منشورات سرية الجيش الأموي المأجور
أعزائي انقل لكم هذا الموضوع الذي اعتبر بعض ما ورد فية يحتاج فعلا الي وقفة ونقاش وحوار
هذه المنشورات السرية
كتبها الاديب والمفكر والفيلسوف الليبي الصادق النيهوم
----- المنشور السابع و الثلاثون ----
الدين اسمه دين – و ليس سياسة – لأنه ملتزم بقضية صعبة , و معقدة , و غير سياسية , و غير خالية من الأخطار , و هي قضية الدفاع عن ( حقوق المستضعفين ) .
دون هذا الإلتزام , لا يتغير شيء في قانون الغابة القائل بأن البقاء للأقوى , و لا يعرف أحد , ما يفعل بالدين , سوى أن يسخره لخدمة ملوك الغابة نفسها .
لهذا السبب , التزم الإسلام بالقتال دفاعا عن المستضعفين في الأرض , و دعا هذا النوع من القتال جهادا مقدسا في سبيل الله . فقد جاء في الآية 75 من سورة النساء : { و مالكم لا تقاتلون في سبيل الله و المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان } و في الآية 5 من سورة القصص : { و نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض و نجعلهم أئمة و نجعلهم الوارثين } .
فالعلامة الفارقة بين الدين و السياسة , أن الدين لا يخاطب المؤسسات , بل يخاطب الناس أنفسهم , مما يعني في لغة التطبيق , أن يصبح الناس مسؤولين شرعا عن سير الإدارة , فتعود السلطات إلى مكانها الصحيح بين أيدي الناس , و تعاد صياغة القوانين بلسان الجماعة , و يظهر في بنودها للعمال حق , و للنساء حق , و للأطفال حق , و للمراهقين حق , و للعجائز حق , و تصبح الحياة الدنيا – بقليل من الأشجار – جنة على الأرض . دون الشرع الجماعي , لا تفرق الأشجار وحدها , بين الغابة و الجنة .
إن الدفاع عن المستضعفين في لغة الإسلام , ليس دفاعا عن العمال و الفلاحين , بل عن الأسرة الإنسانية نفسها , التي لا تتكون من أصحاب رأس المال و العمال فقط , بل تتكون من أطفال و مراهقين و نساء و عجائز , يعيشون على كوكب صغير , يجب حمايته من التلوث . في صحبة حيوانات , يجب حمايتها من الإنقراض . إنه ليس هجوما مسلحا بالسيوف , بل هو نظام إداري قائم على تحدي منطق القوة , بالقلب و اللسان و اليد , لتحرير جنة الناس من قانون الغابة .
تطبيقا لهذا المبدأ , لم يوجه الإسلام دعوة الجهاد إلى العمال وحدهم – كما فعل (( البيان الشيوعي )) – بل إلى الأسرة الإنسانية بكاملها . فكل عضو في هذه الأسرة ملزم بالدفاع عن شرع الجماعة , بقدر ما تطول عصاه , مما يعني أولا عدم الحاجة إلى الجيش المأجور , و يعني – ثانيا – عدم شرعية النيابة عن الأمة في إصدار القوانين .
في عصر معاوية , وقعت الكارثة على الجانبين . فظهر جيش أموي مأجور , و نصب الخليفة نفسه , ممثلا شرعيا , ينوب وحده عن جميع المسلمين . و في ظروف هذا الإنحراف الهائل , خسر الإسلام قدرته على الإلتزام – إداريا – بحقوق المستضعفين . و خسر بذلك علامته الفارقة التي تميز بين السياسة و الدين , و غاب فجأة من واقع الناس وراء مذاهب فقهية , تعيش بمثابة نظريات بينهم .
لقد أصبح الإسلام على يدي معاوية , فقها إسلاميا دون جهاز إداري , و انقسم على الفور إلى ثلاثة مذاهب سياسية , متنكرة تحت عمامة الفقه .
الأول : مذهب الخوارج الذي بدأ برفض التحكيم , بين علي و معاوية , بحجة أنها مساومة على حكم الجماعة . و استن بذلك أول سابقة فقهية , تجيز الخروج على الجماعة نفسها .
الثاني : مذهب الشيعة , الذي بدأ بإنكار سلطة معاوية , بحجة أنه ليس الإمام الشرعي , ثم ما لبث أن تحول إلى مذهب فقهي , ينتظر بين الفقهاء , عودة الإمام الشرعي الغائب .
و الثالث : مذهب السنة الذي لم يظهر أصلا , إلا لفرز بقية المسلمين الواقعين تحت سلطة بني أمية , في مذهب فقهي ثالث , يرد على الخوارج و الشيعة , بحجة أن الخروج على الجماعة – حتى دون إدارة جماعية – خروج على أصل الشرع . و قد عاد هذا المذهب , فانقسم على نفسه , إلى أربعة مذاهب سنية أخرى , تختلف حول مسائل أكاديمية عابرة , لكنها تتفق جميعا على الإعتراف بشرعية الحكم الوراثي , دون حاجة إلى انتظار إمام شرعي غائب .
تحت هذه الظروف , ازدهرت علوم الفقه , و أصبح اسمها (( علوما )) و تبارى الفقهاء في شرح خفايا الشرع , فاكتشفوا أبعاده الإنسانية و التزامه بالدفاع عن حقوق المستضعفين , و سجلوا هذه الحقوق على الورق , في دراسات قانونية مفصلة , و لكن ذلك بقي فقها على الورق .
أما في أرض الواقع , فقد كانت الإدارة الإسلامية , تدين علنا بشرع آخر . و كانت تنقل نظمها حرفيا عن نظم بيزنطة , و تبيح الخصاء , و تجارة الرقيق , و تشغيل الأطفال , و تعامل المرأة بمثابة جارية , و تتجاهل وجود العجوز . و في الفترة الواقعة بين إنهاء نظام الإدارة الجماعية على يدي معاوية و إعلان حقوق الإنسان في القرن العشرين , ثمة 1400 سنة , قضاها الفقهاء في الكلام عن حقوق الإنسان , من دون أن تسمع الإدارة الإسلامية مرة واحدة عن هذه الحقوق .
لم تكتشف الإدارة الإسلامية حق الطفل , و لم يعرف الإسلام مجانية التعليم العام , إلا منذ ستين سنة فقط , عندما نجح الدكتور طه حسين في إقرار هذا القانون في مصر لأول مرة , منذ عصر الفراعنة .
لهذا السبب , انقلب عالم المسلمين منذ عصر معاوية , رأسا على عقب , و لا يزال مقلوبا حتى الآن , دون أن يحس المسلمون بالدوار :
فقد غاب الجامع , و غاب معه عصر الخلفاء الشرعيين , و خرجت الإدارة من أيدي الجماعة , و خسرت الأغلبية حق اتخاذ القرار , و تعطل مبدأ المسؤولية الشخصية , و استولت الدولة , على بيت مال المسلمين , و فقد المجاهد سلاحه , و فقد المواطن حقه في الضمان الإجتماعي . لكن هذا الإنقلاب الجذري الشامل , لم يظهر بمثابة إنقلاب على عقيدة الإسلام , بل بمثابة تفسير (( علمي )) لهذه العقيدة , بموجب أقوال فقيه عالم في شؤون الفقه , و هي خدعة كانت مميتة جدا , لأنها تمت باللغة الإسلامية نفسها التي استعملها الإسلام , فمثلا :
خسر الجامع وظيفته الإدارية , لكنه لم يغلق أبوابه , بل تحول إلى خلوة للصلاة و الوعظ , و هي مهمة من شأنها أن تجعله بيتا مقدسا من بيوت الله , من دون حاجة إلى مؤتمر إداري , يجمع طوائف الناس . و مثلا :
لم يعد يوم الجمعة , موعد اللقاء بين جميع الديان , لكنه لم يصبح يوما عاديا , بل تحول إلى عطلة للصلاة , يلتقي فيها المسلمون , لسماع موعظة في الفقه , يلقيها موظف في الدولة , و يختمها بالدعاء للخليفة , بمثابة بيعة جماعية له . و في أغلب عصور الدولة الإسلامية , كان الفقهاء يبايعون ثلاثة خلفاء في وقت واحد : خليفة في قرطبة و خليفة في القاهرة , و خليفة في بغداد . و مثلا :
لم تسقط فريضة الجهاد من أصل الشرع , لكنها لم تعد تعني الدفاع عن المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان , بل نالت تفسيرا فقهيا طارئا , فأصبح الجهاد هو نشر الإسلام , دون نظامه الجماعي , مما حمل الإسلام إلى شعوب كثيرة , دون أن يتغير حال الشعوب نفسها (2) . و مثلا :
لم يسقط مبدأ المسؤولية الشخصية من نص الشرع , لكنه أصبح مسؤولية عن أداء الشعائر , و ليس عن الإدارة , مما دعا إلى تعميق الدراسات الفقهية , لكي تغطي أدق التفاصيل , دون أن يلاحظ أحد الخرق العلني لمباديء الإسلام في أنظمة الحكم , من صلب المعارضين السياسيين إلى الأستيلاء على بيت المال (3) . و مثلا :
انهار الشرع الجماعي , و أصبحت شؤون الدولة الإسلامية في يد رجل واحد . و هو انحراف صريح عن مبدأ أساسي في الإسلام , لكن مذاهب الفقه , رأت أن تلصقها بالإسلام إلى الأبد بموجب نظرية مؤداها أن أول شرط في الدولة الإسلامية , أن يكون الخليفة من قريش (4) . و مثلا :
انقلب تفسير المفهومات , فلم يعد الكافر , هو فرعون الذي طغى في البلاد , بل أصبح هو المواطن الذي يخرج على طاعته . و قد اتفقت مذاهب الفقه على إهدار دم الخارج على السلطان , بحجة انه خارج على الجماعة , دون أن يهدر أحد دم السلطان نفسه الذي استباح حق الجماعة بأسرها .
لقد نجح الفقه , في تحويل الإسلام من عقيدة لها إدارة , إلى عقيدة مسخرة لخدمة إدارة أخرى . و نجح بذلك في تغييب وظيفة الجامع وراء وظيفة المسجد , و إنهاء نظام الدولة الجماعية , و تفريق الجماعة بين المذاهب , و تطويع الأغلبية لإدارة الأقلية . و أكثر من كل شيء آخر , نجح الفقه في تفسير الدين , تفسيرا غيبيا محضا , لا يستعمل لغة الناس , و لا يتكلم عن عالمهم , الذي يعرفونه في ضوء النهار . إن يوم الجمعة مثلا يتحول في علم الفقه إلى يوم خاص , لأسباب جديدة حقا ( 5 ) .
عن النبي , أنه قال : (( خير يوم طلعت فيه الشمس , يوم الجمعة . فيه خلق الله آدم و حواء , و فيه ادخلا الجنة , و فيه أخرجا منها , و لا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة ))
و في مكان آخر :
(( إن يوم الجمعة , فيه ساعة الإجابة , و هي الساعة التي لا يسأل فيها الله شيئا , إلا أعطاه . و قد اختلف الناس في موعد هذه الساعة من يوم الجمعة على أحد عشر قولا ؛ فأبو هريرة يقول : إن ساعة الإجابة هي من طلوع الشمس و بعد صلاة العصر , إلى غروب الشمس )) .
و الحسن البصري , يقول : (( إنها عند الزوال أو خلال خطبة الجمعة . و السيدة عائشة تقول : إنها في وقت الآذان لصلاة الجمعة , و أبو بردة , يقول : إنها في الساعة التي اختارها الله لصلاة ظهر الجمعة . و أبو السواري العدوي , يقول : إنها ما بين زوال الشمس على أن تدخل الصلاة . و أبو ذر الغفاري , يقول : إنها ما بين أن ترتفع الشمس شبرا إلى ذراع . و عبد الله بن سلام يقول : إنها ما بين العصر إلى غروب الشمس . و أحمد بن حنبل , يقول : إنها آخر ساعة بعد العصر . و النووي يقول : إنها من خروج الإمام إلى فراغ الصلاة .
و في مكان آخر :
(( قال كعب : أنا أحدثكم عن يوم الجمعة . إنه إذا كان يوم الجمعة , فزعت له السموات و الأرض و البر و البحر و الجبال و الشجر و الخلائق كلها إلا ابن آدم و الشياطين , و حفت الملائكة بأبواب المساجد , فيكتبون من جاء الأول فالأول )) .
و عن الضحاك , أنه قال : (( من زار قبرا يوم السبت قبل طلوع الشمس , علم الميت بزيارته , فقيل له , كيف ذلك ؟ قال لمكان يوم الجمعة .))
و في مكان آخر :
(( و من فضل يوم الجمعة , أن من قرأ سورة الكهف , يوم الجمعة , سطع له نور من تحت قدميه , و يضيء له يوم القيامة , و غفر له ما بين الجمعتين )) .
لقد اختار الفقه أن يتكلم لغة السحرة , و فتح على نفسه بابا , سوف يصعب عليه أن يغلقه . فمنذ عصر معاوية , كان الفقهاء قد ورطوا أنفسهم في مساومة مستحيلة مع أجهزة الحكم , و كانت الحاجة إلى فتواهم , تتصاعد بقدر ما تصعب عليهم الفتوى , مما دعا في نهاية المطاف , إلى خروج الفقهاء طائعين من الحفلة , و إغلاق باب الإجتهاد بعد منتصف القرن العاشر , في موقف تضامني طاريء , تم سّرا , من دون اتفاق معلن . لكن هذا العلاج المتأخر , جاء للأسف , بعد وفاة المريض بأربعة قرون .
فالفقه علم , موقعه من الشريعة , مثل موقع النحو من اللغة , يستطيع أن يصحح الكلام , لكنه لا يستطيع أن يتكلم نيابة عن الناس أنفسهم , أو يختار لهم نائبا يتكلم بدلا منهم . و منذ أن ارتكب الفقهاء هذه الغلطة , و سمحوا لأنفسهم أن يبرروا إقصاء الجماعة عن الإدارة , بموجب نظرية فقهية عن الخلافة في قريش , كان الفقه الإسلامي , يتكلم نيابة عن المسلمين , و كان المسلمون أنفسهم , قد خسروا كل قدرة على النطق .
لهذا السبب , لم تلتزم الإدارة الإسلامية , بتطبيق مباديء الإسلام , و لم تنجح في احتواء الطوائف , او إنهاء عصر الإسترقاق , أو منع تشغيل الأطفال , أو اكتشاف الضمان الإجتماعي , و حق العمل و التعليم . لقد كان على المسلمين أن ينتظروا ساكتين , من عصر معاوية , إلى عصر المماليك , لكي يسمعوا عن هذه الحقوق . و عندما سمعوا عنها أخيرا , كان المماليك يركضون هاربين أمام نابليون , و كان المسلمون أنفسهم يلجأون إلى الفقهاء العزل في المساجد طلبا للنجاة من سيوف الفرنسيين . إنها كارثة تحل بالناس تلقائيا , عندما يفقدون القدرة على النطق , و يكتفون في ما بينهم بلغة خرساء .
انتهى نص المنشور ,
أعزائي انقل لكم هذا الموضوع الذي اعتبر بعض ما ورد فية يحتاج فعلا الي وقفة ونقاش وحوار
هذه المنشورات السرية
كتبها الاديب والمفكر والفيلسوف الليبي الصادق النيهوم
----- المنشور السابع و الثلاثون ----
الدين اسمه دين – و ليس سياسة – لأنه ملتزم بقضية صعبة , و معقدة , و غير سياسية , و غير خالية من الأخطار , و هي قضية الدفاع عن ( حقوق المستضعفين ) .
دون هذا الإلتزام , لا يتغير شيء في قانون الغابة القائل بأن البقاء للأقوى , و لا يعرف أحد , ما يفعل بالدين , سوى أن يسخره لخدمة ملوك الغابة نفسها .
لهذا السبب , التزم الإسلام بالقتال دفاعا عن المستضعفين في الأرض , و دعا هذا النوع من القتال جهادا مقدسا في سبيل الله . فقد جاء في الآية 75 من سورة النساء : { و مالكم لا تقاتلون في سبيل الله و المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان } و في الآية 5 من سورة القصص : { و نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض و نجعلهم أئمة و نجعلهم الوارثين } .
فالعلامة الفارقة بين الدين و السياسة , أن الدين لا يخاطب المؤسسات , بل يخاطب الناس أنفسهم , مما يعني في لغة التطبيق , أن يصبح الناس مسؤولين شرعا عن سير الإدارة , فتعود السلطات إلى مكانها الصحيح بين أيدي الناس , و تعاد صياغة القوانين بلسان الجماعة , و يظهر في بنودها للعمال حق , و للنساء حق , و للأطفال حق , و للمراهقين حق , و للعجائز حق , و تصبح الحياة الدنيا – بقليل من الأشجار – جنة على الأرض . دون الشرع الجماعي , لا تفرق الأشجار وحدها , بين الغابة و الجنة .
إن الدفاع عن المستضعفين في لغة الإسلام , ليس دفاعا عن العمال و الفلاحين , بل عن الأسرة الإنسانية نفسها , التي لا تتكون من أصحاب رأس المال و العمال فقط , بل تتكون من أطفال و مراهقين و نساء و عجائز , يعيشون على كوكب صغير , يجب حمايته من التلوث . في صحبة حيوانات , يجب حمايتها من الإنقراض . إنه ليس هجوما مسلحا بالسيوف , بل هو نظام إداري قائم على تحدي منطق القوة , بالقلب و اللسان و اليد , لتحرير جنة الناس من قانون الغابة .
تطبيقا لهذا المبدأ , لم يوجه الإسلام دعوة الجهاد إلى العمال وحدهم – كما فعل (( البيان الشيوعي )) – بل إلى الأسرة الإنسانية بكاملها . فكل عضو في هذه الأسرة ملزم بالدفاع عن شرع الجماعة , بقدر ما تطول عصاه , مما يعني أولا عدم الحاجة إلى الجيش المأجور , و يعني – ثانيا – عدم شرعية النيابة عن الأمة في إصدار القوانين .
في عصر معاوية , وقعت الكارثة على الجانبين . فظهر جيش أموي مأجور , و نصب الخليفة نفسه , ممثلا شرعيا , ينوب وحده عن جميع المسلمين . و في ظروف هذا الإنحراف الهائل , خسر الإسلام قدرته على الإلتزام – إداريا – بحقوق المستضعفين . و خسر بذلك علامته الفارقة التي تميز بين السياسة و الدين , و غاب فجأة من واقع الناس وراء مذاهب فقهية , تعيش بمثابة نظريات بينهم .
لقد أصبح الإسلام على يدي معاوية , فقها إسلاميا دون جهاز إداري , و انقسم على الفور إلى ثلاثة مذاهب سياسية , متنكرة تحت عمامة الفقه .
الأول : مذهب الخوارج الذي بدأ برفض التحكيم , بين علي و معاوية , بحجة أنها مساومة على حكم الجماعة . و استن بذلك أول سابقة فقهية , تجيز الخروج على الجماعة نفسها .
الثاني : مذهب الشيعة , الذي بدأ بإنكار سلطة معاوية , بحجة أنه ليس الإمام الشرعي , ثم ما لبث أن تحول إلى مذهب فقهي , ينتظر بين الفقهاء , عودة الإمام الشرعي الغائب .
و الثالث : مذهب السنة الذي لم يظهر أصلا , إلا لفرز بقية المسلمين الواقعين تحت سلطة بني أمية , في مذهب فقهي ثالث , يرد على الخوارج و الشيعة , بحجة أن الخروج على الجماعة – حتى دون إدارة جماعية – خروج على أصل الشرع . و قد عاد هذا المذهب , فانقسم على نفسه , إلى أربعة مذاهب سنية أخرى , تختلف حول مسائل أكاديمية عابرة , لكنها تتفق جميعا على الإعتراف بشرعية الحكم الوراثي , دون حاجة إلى انتظار إمام شرعي غائب .
تحت هذه الظروف , ازدهرت علوم الفقه , و أصبح اسمها (( علوما )) و تبارى الفقهاء في شرح خفايا الشرع , فاكتشفوا أبعاده الإنسانية و التزامه بالدفاع عن حقوق المستضعفين , و سجلوا هذه الحقوق على الورق , في دراسات قانونية مفصلة , و لكن ذلك بقي فقها على الورق .
أما في أرض الواقع , فقد كانت الإدارة الإسلامية , تدين علنا بشرع آخر . و كانت تنقل نظمها حرفيا عن نظم بيزنطة , و تبيح الخصاء , و تجارة الرقيق , و تشغيل الأطفال , و تعامل المرأة بمثابة جارية , و تتجاهل وجود العجوز . و في الفترة الواقعة بين إنهاء نظام الإدارة الجماعية على يدي معاوية و إعلان حقوق الإنسان في القرن العشرين , ثمة 1400 سنة , قضاها الفقهاء في الكلام عن حقوق الإنسان , من دون أن تسمع الإدارة الإسلامية مرة واحدة عن هذه الحقوق .
لم تكتشف الإدارة الإسلامية حق الطفل , و لم يعرف الإسلام مجانية التعليم العام , إلا منذ ستين سنة فقط , عندما نجح الدكتور طه حسين في إقرار هذا القانون في مصر لأول مرة , منذ عصر الفراعنة .
لهذا السبب , انقلب عالم المسلمين منذ عصر معاوية , رأسا على عقب , و لا يزال مقلوبا حتى الآن , دون أن يحس المسلمون بالدوار :
فقد غاب الجامع , و غاب معه عصر الخلفاء الشرعيين , و خرجت الإدارة من أيدي الجماعة , و خسرت الأغلبية حق اتخاذ القرار , و تعطل مبدأ المسؤولية الشخصية , و استولت الدولة , على بيت مال المسلمين , و فقد المجاهد سلاحه , و فقد المواطن حقه في الضمان الإجتماعي . لكن هذا الإنقلاب الجذري الشامل , لم يظهر بمثابة إنقلاب على عقيدة الإسلام , بل بمثابة تفسير (( علمي )) لهذه العقيدة , بموجب أقوال فقيه عالم في شؤون الفقه , و هي خدعة كانت مميتة جدا , لأنها تمت باللغة الإسلامية نفسها التي استعملها الإسلام , فمثلا :
خسر الجامع وظيفته الإدارية , لكنه لم يغلق أبوابه , بل تحول إلى خلوة للصلاة و الوعظ , و هي مهمة من شأنها أن تجعله بيتا مقدسا من بيوت الله , من دون حاجة إلى مؤتمر إداري , يجمع طوائف الناس . و مثلا :
لم يعد يوم الجمعة , موعد اللقاء بين جميع الديان , لكنه لم يصبح يوما عاديا , بل تحول إلى عطلة للصلاة , يلتقي فيها المسلمون , لسماع موعظة في الفقه , يلقيها موظف في الدولة , و يختمها بالدعاء للخليفة , بمثابة بيعة جماعية له . و في أغلب عصور الدولة الإسلامية , كان الفقهاء يبايعون ثلاثة خلفاء في وقت واحد : خليفة في قرطبة و خليفة في القاهرة , و خليفة في بغداد . و مثلا :
لم تسقط فريضة الجهاد من أصل الشرع , لكنها لم تعد تعني الدفاع عن المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان , بل نالت تفسيرا فقهيا طارئا , فأصبح الجهاد هو نشر الإسلام , دون نظامه الجماعي , مما حمل الإسلام إلى شعوب كثيرة , دون أن يتغير حال الشعوب نفسها (2) . و مثلا :
لم يسقط مبدأ المسؤولية الشخصية من نص الشرع , لكنه أصبح مسؤولية عن أداء الشعائر , و ليس عن الإدارة , مما دعا إلى تعميق الدراسات الفقهية , لكي تغطي أدق التفاصيل , دون أن يلاحظ أحد الخرق العلني لمباديء الإسلام في أنظمة الحكم , من صلب المعارضين السياسيين إلى الأستيلاء على بيت المال (3) . و مثلا :
انهار الشرع الجماعي , و أصبحت شؤون الدولة الإسلامية في يد رجل واحد . و هو انحراف صريح عن مبدأ أساسي في الإسلام , لكن مذاهب الفقه , رأت أن تلصقها بالإسلام إلى الأبد بموجب نظرية مؤداها أن أول شرط في الدولة الإسلامية , أن يكون الخليفة من قريش (4) . و مثلا :
انقلب تفسير المفهومات , فلم يعد الكافر , هو فرعون الذي طغى في البلاد , بل أصبح هو المواطن الذي يخرج على طاعته . و قد اتفقت مذاهب الفقه على إهدار دم الخارج على السلطان , بحجة انه خارج على الجماعة , دون أن يهدر أحد دم السلطان نفسه الذي استباح حق الجماعة بأسرها .
لقد نجح الفقه , في تحويل الإسلام من عقيدة لها إدارة , إلى عقيدة مسخرة لخدمة إدارة أخرى . و نجح بذلك في تغييب وظيفة الجامع وراء وظيفة المسجد , و إنهاء نظام الدولة الجماعية , و تفريق الجماعة بين المذاهب , و تطويع الأغلبية لإدارة الأقلية . و أكثر من كل شيء آخر , نجح الفقه في تفسير الدين , تفسيرا غيبيا محضا , لا يستعمل لغة الناس , و لا يتكلم عن عالمهم , الذي يعرفونه في ضوء النهار . إن يوم الجمعة مثلا يتحول في علم الفقه إلى يوم خاص , لأسباب جديدة حقا ( 5 ) .
عن النبي , أنه قال : (( خير يوم طلعت فيه الشمس , يوم الجمعة . فيه خلق الله آدم و حواء , و فيه ادخلا الجنة , و فيه أخرجا منها , و لا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة ))
و في مكان آخر :
(( إن يوم الجمعة , فيه ساعة الإجابة , و هي الساعة التي لا يسأل فيها الله شيئا , إلا أعطاه . و قد اختلف الناس في موعد هذه الساعة من يوم الجمعة على أحد عشر قولا ؛ فأبو هريرة يقول : إن ساعة الإجابة هي من طلوع الشمس و بعد صلاة العصر , إلى غروب الشمس )) .
و الحسن البصري , يقول : (( إنها عند الزوال أو خلال خطبة الجمعة . و السيدة عائشة تقول : إنها في وقت الآذان لصلاة الجمعة , و أبو بردة , يقول : إنها في الساعة التي اختارها الله لصلاة ظهر الجمعة . و أبو السواري العدوي , يقول : إنها ما بين زوال الشمس على أن تدخل الصلاة . و أبو ذر الغفاري , يقول : إنها ما بين أن ترتفع الشمس شبرا إلى ذراع . و عبد الله بن سلام يقول : إنها ما بين العصر إلى غروب الشمس . و أحمد بن حنبل , يقول : إنها آخر ساعة بعد العصر . و النووي يقول : إنها من خروج الإمام إلى فراغ الصلاة .
و في مكان آخر :
(( قال كعب : أنا أحدثكم عن يوم الجمعة . إنه إذا كان يوم الجمعة , فزعت له السموات و الأرض و البر و البحر و الجبال و الشجر و الخلائق كلها إلا ابن آدم و الشياطين , و حفت الملائكة بأبواب المساجد , فيكتبون من جاء الأول فالأول )) .
و عن الضحاك , أنه قال : (( من زار قبرا يوم السبت قبل طلوع الشمس , علم الميت بزيارته , فقيل له , كيف ذلك ؟ قال لمكان يوم الجمعة .))
و في مكان آخر :
(( و من فضل يوم الجمعة , أن من قرأ سورة الكهف , يوم الجمعة , سطع له نور من تحت قدميه , و يضيء له يوم القيامة , و غفر له ما بين الجمعتين )) .
لقد اختار الفقه أن يتكلم لغة السحرة , و فتح على نفسه بابا , سوف يصعب عليه أن يغلقه . فمنذ عصر معاوية , كان الفقهاء قد ورطوا أنفسهم في مساومة مستحيلة مع أجهزة الحكم , و كانت الحاجة إلى فتواهم , تتصاعد بقدر ما تصعب عليهم الفتوى , مما دعا في نهاية المطاف , إلى خروج الفقهاء طائعين من الحفلة , و إغلاق باب الإجتهاد بعد منتصف القرن العاشر , في موقف تضامني طاريء , تم سّرا , من دون اتفاق معلن . لكن هذا العلاج المتأخر , جاء للأسف , بعد وفاة المريض بأربعة قرون .
فالفقه علم , موقعه من الشريعة , مثل موقع النحو من اللغة , يستطيع أن يصحح الكلام , لكنه لا يستطيع أن يتكلم نيابة عن الناس أنفسهم , أو يختار لهم نائبا يتكلم بدلا منهم . و منذ أن ارتكب الفقهاء هذه الغلطة , و سمحوا لأنفسهم أن يبرروا إقصاء الجماعة عن الإدارة , بموجب نظرية فقهية عن الخلافة في قريش , كان الفقه الإسلامي , يتكلم نيابة عن المسلمين , و كان المسلمون أنفسهم , قد خسروا كل قدرة على النطق .
لهذا السبب , لم تلتزم الإدارة الإسلامية , بتطبيق مباديء الإسلام , و لم تنجح في احتواء الطوائف , او إنهاء عصر الإسترقاق , أو منع تشغيل الأطفال , أو اكتشاف الضمان الإجتماعي , و حق العمل و التعليم . لقد كان على المسلمين أن ينتظروا ساكتين , من عصر معاوية , إلى عصر المماليك , لكي يسمعوا عن هذه الحقوق . و عندما سمعوا عنها أخيرا , كان المماليك يركضون هاربين أمام نابليون , و كان المسلمون أنفسهم يلجأون إلى الفقهاء العزل في المساجد طلبا للنجاة من سيوف الفرنسيين . إنها كارثة تحل بالناس تلقائيا , عندما يفقدون القدرة على النطق , و يكتفون في ما بينهم بلغة خرساء .
انتهى نص المنشور ,
تعليق