النفس والروح
كثيراً ما يقع الإلتباس ويحدث الخلط في الكلام عن النفس والروح، والفهم الدقيق لذلك يقتضي التمييز بين النفس الأزلية الجوهرية التي هي الروح، والنفس النباتية أو الحيوانية التي ينمو بها الجسم ويتطور من حال الى حال، وهي الحياة الطبيعية للمواليد التي تخضع لأحكام المدبرات والإجرام السماوية، والغذاء والهواء والبيئة، وما إلى ذلك من مؤثرات وقوانين طبيعية تتحكم بالمادة زماناً ومكاناً.
* * *
هذا هو حال المملكة الصغيرة أو الجرم الصغير (أي الإنسان) الذي انطوا فيه سر المملكة الكونية أو العالم الأكبر. يتناغم النظام ويستقيم ويتكامل بانصياع النفس لأمر العقل أما في حال المعكوس فيصبح كحال البيت الذي يغلب فيه أمر الزوجة فتصبح سيداً، ويضعف فيه شأن الزوج ويهزل رأيه فيتحول عبداً. والنتيجة تتأتى أو المحصلة لهذا الصراع ينتهي بغلبة الزوجة على زوجها، هي نفس النتيجة التي تتأتى من غلبة النفس على العقل، فتصبح عندئذ بهيمية شهوانية متطلبة راغبة في الإفراد والاندفاع متحللة من كل القيود، هائمة وراء إشباع أحاسيسها المضطربة في آلاتها وجوارحها كالنار الملتهبة. وكما قيل: كل نار تطفأ ونار الشهوة لا تطفأ. وهنا يمكن خراب المملكة الصغيرة ممثول الجسم والكبيرة ممثول العالم بأسره، كما يحصل فيما يسمى عصر الرقي والحضارة والعولمة التي تكاد تؤدي بالإنسان وتذيقه شر ما تهواه نفسه وبئس ما صنعته يداه.
* * *
لا عجب من انقسام العالم الى قسمين لا ثالث لهما من جميع المذاهب والأديان والأمم والشعوب التي تؤلف العائلة الإنسانية بكل فرد فيها كائناً من كان، وفي أي مكان وزمان، ومهما تنوعت وتعددت واختلفت حضاراته وثقافته، وهوياته وتوجهاته وانتماءاته، ولغاته وبيوت عبادته في ظل هذه الشجرة الكونية الواحدة وحقيقة قطوفها الدانية من الخير والشر، مهما بدت مظاهر أغصانها وأزهارها وأوراقها وأثمارها فهي لا تثمر في واقع تكوينها ونشأتها وحق حقيقتها سوى ثمرتين لا غير: ثمرة جبنة المعرفة والإقرار، أو ثمرة جهنم الجحود والإنكار، فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها.
* * *
إن أعمى القلب لا يهتدي إلى نور المعرفة، ولا يقبل منك أن يشكرك إن أنت هديته الى الكلمة السواء، ولا يفقه معناها تماماً، كما لا يشكرك أعمى العين على مرآة تهديه إياها. فالعين الصحيحة هي سراج الجسد الذي يرى في عالمه الحسي الأدنى، والقلب السليم هو سراج الروح الذي تدرك به عالمها العلوي الأسمى. كما إن العقل يتلقى الصور من أنوار السراجين، ويعمل على فرزها وتحليلها والتفكير بدقائقها ورقائقها وحقائقها ليصدر حكمة ومشورته ونصيحته فيما هو النافع والضار، والخير والشر، والدائم والزائل، والعالم والجاهل، والحق والباطل، إلى آخر ما هنالك من عمليات تحليل عقلية وسبحات فكرية في تجليات الخلات وتشكل النورانيات، ومقارنة المثل الكثيفة المادية المرئية وتشكيلاتها وهياكلها، وصورها المحسوسة السائلة الزائلة المتغيّرة الأغراض والأشخاص والأنواع، بمثالاتها اللطيفة المعنوية، وصورها وتشكيلاتها الحقيقية الدائمة الأبدية، كما تشكلت في قوالبها في عالم الإبداع حيث أصبح كل علوي عرشاً لكل سفلي.
* * *
إن الحديث عن الإبصار والعمى لا عن الأعين الشحمية، وما تتأثر به من ظلام ونور، بل عن المعارف العقلية والأنوار الإلهية التي تمتلئ بها، أو تخلو منها القلوب في لفائف الصدور. فالقلوب هي المرايا التي وضعها الخالق في المخلوق على صورته، وجعلها مساقط لأنواره ومحافظ لكنوز أسراره. فإذا كانت رياض تلك القلوب صافية نيّرة تلقت الأنوار وامتلأت بالأسرار، وفاضت بالمحبة والصدق والخير، فسمت بأصحابها إلى السعادة القصوى وجنة المأوى. وإذا كانت كدرة مظلمة وامتلأت رياء ونفاقاً، وفاضت بالخبث والحقد والشر، وانعكست وارتكست، ورسبت بأصحابها في قعر الجحيم، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
* * *
إن أولئك الذين ينبت الأفك في قلوبهم، قيسقونه بماء الضلال، قد أظلمت مرايا نفوسهم، وتاهوا عن الحق والحقيقة وألهتهم رياسة الحياة الدنيا، واتخذوا آلهتهم أهواءهم وتقلبوا في الآفاق وهم ميتون، ذلك بأنهم آمنوا ثم كفـروا فطبـع على قلوبهم فهم لا يفقهون. وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فأحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون [المنافقون / 3-4].
سماحة الشيخ بهجت غيث
كثيراً ما يقع الإلتباس ويحدث الخلط في الكلام عن النفس والروح، والفهم الدقيق لذلك يقتضي التمييز بين النفس الأزلية الجوهرية التي هي الروح، والنفس النباتية أو الحيوانية التي ينمو بها الجسم ويتطور من حال الى حال، وهي الحياة الطبيعية للمواليد التي تخضع لأحكام المدبرات والإجرام السماوية، والغذاء والهواء والبيئة، وما إلى ذلك من مؤثرات وقوانين طبيعية تتحكم بالمادة زماناً ومكاناً.
* * *
هذا هو حال المملكة الصغيرة أو الجرم الصغير (أي الإنسان) الذي انطوا فيه سر المملكة الكونية أو العالم الأكبر. يتناغم النظام ويستقيم ويتكامل بانصياع النفس لأمر العقل أما في حال المعكوس فيصبح كحال البيت الذي يغلب فيه أمر الزوجة فتصبح سيداً، ويضعف فيه شأن الزوج ويهزل رأيه فيتحول عبداً. والنتيجة تتأتى أو المحصلة لهذا الصراع ينتهي بغلبة الزوجة على زوجها، هي نفس النتيجة التي تتأتى من غلبة النفس على العقل، فتصبح عندئذ بهيمية شهوانية متطلبة راغبة في الإفراد والاندفاع متحللة من كل القيود، هائمة وراء إشباع أحاسيسها المضطربة في آلاتها وجوارحها كالنار الملتهبة. وكما قيل: كل نار تطفأ ونار الشهوة لا تطفأ. وهنا يمكن خراب المملكة الصغيرة ممثول الجسم والكبيرة ممثول العالم بأسره، كما يحصل فيما يسمى عصر الرقي والحضارة والعولمة التي تكاد تؤدي بالإنسان وتذيقه شر ما تهواه نفسه وبئس ما صنعته يداه.
* * *
لا عجب من انقسام العالم الى قسمين لا ثالث لهما من جميع المذاهب والأديان والأمم والشعوب التي تؤلف العائلة الإنسانية بكل فرد فيها كائناً من كان، وفي أي مكان وزمان، ومهما تنوعت وتعددت واختلفت حضاراته وثقافته، وهوياته وتوجهاته وانتماءاته، ولغاته وبيوت عبادته في ظل هذه الشجرة الكونية الواحدة وحقيقة قطوفها الدانية من الخير والشر، مهما بدت مظاهر أغصانها وأزهارها وأوراقها وأثمارها فهي لا تثمر في واقع تكوينها ونشأتها وحق حقيقتها سوى ثمرتين لا غير: ثمرة جبنة المعرفة والإقرار، أو ثمرة جهنم الجحود والإنكار، فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها.
* * *
إن أعمى القلب لا يهتدي إلى نور المعرفة، ولا يقبل منك أن يشكرك إن أنت هديته الى الكلمة السواء، ولا يفقه معناها تماماً، كما لا يشكرك أعمى العين على مرآة تهديه إياها. فالعين الصحيحة هي سراج الجسد الذي يرى في عالمه الحسي الأدنى، والقلب السليم هو سراج الروح الذي تدرك به عالمها العلوي الأسمى. كما إن العقل يتلقى الصور من أنوار السراجين، ويعمل على فرزها وتحليلها والتفكير بدقائقها ورقائقها وحقائقها ليصدر حكمة ومشورته ونصيحته فيما هو النافع والضار، والخير والشر، والدائم والزائل، والعالم والجاهل، والحق والباطل، إلى آخر ما هنالك من عمليات تحليل عقلية وسبحات فكرية في تجليات الخلات وتشكل النورانيات، ومقارنة المثل الكثيفة المادية المرئية وتشكيلاتها وهياكلها، وصورها المحسوسة السائلة الزائلة المتغيّرة الأغراض والأشخاص والأنواع، بمثالاتها اللطيفة المعنوية، وصورها وتشكيلاتها الحقيقية الدائمة الأبدية، كما تشكلت في قوالبها في عالم الإبداع حيث أصبح كل علوي عرشاً لكل سفلي.
* * *
إن الحديث عن الإبصار والعمى لا عن الأعين الشحمية، وما تتأثر به من ظلام ونور، بل عن المعارف العقلية والأنوار الإلهية التي تمتلئ بها، أو تخلو منها القلوب في لفائف الصدور. فالقلوب هي المرايا التي وضعها الخالق في المخلوق على صورته، وجعلها مساقط لأنواره ومحافظ لكنوز أسراره. فإذا كانت رياض تلك القلوب صافية نيّرة تلقت الأنوار وامتلأت بالأسرار، وفاضت بالمحبة والصدق والخير، فسمت بأصحابها إلى السعادة القصوى وجنة المأوى. وإذا كانت كدرة مظلمة وامتلأت رياء ونفاقاً، وفاضت بالخبث والحقد والشر، وانعكست وارتكست، ورسبت بأصحابها في قعر الجحيم، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
* * *
إن أولئك الذين ينبت الأفك في قلوبهم، قيسقونه بماء الضلال، قد أظلمت مرايا نفوسهم، وتاهوا عن الحق والحقيقة وألهتهم رياسة الحياة الدنيا، واتخذوا آلهتهم أهواءهم وتقلبوا في الآفاق وهم ميتون، ذلك بأنهم آمنوا ثم كفـروا فطبـع على قلوبهم فهم لا يفقهون. وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فأحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون [المنافقون / 3-4].
سماحة الشيخ بهجت غيث