مناظرة
الدكتور التيجاني مع الشيخ علي في كينيا
في أمر الصحابة واجتهاداتهم
وفي الصباح جاء الأصدقاء مهنئين ومباركين ليتناولوا فطور الصباح عندي ، وكان من بينهم الشيخ علي ، وقد حمل كل منهم إليَّ هديَّة بسيطة ، واغتنمتها فرصة ، فأهديت لكل واحد منهم نسخة من كتاب : ثم اهتديت ، وطلبت من الشيخ علي أن يقرأه ويعطيني رأيه ، وأشعرته بأن مكانته العلميَّة ، وكثرة اطلاعاته تبوِّئه رئاسة الجميع ، وإنّي شخصيّاً مهتمٌّ بأفكاره وكل ما يصدر عنه .
وبعد أسبوع دعاني وزوجتي للعشاء عنده في بيته ، وجلست معه وبعض الأصدقاء على الطعام ، بينما دخلت الزوجة مع النساء حسب الأصول والعادات العربيّة .
سألت خلال السهرة الشيخ علي وبعدما أراني مكتبته القيِّمة ، سألته عن
رأيه في كتابي : ثم اهتديت .
قال : من حيث الأسلوب فهو رائع ، يشدُّ القارئ شدّاً عجيباً ، ولكن من حيث الموضوع فهو جدّاً خطير .
قلت : أين يكمن الخطر ، فرأيك يهمُّني ؟
قال : في نقد الصحابة وقدحهم ، فنحن ما عرفنا الإسلام الذي جاء به محمَّد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاَّ من خلالهم .
قلت : هذا صحيح لو كان الأمر يتعلَّق بجميعهم ، ولكن الحمد لله لم يمسَّ القدح والنقد إلاَّ البعض منهم ، الذين شهد التأريخ بانحرافهم ، والبعد عن سنَّة نبيهم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأنت بحمد الله ممن عرف التأريخ وأحداثه ، وعرف اختلافهم ، وما سبَّبوه لنا من مشاكل وانقسامات داخل الأمَّة الواحدة .
قال باعتزاز : أنا أعلم كل ذلك ، ولكن الذين قسموا الأمَّة هم بنو أميَّة ، وعلى رأسهم معاوية ، وقد نصَّ على ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته عندما قال : الخلافة من بعدي ثلاثون سنة ثمَّ ملك عضوض(1) ، واسترسل يسبُّ بني أميَّة ويشتمهم ، ويمدح الخلفاء الراشدين ، وهو يحاول بذلك إقناع الحاضرين بأفكاره ، فتركته يتكلَّم حتى سكت .
قلت : اتق الله يا شيخ علي ، فالله سبحانه وتعالى لا يحبُّ العلماء الذين يعرفون الحقَّ ويكتمونه ، فقد قال جلَّ من قائل : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ}(1) .
فهل اغتصب بنو أميَّة خلافة علي بن أبي طالب (عليه السلام) التي نصَّ عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في غدير خم(2) ؟
هل اغتصب بنو أميَّة حقَّ الزهراء سلام الله عليها في النحلة والخمس والميراث ، حتى ماتت غاضبة تدعو الله عليهم في كل صلاة ؟
هل أحرق بنو أميَّة ما جمع من سنَّة النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ومنعوا الناس من التحدُّث بها(3) ؟
هل غيَّر بنو أميَّة أحكام القرآن ، وأحكام السنّة النبويّة ، وأبدلوها باجتهادات غيَّرت مسار الإسلام والمسلمين(1) ؟
أنت تعلم أنّه لم يفعل كل ذلك غير الخلفاء الذين تسميهم الراشدين ، عندما لم يكن لبني أميَّة دولة ولا نفوذ ، ولم يكن لمعاوية ولا لأبيه وزن عند المسلمين ، والذي كبَّر معاوية ، وجعله إمبراطور الإسلام هم : أبو بكر وعمر وعثمان ، الذين تحاول أنت بكل جهودك أن تسدل عليهم ستار الهالة والتقديس ، وتجعلهم من طراز الأنبياء والمرسلين .
قال مبتسماً أمام الحاضرين وهو يحاول المراوغة : نحن ما قلنا إن الخلفاء من طراز الأنبياء ، وما قلنا بأنهم معصومون عن الخطأ ، فهم كسائر البشر ، يخطئون ويصيبون ، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : كل ابن آدم خطَّاء ، وخير الخطَّائين
التوَّابون(1) ، فنحن مسلمون بأن أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً كلهم أخطأ ، وكلهم مأجورون ، لقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : من اجتهد وأصاب فله أجران ، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد(2) .
قلت : يا شيخ علي ! أقول لك مرَّة ثانية : اتق الله ، ولا تلذ بالأوهام الواهية كبيت العنكبوت ، وتترك الحقائق الدامغة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء ، وأنا أتحدَّاك أمام الحاضرين أن تأتيني بخطأ واحد للإمام عليٍّ (عليه السلام) ، فسوف لن تجد إلاَّ ما يردِّده أسلاف النواصب الذين أعيتهم الحيلة ليجدوا خطأ واحداً لعليٍّ (عليه السلام) ، فقالوا بأنه بعد تولّيه الخلافة أخطأ في عزل معاوية ، ولو أنّه صبر حتى استتبَّ له الأمر ثمَّ عزله بعد ذلك لكان أحسن(3) ، أو أنّه أخطأ في واقعة التحكيم في حرب صفين ، وهو قول الخوارج .
فهل تجدون لعليٍّ (عليه السلام) أكثر من هذين الخطأين المزعومين ، وكلُّها لا تعدو الآراء السياسيّة التي يختلف فيها الناس ، فتظهر للبعض بأنها خطأ ، وتظهر للبعض الآخر بأنها عين الصواب ، وهي من باب قول الله سبحانه وتعالى : {عَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(1) .
هذا على افتراض أن علياً (عليه السلام) شخص عاديٌّ ، ليست له ميزة ولا علم ..
إلى أن قال : وإذا كان الأمر كما تقول ـ يا شيخ علي ـ فلماذا لا تلتمس عذراً لإبليس لعنه الله الذي اجتهد في قوله : {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّار وَخَلَقْتَهُ مِن طِين}(2) ؟ فاجتهاده أو صله إلى نتيجة أن النار هي خير من الطين ، أو كما قال بعض المتصوِّفة : إن إبليس هو أكبر الموحِّدين ; لأن اجتهاده منعه أن يسجد لغير الله تعالى .
ألا ترى معي أن الموازين كذلك المقاييس العقليّة يجب أن تتوقَّف عن الاجتهاد عند صدور الحكم الإلهيّ ، انظر إلى قوله تعالى : {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ}(3) ، فكل الملائكة قالوا : سمعاً وطاعة ، ولم يجتهدوا بآرائهم في هذا الحكم الصادر من الخالق إلى المخلوق ، إلاَّ إبليس أبى أن يكون من الساجدين ، لماذا ؟ لأنه اجتهد برأيه مقابل هذا الحكم الإلهيِّ ، فرأى أنّه أفضل من آدم ، فعصى وتمرَّد .
وإذا كان الأمر كذلك فكلُّ المجرمين والفاسقين مأجورون على
اجتهادهم ، فهذا فرعون اجتهد في تكذيب موسى (عليه السلام) ; لأنه كان يظنُّ أن كل الآيات التي جاء بها موسى (عليه السلام) هي من قبيل السحر ، ولذلك جمع له السحرة ، واعتقد بأنّه كبيرهم الذي علَّمهم السحر ، وهذا السامريُّ الذي اجتهد فأخذ قبضة من أثر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فتسبَّب في ضلالة بني إسرائيل ، وهذا أبو لهب عمُّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اجتهد أيضاً ; لأنه ظنَّ أن ابن أخيه يريد الدعوة لنفسه مقابل الآلهة التي يعبدونها .
وهذه عائشة اجتهدت في قتل الآلاف من المسلمين الأبرياء ; لأنها كانت لا ترى مصلحة في خلافة عليٍّ (عليه السلام) ، وهذا يزيد اللعين اجتهد هو الآخر في قتل سيِّد شباب أهل الجنة الحسين (عليه السلام) ; لأنه كان يرى جميع الناس على طاعة الخليفة وعدم الخروج عليه .
وهذا هتلر الذي اجتهد ورأى بأن الألمان ـ وهم الجنس السامي ـ هم أسياد العالم ، وكل الناس هم عبيد ، لهم ويجب محقهم ، وهذا صدّام اجتهد الآخر في قتل الملايين .. وهو بطل القادسيَّة ، وقد اجتهد في احتلال الكويت ; لأنه يرى بأنها جزء من العراق ...
وما أظنُّك ـ يا شيخ علي ـ توافق على أن كل هذا هو الاجتهاد الذي يستوجب الأجر من عند الله .
قال وهو يتنهَّد : لا طبعاً ، أنا أعرف الفرق بين الاجتهاد والعصيان وهو كما قدَّمت ، إلاَّ أنه عندي تعليق على ذكرك أمَّ المؤمنين السيِّدة عائشة ، فهي التي قال فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء(1) ، ويقصد بذلك
عائشة .
وحاولت إقناعه بأن هذه الأحاديث وأمثالها موضوعة في عهد بني أميَّة ، فقد أكثروا من إطراء الخلفاء الثلاثة : أبي بكر وعمر وعثمان من الرجال ، وعائشة من النساء ; للدور الذي قامت به بعد وفاة النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) .
فكان يوافقني تارة ، ويتردَّد ويشكِّك أحياناً في بعض الأحداث التأريخيّة ، وهو يريد رغم محاولاتي أن يضفي على عائشة هالة من التقديس ، حتى جعلها أعلم الصحابة ; لأن نصف الدين عندها وحدها ، وكل الباقين عندهم النصف الثاني .
وضحكت لهذا الاعتقاد ، وقلت له : ما رأيك لو أوقفتك على دليل ملموس بأن ما تقوله لا يصحُّ ؟
قال : هات نسمع منك .
قلت : هل تعرف رضاعة الكبير ؟
قال : وما هي رضاعة الكبير ؟
قلت : باختصار أنّه يمكن لزوجتك أن ترضعني أنا فأصبح بعد تلك الرضاعة ربيبك ، ويمكن لي أن أستحلَّ منها ما يستحلُّ الولد من والدته .
فضحك عند سماعه هذه الأطروحة ، وقال مستغرباً : كيف ؟ أنت ترضع من زوجتي أنا ؟ لا يحقُّ لك ذلك .
قلت : هذا من نصف دينك الذي تقول به أمُّ المؤمنين عائشة .
قال : لا ، لا ، ما سمعت بهذا أبداً ، لعلّك تمزح .
قلت : أنا لا أمزح في مثل هذه الأبحاث العلميّة ، وكيف أمزح باتهام أم المؤمنين عائشة ؟ ولكن أنا قدمت من باريس ، وليس معي إلاَّ كتاب : ثم اهتديت ، وأنت ـ ما شاء الله ـ عندك هنا مكتبة ضخمة ، وبالتأكيد إن فيها صحيح مسلم ، وموطأ الإمام مالك .
قال : نعم ، عندي هذه الكتب ، وهل فيها هذا الحديث ؟
قلت : نعم ، سأترك لك المجال لتقرأ بنفسك على راحة البال ، وتعطيني بعد ذلك رأيك .
قال : دلَّني على الحديث في أيِّ موضع من الكتاب ؟
قلت : اقرأ باب رضاعة الكبير في الكتابين(1) ، وغداً أعطني النتيجة ،
وقمت أعتدر للخروج فقد مضى نصف الليل أو أكثر .
قال : وفي صباح اليوم التالي جاء الجامعة كالعادة لفطور الصباح ، وتأخَّر الشيخ علي أكثر من ساعة ، وكدنا نكمل الإفطار وإذا به يدخل علينا ، ويبدِّد حيرتنا ، وعندما وصل إليَّ مسلِّماً ضحك ، وقال : أرضعيه ولو كان ذا لحية .
وفهمت أنه اطّلع على الموضوع من شتّى جوانبه ، وفرحت لذلك ، ودعوناه للجلوس وتناول الإفطار متسائلين : ما الذي أبطأه عن الموعد المعتاد ؟
قال : لم أنم إلاَّ قليلا ، فقد سهرت بعدكم ، واطّلعت على قصة رضاعة
الكبير في كل من صحيح مسلم وموطأ مالك ، فحيَّرتني وطار النوم من عيني ، فلم أنم إلاَّ بعد صلاة الفجر .
قلت : فهل ما زلت على رأيك في أخذك نصف الدين عن الحميراء ؟
قال : أعوذ بالله ، هذا لا يجوز أبداً ، أنا من اليوم شيعيٌّ ، لا أتّبع إلاَّ عليّاً (عليه السلام) .
قال أخوه الشيخ محمّد : أتدري ـ يا دكتور ـ أننا من سلالة عليٍّ كرَّم الله وجهه ؟
قلت : إذن فأنتم أحقُّ بجدِّكم من غيركم ، قال الله تعالى : {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِي كِتَابِ اللّهِ}(1) .
وفرح الإخوة الكويتيون بهذا الاستبصار المفاجىء ، وكذلك الدكتور الخطيب ، وأخرج الشيخ علي الكتب إلى الطلبة ، وبدأ الدكتور الخطيب وأخوه عثمان ينشطان بحرّيّة ، ويعملان بكل جهودهم ، ولم يمض أسبوع واحد حتى استبصر أكثر من مائتين من الطلبة .
وجاء يوم الفراق للرجوع إلى باريس ، وخرج أكثرهم يودِّعونني ، وفي مقدِّمتهم الشيخ علي وأخوه الشيخ محمّد ، وقبل دخولي الطائرة عانقت الشيخ ، وقلت له أمام الجميع : سامحني إن كنت أسأت لك ، أو صدر مني شيءٌ تكرهه ، فأنا أرجوك العفو .
قال : العفو العفو ، أنت سيِّدنا ، وقد هديتنا إلى صراط الله المستقيم ، فجزاك الله عنّا خيراً ، ونتمنَّى أن لا تنسانا من زيارتك .
قلت : أتشهد أمام الحاضرين أنّك استبصرت للحقِّ وغيَّرت عقيدتك ؟
قال بصوت عال : أشهد أنني تشيَّعت ، وإمامي هو عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، والله على ما أقول شهيد .
عانقته مرَّة أخرى بحرارة أكثر ، وقبَّلت رأسه ، وفاضت أعيننا وأعين الحاضرين من الدمع ، وهم يكبِّرون صائحين : اللهمَّ صلِّ على محمّد وآل محمّد(1) .
1- راجع : المعجم الكبير ، الطبراني : 7/83 ـ 84 ، أسد الغابة ، ابن الأثير : 2/324 .
1- سورة البقرة ، الآية : 159 .
2- لا شكَّ أن بني أميَّة من الغاصبين لخلافة أميرالمؤمنين (عليه السلام) وأولاده الطاهرين(عليهم السلام) ، ولكنَّ مقصود الدكتور التيجاني اغتصاب الخلافة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مباشرة ، والإقصاء الذي تمَّ على أيدي القوم لعترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .
3- إحراق أبي بكر خمس مائة حديث .
روى الذهبي في تذكرة الحفاظ : 1/5 عن القاسم بن محمّد قال : قالت عائشة : جمع أبي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكانت خمسمائة حديث ، فبات ليلته يتقلَّب كثيراً ، قالت : فغمَّني ، فقلت : أتتقلَّب لشكوى أو لشيء بلغك ؟ فلمَّا أصبح قال : أي بنيَّة ! هلمّي الأحاديث التي عندك ، فجئته بها ، فدعا بنار فحرقها ، فقلت : لم أحرقتها ؟ قال : خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت ولم يكن كما حدَّثني فأكون قد نقلت ذاك .
أقول : كان على الخليفة حينما خشي هذا الأمر أن يُرجع الأحاديث إلى أصحابها ، لا أن يحرقها ويتلفها ، ولو كان هذا الخوف أمراً عقلائيّاً لما وصلنا شيء من كتب السنن والحديث ، لأن كل كتاب يحوي جملة من الأحاديث الشريفة يحتمل فيها هذا الاحتمال ، وأنت ترى أنَّ سيرة المسلمين قامت على اقتناء كتب الحديث والسنن ، ويرون إتلافها أمراً قبيحاً مستهجناً ، فلو أن أحداً جمع كتب السنن والحديث وأحرقها بذريعة هذا العذر لما كان مقبولا منه ، وحتى الراوي نفسه الذي سمع آلاف الأحاديث النبويّة وجمعها ثمَّ أحرقها بهذه الحجّة ليس معذوراً .
وجاء أيضاً في تذكرة الحفاظ : 1/2 ـ 3 قال : عن ابن أبي مليكة أن الصدّيق جمع الناس بعد وفاة نبيِّهم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال : إنكم تحدِّثون عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشدُّ اختلافاً ، فلا تحدِّثوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئاً ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلُّوا حلاله وحرَّموا حرامه .
حرق عمر للأحاديث الشريفة
وجاء في الطبقات الكبرى ، لابن سعد : 5/188 عن عبد الله بن العلاء قال : سألت القاسم يملي عليَّ أحاديث ، فقال : إن الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب ، فأنشد الناس أن يأتوه بها ، فلمَّا أتوه بها أمر بتحريقها ، ثمَّ قال : مثناة كمثناة أهل الكتاب .
وجاء في كتاب حجّيّة السنة : 395 : عن القاسم بن محمّد بن أبي بكر : أن عمر بن الخطاب بلغه أنه قد ظهرت في أيدي الناس كتب ، فاستنكرها وكرهها ، وقال : أيُّها الناس ! إنّه قد بلغني أنه قد ظهرت في أيديكم كتب ، فأحبُّها إلى الله أعدلها وأقومها ، فلا يبقين أحد عنده كتاباً إلاَّ أتاني به ، فأرى فيه رأيي ، قال : فظنُّوا أنه يريد أن ينظر فيها ، ويقوِّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف ، فأتوه بكتبهم ، فأحرقها بالنار ، ثمَّ قال : أمنية كأمنية أهل الكتاب .
1- وبنو أميَّة أيضاً لم يذخروا وسعاً في تغيير أحكام الله ، وتحريف حديث رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقلب الحقائق ، وتضليل الناس ، وآثار ذلك إلى يومنا هذا .
1- مسند أحمد بن حنبل : 3/198 ، سنن ابن ماجة : 2/1420 ح4251 ، سنن الترمذي : 4/70 ح2616 .
2- مسند أحمد بن حنبل : 4/198 ، سنن ابن ماجة : 2/776 ح2314 ، سنن الترمذي : 2/393 ح1341 ، ولفظه : إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر .
3- روي عن جبلة بن سحيم ، عن أبيه ، قال : لمَّا بويع أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بلغه أن معاوية قد توقَّف عن إظهار البيعة له ، وقال : إن أقرَّني على الشام وأعمالي التي ولاَّنيها عثمان بايعته ، فجاء المغيرة إلى أميرالمؤمنين (عليه السلام) فقال له : يا أميرالمؤمنين ! إن معاوية من قد عرفت ، وقد ولاَّه الشام من قد كان قبلك ، فولِّه أنت كيما تتَّسق عرى الأمور ، ثمَّ اعزله إن بدا لك ، فقال أميرالمؤمنين (عليه السلام) : أتضمن لي عمري ـ يا مغيرة ـ فيما بين توليته إلى خلعه ؟ قال : لا ، قال : لا يسألني الله عزَّوجلَّ عن توليته على رجلين من المسلمين ليلة سوداء أبداً (وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) لكن أبعث إليه ، وأدعوه إلى ما في يدي من الحقِّ ، فإن أجاب فرجل من المسلمين ، له ما لهم ، وعليه ما عليهم ، وإن أبى حاكمته إلى الله ، فولَّى المغيرة وهو يقول : فحاكمه إذن .. 1- سورة البقرة ، الآية : 216 .
2- سورة الأعراف ، الآية : 12 .
3- سورة الحجر : 29 ـ 31 .
الأمالي ، الطوسي : 87 ح42 ، مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 2/375
1- كتاب فسيروا في الأرض ، الدكتور التيجاني السماوي : 253 ـ 261 .
1- والمروي عندهم : خذوا شطر دينكم عن الحميراء ، راجع : النهاية في غريب الحديث ، ابن الأثير : 1/421 ، إرواء الغليل ، الألباني : 1/10 ، وقال في الهامش عن الحديث : حديث موضوع ، انظر : المنار المنيف لابن القيِّم .
وهذا الحديث عندهم ضعيف لا يؤخذ به ، وإن كان مشهوراً بينهم ، فليس له إسناد ولا أصل ، قال ابن كثير في البداية والنهاية : 8/100 : فأمَّا ما يلهج به كثير من الفقهاء وعلماء الأصول من إيراد حديث : خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء ، فإنه ليس له أصل ، ولا هو مثبت في شيء من أصول الإسلام ، وسألت عنه شيخنا أبا الحجاج المزي فقال : لا أصل له .
وقال العجلوني في كشف الخفاء : 1/374 ـ 375 ح1198 : ( خذوا شطر دينكم عن الحميراء ) قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث ابن الحاجب من إملائه : لا أعرف له إسناداً ، ولا رأيته في شيء من كتب الحديث إلاَّ في النهاية لابن الأثير ، ذكره في مادة ح م ر ، ولم يذكر من خرَّجه ، ورأيته في الفردوس بغير لفظه ، وذكره عن أنس بغير إسناد بلفظ : خذوا ثلث دينكم من بيت الحميراء ، وذكر ابن كثير أنّه سأل الحافظين : المزي والذهبي عنه فلم يعرفاه ، وقال السيوطي في الدرر : لم أقف عليه ، لكن في الفردوس عن أنس : خذوا ثلث دينكم من بيت عائشة ، انتهى ، وقال الحافظ عماد الدين في تخريج أحاديث مختصر ابن الحاجب : هو حديث غريب جدا ، بل هو منكر ، سألت عنه شيخنا المزي فلم يعرفه ، وقال : لم أقف له على سند إلى الآن ، وقال شيخنا الذهبي : هو من الأحاديث الواهية التي لا يعرف لها سند . انتهى
1- جاء في كتاب الموطأ لمالك : 2/605 ح12 عن ابن شهاب ، أنه سئل عن رضاعة الكبير فقال : أخبرني عروة بن الزبير ، أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة ... كان تبنَّى سالماً الذي يقال له : سالم مولى أبي حذيفة ، كما تبنَّى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) زيد بن حارثة ، وأنكح أبو حذيفة سالماً ، وهو يرى أنه ابنه ، فلمَّا أنزل الله تعالى في كتابه في زيد بن حارثة ما أنزل ... ردَّ كل واحد من أولئك إلى أبيه .. فجاءت سهلة بنت سهيل ، وهي امرأة أبي حذيفة ـ إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت : يا رسول الله ! كنّا نرى سالماً ولداً ، وكان يدخل عليَّ وأنا فضل ، وليس لنا إلاَّ بيت واحد ، فماذاترى في شأنه ؟ فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( أرضعيه خمس رضعات فيحرم بلبنها ) وكانت تراه ابناً من الرضاعة ، فأخذت بذلك عائشة أم المؤمنين فيمن كانت تحبُّ أن يدخل عليها من الرجال ، فكانت تأمر أختها أمَّ كلثوم بنت أبي بكر الصديق ، وبنات أخيها أن يرضعن من أحبَّت أن يدخل عليها من الرجال .
وأبى سائر أزواج النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحد من الناس ، وقلن : والله ، ما نرى الذي أمر به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سهلة بنت سهيل إلاَّ رخصة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في رضاعة سالم وحده ،لا والله ، لا يدخل علينا بهذه الرضاعة أحد ، فعلى هذا كان أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في رضاعة الكبير .
وجاء في صحيح مسلم : 4/169 : عن زينب بنت أم سلمة ، قالت : قالت أم سلمة لعائشة : إنّه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحبُّ أن يدخل عليَّ ، قال : فقالت عائشة : أما لك في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أسوة .. إلخ .
وعن زينب بنت أبي سلمة تقول : سمعت أم سلمة زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تقول لعائشة : والله ما تطيب نفسي أن يراني الغلام قد استغنى عن الرضاعة ، فقالت : لم ؟ قد جاءت سهلة بنت سهيل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت : يا رسول الله ! والله إني لأرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم ، قالت : فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : أرضعيه ، فقالت : إنه ذو لحية ، فقال : أرضعيه يذهب ما في وجه أبي حذيفة ، فقالت :والله ما عرفته في وجه أبي حذيفة .
وروي عن أم سلمة رضي الله عنها أنها كانت تقول : أبى سائر أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يدخلن عليهن أحداً بتلك الرضاعة .. إلخ
تعليق