إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

لهذا وقفت تحت ظل الشيرازي!

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • لهذا وقفت تحت ظل الشيرازي!

    لهذا وقفت تحت ظل الشيرازي!


    ‏ربما يبدو غريبا أمام إخواني المؤمنين أن أكشف لهم حقيقة أنني لم أكن أقلّد السيد الإمام الشيرازي (رضوان الله تعالى عليه) إلا قبل استشهاده بسنوات ليست بالبعيدة، بل أضيف أنه لم يكن يخطر ببالي يوما أن أقلّد هذا المرجع أو أن أؤمن بأفكاره ودعواته، أو أن أعمل في سبيل الله بما يوافق رؤاه.
    والاستغراب الذي قد ينتاب كثيرا من إخواني المؤمنين عند تصريحي بهذه الحقيقة علّته أنهم يعرفون عني أني من أشد المتحمسين للإمام الشيرازي (قدس سره) بل من الذين قد يراهم البعض يبالغون في تقديسه. والحق أن وراء هذا التحمّس الشديد والتقديس الكبير؛ قصة تحتاج إلى بيان، ولعل في هذا البيان نفع إن شاء الله تعالى. إلا أنني قبل أن أبدأ، أود أن أنفي عن نفسي صفة المبالغة في التقديس، فإني لم أدّع العصمة له (أعلى الله درجاته) كما ادعى غيري لغيره ممن علمتم! ولا قلت فيه ما لم أرَه فيه كما قال غيري من اختلاقات لصاحبه! ولئن كنت أراه بدلا من الأبدال، ووليا من أولياء الله الصالحين، فليس ذلك ذنبا أو جريرة، فهو هكذا حقا، ولا أقل منه ولربما كان أكثر. وما يدريني وقد عاينته وجالسته وخالطته مرارا، فوجدت فيه صفات لم أجدها حتى الساعة في آخر من البشر.

    وليس من ضروب المبالغة أو المغالاة أن أعتبره رجلا نادرا كان بحق نائبا مرضيا عند إمام الزمان صلوات الله وسلامه عليه. ومن يكون كذلك، فإن من المحتوم أن يشمله الإمام (عليه السلام) بمنّه وفضله وكرمه، فيودع فيه الأسرار، ويمدّه بالعلوم، ويمنحه قدرة خارقة منه، يطلّع فيها مثلا على بعض الغيب ككونه يعلم ماذا يدور في ذهن السائل قبل السؤال أو معرفته بموعد ارتحاله من الدنيا أو تنبؤه بالحروب الأخيرة التي وقعت بعده وهو ما سمعته منه بنفسي ولاحظه كثيرون آخرون. وفي هذا كلام يطول، ولكن نعود إلى أصل الموضوع.. والقصة التي وعدت ببيانها.
    لقد نشأت في بيئة لم تكن فحسب بعيدة عن المناخ الشيرازي – إن جاز التعبير – بل كانت بيئة معادية لكل ما يمت إليه بصلة! ولم يكن عداء تلك البيئة في حدود المعقول، ولا في مستوى المتوسط، بل كان عداء في أقصى مداه! لقد كان عداء مستحكما مستمرا متأصلا في النفوس المريضة والأذهان السقيمة! وقد لقننا أصحابها منذ نعومة الأظفار كيف نكره رجلا اسمه السيد الشيرازي!

    في وسط تلك البيئة نشأت، ولا أقصد البيئة الأسرية، وإن كانت أسرتنا - بالمعنى الأصغر لا الأكبر - قد وضعت حاجزا نفسيا بين أفرادها وبينه رضوان الله تعالى عليه؛ لكن هذا الحاجز كان نتاجا من تلك البيئة التي طغت علينا جميعا، وهي بيئة كان صانعها حزب سياسي ديني معروف، استطاع أن يجعل من إحدى المساجد الشهيرة في الكويت رأس حربة ضد هذا المرجع المظلوم الذي تعاظمت شعبيته في البلاد والتف حوله أهلها مما كان سببا لأن يخسر ذلك الحزب نفوذه وانتشاره، فأبى إلا أن يوقع الناس في فتنة عمياء لم تبقِ ولم تذر!
    في ذلك المسجد كنت أتلقى الدروس، وفيه منذ الصبى كنت أرفع الأذان وأرتل القرآن وأقرأ الأدعية للمصلين، ومنه كنت أمارس نشاطاتي الدينية، وفيه كنت ألتقي بمن خدعوني بمظهرهم الإيماني وباطنهم الدنيوي! فملأوا عقلي عداء للمرجع المظلوم، ومع أنني كنت أوافقهم، إلا أن قلبي كان ينقبض أحيانا انقباضا يبعث في نفسي الشك منهم، وكنت أقول: هل يُعقل أن لا تكون لهؤلاء "المتدينين" همة سوى إسقاط عالم دين؟! لنفترض أنه كان كما يرمونه به من سوء، ولكن هل من المعقول أن يصل الأمر إلى درجة التفريق بين الزوج وزوجته لأن هذه تقلّده وذاك لا؟! هل يصح لمن يدّعون أنهم يحملون رسالة الإسلام أن يحطموا حياة الأسر ويخربوا بيوت الناس من أجل إسقاط رجل لم نرَ منه إلا خيرا؟!

    كانت هذه الحال صعبة عليّ، أعني أن أرى أناسا قد وقعوا في فخّ هذا الحزب وتدّمرت حياتهم الاجتماعية بسبب هذه الفتنة، ولكني مع ذلك لم أكن أجرؤ أن أعترض أو أن أبدي شيئا من ذلك، فقد علّمنا ذلك الحزب أن نكون عبيدا مطيعين، لا حق لنا في نقاش "القيادات"! كنا صبية صغارا لا نعرف أين يُسار بنا سوى أن أسرنا سلّمتنا إلى هؤلاء لكي "يحفظونا" من الانحراف.. فإذا بهم ينحرفون بنا إلى منعطفات أشد خطورة وأكثر وعورة!

    لم أكن أتوقع وأنا في بداية مرحلة الشباب والحياة الدينية أن أرى هذه النماذج المأسوية في الوسط الديني من التطاحن بين من كنت أظنهم من "العلماء" فكنت أستهجنها وأنفر منها كثيرا. والشيء بالشيء يُذكر؛ فالذين دخلوا في عمق محيط المعممين والحوزات الدينية يدركون جيدا ماذا أقول فهناك ردّة فعل كبيرة من تصرفات البعض الطالح، والصورة من الداخل أكثر سلبية من الخارج، وهي قاتمة إلى حد ما إلا من بضع شموس مضيئة مازالت تعطينا الأمل وتبعث فينا الأمان فنشعر بأن "الحوزات مازالت بخير".. هؤلاء هم المعممون المخلصون، والعلماء الأتقياء الذين يستحقون حقا هذا التاج الإسلامي على رؤوسهم. ولكن هؤلاء معدودون على الأصابع، يندر وجودهم فهم كالكحل في العين والملح في الزاد.
    لقد كنت لا أستطيع تحمّل أن أشاهد بعض المعممين يقدحون في هذا المرجع بأسلوب لا ينم عن أخلاق العلماء إطلاقا، بل هو أقرب إلى أسلوب "أبناء الشوارع"! وكنت أتساءل في قرارة نفسي عن سبب كل هذه الضجة واللجة، وعن مسوغاتها الشرعية إن وجدت، فسألت بعضا هنا وبعضا هناك فلم أجد ما يمكن القبول به وما يستأهل كل هذا العداء والحقد!

    لم أجد في السيد الشيرازي انحرافا عقيديا واحدا، ولا مثلبة أخلاقية يتيمة، ولا خللا فكريا شاذا، ولا أي شيء من هذا القبيل، فلماذا إذن يقعون فيه ويغتابونه بهذا الشحن والتحريض العدائي المستمر؟!

    وأكثر ما أثار سخطي في تلك الفترة هو محاولة بعضهم تبرير هذا الموقف العدائي بالقول أن السيد الشيرازي يدّعي أنه الإمام المهدي المنتظر عليه السلام!! ولمّا أن سألناهم عن بيّنة ذلك قالوا: "اقرؤوا كتبه وسترون أنه يكتب اسمه على هذا النحو: محمد المهدي الحسيني الشيرازي!! فهو يقول أنه "محمد المهدي"! والحق أني لم أكن أتصوّر أن يبلغ سخف هؤلاء واستخفافهم بعقول البشر هذه الدرجة، فهل لأن السيد الشيرازي وسائر عائلته والقريبون منهم معتادون على استخدام (ألف لام التحلية) حسب ما تقتضيه الفصاحة العربية يكونون قد أجرموا ويصح اتهامهم ورميهم بالباطل والزور؟! وما قول هؤلاء في استخدام علمائنا الأوائل هذه القاعدة؟ هل يجرءون على قول أن السيد الشريف المرتضى لأنه كان يُطلَق عليه "المرتضى" يكون قد ادعى أنه أمير المؤمنين الإمام المرتضى عليه السلام؟! إن هذه هي لغة العرب، ولها شواهد كثيرة حتى في زماننا الحاضر، عند العلماء والوجهاء والأمراء وغيرهم كدلالة على التعظيم والتقدير، والسيد إنما أضاف (ألف لام التحلية) إلى والده قدس سره من هذا الباب، فكيف لم يتفكّر هؤلاء في هذا؟! وما بالهم على الأقل لم يحملوا أخاهم المؤمن على سبعين محملا كما أوصانا أهل البيت (عليهم السلام) فاعتبروا أن "محمد المهدي الحسيني الشيرازي" تمثّل إعلانا بالمهدوية والعياذ بالله؟! وهل هذا إلا من قبيل الاتهام بالبهتان؟! وألا يستحون من الله جل وعلا على هذا التصرف الشائن؟!

    على كل حال؛ عندما بلغت هذه الاتهامات الإمام المظلوم الراحل (قدس سره) ووصل إلى مسامعه أنهم قد روّجوا بين الناس أنه يدّعي المهدوية قام بحذف اسم والده أساسا من مؤلفاته وبات يكتب "محمد الحسيني الشيرازي"! والأعجب أنه (رضوان الله تعالى عليه) سامحهم على ما اقترفوه من ذنب بحقه، ولكن هؤلاء ما استحوا ولا تابوا إلى الله تعالى بل استمروا في إطلاق ونشر هذه الشائعة لتحطيم سمعة هذا الإمام العظيم، ولما بان سوء صنيعهم وامتعض الناس من قولهم حيث تبيّن لهم كذبهم وافتراؤهم، أرادوا أن يحفظوا ماء وجوههم فقالوا: "لم نقصد أنه يدّعي المهدوية ولكن قصدنا أنه يزعم أنه قد تتلمذ على يدي الإمام المهدي عليه السلام"!! فانظروا إلى قباحتهم ووقاحتهم! وحقا صدق سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ قال: "إنْ لم تستح فاصنع ما شئت".

    يوما بعد يوم كنت أتدبّر في أمر هؤلاء القوم فلا تطيب لي نفس للاستمرار في مخالطتهم، فما هم بمؤمنين ولو كانوا كذلك لما ارتكبوا ما ارتكبوه ضد هذا السيد التقي المجاهد الذي لم يفعل لهم شيئا سوى أنه حلّ بهذه الديار وقاد موجة إصلاحية شيعية واسعة النطاق بينما هم كانوا غارقين في نهبهم للحقوق الشرعية ونشر مبادئ التحزّب والفكر المنحرف المضل!

    غير أنهم حيث كانوا يعتمدون على الفتاوى المضادة التي صدرت حسدا وبغضا ضد هذا السيد الجليل فإنهم قد أكسبوا اتهاماتهم بعض الشرعية، وآنذاك لم نكن نستطيع أن نميّز الحق من الباطل مع الأسف، فالذين أصدروا الفتاوى كانوا يطرحون أنفسهم في مستوى المراجع وكان يصعب علينا أن نشكك في صحة ما ارتكبوه، فهذا "مرجع" ينسف "مرجعا" آخر؛ فأيهما على الحق وأيهما على الباطل؟! ولذا فإنني وكثيرين من أمثالي رضخوا لهذه الموجة الظالمة لما وقع في نفوسهم من الشك والحيرة التي أبعدتنا عن العلماء وأوساط المتدينين. وإني وإنْ لم أكن من أعدائه أو المحاربين له قدس الله نفسه، إلا أنني كنت قد أخذت مسافة بعيدة عنه، فتحاشيت أن أرتبط به بأي شكل، رجوعا وتقليدا، أو عملا واقتداء. فبقيت على هذه الحال من الجفاء والمقاطعة سنوات، كنت أظن فيها أن هذا هو الصواب، ولكن نفسي لم تكن تتمكن من إخفاء إعجابها بالإمام الشيرازي في أحيان كثيرة، فكلما وقع في يدي كتاب له، أو شريط، أو بيان، وكلما كنت أسمع عن أخلاقه وسجاياه، كان احترامي له يزداد ويكبر، ولكن الذين شحنوا نفوسنا بغضا ما تركوا لها الفرصة لأن تنفتح على هذا الرجل العملاق.
    وفي سنة من السنوات، حيث وقفت على قبائح شائنة لا يمكن أن تصدر من مؤمنين، وكان هؤلاء ممن نعتبرهم أصحاب المُثُل والمبادئ الدينية، فكان الذي وقفت عليه سببا لأن تهتز قناعاتي من الأعماق، فشككت في كل شيء، حتى كاد شكي أن يقع في الدين نفسه لولا رحمة الله تعالى! وليس ذلك بغريب، فإن أمثالي من المغرر بهم وقتذاك كانوا يعتبرون "القيادات" مثلا أعلى، فإذا سقطوا سقط كل ما كان يمثّلونه من قول أو فعل، وهو في مجمله كان يحض على الالتزام بالدين كما لا يخفى.

    بعد تلك الهزّة، ابتعدت واعتكفت في منزلي وقاطعت المساجد والحسينيات إلا في أوقات نادرة جدا، إذ بدأت أحس بأن كل هؤلاء المتدينين يكذبون! وأنهم في الظاهر شيء وفي الباطن شيء آخر! وازدادت عندي دائرة الشك والقلق حتى شملت الذين يزعمون أنهم من المراجع والفقهاء الكبار.. "ما الذي يضمن لي أن هؤلاء ليسوا أيضا كذابين مراوغين"؟! هكذا كنت أتساءل في قرارة نفسي بصمت، إذ لم أكن أملك الجرأة إطلاقا على الجهر بهذا التساؤل، لأنه كان يعني مروقا بكل ما لهذه الكلمة من معنى!

    أما الآن وبعدما خضت ما خضته من التجارب المريرة فإن عندي الشجاعة الأدبية الكاملة لأن أقول بأن بعض – وليس كل – هؤلاء كانوا فعلا لا يستحقون أن يُنسبوا إلى العلم والفضيلة، بل إن الدين منهم براء، فمنهم المنحرف عقيديا، ومنهم الذي لا تقوى له ولا عدالة ولا حتى ضمير!

    والآن قد عرفت جيدا معنى تحذير نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إن أخوف ما أخاف على أمتي زلات العلماء"! والآن قد أدركت كيف أن إمامنا المهدي (صلوات الله عليه) سيخرج ليقتص من بعض الذين ادعوا أنهم من العلماء! وإن من الواجب الشرعي عليّ أن أقول في هذا المقام، للناس وللتاريخ، لجميع المؤمنين والمؤمنات، أني اكتشفت أن الإمام الشيرازي (قدس الله نفسه) كان مظلوما ممن أفتوا ضدّه وألّبوا الناس عليه، وأن الذين أفتوا قادهم حسدهم – وهو آفة العلماء كما في الحديث - إلى فعلتهم هذه، وهذا هو مستندهم "الشرعي" الوحيد في إصدارهم لتلك الفتاوى الظالمة التي فرّقت الأمة وزرعت الفتنة بين صفوفها. هذا ما توصّلت إليه بعد بحث مضنٍ ناقشت وراجعت فيه كثيرين، حتى تبيّنت لي الحقائق والوقائع كاملة لا لبس فيها.
    إنني أعلم أن كثيرين يخشون أن يصرّحوا بهذه الحقيقة، فهم يخشون الناس، ولكن الله أحق أن نخشاه، وليس من الصحيح أن نخفي مساوئ البعض الطالح من أجل أن لا تتلوث سمعة البعض الصالح، فإن هذا الطالح قد أفسد سمعة الصالح لأننا لم نميّزه ولم ننفِ نسبته إلى سلك العلماء. لقد كتبت سابقا عن زمان استغلال العمامة، ونبّهت إخواني المؤمنين بضرورة أن يتفحصوا حال كل من اعتمرها ويتأكدوا من تقواه وعدالته وعلمه قبل أن يتّبعوه ويقبلوا قوله، ولكن لا يجب أن يُفهم كلامي على أنه تشكيك وطعن، بل هو على العكس من ذلك، تنزيه لعلمائنا الأجلاء المخلصين ممن أساء إليهم بتصرفاته وسوء صنائعه.

    يجب أن لا ننخدع بأي أحد، ولا يمكن تحاشي الانخداع إلا بالوعي والفحص والتدقيق والتحقيق. وهذا ما قمت به عندما عزمت على العودة إلى الوسط الديني والعمل الإسلامي بعد انقطاع كاد أن يكون نهائيا لما رأيته بأم العين من مساوئ وانحرافات ودجل وكذب وغيبة ونميمة!

    قررت في ذلك الحين أن لا أسلّم زمام أمري لأحد، وأن أبحث بمفردي عن الحقيقة وعن إجابة سؤال: "من هو العالم والفقيه الذي يستحق أن نتبعه في هذا الزمن"؟! فجرّدت نفسي عن كل العواطف، وبحثت مدة طويلة عن الأصلح والأعلم والأتقى والأعدل، وعن الذي لا تشوبه شائبة، وعن الذي يملك مشروعا يرتقي بالأمة ويبعث فيها الروح من جديد.

    وجدت صالحين، ووجدت أتقياء، ووجدت من يملك مشروعا لا بأس به أيضا، ولكني لم أجد من تجتمع فيه تلك الشروط وتتوافر فيه كل تلك العناصر سوى رجل واحد هو: الإمام آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي.

    كانت التجربة صعبة ومريرة بعض الشيء، ولكني أسجد لله (جل وعلا) شكرا على أنها أفضت إلى خير، وأوصلتني إلى حيث أجد نفسي وديني ودنياي وآخرتي. ولن أتحدّث هنا عن مسألة "الأعلمية" فهذه مفروغ منها، ولكني سأتحدث عن جوانب وعوامل أخرى قادتني إلى اتباع هذا المرجع العظيم في وقت كانت تنعدم في نفسي الثقة بمن يدّعي العلم، سيّما مع تنامي المستوى العلمي والإدراكي لديّ حيث اكتشفت أن كثيرا من هؤلاء المدّعين ليسوا بشيء لا في العلم ولا في الاجتهاد! فكنت في أحيان كثيرة لا أتمكن من حبس ضحكة على ما يدّعونه من "أعملية" ليس لها واقع!
    إن الأسباب والعوامل التي جعلتني أتبع ذلك السيد الجليل (أعلى الله درجاته) تتلخص في الكلمة العظيمة التي قالها سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذ قال: "لا تجلسوا عند كل عالم يدعوكم، إلا عالم يدعوكم من الخمس إلى الخمس: من الشك إلى اليقين، ومن الكبر إلى التواضع، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن العداوة إلى النصيحة، ومن الرغبة إلى الزهد". (الاختصاص للمفيد رضوان الله عليه ص335).

    إن نبينا (صلى الله عليه وآله) يدعونا في هذه الوصية العظيمة لأن لا ننخدع بكل عالم يطرح نفسه، فهناك علماء فاسدون، فلا يجب أن نجالسهم ونستمع إلى أحاديثهم ونتبعهم بشكل أعمى كما يفعل كثير من قومنا مع الأسف. كلا.. ليس هناك اتباع لأحد إلا للذي ينهانا عن خمسة أشياء، ويأمرنا بخمسة أشياء، كما قال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

    وعندما وقفت على هذا الحديث الشريف، تفتحت أمامي الآفاق، ونظرت أكثر فإذا بكل هذه الصفات تنطبق على السيد المظلوم (قدس الله سره) تماما. وإليكم البيان:

    (من الشك إلى اليقين)
    لقد كنت كما أوضحت في حالة شك بسبب التصرفات المخزية التي ارتكبها البعض باسم الدين، فأوجب ذلك لي نفورا وابتعادا. ولكن الإمام الشيرازي أخرجني من هذه الحالة، وجعلني أتيقن من أن هذه الأرض لا تخلو من فقهاء يستحقون حقا أن يكونوا خلفاء للحجة المنتظر (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء) بإخلاصهم وتفانيهم وجهادهم. ولا أنسى كيف قد وقعت الحيرة عندي في مسائل عقيدية ودينية عديدة، فقد شككونا في كل شيء تقريبا، في نورانية الأئمة (عليهم السلام) وعصمتهم ومقاماتهم الملكوتية، وفي كثير من حقائق التاريخ خاصة في مجال مظلوميتهم ومظلومية الزهراء (سلام الله عليها) تحديدا، وفي ألف شيء وشيء حتى فرّغوا الدين عن محتواه وجعلوه دينا مائعا هو إلى الإطار والشكل أقرب من الجوهر والمضمون! ولم نكن آنذاك قد وصلنا إلى مرحلة علمية نستطيع فيها أن نقطع بأنفسنا في حقيقة هذه المسائل، وهنا لجأنا إلى السيد الشيرازي ووجدنا عنده الإجابات الشافية الوافية التي أعادتنا إلى حظيرة اليقين وأبعدت عن عقولنا ونفوسنا الشك، فلله درّه من فقيه علّمنا مبادئ الولاء المطلق لمحمد وآل محمد (عليهم السلام) ولقننا ثوابت الدين كما يرتضي الله عز وجل، وأزاح عنا وهم التصوف والفلسفة والعرفان وسائر الانحرافات العقائدية الأخرى، كما أزاح عنا مرض الانهزام أمام المخالفين وعلّمنا كيف ندافع وننصر الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وكيف ننتقم من أعدائهم.

    لقد نقلنا حقا من الشك في الدين، إلى اليقين في الدين، حتى في التحديات الحضارية، أثبت لنا أن الدين الإسلامي هو دين التقدم والحضارة، وأنه هو صاحب العلاجات الناجحة لكل مشاكل العصر، وأن فيه ما ليس في الليبرالية وغيرها من مناهج مستوردة من قيم ورقي وسعادة للبشر، وكان هذا في وقت يفتقد فيه سائر المتحدثون باسم الإسلام - سواه - مشروعا حضاريا متكاملا يقدّم الحلول الحقيقية ويرتقي إلى مستوى التحديات.
    التعديل الأخير تم بواسطة على ذمة التحقيق; الساعة 23-01-2010, 02:23 PM.

  • #2
    (من الكبر إلى التواضع)
    ولا أحتاج في بيان هذه النقطة إلى أكثر من شهادة كل من عرف هذا الرجل العظيم الذي لم يُرَ له نظير في تواضعه ورفيع أخلاقه. فقد شهد له أعداؤه قبل مريديه بأخلاقياته النبوية، فهو يعفو عن المسيء، ويصفح عن المعتذر، ويلتمس العذر لمن لا يعتذرّ! وعندما كانوا يأتون إليه ويقولون له: "سيدنا إن فلانا يطعن فيكم" كان يلتمس له عذرا ويقول: "لعله كان مشتبها أو أن له سببا عقلائيا دفعه إلى هذا القول"!! وقد سامح وعفا عن كل الذين آذوه في حياته، حتى الذين مازالت في قلوبهم بعض الإحن والحزازات لأحقاد "بدرية وخيبرية وحنينية وغيرهن" أو لنقل: "لأحقاد كربلائية وكويتية وقمية وغيرهن"! فإن كل موضع حلّ فيه هذا النور كان بالفعل ساحة جهاد في سبيل الله تعالى ذكره. إلا أنه (قدس سره) لم يعفُ أبدا عن الذين ظلموا الدين والمؤمنين وجاروا على التشيع، وأكد أنه سيخاصمهم يوم القيامة لأن الأمر ليس متعلقا به، بل بدين الله عز وجل.

    إن تواضعه (رضوان الله تعالى عليه) أشهر من أن يُذكر، فكان يكره أن يصفه أحد بأي لقب، وكان يكتفي باسمه "محمد الشيرازي" فحسب فلا يقبل بأكثر من هذا، وقد علمت من الرعيل الكربلائي الأول الذي شهد فترة بداية نهوضه بالمرجعية أنه كان يمنع كتابة حتى كلمة "السيد" قبل اسمه عند طباعة كتبه ومؤلفاته وبياناته وما أشبه، رغم أنه كان مرجعا للتقليد! وبالفعل فإن عندي بعض الكتب التي طبعت في العراق في تلك الفترة ولا أجد في اسم المؤلف سوى "محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي" دون أية ألقاب، ولولا أن مقلّديه لم يلتزموا بهذا وآثروا أن يوصف السيد بما يستحقه من ألقاب المرجعية، لاستمرت كتبه تطبع على هذا النحو، ولما وجدنا كتابا واحدا فيه لقب "آية الله العظمى" أو ما شاكل ذلك. وفي أحيان كثيرة كان يقع بعض غير العارفين بمدلولات التعابير والمراتب الحوزوية في أخطاء عند تسميتهم للسيد (قدس سره) فيكتبون له وصفا لا يليق بمرجع أو يوحي بأنه أقل مرتبة، كمصطلح "حجة الإسلام" أو "العلامة" وما إلى ذلك، فيطبعون الكتاب ويوزعونه ويبدي البعض اعتراضهم من باب أن هذا انتقاص من مقام السيد المرجع، وهو مخالف للأعراف الحوزوية، فيظن هؤلاء الذين طبعوا الكتاب أن السيد غاضب عليهم أو عاتب، وعندما يلاقونه لا يبدي لهم إلا الثناء العطر فيستغربون، وما إن يقدّمون اعتذارهم عن الخطأ التعبيري غير المقصود حتى يبتسم السيد ابتسامته المعروفة ويغيّر مجرى الحديث!
    وقارنوا هذا الموقف الأخلاقي العظيم بمواقف الآخرين لتعرفوا الفرق! فإني أعرف رجلا أقام الدنيا وأقعدها لأنه كان مدعوا لندوة وصل إليها فوجد أنهم قد نسوا في لافتة الندوة لقبا إضافيا يجب أن يسبق اسم جنابه! قد كتبوا في اللافتة: "يحاضر في الندوة سماحة آية الله الشيخ فلان الفلاني دام ظله" وعندما وصل إلى موقع الندوة والجماهير محتشدة للاستماع إلى "درره" رأى تلك اللافتة فبان عليه الغضب، فعاد وركب السيارة وأمر السائق بإعادته إلى البيت! ومهما حاول المنظمون للندوة أن يثنوه عن ذلك لم ينفع حتى أُلغيت الندوة وانفض الحضور! وعندما سألوه عن الجرم الذي ارتكبوه قال: "لماذا نسيتم إضافة كلمة الدكتور"!! فهل هناك كبر وغرور أعظم من هذا؟!

    لم تكن عند الإمام الشيرازي – على جلالة قدره ومقامه الرفيع – هذه العقد النفسية، وكان يقبل حتى بأن يُهان، فيأتيه بعض السفهاء من المرتبطين بالنظام وغيرهم ويشتمونه أمام وجهه الشريف، دون أن يحرّك ساكنا! وعندما حاول المسؤولون عن إدارة مكتبه تأديبهم منعهم عن ذلك، حتى أكمل السفهاء شتائمهم وعادوا دون أن يمسسهم شيء!! فهل هناك تواضع أكبر من هذا؟! وهذه السيرة العطرة للسيد إمام المظلومين (قدس سره) هي التي أخرجتنا من الكبر إلى التواضع حقا، كما أوصى سيد الأنبياء صلوات الله عليه وآله.

    (من الرياء إلى الإخلاص)
    وهنا أشهد بالله تعالى أني لم أجد ولم يجد غيري موقفا واحدا ظهر منه غير الإخلاص في عمل هذا الفقيه الجليل، فكانت أولى وصاياه لكل من يستقبله "الإخلاص" ومحاضراته حول هذا المطلب أكثر من أن تحصى، أما كلماته وتوصياته في هذا الصدد فلا يسعها البحر. ولقد أخرجنا بتوصياته تلك من آفة استشرت في أوساط طلبة العلم والمبلغين والعاملين الإسلاميين، وهي آفة الرياء وحب الشهرة والظهور، أما غيره فأوقع أتباعه فيها بل وحضّهم عليها! ولي في ذلك شواهد لا يتسع لها المقام، ولكني أقول أن إخلاص هذا الرجل وتفانيه في أعماله الجهادية وفي خدمته لأهل البيت الأطهار (عليهم الصلاة والسلام) هو الذي رفع ذكره وخلّد اسمه، فلئن كان قد حرّم أن تتم تسمية مؤسسة واحدة باسمه – كما فعل كثير من المراجع غيره – وآثر أن تتم تسميتها بأسماء أهل البيت صلوات الله عليهم، فإن ذلك هو الذي رفع قدره حقا، وهو الذي سيبقيه شمسا لا تغيب. واذهب إلى أصقاع الدنيا فلن تجد مركزا أو مدرسة أو مؤسسة واحدة تحمل اسمه، إلا التي تأسست بعد استشهاده وارتحاله، وينبئك ذلك عن إخلاصه وتقواه. وبهذا كفى دليلا رغم أن الأدلة لا تعد.

    (من العداوة إلى النصيحة)
    ولعلي هنا أكرر ذكر ذلك الأخ الذي ذهب إليه من الكويت فسأله الإمام (قدس سره) عن سكنه، فقال: في منطقة كذا، وعندما سأله عن وجود مسجد قريب من مسكنه يصلي فيه قال: أما المسجد فهناك واحد في منطقتنا، وأما الصلاة فإني لا أصلي فيه. سأله السيد: لماذا؟ فأجاب: لأن الإمام فيه يتقوّل عليكم بالباطل ويعاديكم! فقال السيد: وماذا في ذلك! اذهب وصلّ خلفه! قال الأخ: وكيف يا مولاي وهو قد سقط عن العدالة بعدائه لكم؟ فأجاب السيد: "مادمت أنا صاحب الحق فإني راضٍ بتقوّله عليّ وبهذا لا تسقط عدالته.. اذهب وصلّ خلفه واجتمعوا في مساجدكم ولا توقعوا العداوة والبغضاء بين صفوفكم مهما كان"!!

    فهاهو يخرجنا من العداوة إلى النصيحة حتى وإن كان عليه جور خاصة، فالمهم عنده هو أن يجتمع الشيعة على قلب واحد وأن ينبذوا العداوات والأحقاد في ما بينهم، وليتهم كانوا يلتزمون بوصيته تلك! ألا ليتهم عرفوا أن هذا المرجع المظلوم الذي قاسى ما لم يقاسه أحد غيره قد ارتحل من الدنيا وكانت إحدى أمنياته الثلاث "أن يجتمع الشيعة ويتحدوا"!! أما غيره فذهب إلى قبره وقد أوقع الأمة في فتن وعداوات ومشاحنات وتفرقات ليس لها أول ولا آخر! فإنا لله وإنا إليه راجعون.

    (من الرغبة إلى الزهد)
    وهل هناك أشهر من سيد الزاهدين في عصره؟! إن بيته – وهو الذي كانت تُجبى له الأموال من كل حدب وصوب – لشاهد ماثل على مدى زهده، فهو من أفقر بيوت قم المقدسة ولا يقطنه أقل الناس دخلا ومعاشا! اذهبوا إلى هناك لتروا ذلك بأم أعينكم، ولتجدوا أن سقف حجرة السيد قد سقط بسبب الترهّل الذي أصاب البيت والتشققات التي تملأ جدرانه! ولولا رحمة الله لكان قد سقط على السيد ولكنه كان خارج الحجرة حينها! وإني أشهد أني ذهبت وعاينت وبكيت كثيرا على ما شاهدته، فلقد كان حقا سيد الزاهدين في هذا العصر، وقد رأيت متعلقاته فلم أكن أصدّق أن هذا هو بيت مرجع أعلى للملايين بإمكانه أن يصبح مثل بعض أولئك الذين حسّنوا بيوتهم واشتروا لأنفسهم أفضل الأثاث والمتعلقات، ومازلت متأثرا جدا من رؤيتي لنظارة السيد المظلوم (قدس سره الشريف) وقد كانت مكسورة وقد عالجها بنفسه وألصقها باستخدام الأشرطة اللاصقة! وقد حاول أبناؤه ومريدوه أن يستبدلوها بنظارة أخرى جديدة ولكنه لم يكن يقبل، وعندما انكسرت وجدوها فرصة لأن يشتروا أخرى جديدة فلم يقبل أيضا! وادّعوا له أن النظارة لا يمكن إصلاحها فقال: "أنا أصلحها بنفسي" وبالفعل فقد أصلحها – بأسلوبه – باستخدام الأشرطة اللاصقة! ولعمري ليس هو بإصلاح فالنظارة ما زالت مكسورة وكل ما فعله (قدس سره) هو لصق الجزء الأيمن بالأيسر بأشرطة لصق هشّة حتى تثبت فقط بأية طريقة!! والله إنه العجب العجاب.. يفعل كل هذا بنظارته الوحيدة في حياته ولا يرضى باستبدالها لاحتياطه الشديد في الأموال رغم أن قيمة الجديدة ليست بالشيء الذي يُذكر، ولكنه "الزهد" النادر في هذا الزمن!!

    وختام القول أن الإمام الشيرازي لمّا دعانا إلى اليقين والتواضع والإخلاص والنصيحة والزهد، ولمّا دعانا غيره – بأفعاله وسيرته - إلى الشك والكبر والرياء والعداوة والرغبة في الدنيا، لم نجد بدا من اتباعه وتقليده والحذو حذوه. وهذه هي القصة.. وتلك هي الأسباب التي دعتني لأن أفخر باتباعي لسيدي ومولاي الإمام محمد الشيرازي رضوان الله تعالى عليه.

    وببركة هذا التقليد والاتباع والتأسي والاقتداء غدوت اليوم وعندي ما عندي بفضل الله تعالى من قوة في الإيمان، وسلامة في العقيدة، واطمئنان في النفس، وتحصيل للعلم، واستثمار للطاقات في خدمة مولاي إمام الزمان عليه الصلاة والسلام وروحي له الفداء والوقاء. ولا أزكي نفسي - معاذ الله - ولكن أقول أنه لولا ذلك لما وُفّقت لما وُفّقت إليه من الذي أحمد الله عليه، فإني مدين للإمام المظلوم الشيرازي (قدس سره) بكل شيء، وسيصب كل ما عملته في ميزان حسناته أولا، ثم في ميزان حسناتي إن رزقني الله حسن العاقبة، لأنه كان السبب وصاحب الفضل. وأسأل من الله تعالى أن يكون العمل مقبولا، والأثر مرضيا، اللهم آمين بحق محمد وآله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.




    الشيخ ياسر الحبيب

    تعليق


    • #3
      يا أبتاه المظلوم.. هل توقفت دموعك الآن؟!


      كما كان القلم سلاحه؛ والتعبّد عرينه؛ والزهد غناه؛ والتواضع سجيته.. فقد كان البكاء قرينه والدمع رفيقه!
      وكيف كانت أحواله؛ فإن الحزن ظل ملازما له طوال حياته، وظلت دموعه تنهمر من مآقيه في ليله ونهاره، ولم تنقطع قط يوما إلا نادرا.
      وكان يجد في البكاء متنفسا لشجونه وأحزانه التي اعتاد أن يخفيها عن أنظار من حوله، حتى المقربون منهم من أهله وذويه. وهكذا ظل قلبه المثقل بالهموم والأحزان ينتظر فرصة الخلوة والانقطاع كل ليلة ليبث ما فيه من الوجد، فتترقرق تانك العينان وتجري منهما الدموع المتلألئة على ذانك الخدّين لترتسم على ذلك الوجه الطاهر إمارات الأسى واللوعة ولينتكس ذلك الرأس المقدس إلى الأرض وقد أخذت العبرات صاحبه!
      وربَّ بعضا لا يكاد يصدّق أن تكون ذا حالة من كان أمامهم حين النوازل في رباطة جأش غدت مضرب الأمثال، ومن كان لا يتزعزع قيد أنملة ولا يتأثر مثقال ذرة مهما كانت الشدائد والرزايا التي وقعت عليه. ولكن هؤلاء ما عرفوا أن محمدا الشيرازي بمقدار ما كان ليثا هصورا في محاربة الباطل الذي لم يرضخ له مرة واحدة في حياته؛ فإنه كان أيضا صاحب ذلك القلب الحنون الرؤوف والنفس العطوفة الكسيرة، وأن هذا السيد المظلوم كان أمامهم في حال، وأمام ربّه وأئمته في حال أخرى!
      كان يتماسك مقابلهم، ثم يختلي بنفسه ليهدر ما في صدره وليشكو إلى الله ما يعاني منه. ولئن حاول إخفاء ذلك؛ فإنه لم يستطع أن يخفيه دائما وأبدا، فشوهد مرات ومرات على تلك الحال التي كانت سرا من أسراره. ولما كان ينتبه إلى أن هنالك من رآه؛ كان يكفكف دموعه متعجلا لئلا يهتز رائيه. فهو للملايين من أمثال هذا الرائي رمز التحمّل والصبر والجلادة والمنعة.

      في سَحَر كل ليلة؛ كان بعض أبنائه وذويه يستيقظون ليسمعون صوت أنينه الخافت، المنبعث من حجرته الصغيرة، حيث كان يجلس في مصلاّه مبتهلا يناجي ربّه: "يا من لا يخفى عليه أنباء المتظلمين، ويا من لا يحتاج في قصصهم إلى شهادات الشاهدين، ويا من قربت نصرته من المظلومين، ويا من بعد عونه عن الظالمين، قد علمت يا إلهي ما نالني من فلان بن فلان مما حظرت وانتهكه مني مما حجزت عليه، بطرا في نعمتك عنده، واغترارا بنكيرك عليه. اللهم فصلِّ على محمد وآله، وخذ ظالمي وعدوي عن ظلمي بقوتك، وافلل حده بقدرتك (...) اللهم إني أسألك بنورك وعزك وجلالك وجميع معاليك، أنة تأخذ من يؤذيني أخذ الزلزلة، أخذ الرابية، أخذ الدمدمة، أخذا وبيلا، أبِده، ابطُش به البطشة الكبرى، وانتقم منه، واجعل كيده في تضليل، وأرسل عليه طيرا أبابيل، وألْقِه في الحطمة الكبرى، خذه أخذ عزيز مقتدر".

      وفي الحقيقة، فإن هذا الدعاء العظيم، وهو دعاء مولانا الإمام السجاد (صلوات الله وسلامه عليه) في رد كيد الأعداء والظالمين، والمروي في الصحيفة السجادية الشريفة، كان هو السيف البتار الذي قصم ظهور أولئك الذين أرادوا بهذا السيد المظلوم سوءا، والذين ظنوا أنه يمكن أن يُقضى عليه بسهولة ويسر! وما علموا أن لهذا العالم المتفاني في سبيل الله من يحميه ويرعاه ويحفظ مسيرته الجهادية.

      إنها قوة الدعاء والبكاء، فحيث كان الإمام الراحل يبكي ويدعو؛ كانت النقمة تحل على معادي الدين. وكلما اغرورقت عيناه بالدموع؛ كان الهمّاط الظالم في مصيبة تشغله بنفسه! وبهذا السلاح حفظ الله (جل ذكره) هذه المرجعية المحسودة المحاربة من حكومات ومنظمات وأحزاب وبؤر الفساد وأذرع الاستعمار.

      ودموع الإمام المظلوم الراحل لم تتوقف منذ ذلك اليوم الكئيب الذي ترك فيه مرغما كربلاء المقدسة، مدينة جده أبي عبد الله الحسين صلوات الله وسلامه عليه. ففي وسط ليل حالك ودّع السيد الحسيني جدّه، وألقى آخر نظراته على القبة الشريفة بعين باكية وقلب يعتصره الألم من شدة الفراق.

      هاهو السيد الشيرازي، إمام الحرم الحسيني، وزعيم الحوزة، ومرجع كربلاء، يترك موطنه وشعبه الذي كان له كالأب الحنون وكانوا له كالأبناء البررة. إنه يتركهم في جنح الليل المظلم متخفيا وسط مجموعة محدودة من خُلَّص المؤمنين الذين عبروا به إلى خارج حدود العراق لحمايته من بطش النظام العفلقي الجائر الذي كان قاصدا قتله واغتياله. وعندما أفاق أهالي كربلاء في الصباح، ذُهِلوا لفقدانهم "آغا محمد" الذي كانوا يتبركون به ويعقدون النذور على باب داره ويرجعون إليه في كل مشكلة ومعضلة، وبكت عيون الأهالي دون أن تدري أن عيني سيدهم الذي رحل عنهم بالأمس كانت تشاطرهم البكاء طوال الطريق الذي سلكه المؤمنون بالإمام لإخراجه من جحيم العراق!

      وكان للسيد المظلوم موعد آخر مع البكاء عند مرقد العقيلة الكبرى زينب (صلوات الله وسلامه عليها) حيث وصل إلى هناك زائرا مشتكيا مما أفسده البعثيون في مدينته المدمرة، حيث قد عبثوا بالحرم الشريف، وهدموا الحوزة والمدارس، وصادروا المساجد والحسينيات، وسجنوا العلماء والمجاهدين، واعتقلوا المؤمنين ونكّلوا بهم. وكان ذلك مؤلما إلى أقصى حد بالنسبة إلى ذلك السيد المظلوم الذي لم يكد يخرج من أزمة حتى يقع في أخرى!

      وتتوالى مواقف البكاء والأحزان، عندما شاهد الإمام الراحل أخاه الذي كان على موعد مع الشهادة في سبيل الله، إنه آية الله المفكر العملاق السيد حسن الشيرازي قدس الله روحه، الذي لقيه الإمام في بيروت إثر توقفه فيها واستعداده للتوجه منها إلى البلد الذي تلقّى من أهلها استغاثة طالبته بالهجرة إليه.

      عندما شاهد الإمام شقيقه الذي كان قد لجأ إلى لبنان قبله، بعد خروجه من سجون بغداد، لم يتمالك الشقيقان نفسيهما وجرت دموعهما على لحيتيهما، ذلك بعد أن قبّل السيد حسن يد أخيه الأكبر، وشكر الله على أن تمكن من رؤيته مجددا، فكأنما كان الشيرازي العظيم قد وُلِد من جديد بخروجه من هذا السجن الكبير المسمى "العراق"!

      وحينما حطّت رحاله في الكويت، ولبّى دعوة المرحوم الحاج عباس ميرزا حسين وأمّ المصلين في المسجد الذي حمل اسمه في ما بعد في منطقة "بنيد القار"؛ اكتشف الكويتيون عالَما جديدا اسمه "عالم الإمام الشيرازي" وكانوا للمرة الأولى يتذوقون حلاوة الإيمان الحق من نمير علوم أعظم مرجعية عرفها التاريخ الشيعي على الإطلاق. وكانت تلك الصلاة الروحانية، وتلك المحاضرات الفذة، وتلك الأخلاق النبوية الرفيعة، محل انبهار أهالي ذلك البلد المحروم طوال عقود من عالِم رباني يحييه، ويعيد إلى شيعته أصالتهم العقائدية والولائية، ويعرفهم بأحكام دينهم وتكاليفهم الشرعية التي جهلوها. ولكن أكثر ما أبهر أولئك الأهالي وقتها، أنهم في ظهيرة أحد الأيام الذي قد صادف ذكرى عاشوراء، وجدوا ذلك السيد المقدّس الجليل يغيّر من خطابه المعتاد على منبره في المسجد. وإذا بالإمام الشيرازي ينوح لمصيبة جده الحسين عليه الصلاة والسلام بصوت متقطع حزين! وإذا به يقرأ العزاء لجموع المصلين وتخنقه العبرة مرارا فلا يستطيع أن يكمل! وإذا بالمسجد يرتج بالبكاء والنحيب إذ كان الإمام يبكي بحرقة وألم لا نظير لهما حتى ابتلت لحيته الكريمة بالدموع!!

      وهكذا كان الشيرازي العظيم سريع الدمعة لا يستطيع حبسها كلما ذُكِرت عنده مصيبة من مصائب أهل البيت المظلومين عليهم صلوات المصلين. وأكثر ما كان يبكيه سماعه لمصيبة أمه الزهراء أو جدّه الحسين عليهما الصلاة والسلام، إذ كان شديد التعلق بهما وجدانيا وروحيا. وكان مع ذا؛ ورغم أنه ليس بخطيب حسيني، يجتهد في قراءة مقتل الحسين (صلوات الله عليه) بأسلوب مؤثر ومن مصدر تاريخي لم يلتفت إليه الخطباء حتى يومه ذاك. وما إن نزل الإمام من منبره حتى تهافت عليه الخطباء يسألونه عن ذلك المصدر، ولما أرشدهم إليه تعجبوا من سعة اطلاع هذا المرجع النادر!

      ولم تمضِ إلا فترة وجيزة، وإذا بالحملة المسعورة تبدأ ضد السيد المظلوم في ذلك البلد الذي كان على مقربة من أن يتحول إلى قوة شيعية حضارية هائلة لولا تلك الحملة الظالمة! لقد كان صعبا على مصاصي دماء الشيعة وأموالهم و"أخماسهم" أن يتركوا "كويت المناخ" تذهب في جعبة المرجع الشيرازي! وظنوا أن هذا المرجع مثلهم - حاشاه - يستنفر طاقته لأجل تكوين ثروة من هذه الأخماس والصدقات والتبرعات!

      وكان آية الله الشيخ الوحيد الخراساني يتوجس خيفة من أن ينقض الخصوم وحواشيهم على السيد المظلوم، خاصة بعد تنامي شعبيته في ذلك البلد وتعاظم دوره ورجوع المعظم له في التقليد وقيام تلك المؤسسات ببركة جهوده. ولما أن وُضِع حجر الأساس لحوزة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) توجه الشيخ الوحيد إلى السيد الشيرازي وطلب منه عدم إكمال المشروع، وأبلغه إشفاقه عليه من الخصوم الذين أرعبهم قيام هذا المشروع الذي سيؤدي إلى سحب البساط من تحت أرجلهم، وبالذات في مسألة التبرعات والأخماس التي ستذهب تلقائيا إلى هذه الحوزة بدلا من تلك التي في النجف! وكان فحوى نصيحة الوحيد أنه حاول مرارا بناء مدرسة فقوبل بالتحذير والوعيد والتهديد، مع أنه ليس السيد الشيرازي "المحسود منذ انطلاقة مرجعيته في كربلاء"، فكيف إذا كان هو المتصدي لمثل هذا المشروع وفي هذا الوقت الحساس حيث تكاثرت الإحن والحزازات؟! وكانت الابتسامة من السيد المظلوم هي الجواب على النصيحة. وعرف الوحيد أن الشيرازي ماضٍ في مشروعه، وأنه صنديد في هذه المواقف لا يعبأ بأحد، ولا يهتم إلا بأداء وظيفته الشرعية وإن لم تكن تعجب "طحالب" التشيع!

      ووقع ما توقعه الشيخ الوحيد، وما توقعه المرحوم السيد علي شبر، وغيرهما من أهل الدراية بما يجري وراء الكواليس ضد هذا السيد الطاهر الجليل. فوقعت الفتنة الكبرى التي أرجعت الشيعة قرونا إلى الوراء، وجعلتهم في أسوأ حال حتى يومنا هذا!
      في تلك الفترة العصيبة تجددت الآلام في قلب السيد الحنون. لم يكن يتوقع أن تأتيه الطعنة من "الداخل" وهو الذي يحارب "الخارج" دوما، فكان يتوقع أن تأتي الطعنات تلو الطعنات من هذا "الخارج" ولكن "الداخل" دخل على الخط، وكانت طعنته أشد إيلاما، فإن القرح الداخلي أشد على بدن الإنسان من الجرح الخارجي. وأي طعنة أشد من التشكيك بفقاهة واجتهاد مَن هو مقياس لهما من أجل حفنة من المال؟! وأي جرح أعمق من الافتراء والاغتياب لرجلٍ إليه تنتسب كل فضيلة ومنه ينبع كل علم؟!
      وكان السيد المظلوم - كعادته - جلدا صبورا في تلك الأزمة، ولم يقبل على نفسه بأن ينزل إلى هذا المستوى الرخيص فيرد على فتوى بعشرٍ من أمثالها، ولو أنه نزل إلى هذا المستوى لكان أكثر تأثيرا على الناس وإيلاما لخصومه دون شك، فلا أحد أيا كان حجمه يتأتى له أن يصمد أمام الشيرازي الذي إن أراد أن يحطّم فإنه يعرف كيف! ولكن هذا العالم التقي، كان يأبى على نفسه أن يتهاوى إلى هذا الدون، أو أن يوظف الفتوى التي هو محاسب أمامها عند الله وعند مولاه صاحب العصر (أرواحنا فداه) في معركة مع الطائشين الذين لم يتورعوا عن استخدامها!


      يتبع ,,

      تعليق


      • #4
        وكم كان الشيرازي المظلوم حكيما إذ لم يقبل حتى بأن تُنشَر الفتوى المعروفة للمرحوم آية الله العظمى السيد أبو الحسن الأصفهاني (قدس سره) والتي تمثل رعبا بالنسبة إلى من نعرف! فإنها تسحب شرف "السيادة" والانتساب إلى ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ممن نعرف! غير أن السيد المظلوم ما كان يريد أن يرد على الحماقة بمثلها، وطفق يستمر في جهاده دون التفات إليها!
        ولكن الذين زادهم الله مرضا لم يُردوا لهذه الفتنة أن تخمد، فأججوها إلى أن شقت صفوف الأمة، وشرخت وحدتها، ودمّرت حتى أسرها!! عندما وقع الطلاق بين أزواجٍ بعضهم يقلّد هذا المرجع المظلوم والآخر لا يقلّده!!

        هنا كان تأثر الإمام المظلوم الراحل (رضوان الله تعالى عليه) بالغا، ولم يكن يستطيع التحمّل. فلجأ إلى سلاحه البكاء، في مناجاته مع ربه، وشكا همه وحزنه إلى الله تعالى، وإلى مقام بقيته في أرضه (عجل الله تعالى فرجه الشريف) فلم تمضِ إلا فترة وإذا بالنائب يلتقي بالمنوب عنه، بُعيْد صلاة الفجر التي أداها جماعة في المسجد. وإذا بإمام الكون المهدي (أرواحنا وأرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء) يلتقي بنائبه المخلص الصابر الشيرازي ويقول له: "يا محمد.. سينتهي هذا الظلم الواقع عليك، وستبقى أنت مؤيدا منا"!!

        وتكون اللحظات القصيرة تلك لحظات الدموع والبكاء من السيد المظلوم البكّاء!
        وكان حقا على الله أن يفي بوعده، فانتهى ذلك الظلم وذهبت الحملة المسعورة أدراج الرياح، وتاب من تاب من أهل الفتنة، وهلك من هلك من أهل النفاق، وسكت من سكت من أهل الشقاق، وبقي الشيرازي العظيم شمسا مضيئة في سماء الأمة، لا يحجبها حاجب ولا يحول دونها حائل، ولم تمضِ سوى سنوات معدودة، حتى غدت هذه المرجعية المحاربة بالأمس.. المرجعية العليا بلا منازع! فـ "إن الله لا يضيع أجر المحسنين".
        بيد أن الدموع لم تتوقف رغم توقف تلك الحملة الظالمة، ذلك لأن المآسي والمصائب لابد أن تلازم إمام المظلومين (أعلا الله درجاته) على طول الخط، فالمؤمن مبتلى كما أنبأت به الروايات المستفيضة.

        عندما هاجر هجرته الثانية إلى قم المقدسة، ورحّب به أهلها، وزاره المراجع من كل حدب وصوب، كان الشيرازي العظيم على موعد مع فاجعة أجهشته بالبكاء. إنه شقيقه وذراعه اليمنى، آية الله السيد حسن الشيرازي، يتلقى رصاصات الغدر من عملاء نظام بغداد في بيروت، فيلقى حتفه مضرجا بدمه، وترتفع روحه إلى السماء تاركا شقيقه الأكبر مفجوعا برحيله ومقتله بهذا الشكل المرعب.

        وفي الواقع فإن النظام الجائر في العراق لم يستهدف إلا الشيرازي الأكبر من خلال اغتيال أخيه، فإنه حين لم يستطع أن يصيبه بسوء توجه إلى الشقيق المخلص الذي كان واحدا من أربعة "مهديين" على حد تعبير المرحوم آية الله السيد محسن الحكيم (رضوان الله عليه) هم أنجال المرجع الورع الزاهد المقدس الميرزا مهدي الشيرازي قدس الله روحه الشريفة؛ السيد محمد والسيد حسن والسيد صادق والسيد مجتبى.
        إلا أن هذه المصيبة التي وقعت على الأسرة المرجعية الشريفة لم تثنِ زعيمها عن مواصلة دربه الجهادي والكفاحي الطويلة، فظل طودا شامخا في مقارعة باطل العراق، كما كان حاله مع باطل جارتها الشرقية! لما أن أحس فيها بأن أمرا يدبّر بليل، وأن وراء الأكمة ما وراءها، وأن ما كان معلنا عن تطبيق شرع الله؛ يخالفه التطبيق شيئا فشيئا حتى ناقضه!

        وظل العظيم على مبدئه، لم يتزحزح عنه ولم يتراجع، فأعلن معارضته للاستبداد والديكتاتورية وولاية الفقيه المطلقة، ودعا إلى الحرية والعدالة وشورى الفقهاء المراجع. ثم لم تمر إلا برهة من الزمن وإذا بالمرجع المظلوم يكتشف إلى جانب ذلك وجها عقائديا منحرفا لأولئك القابعين على رأس السلطة، هو وجه يتجه إلى التصوف والفلسفة والعرفان الزائف، ولم يكن عليه إلا أن يقوم بواجبه في صون عقيدة أهل البيت الأطهار (عليهم الصلاة والسلام) من بدع هؤلاء وإلحادهم، وكان عليه بالطبع أن يدفع ثمن مجاهرته بالحق!

        لم يكن النظام يطيق وجوده، ولكنه لم يكن يجرؤ على إيذائه شخصيا آنذاك، فهو مرجع بحجم أكبر منه داخل وخارج البلاد، فاتجه - كما نظيره في بغداد - إلى إخوته وأنجاله ومقلديه، فاعتقل آية الله العظمى السيد الصادق، وآية الله السيد محمد الرضا، وبعد إهانات وتهديدات أفرج عنهما في اليوم نفسه. ولكن الدور كان على آية الله السيد المرتضى، وأخيه السيد مهدي، والبقية من العلماء والمشايخ والمقلّدين. فأودعوهم السجن الرهيب، وأنزلوا بهم عذابا لا يمارسه صهاينة اليهود! من حرقٍ بالنار وجلدٍ للأجساد وتنكيل مبرح بوسائل تزيد على المئة!
        وما أرادوا من كل هذا البطش إلا عمود الخيمة، ورأس إمام المظلومين رضوان الله عليه، فقد راهنوا على أن ذلك سيثنيه أو يجبره على الركوع والاستسلام! ولكن هيهات! متى أسلم الشيرازي العظيم نفسه لأحد غير بارئه؟!

        كانت أشد محنة يتعرض إليها، وما أصعبها على قلبه، إذ أبناؤه ومريدوه مودعون في السجون، وإذ جلاوزتهم يأتون إلى باب منزله كل ليلة ليشتمونه ويهينونه، ثم لم يكتفوا بذلك، بل اقتحموا داره وروّعوا من فيها من النساء والأطفال! بل تسلقوا جدار منزله وحاولوا اغتياله بالليل ولكن العناية الإلهية أنقذته، عندما سقط القنّاص اللعين وانكسرت رجلاه قبل أن يضغط زناد سلاحه الذي صوّبه إلى قلب هذا المرجع الكبير!!
        وقد كانت العناية الإلهية حقا هي التي أنقذته وحفظته حينما طمأنه صاحب الأمر (صلوات الله عليه) وقال له في القصة المشهورة: "يا محمد! كنا نحفظك.. ومازلنا نحفظك.. وسوف نحفظك"!

        أما آية الله السيد أصغر الحيدري فعنده سر آخر في هذا الخصوص، فإنه ينقل أنه في تلك المحنة العصيبة كان قد هرع باكيا إلى منزل إمام المظلومين قدس سره الشريف، وقد خاف أن يصيبوه بمكروه لما وصل إلى مسامعه من أنهم عازمون على اغتياله لا محالة! وما إن شاهد السيد المرجع حتى انكب عليه لاثما يديه، ومقسما عليه بان يترك هذه البلاد ويذهب إلى أي مكان آخر في هذه الدنيا، ولكن السيد الحنون هدأ من روعه وباح له بسر طلب منه أن لا يخبر به أحدا ما ظل على قيد الحياة، وهو أنه في ليلة من الليالي وبينما كان يتجول في باحة الدار ذاكرا الله تعالى، وإذا به يشاهد طائرا مجنحا كبيرا يتلألأ نورا بشكل عجيب، ولم يكن الطائر مماثلا لبقية الطيور الموجودة في الدار، فلفت انتباهه وجوده وشكله الغريب وهالة النور المحيطة به، فاقترب منه لاستطلاع أمره، وإذا بالطائر ينطق بلسان عربي فصيح: "يا محمد الشيرازي! إني مَلَك تهيأت لك بهذا الشكل لأخبرك أني موكل من الله تعالى بحفظك، فلا تخف"!!

        حقا.. كم كان هذا المرجع المظلوم عظيما في جاهه عند الله عز وجل، الذي أمر أحد ملائكته بحفظه، حيث قد ورد في بعض الروايات أن الملائكة تظهر لعباد الله الصالحين في صور الطيور والحيوانات.

        ومع هذا فإن دموع إمام المظلومين لم تتوقف، وظلت تتساقط من مقلتيه على وجنتيه، فقد أرعبوا أهله وسجنوا أبناءه، ومنعوا دروسه، وصادروا كتبه، وأودعوه قيد الإقامة الجبرية، وحالوا بينه وبين المؤمنين، وأوقفوا جلاوزتهم على باب داره لمنعهم من التشرف بلقائه! كل هذا لأنه رفض أن يبايع الظالمين، وعارض استبدادهم، وعمل على حفظ العقيدة الإمامية الولائية النقية الخالصة من الأفكار الصوفية الشركية!
        وثمة تفاصيل ينقلها العلامة الحجة السيد محمد الرئيسي الذي كان معتقلا هو الآخر، لكنه دخل على خط الوساطة في ما بعد. يقول السيد الرئيسي أن رسالة وصلته ذات ليلة من النظام طلبت منه أن يبلغ السيد الشيرازي ما مضمونه أن: "أمامك سواد هذه الليلة فقط.. إما أن تبايع وإلا فغدا تذهب أنت ومن معك إلى السجن لاستلام جثة ابنك مرتضى"!!

        واحتار السيد الرئيسي في الأمر إذ كيف يمكنه إبلاغ سماحة المرجع به بالنظر إلى حالته الصحية. لقد كان يشفق عليه، ولكنه لم يجد بدا من ضرورة إبلاغه في تلك الليلة التي كانت من أصعب الليالي على المؤمنين.

        توجه السيد الرئيسي إلى البيت المرجعي وطلب لقاء السيد الإمام عاجلا، إلا أن مسؤولي المكتب أبلغوه بان الوقت متأخر وأن سماحته مشغول في هذه الساعة بالتأليف أو العبادة، فمن الأفضل أن تأتي غدا. ولكن السيد الرئيسي أصر على اللقاء لأن الأمر لا يحتمل التأخير، فما هي إلا هذه الليلة!
        ذهبوا لإخبار سماحة السيد فوجدوه مشغولا. عادوا إلى السيد الرئيسي فازداد إصرارا! وبعد حوالي الساعة تمكنوا من إخبار سماحته بأن السيد الرئيسي في المكتب ويريد الإذن بمقابلتكم. فأومأ سماحته بالإيجاب.

        وتم اللقاء.. وإذا بالسيد الرئيسي يتلعثم.. كيف له أن يخبر سماحته بهذه المصيبة الجديدة؟! ألا تكفيه مصائبه؟!
        وأطلق السيد الرئيسي للسانه العنان بعدما لم يجد مفرا من قول الحقيقة والإبلاغ بالإنذار الأخير، فإذا بالنبأ ينزل على رأس السيد المظلوم كالصاعقة!
        يصمت السيد برهة.. ثم يقول: "وماذا يطلبون الآن"؟ يجيب السيد الرئيسي: "إنهم يريدون المبايعة.. أن تكتبوا بخطكم ورقة تؤيدون فيها النظام وتعلنون عن إيمانكم بولاية الفقيه والقيادة الحالية، وتختمونها بختمكم الشريف، وإلا فإن قرار الإعدام سيصدر غدا صباحا بحق السيد مرتضى"!!
        وتتجمد عروق إمام المظلومين الراحل، ويحمر وجهه، وتتدهور صحته، فيهرع إليه السيد الرئيسي محاولا تهدئته، فيطلب سماحته ورقة، ويخرج قلمه، ويبدأ بكتابة كلمات بيده التي كانت ترتجف! ثم سلّمها إلى السيد الرئيسي قائلا له: "خذ! أعطها لهم"!

        أخذ السيد الرئيسي الورقة وإذا مكتوب فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم. أنا محمد الشيرازي أؤمن بشورى الفقهاء المراجع، والحرية الإسلامية، والعدالة والمساواة، والتعددية، والأمة الواحدة. وأرفض الاستبداد والاستعباد، وكل ما يخالف شرع الله جل وعلا، وسيرة أوليائه المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين. والله المستعان - الختم الشريف"!!

        ينتهي السيد الرئيسي من قراءة الورقة متعجبا فيرفع رأسه وإذا به يجد السيد الإمام قد اغرورقت عيناه بالدموع، ويشهق شهقة ثم يقول: "اللهم انتقم لي من القوم الظالمين"!
        ثم يكمل كلامه والعبرة تخنقه: "يريدون قتل ابني مرتضى! فليقتلوه! قد قتل أسلافهم أجدادي! ومَن يكون مرتضى أمام أبي عبد الله الحسين؟ ومن أكون أنا أمام أمير المؤمنين؟ فليقتلوني أيضا.. قد سئمت دنياهم"!!

        يحاول السيد الرئيسي ثني الإمام عن موقفه فيقول: "سيدنا أرجوكم.. هناك روح في السجن سيتم إزهاقها غدا إذا لم توقّعوا على الورقة التي يريدون.. أرجوكم انظروا إلى هذه الأولوية"!
        يرد السيد المظلوم وقد ابتلت لحيته الكريمة من الدمع: "لا والله لا أبايعهم ما حييت! هل تريدني أن أوقّع على ورقة أنقذ فيها ابني وافتح لهم الباب على مصراعيه لكي يقتلوا الملايين بسببها في ما بعد؟! لا والله أبدا لا يكون ذلك، والله لأشكونهم إلى أمي الزهراء وهي التي ستأخذ بحقي منهم"!
        عاد السيد الرئيسي وأوصل رسالة هذا الطود الشامخ الصامد إلى جلاوزة النظام. وعاد قبله آية الله السيد موسى الزنجاني، كما عاد الكثيرون دون تحقيق جدوى، فقد ضرب هذا الإمام العظيم مثلا في الإباء والصبر والتحدي أذهل الجميع!
        أرادوا إركاعه.. فأركعهم! كيف؟
        بدموعه!! فإنه ذهب إلى مصلاّه، وأخذ يدعو ربّه ويناجي أمه الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها) بصوت حزين منكسر. وكان البكاء سلاحه.. وأعظم به من سلاح أجبر النظام المتغطرس أن يفرج عن السيد المرتضى رغم أنفه!
        ويوم تم الإفراج.. وعاد إلى والده الحنون، كان ذلك يوم البكاء والدموع!
        في تلك الساعة، طلب الأب العطوف من ابنه أن يكشف له عن ظهره وصدره! فامتثل الابن البار، وكاد الإمام أن يسقط أرضا من هول ما رأى!
        "أي بني! كيف حرقوا جسدك النحيل وجلدوا بدنك الضعيف"!!
        آه.. ثم آه!
        كم تحمّل قلب هذا الإمام المظلوم من المحن والمصاعب وظل مع كل هذا صامدا صابرا رغم أن معظم المتملقين انفضوا من حوله في الشدائد وتركوه وحيدا! ولكن عينيه كانتا تفيضان بالدمع وهو يستقبل السماء قائلا: "من كان مع الله فليس بوحيد"!
        كم بكى هذا الرجل العظيم وأبكى، فكان بحق سيد البكائين في هذا الزمان!

        كان في كل ليلة يمشي في باحة الدار وهو يسبّح الله ويحمده ويذكره بـ (لا إله إلا الله) ألف مرة حتى أذان الصبح، ولطالما شاهده ذووه هنالك يبكي ويمسح دموعه!
        عندما أبلغوه بأن بعضهم انتقص من مقام الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها) ودورها التشريعي؛ انتفض باكيا وأخذ القلم وشرع بكتابة تلك التحفة العلمية الفريدة التي لم يسبقه إليها أحد: (من فقه الزهراء عليها السلام)!
        عندما كان يسمع بما جرى على المؤمنين في العراق في الانتفاضة الشعبانية، أو في أفغانستان أيام العهد الطالباني الوهابي الخبيث، أو في لبنان أو في فلسطين أو في غيرها.. كان يبكي ألما وحسرة، حتى أصابته سكتة قلبية ذات مرة بسبب ذلكّ! وأنقذه الله. حتى أن بعض المشايخ كانوا يخافون أن يعرضوا على سماحته صور الإجرام الصهيوني في لبنان وفلسطين خشية من أن تنتكس صحته ويخسرونه إلى الأبد.. كما خسروه وخسرناه أخيرا!
        عندما كان يستمع إلى شكاوى مراجعيه من المؤمنين، كان يبكي لأبسط سبب! فهذا لديه مرض عضال ويطلب منه الدعاء، فيتأثر سماحته ويبكي! وذاك لديه أزمة ما فيجد الإمام الراحل يسبقه إلى البكاء! واشتهر هذا عنه حتى تناقلت الألسن: "السيد الشيرازي صاحب القلب الكبير الكسير"..
        حتى في لحظات الفرح، كان يبكي، كما جرى حينما رأى نجله الأكبر آية الله السيد الرضا للمرة الأولى بعد غياب قسري دام تسع سنوات خارج إيران، فاحتضنه باكيا متأثرا وقد انهمرت دموعه على خده!

        حتى في الأيام العادية، كان يشتاق إلى البكاء، فيقرأ لنفسه مصيبة من مصائب الأطهار (صلوات الله عليهم) وينوح وينتحب! ولطالما طلب من جلسائه أن يقرءوا له مصيبة جده الحسين أو أمه الزهراء (صلوات الله عليهما) كما جرى ذلك قبل أيام قليلة من وفاته، أو استشهاده بالأصح، حينما طلب من أحد المؤمنين الذين كانوا في محضره الشريف أن يسمعه المصيبة، رغم أن ذلك المؤمن وهو الحاج متين بور لم يكن من قرّاء المصائب! ولكن السيد طلب منه هذا الطلب فلبّاه، ورأى دموعه تجري!

        عندما قال قولته المشهورة: "لقد اشتقت إلى كربلاء.." كانت الدموع تختلط بكلماته!
        عندما تصفّح قبل أربعة أيام فقط من استشهاده كتابا عن الموت والآخرة، فسالت دموعه وضج بالبكاء!
        عندما ودّع ابنته قبل عشرة أيام من رحيله، بكى وقال لها: "إن شاء الله سنلتقي بالجنة" حيث كانت ستغادر قم المقدسة إلى الكويت وظنت أن بمقدورها رؤية أبيها ثانية!

        عندما أخبر زوجته قبل رحيله بأيام معدودة أنه مشتاق إلى ابنه السيد المرتضى الذي حُرِم من رؤيته حتى اللحظات الأخيرة، فبكى وأبكى من حوله!
        كان بحق سيد البكّائين في هذا الزمان، ولكنه مع هذا كان يحاول الظهور أمامنا بمظهر المتمالك نفسه، فيحبس دمعته إلى أقصى حد ممكن، ولكنه إذا انفجرت لوعته لم يكن يستطيع أن يصمد!

        ومع كل هذا.. إنه يطلب منا الآن أن لا نبكي عليه!!(*) فيا مولاي لماذا تحرمنا من البكاء؟! صحيح أنك قد أصبحت الآن حرا منعما في جنة الخلد بعدما كنت سجينا مقيدا في حطام هذه الدنيا.. ولكن البكاء هو متنفسنا الوحيد.. فأرجوك وأتوسل إليك يا ابتاه أن لا تحرمنا من هذا البكاء!
        لئن لم تجرِ دموعنا عليك، فلمن تجري يا سيدي؟! أعرف ماذا ستجيب: "ابكوا على الحسين"!
        وإننا يا سيدي سنبكي - كما علمتنا - على الحسين.. ولكن ما الحيلة إن كنا كلما بكينا عليه تذكرناك وبكونا عليك؟!! ما الحيلة ونحن كلما استذكرنا آلامك أصابتنا اللوعة فجرت دموعنا؟! ما الحيلة ونحن كلما زرنا مرقدك الشريف نرى الأقدام تطأه بسبب اللئام؛ فلا نتمالك أنفسنا ونجهش بالبكاء؟!
        ثم لماذا تطالبنا يا سيدي بأن لا نبكي عليك وأنت لا تزال تبكي - عند ربك - على حال هذه الأمة الضائعة التائهة؟! ترى هل توقفت دموعك الآن؟! كلا.. فقد كان أكثر ما يبكيك في حياتك الدنيوية حال هذه الأمة وحال الشيعة فيها المحرومون من رؤية إمام زمانهم عجل الله فرجه الشريف، المضطهدون من الحكام والسلاطين، القابعون في مجاهل التخلف!!

        نعاهدك على أن نعمل ما في وسعنا لأن نحقق أمانيك، وأن نمهد لقيام قائم آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين.. ولكن يا سيدي.. البكاء زادنا.. والدموع دواؤنا.. وما دمت تبكي.. فسنظل نبكي.. وما دامت دموعك لم تتوقف.. فستظل دموعنا تجري..
        وهل كان لشيعي حقا أن لا يبكي وهو المظلوم طول الدهر والمعاني من أشد أنواع القهر لا لشيء سوى حبّه وولائه لآل محمد الطاهرين الذين ما وقع على أحد من الظلم مثلما وقع عليهم صلوات الله عليهم!
        سنظل نبكي..


        الشيخ ياسر الحبيب
        _____________________
        (*) إشارة إلى ما نقلته إحدى المؤمنات من أنها رأت الإمام الراحل في المنام وقال لها: ”لماذا تبكون عليّ؟! لقد كنت في الدنيا مقيّدا سجينا.. وأصبحت الآن حرا طليقا“!
        التعديل الأخير تم بواسطة على ذمة التحقيق; الساعة 23-01-2010, 02:38 PM.

        تعليق


        • #5
          واقعا التقديس وقع فيه أتباع المرجع السيد الشيرازي كما وقع فيه أتباع البعض ممن تعلمون

          و بقي هناك مرجعية وسطية مقلدوها يقلدونها و لكن لا يبالغون في تقديسها

          تعليق


          • #6
            اللهم صل على محمد وآل محمد
            ما أعتقد أحد سيكون له همة أن يقرأ الجريدة التي كتبتها .
            فحبذا لو تختصر وتقتصر على المهم

            تعليق


            • #7
              مشكور أخوي الغالي على الموضوع الرائع., عن سلطان المؤلفين المرجع الديني السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله).

              وجزاك الله 1000 خير.

              تعليق


              • #8
                بسمه تعالت قدرته
                السلام عليكم وتقبل الله اعمالكم
                عندما انتصرت الثورة الاسلامية في ايران بقيادة الامام الراحل قدس سره
                سارع الكثير الكثير من (....................................)
                الى اخذ نصيبهم من الكعكة
                ولكن انكشفوا
                وكان خطاب الشهيد السعيد مرتضى مطهري قدس سره
                (لا تقولوا ماذا اعطتنا الثورة بل قولوا ماذا قدمنا لهذه الثورة)
                والفاهم يفهم اخوتي
                والسلام
                واذا كان السيد الشيرازي له اثر في حياتكم اخي فهذا حقكم
                ولكن
                يا اخي انت تريد ان تمارس نفس ما فعلوه اشباه العلماءمعك
                وتريد ان تمارس نفس الدور
                وهو الحجر على عقولنا
                ولهذا
                الحمد لله نعرف الكثير الكثير
                ولا نريد ان نحول منتدياتنا لتصفية الحسابات بيننا
                والسلام

                تعليق

                المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                حفظ-تلقائي
                x

                رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                صورة التسجيل تحديث الصورة

                اقرأ في منتديات يا حسين

                تقليص

                لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

                يعمل...
                X