم كتبـكم ؟ ويلكم أدعـوتم أهل بيت نبيكم وزعمتـم أنـكـم تـقتلون انفـسكم دونهم ، حـتى إذا أتوكم أسلمتموهم إلى ابـن زياد ، وحلأتموهم عن ماء الفرات ، بئس ما خلفتم نبيكم في ذريته مالكم ؟ لا سقاكم اللّه يوم القيامة فبئس القوم أنتم
فقال له نفر منهم : يا هذا ما ندري ما تقول؟
قـال : الحـمـدلله الذي زادني فـيكـم بـصـيرة، اللّهم إني أبرأ إليك من فعال هؤلاء القوم ، اللّهم القِ بـأسـهم بينهم ، حـتـى يلقوك وأنت عـليهم غضـبـان فجعل القوم يرمونه بالسهام فتقهقر إلى ورائه
* خطبة الحسين ( ع ) الثانية
ثـمّ إنَّ الحـسـين ركب فـرسه ، وأخـذ مصـحفاً ونشـره عـلى رأسه ، ووقـف بـإزاء القـوم وقال : يـاقوم إن بيني وبينكـم كتـاب اللّه وسـنّة جـدّي رســول اللّه صـلى اللّه عـليـه وآله وسـلم ثـمّ استــشـهدهم عن نفـسه المقـدّسة ، وما عـليـه مـن سـيف النبـي ودرعه وعمامتـه ، فأجـابوه بالتصـديق . فسألهم عمّا أقدمهم على قتله قالوا : طاعةً للامير عبيداللّه بن زياد
فـقـال عـليه السـلام : تـبـاً لكم أيّتها الجـماعة وترحـاً أحين استصـرخـتمونا والهين ،فأصرخـناكم موجفين ، سللتـم علينا سيفاً لنا في أيمانكم ، وحـششتم عـلينا ناراً اقـتـدحـناها على عدوّنا وعدوّكم فـأصـبـحتم ألباً لأعدائكم علـى أوليـائكـم ، بــغـير عـدل أفـشــوه فيكم ، ولا أمل أصـبـح لكم فيهم ، فهلاّ لكم الويلات تركتمونا والسيف مشيم والجأش طامن والرأي لما يستصحــف ، ولكـن أسـرعـتـم إليـهـا كطـيرة الدبــا ، وتـداعيتم عليها كتهافـت الفراش ثـمّ نـقـضـتـموها فـسـحـقاً لكـم يا عـبـيد الاُمّة ، وشـذاذ الأحزاب ، ونَبَذَةَ الكـتـاب ، ومـحـرّفـي الكلم ، وعـصـبة الإثـم ، ونفثـة الشـيطـان ،ومطفئي السـنن ويحـكم أهؤلاء تـعـضـدون ، وعنا تتخـاذلون أجـَلْ واللّه غـدرٌ فيكـم قـديـم ، و شـجـت عـليه اُصـولكـم، وتأزرت فـروعكم فكنـتم أخـبث ثمر شــجــيٍ للنـاظـر، وأكـلة للغـاصـب. ألا وإنّ الدّعـي بـن الدّعي ـ يعني ابـن زيـاد ـ قـدْ ركـز بــين اثــنتــين ، بـين السـّلة والذّلة ، وهـيهات مـنّا الذّلــة يـأبـى اللّه لنـا ذلك ورسـوله والمـؤمنون ، وحـُجـور طـابت وحجور طهرت واُنوف حـمية ، ونفوس أبـية من أن نؤثـر طـاعـة اللئام على مصـارع الكرام ألا وإنـي زاحـف بــهـذه الاُسـرة عـلى قـلة العدد وخـذلان الناصـر . ثــــم انشد أبيات فروة :
فـإن نهــــزم فهـــزّامــون قدمـا وإن نـُهْـــزَم فغـير مُهـزَّمينــــا
ومــا ان طبنــا جُـــبــْن ولكــن منـايانــا ودولـــة آخـرينــــا
فقـــل للشامتيــن بنــا أفيقـــوا سيلقــى الشامتـون كمــــا لقيـنا
أمـاواللّه لا تـلبــثـون بـعـدها إلاّ كـريـثما يركب الفـرس ، حتى تدور بكم دور الرحـى ، وتـقلِقَ بـكم قلق المحور ، عهد عهدهُ اليّ أبي عن جـدّي رسول اللّه صـلى اللّه عـليه وآله وسـلم فـأجـمعوا أمركـم وشـركاء كم ثـمّ لا يكـن أمـركـم عـليكم غـُمّة ، ثـمّ اقـضـوا إليّ ولا تـُنـظـرون إني تـوكلت على اللّه ربّي وربكّم ، ما من دابة إلاّ هــو آخــذ بناصــيتـــها ، إنّ ربّي عــلى صراط مسـتـقـيم . ثـمّ رفـع يديه وقال : اللّهم احـبـس عنهم قطـر السماء ، وابعث عـليـهـم سـنـين كـسـنيّ يوسـف وسلّط عليهم غـلام ثــقـيف يسقيهم كأساً مـصـبـّرة فـإنهم كـذّبونا وخـذلونا ، وانت ربُّنا عـليك توكّلنا وإليك المصير
* استدعاء عمر بن سعد
واسـتـدعـى عمـر بــن سعد فـدعي له وكـان كارهاً لا يحـب أن يأتيه. فقـال أي عـمـر : أتـزعم أنـك تقـتلني ويوليك الدعي بـلاد الري وجـرجان ؟ واللّـه لا تـتهنّئ بــذلك عـهـد مـعهود فـاصـنع ما أنت صانع ،فانك لاتفرح بعدي بـدنيا ولا آخـرة ، وكـأني بـرأسـك عـلى قـصـبـة يتـراماه الصبـيان بالكوفــة ، ويتخذونه غرضاً بينهم فطرق بوجهه عنه مغضباً
* توبة الحر
ولما سـمع الحـُرُّ بـن يزيد الرياحي كـلام أبـي عبـد اللّه الحسين واستـغـاثـته ، أقبل على عمر بن سعد وقال له: أمقاتل أنت هذا الرجل؟
قال: إي واللّه قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الأيدي قال : مالكم فيما عرضه عليكم من الخصال ؟
فقال :لو كان الأمر إليّ لقبلت ، ولكن أميرك ابن زياد يأبى ذلك فــتــركـه ووقــف مـع النـاس ، وكان إلى جــنب قرّة بن قيـس فقاللقرة : هل سقيت فرسك ؟ فقال : لا
قـال : فـهل تـريد أن تسـقيه ؟ فظـن قرة من ذلك انه يريد الإعـتزال ، ويكره أن يشـاهده أحـد ، فـتـركه فأخـذ الحُرُّ يدنو من الحسـين بـن عـلي قليلا قليلا فـقـال له المـهاجـر بـن أوس : أتـريد أن تحـمل ؟ فسكـت وأخـذتــه الرِّعــدة فارتاب المهاجر من هذا الحال
وقـال له : لو قيـل لي : مـن أشــجــع أهل الكـوفـة ؟ لما عدوتــك ، فما هـذا الذي أراه مـنـك ؟
فـقـال الحــُرُّ : إني أخـيّر نفسـي بــين الجـنة والنار ، واللّـه لا أخـتـار عـلى الجـنـة شـيئاً ولو اُحـرقـت. ثـم ضـرب جواده نحـو الحـسـين بــن عـلي ، مـنكـّسـاً بـرأسه حـياءً من آل الرسول بـما أتـى إليهم وجـعجــع بـهم فـي هذا المكـان عـلى غـير ماء ولا كلأ رافعاً صـوتـه : اللهّم إليك اُنيـب فــَتـُبْ عــليّ ، فقــد أرعـبـت قلوب أوليائك وأولاد نـبيك . يا أبا عـبداللّـــه ، إنّي تـائب فـهـل ترى لي مـن توبة ؟ ـ إلهنا ونحـن نتوب اليك في هذا المقـام الكريم
فـقـال الحـسـيـن : نعـم يتـوبُ اللّه عليك . فسرّه قول أبي عبد اللّه ، وتـيقّن الحـياة الأبـديّة ، والنعيم الدائم ، ووضـح له قول الهاتـف لما خرج من الكوفة ، فـحـدّث الحـسـيـن بـحديثه قـال فيه : لمـا خـرجـت من الكـوفة ، نوديـتُ: أبشر يا حرُّ بالجنّة فـقـلتُ : ويـل للحـر يُبـشـرّ بـالجـنـة ، وهـو يسـير إلى حرب ابن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
فقال له الحسين : لقد أصبت خيراً وأجراً
* نصيحة الحر للقوم
ثمّ استأذن الحسين في أن يُكلّمَ القوم ، فأذِن له
فـنـادى بــأعـلى صــوتـه : يـا أهل الكـوفة لأمـَكم الهَبَل والعبَر أدعوتـم هذا العـبـد الصـالح وزعمتـم أنكم قـاتلو أنفـسـكم دونه حتى إذا جـائكم أخـذتم بــكـظـمـه ، وأحـطـتـم بـه من كل جـانب ، فـمنعـتموه التوجه إلى بلاد اللّه العـريضـة ، حـتـى يأمن وأهل بـيته ، وأصـبح كالأسـير في أيديكم ، لا يملك لنفسـه نفعاً ولا ضراً ، وحـلأتـموه وصبـيته ونساءه وصحبه عن ماء الفرات الجـاري ، الذي يشـربـه اليهود والنـصـارى والمـجوس وَتـتـَمَرَغُ فـيه خـنازير السـواد وكلابـه وها هم قـد صـرعـهم العطـش، بـئس ما خـلفـتـم محـمداً في ذريتـه ، لاسـقـاكـم اللّه يومَ الظـمأ . فـحـملت عـليه رجـّالة ترميه بـالنبـل ، فـتـقـهقر حـتى وقف أمـام الحسـين . اذ انّ الحسين بـن عـلي منع اصحابه وأهـل بـيـتـه مـن أن يبـدأوا القـوم بـقتال قط ، فـلذلك ترىالأصـحـاب في كـل مقـام وعـظ وارشـاد وتـوجـيه يرشقون بـالسـهام او يحـمل عليهم احـد تــراهـم يـتراجـعـون الى ورائهم امتثــالاً لأمر امامهم وسـيدهم ابـي عبـداللّه الحسين اذ انه ما يريد ان يبدأ كُلَّ أحد بقتال أبدا .
* امان الشمر للعباس واخوته
وصاح الشمر بـأعلى صوتـه : أين بنو اختنا ؟ أين العباس واخوته ، فأعرضوا عنه
فقال الحسين عليه السلام : أجيبوه ولو كان فاسقاً
قالوا : ما شأنك وما تريد ؟
فـقال : يا بـني اخـتـي انتم آمنون ، فلا تقتلوا انفسـكم مع الحـسين ، والزموا طاعة أميره ـ أمير الفاسقين يزيد ـ
فـقـال العــبــاس له : لعنـك اللّه ولعن أمـانك . أتـؤمننا وابن رسول اللّه لا أمـان له . وتــأمرنا أن ندخـل فـي طـاعـة اللعناء وأولاد اللعناء .وتقـدّم عمر بـن سـعد نحو عسكر الحسين . ورمى بسهم وقـال : إشـهدوا لي عند الأميرابن زياد أني أول من رمى ثم رمى الناس فلم يبق من أصحاب الحسين أحد إلاّ أصابه من سهامهم فـقـال عـــليه الســلام لاصـحابـه : قومـوا رحــمكـم اللّه إلى المــوت الذي لابـُدّ مـنـه ، فـإنّ هذه السـهام رُسُلُ القـوم إليـكـم . فحـمل أصـحـابـه حملة واحـدة واقتـتلوا ساعة فما انجلت الغبـرة إلاعن خـمسين صريعاً من أصحاب أبي عبد اللّه وخـرج يـسـار مـولى زياد، وسالم مولى عـبــيداللّه بـن زياد ، فـطـلبـا البـراز؟ فـوثـب حـبيب وبرير فلم يأذن لهما الحسـين، فقـام عـبداللّه بن عمير الكـلـبي مـن بــني عـَليم او عُليم وكـنيتـه أبـو وهب وكان طـويلاَ شـديد السـاعديـن ، بـعـيـد مـا بـين المنكـبـين ، شـريفـاً في قـومه شجـاعاً مجرباً فأذن له وقال : أحسبه للأقران قتّالا فقالا له : من أنت ؟ فانتسب لهما فقالا : لا نعرفُك ليخرج إلينا زهير أوحبيب أو برير وكـان يسـار قـريبـاً مـنه ، فـقال له : ياابن الزانيةأوَ بكَ رغـبة عـن مبارزتـي ، ثـمّ شـدّ عـليه بـسـيفـه يضـربـه ؛ وبـينا هو مشتـغـل بـه ؛ إذ شد عليه سالم ، فـصـاح أصحابــه : قـد رهقك العـبد ، فلم يـعبأ به، فضـربه سـالم بالسيف ، فـاتـقـاهـا عـبـداللّه بـيده اليسـرى ، فأطـار أصـابـعها ، ومـال عليه عبداللّه فقتله ، وأقبل إلى الحسين يرتجز وقد قتلهما معاً واخـذت أُم وهـب زوجـته عـموداً وأقـبلت نـحـوه تقول : فـداك أبـي وأُمّي قـاتـل دون الطـيبـين ذرية مـحـمّد ، فـأراد أن يردّها إلى الخيمة فلم تـُطاوعه ، وأخذت تجاذبه ثوبه وتقول : لن أدعك دون أن أموت معك فقال لها : الآن كنت تنهيني عن القتال والآن جئت تقاتلين معي
قالت : لا تلمني ان واعية الحسين كسرت قلبي !
فقال : ما الذي سمعتي منه
قالت : سمعته بباب الخيمة ينادي : واقلة ناصراه !
فنادى الحسين : سيدي أبا عبد اللّه ردها إلى الخيمة
فـنـاداهـا الحـسـين : جـُزيتـم عـن أهل بـيت نبـيكـم خـيراً إرجعي إلى الخيمة فـإنه ليس عـلى النساء قـتـال . فرجـعت . ولمـا نظـر من بـقي من أصـحــاب الحـسين إلى كثـرة من قُتـل منهم؛ أخـذ الرجـلان والثلاثة والأربـعة يستأذنونا لحــسـيـن فـي الذبِّ عـنه ، والدّفع عن حـُرمـه وكـل يحـميالآخر من كيد عدوه
تعليق