بسم الله الرحمان الرحيم اللهمَّ صلِّ على سيدنا ومولانا وحبيب قلوبنا وباعث نهضتنا من بُعث نهضة للعالمين محمَّد بن عبد الله وعلى آله الطيبين الطاهرين . أمَّا بعد .. في كل حقبة نرى فيها ثلة من الخلق المخلِص والمخلَص ينبرون بكل ثبات ، وعزيمة قلَّ نظيرهما ، لحماية حياض هذا المذهب - أعزه الله -، وصيانته من غزوات الشيطان ، التي تبثُّ الضلالات والمغالطات في قلوب بعض أبناء الشيعة - أعزهم الله - الضعيفة ، التي تكون غالبًا في غرفة الإنعاش ، ثمَّ ما تلبث حركة الشيطان لتتوسع وتتعمق ، لينبثق منها رجال يتخذون الزيف رداءًا ، والحِيَل أسلوبًا ، ليصُولوا ويجولوا في شيعة المذهب تدميرًا وتمزيقًا ، بل ويسعَون لمسخه ، لكن ﴿ يريدون ليطفؤوا نور الله بأفواههم والله متمٌّ نوره ولو كره المشركون ﴾]الصف 61 [ . ودائمًا ما كانت حركة العلماء ، تلك الثلة الطاهرة ، تصطدم بأفكارهم المنحرفة ، والتي تكون صناعة الشيطان ، فكما يلعب الوحي الإلهي دوره في نصرة الحقِّ وأهله ، كذلك فعل الشياطين مع أوليائهم ، يؤازرنهم بالمغالطات ، وينفعونهم في الاحتيالات ، وفي هذا الصدد نبَّه العليُّ الأعلى - جلَّ ذكره - على خطة الأبالسة ، وأنصارهم من الأناسي ، فقال - تعالى - : ﴿ وإنَّ الشياطينَ لَيوحون إلى أوليائهم ليُجادلوكم وإن أطعتموهم إنَّكم لمَشركون ﴾ ] الأنعام ص121 [ . وإن كان هذا الكلام ليس بالجديد ، إلا أنَّ اتساعه وعمقه في أيامنا بلغ من الشأو ما جعله عصر الضلالات بامتياز ، بل وهو ، وبلا ارتياب ، عصر انقلاب المفاهيم. وقد استوحيت من العبارة الأخيرة أفكارًا حقنت بها بحثي المتواضع ، وجعلت تلك العبارة عنوانًا له ، وقد وزعته - بعونه تعالى - إلى أقسام. أوَّلًا : أنصار الباطل . ثانيًا : أنصار الحقّ . ثالثًا : مشكلات العصر . رابعًا : مشكلات العمل الرسالي . خامسًا : التفكير السليم .وقبل الولوج في هذا البحث ، أشير إلى أنَّه قد كنت حاولت فيما مضى أن أكلِّف نفسي ببلورة هذه الفكرة في بحثٍ أنال به شيئًا من الواقع الإسلامي المؤلم ، إلا أنّي لم أوفق لذلك ، حيث كانت أسراره مكشوفة ، ورموزه ليست خفيَّة ، ما أبعده عن الأناقة ، ونفاه إلى جزيرة الفشل ، حتى نصحني بعض الأفاضل ، فأشار إلى عيوبه ، فأعرضت عنه كشحًا . وللمصادفة رأيت كتابًا لأستاذنا الدكتور الشيخ محمد أحمد حجازي - حفظه الله - ، هو درة في بحر العلم والمعرفة ، وكان وسمه بـ ( المفاهيم الدينية عند العوام بين الأسس الشرعيَّة والمشهورات العرفية ) ، طبعة دار المحجة البيضاء لبنان ، قد أنار بذكائه الحاد - أدام الله بركاته - بعضًا ممَّا كنت أنوي تسطيره ، فجزاه الله - تعالى - خيرًا ، وإن من أراد الإفادة فليرجع إليه ، وليتأمل به ، ففيه المغنم . وعلى كلِّ حالٍ ، وبعد فترة ، ولوقوع حدث مهم في هذا المضمار ، آليت على نفسي إلا وأبين ما كنت أضمره سابقًا ، وأختنق به ، حتى انفلتت حروفه في بعض الأحيان على لساني . عصر انقلاب المفاهيم القسم الأوَّل : أنصار الباطل . ربما اصطدَمت بهم ، تكلمتَ معهم ، أسررتَ إلى بعضهم ، وأسروا إليك ، لكنَّك لم تكن تعلم بهم ، ولا بزيفهم . فإذا قرَّرنا في قرارة أنفسنا أن نُحدِث فرقا في حياتنا ، لابُدَّ من كشف هؤلاء ، والوقوف على خطرهم ، وتعريبهم عن أصدقائنا الحقيقين ، وذلك بكشف وجوههم المصطنعة ، عبر سمات يتقلبون بها ، فكما لكلِّ حركة مميزات تَمِيزها عن غيرها ، فإنّ لحركة الباطل علامات لا تنفك عنها ، ومن أبرزها ، وليس آخرها ، النفاق . وقد ذكروا للنفاق تعاريف كثيرة ، إلا أنَّ ما يعينينا هو كلمتين فقط ، تلخصان المشهد النفاقي ، وهو أن النفاق إظهار الإيمان وإضمار الكفر ، وقد أشار إليهم تعالى ، فقال :﴿ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنَّا وإذا خلَوا إلى شياطينهم قالوا إنَّا معكم إنَّما نحن مُستهزئون ﴾] البقرة 14 [ . وهنا يحضر السؤال الأبرز ، وهو إن كان يُضمِر الكفر ، فكيف لي التنبه له ولخطره ؟ . إنَّ هذا السؤال هو من أشدّ الأسئلة عمقًا وأكثرها تعقيدًا ، فقد يعتقد البعض أنَّ الهروب من فتنهم ، وألاعيبهم ، هو بالشيء السهل ، وما ذلك إلا لخبرتهم الضئيلة في معارك الفتن ، بالإضافة إلى غياب الرحمة المهدوية عن سماء قلبه ، فلا تهطل عليه أمطار الرحمة ، لتنتشله إلى بر الأمان ، ولا يخرج شطؤه حتى يآزرة ويستغلظ ، ويستوي على سوقه ، ولا يغيظ الكفار ، بل يكون أداة في أيديهم ، يستعملونه في مآربهم ، والرجل لا يدري !! . لكن كان هناك وعد من آل بيت الرسول - صلى الله عليه وآله - بأنَّ القرآن الكريم هو الكفيل بإخراجكم من الفتن ، وفي الصحيح(1) عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله - عليه السلام - عن آبائه - عليهم السلام - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله - ( في حديث ) : ( إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن - إلى أن قال : - ومن جعله أمامه ---------------------------------(1) أو ( حسنة ) طِبقًا لرأي البعض بأنَّ إبراهيم بن هاشم القمي لم يوثّق صراحة ، بل مُدح مدحًا معتدًا به ، لكنه من مشايخ علي بن إبراهيم - رحمه الله - وبالتالي يشمله التوثيق العام .قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار ، وهو الدليل يدل على خير سبيل ) ] وسائل الشيعة ب 3من أبواب قراءة القرآن ح3 [،وها نحن نتبع قولهم ، ونلجأ إلى الكتاب المقدس ، علنا نلتمس نورًا . إنّ الكتاب المقدس لم يغفل عن هذه ( الشلة ) ، بل أبان خطرهم ، وكشف لنا كيفية فضحهم ، وذلك بملاحظة خِصال قريبة منهم ، ومنها : أوَّلًا - الكذب ، فإنَّها علامة شديدة اللصوق بهم ، بل إنَّها تسري في عروقهم ، كسريان الدم ، يقول - تعالى - : ﴿ أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم * ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم ﴾ ] محمد 29 و 30 [ ، نعم هي خصلة لحن القول ، أي الكذب . قد تظنُّ أنَّ الكلام صار إلى تعقيد ، فليس كلُّ من كذب كان منافقًا ، فإنَّ الكلام أعمُّ من المدعى ؟!! . نعم كلُّ لفظ بطبيعته يأخذ مجالًا عامًا ، تتشبث به مواضيع مختلفة ، ولعله لو أراد المرء أن يجمعها كلها في موسوعة لأمكن ، جاعلًا عنوانها الكذب . لكن مهلًا ومهلًا ، فالكلام أدقُّ ممَّا يُظنُّ ، فإنَّ الكذب في الموسوعة النِفاقية له مجال واحد ، هو كلُّ ما يَصبُّ في بِركة الانحراف العقائدي . ودائمًا في مرحلة دراسة السلوك الإنساني ، يُركَّز كثيـرًا على السمات المشتركة ، لأنَّها تكشف النقطة المركزية في هذا الإعصار الهائج ، فتكشف نقاط الضعف والقوة . ويمكن للثائر على أهل الباطل أن يكون شديد الملاحظة ، بحيث يركِّز على هذه النقاط النفاقيَّة المشتركة ، فيكشف زيفهم وحِيَلهم ، ومن هذه السمات المشتركة التي تظهر في شخصية المنافق : 1 - اتخاذه موقف الحيادي في القضايا العقائدية . 2 - ادعاؤه أن بعض الضروريات لا بد من التأمل بها . 3 - استعماله الجانب العاطفي . 4 - التردد في الموقف ما بين مؤيد ومعارض . 5 - التهرب عندما ( يحشر في الزاوية ) . هذا التأملات في شخصية المنافق وغيرها تكشف لك إذا كان صاحبك صاحب عقيدة وقلب سليم ، أو أنَّ الشيطنة قد أخذت من قلبه مأخذًا عظيمًا ، فمثلًا لو كان هناك انفجار عقائديّ ، وكان قد هزَّ النفوس ، وزَلزل معتقادات الناس الحقّة ، في أي صف تراه يكون ؟!!. وبعبارة أخرى ، إنَّ كشْفَ نفاق أهل السوء عبر كذبهم ليس بالأمر السهل ، إذ إنَّ رداء النفاق يَحُول دون التوصل لذلك ، فلا تراهم يكذبون علانية ، بل يتسترون بذلك ، ابتغاء الوصول إلى أهدافهم الدنيئة ، لذا فإنَّ هذه النقاط الخمسة - التي ذكرناها آنفًا - وغيرها ، هي الميزان في وسمهم بالكذب وعدمه ، حتى نتمكن من تصنيفهم - بعد الاختبار - في زمرة أهل النفاق أو لا . فمن لا يدافع عن عقائد الدين ، ومن يحايد أمام شبهات الآخرين ، ومَن يسخفّ بقضية عقائديَّة ، عبر تناولها عاطفيًّا ، ليتسنى له تكذيبها ، ومَن ومَن إلخ ، فإنّه شخص لمَّا يدخل الإيمان - بعد - في قلبه ، إذ التمذهب بالمذهب الصحيح يفترض العمل الدؤوب لحمايته ، فليس الجهاد مقصورًا على الواقع الخارجي ، بحمل السلاح ضدَّ العدو الظاهري ، بل يتعداه إلى الواقع العقائدي ، بحمل القلم ، وبالكلمة وبكل ما يملكه الإنسان ، ضد العدو الخفي ، وهو الجهل والنفس والشيطان ، وفي هذا الصدد يقول - تعالى - : ﴿ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ﴾ ] العنكبوت 69 [ . ثانيًا : خيانة الأمانة ، وهي من أشدِّ الخِصال تنفيرًا ، لأنَّها تضرب جدار الثقة بين أبناء المجتمع الواحد ، وتطيح بوهج الطيبة والإلفة فيه ، ولكي يستطيع الإنسان تحمل الأمانة ، وتأديتها إلى أهلها ، كما أمرنا الله - عزَّ وجل - بذلك ، فقال : ﴿إنَّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ﴾ ] النساء 58 [ ، يجب أن يملك فؤادًا فيه شيء من الطيبة والإلفة ولو بأدنى درجاتها ، وهذا غالبًا ما يفتقده المنافق .لذا كان التنقير على ملفات خيانة الأمانة ، وملاحظتها تفصَّيلًا ، يشكِّل قناة كبيرة للوصول إلى هذه الورقة المحروقة في شخصية المنافق . ولا نذهب بعيدًا إذا قلنا : إن أداء الأمانة إلى أهلها حق الأداء ، هي من الخصال التبشرية الأكثر تأثيرًا في شخصية الأنبياء ، وهذا ما لاح في الرسول الأعظم - صلى الله عليه وآله - حيث عُرِفَ بأنَّه الصادق الأمين . وإذا دخلنا أكثر في جلباب الموضوع ، وكشفنا اللثام عن غوامض أسراره ، فلا بُدَّ من توسيع ( البيكار ) ليشمل الأمانة العظمى ، والخطر الأدهى ، وهو أمانة الرسالة ، ففي الحديث عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : ( إن العلماء ورثة الأنبياء ، وذلك أنَّ الأنبياء لم يورِّثوا درهمًا ولا دينارًا ، وإنَّما ورثوا أحاديث من أحاديثهم ، فمن أخذ شيئًا منها فقد أخذ حظًّا وافرًا ، فانظروا عِلْمكم هذا عمَّن تأخذونه فإنَّ فينا أهل البيت في كل خلَف عدولًا ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتهال المبطلين ، وتأويل الجاهلين )] بصائر الدرجات ص30 منشورات الأعلمي لبنان [ . وعليه فإن حفظ الأمانة الرسالية هي الميزان الذي يعرِّب علماء السوء والدنيا عن علماء الخير والآخرة ، ولإن كان خطر الجاهل المنافق ليس سهلًا إلا أنَّ خطر العالم المنافق أدهى وأشد ، فالعالم كالسفينة إن هلك هلك خلق كثير . لذا فإنَّ قدرتنا على التنبه لهذا الأمر يلعب دورا كبيرا في تحديد مسارنا ، إما أن نكون مع أهل الباطل أو أهل الحق . وقد أثبتت التجارب أن اتخاذ فلانًا خليلًا أو إمامًا يُعطِّل المعارضـة في كيان الإنسان ، ويَحُول دون اهتدائه لو كان على باطل ، قال - تعالى - في شأن الخليل والصديق : ﴿ يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا ، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا ] الفرقان 28،29 [ ، وقال - تعالى - في تأثير الصحبة على حَرْفِ الإنسان عن مسار الإيمان : ﴿ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنَّا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون ﴾ ] البقرة 76 [ . إذا عرفنا هذا ، فإنّ النقطة التي يمكن أن تكشف لنا إذا كان هذا الرجل من أنصار الحق أو الباطل هي تصرف العالم السوء مع ما تسالمت وأجمعت عليه الطائفة ، فإن كان هذا الرجل يوافق إجماع الطائفة عقائديا وفِقهيا فلا غبار عليه ، وإلا لو كان يخالفها بشكل متكرر فإنَّه في ضلال مبين . ما يهمُّنا من هذا كله قدرتنا على كشف هذه الخصلة فيهم ، وهذا التحري الدقيق وخصوصًا لهذه الخصلة وسابقتها كان قد دعا آل النبي - صلى الله عليه وآله - شيعتهم إلى ملاحظتها ، ففي الحديث عن الإمام الجواد عن أبيه ، عن آبائه ، عن علي ( عليهم السلام ) قال : ) لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم وكثرة الحج والمعروف وطنطنتهم بالليل ، انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة .) ] وسائل الشيعة كتاب الوديعة ب1 ح8 [ . الخلاصة ، إنَّ النفاقَ هو إحدى العلامات التي نستدل بها على كون هذا الإنسان من أنصار الباطل ، ويمكن لنا كشف - كما ذكرنا - بملاحظة خصلتي الكذب والاستهانة بتحمل الأمانة .القسم الثاني : أنصار الحق يتبع إن شاء الله تعالى والله من وراء المقصد