بسم الله الرحمن الرحيم
كأنَّها كانَت تَشعُرُ بما حَصَلَ لاَُمِّها من مقاطعةِ نِساءِ مكّةَ لَها ، بَل حتّى قَرِيباتِها لم يَعُدنَ يَسألنَ عَنها أو يَتَفَقَّدنَ أَحوالَها ، لِذلِكَ فَهيَ وحيدةٌ في بيتِها ، لا أنيسَ لها أثناءَ غيابِ رَسولِ اللهِ ( ص ) عَنها .
نَعَم كانت تَشعُرُ بِما حَصَلَ لاَُمِّها بسببِ زَواجِها مِن رَسولِ اللهِ ( ص ) رَغمَ أنَّها ما تَزالُ في ظُلمَةِ أَحشائِها .
لِذلِكَ رَأت مِن واجبها أن تُسلّيها بالحَديثِ مَعَها ، فَأشرَقَت على وجهِ خديجةَ ابتسامَةُ فَرَحٍ بَعدَ أن غَمَرَت قَلبَها سعادةٌ لم تَكُن تَشعُرُ بِها أثناءَ وَحدَتِها .
( خديجةُ مَعَ مَن تَتَحدَّثِينَ ؟ ) ، قَالَها رسولُ اللهِ ( ص ) مُندَهِشاً بعدَ أن رأى خديجةَ تُتَمتِمُ فَرِحةً وكَأنَّها تُكلِّمُ شَخصاً أمامَها .
فقالت لهُ : يا رسولَ اللهِ ، الجنينُ الذي في بَطني يُحدِّثُني ، فَتُؤنِسُني عُذوبَةُ حديثِهِ .
وفي هذِهِ الأثناءِ نَزَلَ الأمينُ جبرائيلُ ( ع ) وَهَمَسَ في أُذُنِ رسولِ اللهِ (

ثم تمرُّ لحظاتُ الولادةِ وخديجةُ وحيدةٌ لا تُوجَدُ امرأةٌ قُربَها ، ممّا اضطرَّها أنّ تُرسِلَ إلى قريباتِها مِن نِساءِ مَكّةَ ، وراحت تَنتَظِرُ حتّى أتاها جَوابهُنَّ : ياخديجةُ ، أنتِ عَصَيتِنا ، وَلَم تَقبَلي مِنّا قولَنا ، فَتزوّجتِ ذلِكَ الفقيرَ الذي لا مالَ لَهُ ، لِذلِكَ لَن نَجِيءَ إليكِ .
فَاغتَمَّت خَديجةُ لِذلِكَ غَمّاً شديداً ، وَبَينَما هِي كَذلِكَ وَإذا بِها تَتَفاجَأُ بأربعِ نِساءٍ يَدخُلنَ عَليها كَأنَّهُنَّ مِن نِساءِ قُريشٍ .
فَقالت إحدَاهُنَّ : يا خديجةُ لا تَحزَني ، لَقَد بَعَثَنَا اللهُ تَعالى إليكِ لِمُساعَدَتِكِ .
كانَت تِلكَ المرأةُ هي آسيةُ بنتُ مُزاحمٍ ، وَمَعَها مريمُ بنتُ عِمرانَ ، وسارةُ زوجةُ النبي إبراهيمَ (


ثم تَلَقّتها إحداهُنَّ فَغَسَّلَتها بِماءِ الكَوثرِ ونَشَّفتها ، ثُمَ أخرَجَت مِنَ القماشِ قِطعَتَينِ بَيضاوَتينِ أشدَّ بَياضاً مِنَ اللبَنِ ، وأطيبَ رائحةً مِنَ المِسكِ والعَنبَرِ ، فَلَفَّتها بواحدةٍ وقَنّعتها بالثانيةِ ، ثُمَّ استَنطَقَتها ، فَنَطَقَت فاطِمَةُ ( عليها السلام ) بالشَهادةِ قائِلةً : ( أشهدُ أن لا إلهَ إلاّ اللهُ ، وأنّ أبيَ محمّداً رسولُ اللهِ ، وأنَّ عليّاً سَيّدُ الأوصياءِ ، ووُلدي سادةُ الأسباطِ ) .
ثُمَّ سَلَّمَت على كلِّ واحدةٍ منهنَّ باسمِها ، فَأقبَلنَ عَلَيها ضاحكاتٍ ، ثُمَّ عَرَجنَ إلى السَماءِ بَعدَ أن تَناولَتها خديجةُ فَرِحةً بها مستبشرةً ، فَوضَعَتها في حِجرِها ، وألقَمَتها ثَديَها فَدَرَّ عليها لَبناً .
وما أسرعَ ما لُقِّبَت فاطمةُ ( عليها السلام ) بالزهراءِ ، ففي ولادَتِها أزهَرَت الأرضُ وأشرَقَت الفَلَواتُ ، وأنارَت الجبالُ والربواتُ ، وَهَبَطَت الملائكةُ إلى الأرضِ ، فَنَشَرَت أجنِحَتَها في المشرِقِ والمغرِبِ ، وضَرَبَت عليها سُرادِقُ البَهاءِ ، وغَشيَ أهلَ مَكّةَ ما غَشِيَهُم مِنَ النورِ .
ثم دَخَلَ رسولُ اللهِ (

بَعَثَهُنَّ اللهُ تَعالى لِيصبَحنَ في خدمةِ خديجةَ وابنَتِها فاطمةَ الزهراءَ ( عليها السلام ) بَعدَ أن استَبشَرَتِ الحورُ العِينُ ، وبَشَّرَ أهلُ السماواتِ بعضُهم بَعضَاً بولادةِ فاطمةَ الزهراءَ ( عليها السلام ) فَقَد حَدَثَ في السماءِ نورٌ زاهرٌ لَم ترَ مِثلَهُ الملائِكةُ مِن قبلُ ) .
مَرَّتِ الأعوامُ وفاطمةُ الزهراءُ ( عليها السلام ) تَنمُو في اليومِ كَما يَنمُو غيرُها في شهرٍ ، وَتَنمُو في الشَهرِ كَما يَنمُو غَيرُها في سنةٍ .
إلى أن جاءَ ذلِكَ اليومُ الذي كانَ فيه رسولُ اللهِ (




فَقَامَ الملَكُ بِتَقبِيلِ رأسِ الرسولِ (

فَقَالَ الملَكُ : ما أنا بِجبرائيلُ ، لكنّي مَلَكٌ يَقالُ لِي محمودٌ ، وبَينَ كَتفَيَّ مكتوبٌ : لا إلهَ إلاّ اللهُ ، محمّدٌ رسولُ اللهِ - وعلى رواية : عليٌّ وليّهُ ووصيّهُ - .
وفي هذهِ الأثناءِ نَزَلَ مِنَ السماءِ جِبرائيلُ ، ومِيكائيلُ ، وإسرافيلُ ، وَسبعونَ ألفاً مِنَ الملائكةِ قَد حَضَروا مَعَهُم .
فبَينما كان المَلكُ يقولُ لِرَسُولِ اللهِ (



فَالتَفَتَ النبيُّ (


ثمَّ التَفتَ النبيُّ (

فقال : مِن قبلِ أن يَخلُقَ اللهُ آدم بألفَي عامٍ ، ثُمَّ ناولَ جِبرائيلُ النبيَّ محمّداً (

فَصارت فاطمةُ الزهراءُ ( عليها السلام ) كلَّما مَرَّرَت يَدَها على رأسِها أو بَدنِها شَمَّ أهلُ المدينةِ رائحةَ ذلِكَ الطيبِ .
وكانَت فاطمةُ الزهراءُ ( عليها السلام ) دائماً تَشتَغِلُ بالعبادةِ ، وفي إحدى لَيالي الجُمَعِ وَهيَ مشغولةٌ كانَ وَلَدُها الإمامُ الحسنُ (

والإمامُ الحسنُ (


وحِينَ انتهت فاطمةُ الزهراءُ ( عليها السلام ) من عبادَتِها ودُعائِها بادَرَها الإمامُ الحسنُ (

فأجابَت ( عليها السلام ) وَلدَها قائلةً : ( يا بُنيَّ ، الجارُ ثُمَّ الدارُ ) .
هَكذا كانت بَضعَةُ المصطفى ( عليها السلام ) تَهتَمُّ بِأُمورِ المُسلمينَ وتَحرِصُ على طَلَبِ الخَيرِ .