إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

الإيمان حالة نفسية و نقاط تقاطع

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الإيمان حالة نفسية و نقاط تقاطع

    الإيمان حالة نفسية و نقاط تقاطع
    ( بقلم خالص جلبي )

    عاصر الفلكي المشهور ( سيمون لابلاس ) صاحب كتاب ( الأجرام السماوية ) نابليون وكان أول من اشار الى فكرة الثقوب السوداء في الكون حسب إفادة الفيزيائي الكوني ( ستيفن هوكنج ) صاحب الكتاب الشهير ( قصة قصيرة للزمن ) . سأله نابليون يوماً عن النظام السماوي أين مكان الله فيه ؟ كان جوابه إن النظام الكوني يشتغل كساعة عملاقة فلايحتاج لإله يقوم عليه ؟
    هذا الضرب من الحوار يروي مأساة العلم والدين . الكون ساعة عملاقة والقوانين تمشي بانتظام أبدي ، والمادة خالدة ، والكون وجد منذ أبد الآبدين وسيبقى هكذا الى آخر الدهر .
    ثلاث أسئلة محيرة واجهتني منذ الصغر أولها كانت من ابن عمي لي حينما قال لي أتحداك أنني سأموت خلال الأيام القادمة وكنت يومها مراهقاً ؟ فبدأت أفكر في جواب بدون جدوى ؟؟ وهو فعلاً مازال حياً يرزق حتى اليوم ؟! والسؤال الثاني عندما كنت طالباً ثانوياً فطرح أحد الطلبة الشيوعيين سؤالاً محرجاً على استاذ الديانة أنكم تقولون أن العمر محتم ولكن العلم استطاع أن يرفع متوسط عمر الانسان فما جواب الدين عليه ؟ حاول استاذ الديانة أن يرد ولكنه في الواقع كان يحاول إسكات الطالب أكثر من تقديم جواباً مقنعاً ؟!
    والسؤال الثالث كان في الصف الأول الجامعي حينما سألني أحدهم هل يستطيع ربك أن يخلق حجراً لايستطيع حمله ؟ إن أجبت بنعم أو لا كان الهاً عاجزاً ؟!
    حتى وصلت الى إجابات واضحة في مستويات الاسئلة الثلاث كان علي أن اسبر ثقافة جديدة وطرق من الفكر غير تقليدية . وهكذا كانت الأجوبة تتعلق بموت معلق على رؤوسنا لايستطيع أحد أن يحدد موعده ، علمه عند ربي لايجليه لوقته الا هو ، والعلم رفع متوسط العمر الاجتماعي وليس الفردي وحظوظ الانسان من عمر وعمل وصحة وتعليم مرتبطة بالمجتمع الذي يولد فيه الانسان أكثر من جهده الفردي فقد يعمر شخص في راوندا أكثر من اليابان كما قد يغنى شخص في مصر أكثر من ألمانيا ، ولكن الانسان الذي يولد في أفغانستان عليه أن يعاني الحرب الأهلية ، ومن يولد في البلاد العربية قد يحمل حقائبه يوماً مغادراً وطنه كما فعل فتية الكهف ، ومن يولد في الجزائر قد يضرب بالرصاص في أي لحظة من مسلح مجهول .
    كما أن طرح الاسئلة الخاطئة يتطلب تصحيح صيغة السؤال قبل الإجابة عليها .
    يروى عن فيلسوف أنه كان يمشي مع تلاميذه ثم غافلهم فأحضر حجراً معرضاً للشمس فقلبه فأصبح أعلاه بارداً وأسفله ساخناً ثم سأل التلاميذ كيف تعللون برودة سطح الحجر وسخونة قاعه أمام شمس مسلطة عليه ؟؟ احتار التلاميذ في الإجابة فلفت نظرهم الى عدم الإجابة على سؤال خاطيء بل بتصحيح طرح السؤال لذا كان السؤال الصحيح نصف إجابة ؟
    في الواقع تمتعت بقراءة كتابة الدكتور الفاضل ( هاني رزق ) عن ( التطور الموجه) فشعرت أنني في عالم رحب من الفكر في بناء متماسك ، ودقة علمية مفرطة ، ومعلومات كثيفة حديثة من آخر ماأنتجته مطابخ الفكر ومراكز البحث العلمي . وأنا معه في كل الخطوط العريضة التي وصل إليها . الخالق المطلق والبرمجة الهادفة والجمال المسيطر والمبدأ الانساني والقيم الأخلاقية والحق في بناء الكون فلا عبثية.
    مع هذا فعندي ثلاث ملاحظات حول ماكتب الدكتور الفاضل الأول في ماسماه بالعلم السيء ، والثاني في انهيار قوانين الفيزياء في حقبة الانفجار العظيم ، والثالث عن الإيمان العقلي .
    ولكن قبل أن أبدأ بالأفكار الثلاثة يجب أن أقرر قضيتين أراهما على جانب كبير من الأهمية : الأولى عن محاولة تشريح الإيمان والعلم ، والثاني عن نقاط تقاطع الثقافات والأديان .
    في الحوار الصاخب الذي تم بين الشيخ ( أحمد ديدات ) من جنوب أفريقيا والقس ( جيمس سواكرت ) في امريكا كان يحرص كل منهما على إثبات أن دين الآخر مزيف ؟؟ فأما سواكرت فقد بدأ الحفلة بهجومه على نظام تعدد الزوجات بأن المسيحي صياد ماهر فيحسن اختياره من أول الصيد محولاً بذلك المرأة الى فريسة تطارد لصائد بسهم وقوس في عودة الى عشرة آلاف سنة الى الخلف ، لينهي القس المذكور سمعته بعد سنوات مع فضيحة أخلاقية نشرتها مجلة الشبيجل الألمانية ، أما الشيخ ديدات فقد أقسم في المناظرة أنه سيدفع من جيبه كذا من الدولارات إن استطاع سواكرت أن يقرأ نصاً على وجه التحديد من التوراة ؟! ماكان من سواكرت الا أن تقدم وهو يقول أنتم ياأهل الخليج ومن تبعكم حري بنا أن نستفيد من بترودولاركم وتقدم فقرأ النص الذي تفوح منه رائحة جنسية ، وعندما طلب سواكرت من ديدات أن يسمح له أن يحاضر بحرية في بلد اسلامي متشدد كما سمح له بمطلق الحديث في أمريكا كان جواب ديدات عليه كل شيء الا الجواب ، فقال : كل بلد له فيزا دخول والبلد الذي سألت تأشيرة الدخول اليه هي الشهادتان فيجب أن تعلن اسلامك أولاً ثم تدخل ؟! قد يصلح الجواب كنكتة ولكنها في موضع الجد لاتثير سوى الكآبة .
    كان الرجلان في سجال مايقرب من حفلات المصارعة الحرة في إثارة مواضيع قديمة بكلمات جديدة لاتنتهي الا حلول بل إلغاء كل حل ، في اشتباكات تزيد من تعقيد إشكاليات المواضيع القديمة ، ولم تأت الأديان بحال لهذا النوع من المناظرات ، ولاتسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم .
    تقدم الفقهاء الى يسوع المسيح ومعهم زانية يدفعونها أمامهم وهو يشرح أفكاره لتلاميذ متحلقين حوله بخطوط يخطها على الأرض صرخوا باعلى صوتهم : يامعلم هذه زانية فتقدم فارجمها ؟ كانوا خبثاء يريدون إيقاعه في أمرين أحلاهما مر ؟ فإن قال بالرجم سقط في مصيدة مخالفة القوانين الرومانية بالتحريض على القتل ؟ وإن امتنع خالف الشريعة الموسوية فكان هرطيقاً ؟! تابع يسوع يخط على الأرض ثم التفت اليهم ببراءة ونطق بجملة من أجمل مانقله لنا التاريخ وأكثرها افحاما للخصم ؟ عندما زحزح موضع النقاش الى حقل مختلف ... من كان منكم بلا خطيئة فليتقدم فليرمها بحجر ؟! فانقشع عنه جمهور الفقهاء .. فالتفت الى الفتاة التي كان قدرها أن تعيش في مجتمع بلاضمانات ، لاتجد طريقة للعيش الا بالتكسب بجسمها : اذهبي فلاتخطئي ثانية ... إن القرآن يلتقي مع الانجيل كما لم لم يفعل سواجرت وديدات عندما اختصما ؛ فالقرآن اعتبر أن من يكره الفتيات على البغاء ذنبها مغفور وعقاب من يدفعها الى الفاحشة غير مغفور ( ولاتكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ) .
    عندما أقسم القرآن بأربع بالتين والزيتون والطور والكعبة لم يخطر في بالنا معنى الإشارة الى شجرة التين ولكننا نعلم أن الإشارات الأخرى واضحة الدلالة على منابع ثلاث ديانات ولم يخطر في بالنا التجلي الروحي لبوذا تحت شجرة التين تحديداً .
    كل الأديان والثقافات الكبرى والمصلحين والفلاسفة كانوا يلتقون في نقطتين لايختلفون عليها : التسامي بالانسان والعدل في المجتمع ، وبتعبير الانجيل السلام على الأرض وفي القلوب المسرة . ومانحتاج اليه اليوم هو البحث عن نقاط الالتقاء لبناء الانسانية وليس التفتيش عن عورات البعض ؛ فهذه نحملها جميعاً ، ومن كان بيته من زجاج لم يضرب الناس بالحجارة ، ومن كان بلاخطيئة فليكن أول رامي ؟ ولكن التحدي الأكبر للناس جميعاً هو حب الآخرين والتنافس في الخير .
    ماهو الإيمان ؟ ماهو العلم ؟ وهل يمكن المزج بينهما ؟ لابد إذاً من تعريف كلهما وإن كان القرآن ذكر هذا المزيج مكرراً في موضعين : الأول عن قوة رفع الانسان في هذا المستحضر الجديد من مزيج العلم والإيمان ، والثاني عن إدراك هذه الطائفة التي تتحلى بالميزتين بهذا اليقين الراسخ لفكرة اليوم الآخر والبعث والنشور ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ـ وقال الذين أوتوا العلم الإيمان لقد لبثتم في كتاب الله الى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لاتعلمون ) .
    أعجبني تعريف الدكتور ( محمد كامل حسين ) في كتابه ( وحدة المعرفة ) لفكرة تطابق النظام العقلي والكوني سنحاول الاعتماد عليها كفكرة تأسيسة : ( في الكون نظام وفي العقل نظام والمعرفة هي مطابقة النظامين . والنظامان من معدن واحد ، والمطابقة بينهما ممكنة لما فيهما من تشابه ، ولو لم يكونا متشابهين لاستحالت المعرفة ، ولولم تكن المطابقة بينهما ممكنة ماعلم أحد شيئاً ، وتشابه النظامين الكوني والعقلي ليس فرضاً يحتاج الى برهان بل هو جوهر إمكان المعرفة ، ومن أنكره فقد أنكر المعرفة كلها ، وهذا الإنكار خطأ يدل عليه ماحقق العقل من قدرة على التحكم في كثير من الأمور الطبيعية ، ولم نكن لنستطيع تحقيق شيء من ذلك لو أن النظامين كانا مختلفين ، ومهما تغيرت المعرفة ومذاهب التفكير وفهمنا للكون فإن الحقيقة التي تثبت ثبوتا قطعياً هو هذا التوافق بين نظام الكون ونظام العقل ) .
    في الواقع إذا أردنا الدخول الى عالم الإيمان فلابد لنا من معرفة نظرة الكتب المقدسة وتعريفها لهذا المصطلح أما العلم فلابد لنا من معرفة كيف ينظر العلماء عموماً الى هذا المصطلح لتحديده وهل يمكن أن نخرج بعجينة من العينتين الإيمان والعلم ، أو وهو الأفضل هل يمكن كتابة معادلة رياضية كما في علاقة الطاقة بالمادة ، بحيث يمكن تحويل أحد الحدين الى الآخر ؛ فتصبح الطاقة تحولاً كمياً مذهلاً لكم محدود من المادة ، أو بالعكس تصبح المادة تكثفاً خرافياً للطاقة ؟
    هل يمكن أن نرسم معادلة يتوحد فيها العلم الإيمان فيصبحان كلاهما وجهان لعملة واحدة أو طرفان لمعادلة مشتركة أو تجليان لحقيقة أساسية واحدة . لنرى ؟؟
    الايمان حالة نفسية قبل أن يكون حسابات عقلية باردة تتحرك في مخططات لاتعرف الراحة ؛ فقد تمر علينا في اليوم الواحد لحظات من القنوط الكافر ، كما قد ننتعش بلحظات رائعة من الإيمان المحلق فهذه ميزة للإيمان .
    عندما وصف ( مالك بن نبي ) في كتابه ( وجهة العالم الاسلامي ) أحد المصلحين الاجتماعيين أشار الى أنه : لم يكن يفسر القرآن تفسيرا على طريقة أهل الكلام والمنطق البارد ، بل كان يوحي بالآيات الى الضمائر التي يزلزل كيانها ، فلم يعد القرآن على شفتيه وثيقة باردة أو قانوناً محرراً ، وإنما كان انبثاقاً للكلام الالهي الحي ، ونور يأتي مباشرة من السماء فيضيء ويهدي ، ومنبعاً للطاقة يكهرب إرادة الجموع .
    وكان يسوع في الانجيل يخاطب الجموع كمن له سلطان وليس كالكتبة والفريسيين وكان يكلمهم بأمثال قائلاً هوذا الزارع قد خرج ليزرع فبعضه سقط على الطريق واذ لم يكن له أصل فلما طلعت الشمس احترق ، ومنه وقع على الأرض فاختطفته الطيور ، ومنه وقع بين الشوك فلما طلع اختنق ، ومنه وقع في الأرض الطيبة فأخرج مائة وستين وثلاثين .
    كان يسوع يقرب الأفكار المجردة بقصص واقعية تدب فيها الحياة ونحن نريد من بحثنا الحالي أن نسحب منه كل حيوية وحياة فلننتبه ؟!
    ماينقص العالم اليوم ليس المزيد من كثافة المعلومات أن الكون رائع ومعقد وغامض ومبرمج وخلفه عقل مطلق ، ماينقصه حرارة الإيمان والتربية الروحية ، ماينقصه ليس العقلانية بل التصوف ، ليس بمعنى اغتيال العقل المنظم عند شيخ طريقة فمن قال لشيخه لا لم يفلح ، والمريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي المغسل ، والمريد بين الشيخين كالمرأة بين الرجلين ؟؟ لا ليس هذا ولكنه وثبة جديدة في الروح .... قد تقول من سيقوم بها ؟ كيف ؟ متى ؟ أين ؟ لسؤال أحوم حوله ولكن ليس عندي جواب على وجه الدقة عليه !! ولاحرج ... يسوع المسيح أراد أن يقول للتلاميذ في مثل الزارع الشيطان يخطف القلوب كالطير تأكل الحب ، والمحنة والاضطهاد تذهب بالإيمان السطحي ، ومن يتورط في وهم العالم وغرور الغنى سيختنق في شوك الحياة ، ومن يجد البيئة المناسبة سيعطي ثمراً رائعاً فلنتعلم من حكمة المسيح أين نلقي بذورنا ؟


    يتبع

  • #2

    ( ثانياً ) يعتبر الإيمان منبعاً للطاقة لاينضب فمع كل انهيار نفسي يلجأ الانسان الى هذا الحزان الكوني المطيق يملأ طاقته ويشحذ همته لتحمل الصدمات والألم والمعاناة بما فيها صدمة الموت .
    كما يشكل الإيمان ( ثالثاً ) آلية تخلع معنى على الحياة وبدون هذا يركبها العبثية التي تقود الى التفاهة والانتحار أحياناً الذي هو بتعبير مختلف تقديم الاستقالة من الحياة فليس فيها مايستحق أن يعيشها الانسان .
    والإيمان ( رابعاً ) محبة ومشاركة مع الخالق العظيم وكائناته وهذا يعطي دفعاً هائلاً لتقدير الحياة والتمسك بها والمحافظة عليها والتواصل بها مع الآخرين فتوفر جواً من السعادة لاينضب . إن هذا لرزقنا ماله من نفاد ، وماعندكم ينفد وماعند الله باق .
    والإيمان ( خامساً ) يوسع نافذة الرؤيا فيصبح الإيمان باليوم الاخر وملائكته مطاً للشعور الانساني أن الوجود ليس فقط مايصل اليه بحواسه ، وهذا يرفع الشعور الى مستوى القداسة ويجعلنا نفهم الحياة أنها اكبر بكثير مما يتصور الواحد ؛ فيخلع رحابة غير عادية على الوجود وراحة للروح أن هناك قوة مطلقة لانهاية لحكمتها وعدلها ورحمتها اللطيف الخبير لاتدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار .
    والإيمان ( سادساً ) يزيد وينقص في مؤشر لايعرف التوقف طالما كنا نمارس الحياة وهذا يستنفرنا أن نشحذ هذه الآلية التي يمكن أن تصل الى أقصى درجات التوتر والنقاء أو أن يخالطها لبس فتخسر الأمن فتصبح الحياة معها ضنكا ( الذين آمنوا ولم يلبسوا لإيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ) .
    والايمان ( سابعاً ) يغير السلوك ويفيض على المشاعر فيكسو تعبيرات الوجه مسحة ملائكية نورانية ( سيماههم في وجوههم من أثر السجود ) أو بالمقابل عندما وصف الله المجرمين الذين يعرفون بسيماههم فيؤخذ أحدهم بالنواصي والأقدام ، كما وصف الأمراض النفسية أنها تنكشف من تعبيرات الوجه المحضة فتقرأ بلغة جديدة بدون صوت بلغة السيمياء ( ولو نشاء لأرينكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول ) .
    و( ثامناً ) يعد الالحاد حالة لاتطاق والايمان ضرورة نفسية .
    و ( تاسعاً ) هناك علاقة جدلية مابين الطقوس والايمان واجتماع الناس وكل دين له طقوس تخصه فيجب أن لايعيب أحد على احد كما تذكر النكتة أن بريطاني أنكر على صيني أن يضع طعاماً على قبر ميت : هل سيقوم فيتناول هذا الطعام ؟ أجاب الصيني بابتسامة هادئة : وهل عندما تضعون أكاليل الورد والزهور يقوم الميت فينتعش بروائحها فهذه مشكلة العمى الثقافي والرؤية الانتقائية .
    و ( عاشراً ) يفتح الإيمان منافذ الفهم ، والكفر يسدل الستار على الحواس ويغلق منافذ الفهم والاتصال بروح الكون وقوانين الطبيعة . من هنا استخدم القرآن لفظ الكافر بمعنى الزارع في سورة الحديد ( كثل غيث أعجب الكفَّار نباته ) وليس الكافر تحديداً كما هي في المصطلحات الشرعية .
    و( أخيراً ) الإيمان أمل دائم والكفر يأس مقيم والقنوط ضلال مبين فهذه أحد عشر كوكباً من الأفكار .
    قد يصلي الانسان ولايصلي والعكس صحيح فلربما كان لايؤدي حركات الصلاة وهو مستغرق بها ؟ فالإيمان ( كم ) مفصول عن الطقوس وحركات العبادة ولكن الدين استهدف ولادة الروح وتطويرها والتسامي بالانسان ، وجاء في الانجيل ذكر الأمرين : المسرة في القلوب والسلام على الأرض ، والسلام هو وسط التفاهم وتحقيق العدل الانساني ليس من خلال الحرب بل الحوار والتفاهم وإيجاد جو جديد لحل التناقضات يقوم على التنازلات من الطرفين وليس تصميم الطرفين على تحطيم كل طرف الآخر .
    إذا كان الفرد يؤدي الحركات ولايخشع فهو عملياً خارج الصلاة حيث يحط قلبه وقد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ، وإذا سمع الفرد ضرباً من الموسيقى الرائعة فشعر بالكهرباء تسري تحت جلده أو سمع قصة مؤثرة فاحتدمت النفس وارتفع التوتر ففاضت العين بالعبرة كان في أعظم صلاة ، ووصف القرآن المؤمنين أنه تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم .
    إن تأثر الجلد والشعر هي مظاهر تجلي أعظم لتاثر النفس سواء بالرعب أو الانفعال الروحي العميق . دراويش المولوية في حالة الرقص يدورون لساعات وهم يسبحون في عالم خاص بهم في حالة صلاة خاصة ، ووصف القرآن أن كل الكائنات بما فيها الانسان له صلاته الخاصة به ( كل قد علم صلاته وتسبيحه ) .
    إذا قام الانسان بممارسة الطقوس ولم يذق طعم الخشوع وهو يؤدي الحركات وإذا دخل الانسان الصلاة وعقله في عد النقود والعبث بالثياب لم ينل في صلاته الا الحركات والتعب ورياضة المفاصل ، وهذا لايعني أن لاتعتمد الطقوس بل يجب الانتباه الى أنها مناسبة لتحفيز الروح المستمر ولكنها شيء مستقل عن الايمان ، والأقرب لتشبيه علاقة الايمان بالطقوس دينمو السيارة والحزام المربوط عليه والموصول بدروه بسلك الى البطارية ؛ فالدينمو يولد الكهرباء و( القشاط ) ينقل الحركة الى موتور السيارة في علاقة جدلية مع البطارية ، والأخيرة مخزن مؤقت للكهرباء ولكن الدينمو هو المولد الرئيسي للكهرباء .
    القلب هو مكان تحفيز الإيمان من خلال آليات التأمل والدهشة والتدبر وفتح منافذ الفهم وإيجاد واكتشاف العلاقات الخفية بين الأشياء ، والانتباه الى معنى الحياة والبعد عن العبثية وفكرة القانون السائد ، والنظام المحكم ، والخلق المبرمج ، والعقل المطلق خلف كل هذا فهذا منبع للإيمان ماله من نفاد ، من خلال علاقة جدلية متطورة تربط العقل بمصادر وحي جديدة لاتنتهي أي الطبيعة والتاريخ والتصوف .
    تأتي الممارسات أو الطقوس لتمثل حزام نقل الحركة فتنعكس الحركة على الدينمو وهو بدوره يقذف بالتيار الكهربي بدون انقطاع ، وهذا يخزن الى حين في البطارية ، وهي في الانسان العقل مركز التفكير البارد إن صح التعبير ، لذلك يرى الشعراء أن القلب هو مركز الحرارة والعواطف ، والعقل هو مركز التحليل البارد الكمبيوتر الهاديء الذي يحسب بدقة ولكنه مع ذلك تتبخر منه المفاهيم وقد يقع في أبشع مرضين وهما الضلال والاستكبار وهما المذكوران في سورة الفاتحة السبع المثاني التي نقرأها كل ركعة غير المغضوب عليهم ولاالضالين ؛ فالضلال هو ثمرة الجهل ، ولكن الانحراف الأعظم بالاستكبار ينتهي بالغضب الأعظم . اعتبر الفيلسوف الفرنسي ( ديكارت ) أن أعظم النفوس عندها استعداد لارتكاب أفظع الرذائل ، وهذا يتطلب استنفاراً مدى الحياة لتطهير الروح ، وتعقيم الوسط من كل أصناف الباكتريا الفكرية .
    الإيمان والاكراه : لايعتبر الإيمان إيماناً بالإكراه ، كما لايعتبر الانسان كافراً بالاكراه بسبب تحرر الارادة من الفعل ؛ وهكذا فالإيمان يسعى لإيجاد مجتمع العدل وهو الاتزان فطالما قامت الروح بإيجاد مسار لها وضبط لايقاعاتها الداخلية فإنها تخرج أنغاماً شجية وتحسن التعامل مع من حولها من كائنات أخرى ، ومن هنا فحتى نحكم على إيمان شخص يجب أن نتأمل سلوكه وأخلاقه ، فمن شع بأخلاق الخير والتسامح والرفق بالانسان والرحمة بمن حوله وعدم الاغترار بالقيم الزائلة من مال ومناصب كان مؤمناً ، ومن كان يمارس الطقوس ولكنه كان متعصباً ظلامياً ضيق الأفق مغلقاً سد منافذ الفهم قاسياً على من حوله لم يكن لديه من الإيمان الا الاسم ؛ لإن الإيمان يترك بصماته على السلوك ، فالإيمان هو حالة نفسية داخلية تشع بأخلاقية عالية رائعة ، وسلوك متوازن في إطار تحقيق العدل ، والكفاح لإقامته بطرق ( سلمية ) بدون خوف أو حزن . من هنا كان الإيمان سلامياً كما وصف عيسى عليه السلام الذي كان يشع بالمحبة والرحمة والسلام ( والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ) .... هكذا وصف كل من عيسى ويحيي .
    الإيمان والقانون : هل خلق الله الوجود على قوانين ؟ الجواب نعم يظهر هذا واضحاً في سقوط الغصن وبزوغ الشمس وكسوف القمر ( والنجم والشجر يسجدان ) ولولا القوانين مااستطعنا أن نتابع حياتنا ، أونتعامل مع الوجود ، أو نشفي من مرض ، أو نبني آلة أو نتقدم في التاريخ ، ولكن هل خلق الله الكون على قوانين أو وضع خمس قوى رئيسية في الكون من كهرباء ومغناطيس وقوى نواة قوية وضعيفة وجاذبية ثم جلس يتأمل الكون تتم فيه جرائم من حجم قنبلة هيروشيما وجرائم جنكيزخان وهتلر ووجود الديكتاتوريات أو ان يدخل الانسان النار في رحلة مليارات السنوات لاتنتهي لكفر مارسه عشر سنوات ؟؟ هل هذه مظاهر رحمة لرب ألزم نفسه بالرحمة ( كتب على نفسه الرحمة ) ؟
    إن المتأمل في قوانين الكون يرى أن هناك تداخلاً بين الضرورة والحرية . نحن نتحرك كثيراً باللاوعي مثل الدمى المبرمجة على الكهرباء ليمنح الوعي تحريراً لارادتنا في اتخاذ قرارات مصيرية . كذلك كان الكون فهو شبكة مخيفة من السلاسل السببية في تغليب سلسلة على أخرى أو دفع واحدة أمام الأخرى ؛ فكله يرجع الى إرادة خفية مبرمجة للكون واقفة على إدارته بعناية بالغة ومراقبته بغاية الدهاء والحكمة والرحمة .
    الإيمان فتح لمنافذ الفهم والكفر إغلاق الحواس وبلادة المشاعر : لذا أراد القرآن في عشرات الآيات تحريك آلية التامل والتدبر ( كتاب انزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ) من عشرات المشاهد من ( والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل اذا يسر هل في ذلك قسم لذي حجر ؟ ) العقل يقوم بنوع من الانضباط الذاتي والحجر على اللاعقلانية والشهوات ؛ فالحرية أعظمها ليس أن يتحلل الانسان بل يملك نفسه فيتحرر من ضغط الانفعال وضباب الشهوة ونار الغضب وحمى الانفعال وانكسار الحزن وانهيار الخوف فيتخلص من كل هذه الأصناف من المشاعر السلبية أو كما في تعبير القرآن التخلص من أشد المشاعر سلبية : الخوف والحزن ... الخوف من المستقبل وهمومه ، والحزن بالتجمد في مربع الزمن الماضي على مامر من مآسي ؛ فيجب أن تقفز الروح فوق حقل الماضي وتتجدد فتولد من جديد . كان عيسى يقول لاتهتموا بالغد ماذا تاكلون وماتشربون يكفي اليوم شره وكان يقول الحق أقول لكم لن تدخلوا ملكوت السموات مالم تولدوا من جديد فكان احدهم يقول كيف نولد من ارحام أمهاتنا مرة أخرى فكان يقول هي ولادة الروح بأن ترجعوا مثل الأطفال الأبرياء فيهم بساطة الحمام وحكمة الحيات وهو ماكرره القرآن بدون ملل ( ياعبادي لاخوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ) .
    الكفر إغلاق لمنافذ الفهم : كلمة الكفر بالأصل تعني التغطية وهكذا فالكفر إغلاق لمنافذ الفهم ووصف القرآن الكافرين بانهم ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة وفي مكان آخر أنهم صم بكم عمي فهم لايفقهون ولايعقلون ، وفي مكان آخر من سوة طه ( أفلم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى ) .
    وهذا يطرح سؤالاً ثلاثياً : هل نحن كافرون أم مؤمنون ؟؟ طالما ارتبط الإيمان باليقظة العقلية ونشاط الروح . إن روح الآبائية والاتباع الأعمى هي أقرب الى الكفر ، والاجتهاد وتقليب وجوه النظر مع النشاط العقلي أقرب الى الإيمان ، وهكذا فالإيمان والكفر كما جاء في الحديث عن الخطايا وأثرها في القلب أن النفس في حالة جدلية بين أشد الظلمات حلكة وأكثر أنواع النور بهاءً وتألقاً ، والقرآن وصف الكفر ظلمات بعضها فوق بعض بمعنى أن هناك طيف للروح تتحرك فيه من عمق ظلمات الكفر الى سقف سماء الإيمان ، وهذا يعني بكلمة ثانية أن الروح تسبح بدون توقف ، وهي معرضة للانهيار دوماً ، مالم تنشط آليات التنظيف المستمرة في الحياة ؛ فعيسى وصف نفسه وهو الرسول بأن الله أمره بالزكاة مادام حياً ، والإيمان يزيد وينقص ، ونحن في اليوم الواحد في مخطط يقفز عبر الكفر والإيمان في مخطط لايعرف الهدوء والراحة ، ونحن نخطيء الليل والنهار أو بتعبير القرآن وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ماجرحتم بالنهار .
    ديكارت وصف الروح بأن أعظم النفوس عندها استعداد لارتكاب أفظع الرذائل ، ونظرياً فإن التطور الروحي للانسان عندما يتجاوز الأربعين الى الخمسين يجب أن يكون قد وصل من المران أن لايخطيء أو أن يتناهى عنده المؤشر الى الصفر ؟! ولكن هل فعلاً يحدث هذا مع كل البشر ؟ الجواب لا .. ولكن الانبياء جاءهم الوحي في حدود الأربعين وسن العبقرية في الغالب هي بين سن العشرين والثلاثين ، وكانت سن الطيش مرحلة النفس ( الأمارة بالسوء ) وسن النضج هي مرحلة النفس (اللوامة ) وتبقى مرحلة ( النفس المطمئنة ) مرحلة أخيرة لتكامل النفس ، وهي المرحلة الثامنة حسب تقسيمات عالم النفس ( اريكسون ) الذي يقول إن هذه المرحلة الأخيرة تمتاز أن تكون إما في حالة يأس أو تكامل .

    يتبع

    تعليق


    • #3
      من الطريف أن نشير الى تقسيمات عالم النفس ( اريكسون ) الثمانية في مراحل تطور الروح طبقاً عن طبق كما ذكر القرآن أنه خلقنا أطواراً على لسان نوح ( مالكم لاترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا) .
      يرى اريكسون أن الانسان يمر خلال حياته في ثمانية مراحل حسب تقدم العمر يعتبرها أزمات الارتقاء الثمانية ففي السنة الأولى يواجه الطفل الثقة في العالم من سحبها منه ، وبين السنة الثانية والثالثة يتشكل عنده معنى العالم الذي نعيشه هل يستحق اليقين أم يقوم على الشك ؟ وفي السنوات 4-5 تنمو عنده روح المبدأة من الشعور بالذنب عندما نتهمه أنه أحمق أخرق متهور ؟! وبين العامين 6 -11 تتكون عنده خصال المتابعة والدأب أو بالعكس الاحساس بالنقص والعجز ، ثم يدخل الانسان مرحلة المراهقة مابين 12- 18 لتتشكل شخصيته أو أن ينزلق في تكوين هوية مضطربة .
      ذكر لي صديق متأسفاً أن أبنه بدأ لايطيع الأوامر مع ضخامة أنفه وغلظ صوته وشدة عضلاته ضحكتُ قلت له يجب أن تفرح لإنه يكوِّن شخصيته الآن بالاستقلال عنك فكن له الآن صديقاً ؟! وعند اريكسون وحتى السن 35 ينجح الانسان في تكوين علاقات حميمة أو ان ينعزل فيفشل عن متابعة النضج ، ثم تتطور الشخصية مابين السنوات 35 حتى الشيخوخة في اتجاه الانتشار الاجتماعي وتحقيق الذات أو التقوقع وتلاشي معنى الحياة ، وعند عتبة الـ 65 من العمر مع استقبال خريف الحياة في الشيخوخة ينظر الانسان الى الخلف متأملاً تاريخه ليعتليه أحد شعورين فإما أنه عاشه جيداً فلايريد تكراره وأنه يتكامل وقد أدى دوره في الحياة الدنيا مستعد لاستقبال الموت بنفس مطمئنة ، أو أن يصاب بالاحباط واليأس ويغرق في الحزن المقيم . والمهم في هذه المراحل أن الإيمان يعطي لكل مرحلة نكهتها الخاصة ويرسخ الشخصية عل نحو إيجابي مع الحياة ، ومن هنا نفهم الإيمان كنتيجة ؛ فالنموذج الانساني المؤمن يجب أن يثبت نفسه أنه أفضل من الملحد أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون ؟
      الإيمان هو الأمل والكفر مرتبط باليأس : ذكر المصطلحان في القرآن الكريم اليأس المرتبط بالكفر ( إنه لاييأس من روح الله الا القوم الكافرون ) في سورة يوسف ، والأخرى في سورة الحجر عن إبراهيم لما جاءته البشرى بحمل زوجته إنا نبشرك بغلام عليم قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون ؟؟ وعندما سمعت الزوجة البشرى هرعت وهي تصرخ ( فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم ) فكان جوابهم ( بشرناك بالحق فلاتكن من القانطين ! ) استدرك ابراهيم بسرعة فرجعت الى قواعده الفكرية يذكر نفسه قال ومن يقنط من رحمة ربه الا الضالون ، وهكذا فالإيمان يمثل ضرورة نفسية لإن صدمات الحياة والمعاناة فيها تستهلك طاقة الانسان فيحتاج الى معين لاينضب للمواجهة ، وهنا يلعب الإيمان دور ذلك الالهام الداخلي في تحفيز طاقات الانسان واستنهاض همته لاكتشاف طاقاته الداخلية من خلال وصلها بمنابع الوجود الحقيقية من الله الحي القيوم ؛ فنحن نقوم على المحدودية والتوقيت والفناء وكل حياتنا إعارة ، كما أن عقد الحياة ليس فيه ضمان أن نتابع وجودنا فيها لحظة واحدة . إذا كان أحدنا يفرح بعقد عمل لمدة سنة فإنه لايوجد عقد حياة من الله على الأرض ليوم واحد ، وليس العجيب الموت بل تدفق الحياة من الحي الذي لايموت الذي لايعرف التعب واللغوب أو السنة والنوم ، مع هذا أعطانا عقداً مضاعفاً أولاً بأنه سيمنحنا في النهاية صفة الهية وهي الخلود فنحن في الأرض نموت ( وماجعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون ؟ ) ولكننا في الآخرة نتحرر من الموت فلايلمسنا بعدها ، عندما يؤتي بالموت على هيئة كبش أملح فيذبح وينادي المنادي وداعاً فلاموت بعد اليوم ؛ فالله الذي نفخ في الانسان من روحه يحافظ على الروح في رحلة خلود بعد مرحلة كسوف الموت الجزئية ، والأمر الثاني أنه سيعاملنا بالعدل مضافاً إليها ( الرحمة ) وهنا معنى جديد للإيمان عُنونت به كل سور القرآن عندما وصف الله نفسه بالرحمة مضاعفاً الرحمن الرحيم ؛ فالرحمة قد نتصف بها نحن البشر فترفع مستوانا ، ولكن الرحمن هي مطلق الرحمة التي كانت لله مصدر كل رحمة في الوجود قد ألزم بها النفس ربه بدون طلب ( كتب على نفسه الرحمة ) عندما يطوق الانسان بظلمات الأحداث ومصائب الدهر وعضات الفقر وآلام المرض وانهيار الشيخوخة ومواجهة الموت يقفز الإيمان الى الواجهة فيعطي التبرير ويخلع المعنى ويلهم الصبر والتجلد وتحمل مواجهة كل هذه المفارقات والمزعجات والمنغصات والتحديات فهنا يمثل الإيمان ضرورة نفسية لإن الالحاد حالة لاتطاق كما روى استاذ الرياضيات الأمريكي جيفري لانج في كتابه الصراع من اجل الإيمان يشرح البواعث العميقة التي دفعته أن يخرج من لجة الالحاد الى سفينة الإيمان ، ووصف القرآن الانسان أنه إذا طوق بالمحن دعا الله مخلصاً له الدين لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين ؟ وعندما واجه فرعون العاصفة وبدأ يغرق قال آمنت أنه لاإله الا الذي آمنت به بنو اسرائيل وأنا من المؤمنين ؟ وكثير من القصص لأشد الناس إلحاداً تروي لنا أنهم عندما واجهوا مأزقاً خطيراً انكشف غطاء الروح ، ورجعواالى فطرتهم التي فطر الناس عليها ؛ فاتصلوا بالمطلق فدعوا الله بخالص قلوبهم بالنجاة فأنجاهم .
      الدين له هدفان التسامي بالانسان وتحقيق العدل الاجتماعي : إذا استطعنا إيجاد بوصلة أخلاقية داخلية عند الفرد فيمكن الاقلاع بأشرعته في سفينة نحو شاطيء العدل الاجتماعي ، حيث يتجلى الإيمان عبر ثلاث عتبات من التسامي والصعود لدخول الجنة قبل دخولها . عبر عن الأول ( بالإيمان ) والثاني بـ ( التقوى ) والأخير بـ ( الاحسان ) فرحلة الإيمان تمشي في ثلاث أطوار عبر ثلاث محطات من التصعيد ؛ فهي اعتقاد يلهم سلوكاً منضبطاً مبرمجاً على مراجعة النفس من خلال آلية نقد ذاتي ( مراقبة ومحاسبة ) لتصل في النهاية الى مرحلة الاحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ؟ وهو الذي عبرت عنه رابعة العدوية بشعر أخَّاذ :
      فليت الذي بيني وبينك عامر وبـــيني وبين العالمين خراب
      إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تــراب
      الاحسان هو روح المبادرة والتخلص من مشاعر الخوف من العقوبة والتعامل مع الله بالاحترام اللانهائي والاخلاص المتفاني والإعجاب بدون حدود والحب الملهم الخلاَّق وهي مبنية كما ذكرنا على مراحل نفسية سابقة تشحن خلالها بالإيمان وتتكثف طاقة الروح بالتقوى لتصل في النهاية الى نوع من الشفافية والتجرد والسمو والخفة الى درجة المشي على سطح الماء كما جاء في قصة الإيمان عند المسيح عندما انتهر البحر الهائج وأشار إليه بيده فهدأ ، وقام فمشى على الماء بخفة الروح وليس بثقل الجسم الفيزيائي مخاطباً التلاميذ المصعوقين من الرؤية : الحق أقول لكم ياضعاف الإيمان لو آمنتم حقاً لمشيتم على الماء ؟ والمعجزة هنا تأتي ليس كسراً للقانون بل انسجاماً مع قانون أعلى فالحديد يغطس في الماء ولو كان مسماراً ، والفلين يعوم على سطح الماء ولو كان بحجم جبل ، كما أن الحديد المجوف يعبر المحيطات على شكل سفن كأنها الاعلام ، كما أن البيضة المسلوقة تغوص في اللجة وهكذا فتغير طبيعة الشيء تقلب معادلة وجوده وليس تغيره هو بالذات ، فلا الحديد يعني الغوص ولا الفلين يعني العوم مطلقاً سنة الله في خلقه ، وبذا تصبح المعجزة ليس خرقاً للقانون بل تحققاً لقانون أعلى . الإيمان إذاً هو شحن الروح لرحلة الصعود ، وهذا يعتمد ممارسة تمارين تهييج دائمة لكهرباء الروح ؛ فالصعود يحتاج الى طاقة أما الهبوط فلا يحتاج لطاقة ويكفي فيه الاستسلام لقانون العطالة الذاتية ، والرسول ص عندما كان يلجأ الليالي ذوات العدد في غار حراء كان يغوص في لجج التأمل لشحن الروح من فوق الجبل ، وهو مافعله بوذا تحت الشجرة حتى حظي بالنيرفانا ، وهو ماتعرض له موسى على الجبل حينما اراد رؤية الله في شوق للوصول الى نهاية رحلة الروح ( وعجلت اليك ربي لترضى ) فأراد رؤية الله عياناً حتى لايبقى بينه وبين الحق حجاب قال لن تراني ولكن انظر الى الجبل فان استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل لم يتحمل الجبل التجلي فدك دكاً وخر موسى صعقاً من هول المنظر فلما أفاق من هذه الغيبوبة استغفر ربه وخر راكعا وأناب ، وهو الذي حصل ليسوع المسيح بعد أن صام أربعين ليلة وجاع فجاءه الشيطان يجربه وقال له اطلب من الله أن تصير هذه الحجارة خبزا أجاب مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الانسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله . كان يسوع المسيح قد استعد لعبور غرور الغنى ووهم العالم ووسوسة الشيطان .
      الإيمان حالة ديناميكية : وهذه طبيعية ومتوقعة لوضع النفس فالعقل هو مثل المحيط العميق تعمل فيه التيارات باستمرار واحياناً يغلي ويزبد وترتفع موجه الى أقصى حالات الغضب أو يهدأ فنظن أن لاعمق فيه . عقلنا تعمل فيه تيارات الأفكار بدون توقف وتفيض علينا الرؤى باستمرار ويقوم الوعي ولفترة قصيرة بتركيز الاهتمام في بؤرة بعينها وهذه هي آليات ( الوعي ـ الارادة ـ الحرية ) والإيمان له مخطط مثل حرق السكر في البدن واضطراب الشوارد وترجرج الحرارة وتباين الضغط في الجسم ؛ فهو يهتز ويتأرجح باستمرار وتكون ذرى المخطط مرتبطة بالحالة النفسية بين الاحباط والأمل بين اليأس والرجاء .
      الإيمان يحقق العدل الاجتماعي : ويأتي الإيمان ليعمل في المستوى الاجتماعي بتحرير الفرد من علاقات القوة وبناء مجتمع بدون طبقات فلاسيد وخادم ولايوجد ( هيراركي ـ طبقية ) أقرب الى مجتمع النمل مع وعي انساني ، ولايوجد مستضعفون ومستكبرون ، كما لايوجد آلهة وعبيد ؛ بل مجتمع سواء لايتخذ بعضه بعضأ ارباباً من دون الله ، يلعب المال فيه دور الدم الاجتماعي ، وليس دور أن يحفظ في جيب 258 ملياردير يملكون أكثر من 2.5 مليار من البشر ، في وضع يشبه امهات الدم الخطيرة المحتقنة بالدم منذرة بالنزف الصاعق . مايريده الإيمان تحقيق العدل الاجتماعي في مجتمع السواء وبناء مجتمع انساني مفتوح لاإكراه فيه بأي صورة ؛ لإن الإيمان قناعة داخلية قبل كل شيء ( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ؟ )
      الإيمان فوق قوانين الميكانيك : نحن عندما نعمل حادث سيارة فإنها تحدث وفق قوانين فيزيائية محضة ولكن تجزيء الواقعة يعلمنا أن هناك وقائع لانهائية تحيط بالحادث وأبسطها قد يكون خطيراً يفضي بصاحبه الى الموت كما في الحادث الذي وقع للأميرة ديانا الذي وضع خاتمة أسيفة لحياتها . حيث اجتمعت السرعة والخمرة والارتطام بعمود حجري في زاوية خطيرة وكلها قوانين فيزيائية ، ولكن لو خفت السرعة وقلت كمية الخمر في دم السائق لربما لم يحدث ماحدث ؛ فإذا أخذنا سلسلة سببية واحدة نتبين أنها مشبوكة بحزمة مرعبة من سلاسل جانبية لاتنتهي ولكنها في النهاية قد تتفاعل أو لاتتفاعل لإيجاد الحدث ، ولنأخذ أحد السلاسل السببية وهو أن الأميرة لم تكن قد وضعت حزام الأمان لماذا ؟ السائق لماذا أفرط في الشراب ؟ السرعة لماذا زادها ؟ قد يكون الجواب أن السائق زاد السرعة لوقوعه تحت تأثير الخمر فلم ينتبه الى إفراطه في السرعة ولكن ارتطام السيارة لها قوانينها الفيزيائية المستقلة التي ولدتها إرادة رجل ثمل سكران ، ثم نسأل لو أن السائق لم يفرط في الشراب لربما لم يحدث ماحدث ؟ لماذ شرب كثيرا ؟ هل هناك عناصر دعته لذلك ؟ هل كان حزيناً ؟ أو بالعكس هل كان مسروراً جداً ؟ هل هناك من أغراه بالشراب ؟ هل جاءته حسناء دفعته الى التورط بمزيد من الشراب ؟ فإذا أخذنا سلسلة من أي من السلاسل السببية وجدنا تقاطعها مع شبكة سلاسل أخرى لاتنتهي ، كل سلسلة تمشي وفق قانونها الخاص بالسبب والنتيجة ، ويبقى السؤال عند تقاطعها مع سلسلة أخرى هل تلعب الصدفة فيها دوراً ؟‍! ولكن فعلاً هل هي صدفة ؟ لو قام العالم على مجرد الصدفة لكان كوناً بئيساً فوضوياً ، ربنا ماخلقت هذا باطلاً سبحانك ، ولكن الذي يبدو أنه كون يدفع بإرادة جبارة في اتجاه معين مبرمج على وجه الدقة ، وانتبه مالك بن نبي الى حدث تاريخي ظاهره أنه لايزيد عن حدث أعمى لارتطام قوى عمياء لاتدري ماذا تفعل ؟ عندما يأتي تيمورلنك ليحطم جيشاً عثمانياً بقيادة ( بيازيد ) كان متأهباً للانقضاض على أوربا بنصف مليون جندي في معركة أنقرة عام 1402 م يتعجب فيقول كلا الاثنين من الأتراك وكلاهما مسلم فلماذا تتجمع سحب حرب من النوع الأعظم بفرق محمولة على الخيل بما يشبه الفرق المدرعة العصرية لأعظم جيشين مسلمين في ذلك العصر يتفانون ؛ ليصل في النهاية الى تقرير أنها تلك الارادة الالهية الخفية المغيبة خلف إعاقة دخول العثمانيين الى أوربا لإنقاذ الجنين الأوربي الذي كان يتشكل في تلك اللحظات فتنجو الحضارة الانسانية . كمسلمين قد نتألم لما حدث ولربما تمنينا أن نرى الهلال التركي المسلم يرفرف فوق كاتدرائيات الغرب ولكن النتيجة كانت تعضل كل المعاصرة وعصور التنوير العقل والحداثة بكل زخمها وربما تأخرت حركة التاريخ ألف سنة اخرى إن لم يكن ماهو أفظع ؟ كان ليل التاريخ وشفق المغيب يغلف بقايا الحضارة الاسلامية ولم تكن هناك أي قوة لتمنع هذا المسار الحزين ، ولو دخل الاتراك فيينا وبقي العرب في الاندلس لما عرفنا الأمريكيتين ولما انفجرت الثورة الصناعية وماأشعت أنوار عصور التنوير ، ولما تمتعنا بالانترنيت وعبور العالم على ظهر طائرات الجامبو العملاقة نقطع أقطار الأرض في ساعات . لاندري لربما عقم رحم التاريخ لفترة غير محسوبة ، فقد قام نفر من المؤرخين المعاصرين فحسبوا من هذا القبيل تحت كلمة لو .... لولم يولد غاليلو أو لم يكن لينين أو اختفى نابليون أو لم يوجد هتلر ولم يظهر بسمارك ماذا كان سيحصل للتاريخ ؟ لمشى التاريخ في أقنية مختلفة فبدأوا يحسبون بدون قدرة على ضبط مسارات الأحداث بفعل الخلل الرهيب في السلاسل السببية ؟ وهكذا يتوجه التاريخ على نحو خفي مساقاً على مايبدو وفق إرادة الله الخفية الذي يعلم السر واخفى ( والله غالب على أمره ولكن اكثر الناس لايعلمون ) ذو الحكمة البالغة الظاهر الباطن الحكيم العليم الخبير الغفور الرحيم فالق الاصباح والنوى مخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فانى تصرفون .
      عند هذه النقطة لم أفهم تماماً على اخي الدكتور رزق فكرة إرادة الله المتجلية بقوى الوجود الرباعية ( الجاذبية وقوى النواة القوية والضعيفة والكهرطيسية ) ؟
      في قناعتي أن الكون يضم المادة والقوانين وهذه ( السنن ) تتعدد في اكثر من مستوى وتمتاز بالثبات والديمومة والشمولية والنوعية ولن تجد لسنة الله تبديلا أو تحويلا ، فتحدد علاقات القوى الأربعة سواء في مستوى الذرة أو المجرة ، ولكن الروح والبيولوجيا والسسيولوجيا تضم القوى الفيزيائية وتتجاوز عتبتها لولوج عالم له قوانينه الذاتية الناظمة وتبقى إرادة الله شيء آخر غير القوى الفيزيائية والقوانين الفلكية أو البيولوجية أو الاجتماعية . أنا أرى إرادة الله شيء آخر مستقل ومتصل بالوجود .
      تمنيت من الدكتور رزق لو توسع في شرح فكرته في موضوع علاقة ارادة الله في قوانين الكون والقوى الفيزيائية الأربعة الأساسية في الكون التي يسعى العلماء اليوم لأمرين خطيرين : دمج القوى الأربعة وفهمها ضمن قوة واحدة كما كان الأمر في بداية الكون مع الانفجار العظيم عندما انشطرت القوى الى خمسة ثم استطاع مكسويل توحيد فهم القوى الكهربية والمغناطيسية في قوة واحدة هي القوة الكهرطيسية ، ثم استطاع ( واينبرج ) دمج قوى النواة الضعيفة مع الجاذبية لنفهم الكون وفق ثلاثة قوى كما جاء ذلك في مؤتمر بوتسدام الأخير الذي ضم مظاهرة ضخمة من أشهر فيزيائي العالم الذين أرادوا وضعوا صياغة واضحة لفهم الكون وأعظم محاولة يقوم بها العلماء اليوم كما أشار الى ذلك ستيفن هوكنج هو فهم الكون من خلال دمج ميكانيكا الكم والنسبية ، اللذان يمثلان العينين اللتين يبصر العلم الوجود من خلالهما .
      في ملاحظاتي الثلاثة على أخي الدكتور ( هاني رزق ) بدا لي مايلي أن العلم عندما يعجز عن تقديم تفسيراته النهائية عن حقبة الانفجار العظيم فلم يقل كلمته الأخيرة والأفكار الجديدة تحول اليوم حول ( انهيار النسبية بظهور شروخ عليها ) وفكرة ( الأبعاد الأحد عشر ) وليس الأبعاد الأربعة حسب النسبية وتحقيق سرعات تزيد عن الضوء خمس مرات كما حققها العالم نيمتس من مدينة ( كولن KOELN ) في ألمانيا ، والأوتار الفائقة ، والأكوان المتعددة مثل فقاعات الصابون التي ينفخها الأطفال فليس عالمنا هو الوحيد بل متعدد ( MULTIVERSE ) ولاأظن أن موقف الكنيسة في تبنيها نظرية الانفجار العظيم الا تكراراً لغلطة بطليموس السابقة ؛ فالكون يحوي جدلية لانهائية ، وفوق كل ذي علم عليم ، وقل رب زدني علما ، وما حققناه من علم لن يكون شيئاً أمام ماينتظرنا خلال العشرة آلاف سنة القادمة ؟ .. على كل حال إذا لم نرتكب حماقة ولم تنتهي الحياة بطريقة غامضة كما حدث في انفجار بركان ( توبا ) في اندنوسيا قبل خمس وسبعين ألف سنة فلم يبق الا آلاف من الناس ، أو لم يرطمنا مذنب تائه ؛ فإن استمرار الحياة سيتابع طريقه الى خمس مليارات سنة اخرى وهو العمر الافتراضي المتبقي لحياة الشمس ، وإذا مضينا مع ( التطور الموجه ) للأخ الدكتور ( هاني رزق ) أو المعروف عند العلماء بالمبدأ الانساني فإن الكون مبرمج على متابعة الحياة .

      تعليق


      • #4
        وفي قناعتي أن الدين أو الفلسفة أو العلم لكل منهم مسار مختلف وإن كانت هناك نقاط تقاطع . الدين يعطي الأجوبة النهائية ، والفلسفة تفتح ملف الاسئلة ، والعلم يحاول في معلومات تفصيلية أن يصوغ أفكاراً مبللورة . كأن الثلاثة يمثلون شجرة جذورها الدين وجذعها الفلسفة وثمراتها العلم . العلم يفيض في كيف ؟ ولكن الفلسفة هي محور الحركة ؟ والدين هو بوصلة توجهه أو القطب المغناطيسي الذي يعطي للحياة معنى ، وهذا لايعني أن العلم ليس عنده إجابات ولكنها ليست كالدين الذي يعطي إجابات واضحة عن قضايا وجودية أساسية ولذا كان الدين هاماً للبشر للانسان العادي كي يعطي الناظم الأخلاقي الانضباطي . العلم لايجيب عن معنى الموت ولكن الدين يقول أنه كسوف جزئي لحقيقة الانسان وليس نهاية الرحلة . العلم يقول أن العظام تحولت الى تراب وأن ذرات البدن سوف تكمل رحلتها في كائنات أخرى فقد تشكل نباتاً أو تدخل جسم ضفدع ولكن الدين يقول أن هناك حقيقة ثابتة لكل فرد وهناك بداية نهاية وحساب وخلود . العلم يقول أن الأفراد الذين تطويهم لجة الموت لايبقى لهم وجود الا في الذاكرة الى حين فكم أهلكنا من قبلهم من قرن هل تحس منه من أحد أو تسمع لهم ركزا . ولكن الدين يقول وكل شيء في الزبر وكل صغير وكبير مستطر . الفلسفة تحاول التقدم في هذه الحقول من الألغام الفكرية بشكل أعمق فتتصل بالعلم من طرف وتلتحق بالدين من طرف آخر . وهكذا يشكل تواصل العلم والفلسفة والدين طيفاً من تتابع عتبات المعرفة التي تحاول أن تطفيء عطش الانسان الى المعرفة . أين المصير ؟ العلم يقول لا أعلم والفلسفة تقول لعل والدين يقول اليكم الجواب على وجه الدقة . العلم أرضي والفلسفة عقلية والدين سماوي في ثلاث زوايا . إن نظرت الى الأرض وجدت العلم ، وإن نظرت الى الأفق حظيت بالفلسفة ، وإن نظرت الى السماء حدقت في المطلق النهائي حيث الله . لاتستطيع العين العادية أن تحدق في اثنين الموت والشمس ولكن الدين يلبسنا نظارات تقينا من الاشعة فوق البنفسجية وصفرة الموت فنرى . مع هذا فهناك من يريد أن يصل من حد الى حد فيرى امتزاج العلم بالدين وتحول صيغة إحداهما الى الأخرى ، وهذه المحاولة من كتاباتنا تحاول أن تصل الى هذه العجينة الجديدة ولكن هل وفقت الى هذا الهدف ؟ أننا في الواقع نحاول أن نمس نقاط التقاطع على الأقل بين الحقول الثلاثة الفلسفة والعلم والإيمان . في الأخير يبقى عندي تعليقان على العلم السيء وانهيار قوانين الكون أمام بعض الظواهر مثل الانفجار العظيم . في تقديري ليس هناك علم سيء وعلم جيد وإنما توظيف انساني ولعلي أخي الدكتور هاني يوافقني على هذا ؛ فكل الجدلية هي هنا وكان الانسان أكثر شيء جدلا ولذلك اعتمد القرآن على منطق التاريخ فاعتبر أن هناك قانوناً للزبد أنه سيطويه الزمن ليحتفظ بالأنفع في رحلة تكاملية ليتخلص من الأقل نفعاً الى الأكثر نفعاً . البريد لم يكن موجوداً ثم صار مؤسسة عملاقة وهو الآن في طريقه الى الألغاء بالبريد الالكتروني ، والرق كان نظاماً متورطاً مع الحرب لإنه كان يفرز الآلة العضلية فكان طبيعياً كما يقول المؤرخ البريطاني ( توينبي ) أن يلغى مع الثورة الصناعية ، وهذا يفتح الطريق أمامنا لفكرة النسخ ، وأن الرق عندما يلغى يعلن بطريقة أخرى أن نظام الحرب في طريقه الى الإلغاء ؛ فعندما نستغني عن السيف لايبقى غمده الا للزينة ؛ فهذه فكرة هامة في جدلية السلم والعلم ، ومن رماد هيروشيما ولد السلام العالمي ؛ فلا نرى حرباً في الشمال ، وكانت كل الحروب العالمية الرهيبة تدور في ساحاتها .
        في ربيع عام 1945 سقطت النازية ، وانتهت الحرب في الساحة الأوربية . كان بحث الحلفاء المحموم يدور حول غنائم من الحرب مختلفة : أدمغة العلماء ؟!
        في فيلا منعزلة خارج لندن ، اجتمع نفر محدود ، لايتجاوز العشرين ، من العلماء الألمان ، على غير موعد ، أسرى حرب مدللين ، قد هيئت لهم كل وسائل الراحة ، بمايليق بمقام العلماء ، بما فيها أجهزة تنصت ، في غاية الحذق والضآلة والاختفاء ، تحت كل منضدة وسرير ، في كل زاوية ، ومع استنشاق عبير كل وردة . شبكة التنصت كانت موصولة بدماغ مركزي ، يجمع المعلومات على مدار الأربع وعشرين ساعة ، قد أصغت إليها آذان تتشنف أعذب الأسرار ، تتقن الألمانية ، ترصد الكلمات وظلالها ، وماباحت العبارات وأضمرت ، تسجل كل همس ، ومايلفظ كل عالم الا لديه رقيب عتيد .
        تمت عملية الاصغاء المتتابعة لفترة ستة أشهر ، في تفكيك لأسرار الكلمات والأحاديث الجانبية ، في بحث مسعور ، حول معرفة تطور أمرين : السلاح النووي ، ونظام الصواريخ . كان الألمان أول من طوَّر نظام الصواريخ V1 و V2 الذي قُصفت به لندن للمرة الأولى .
        كان من غنائم الحرب الرأس الفيزيائي الأول ( اوتو هان ) الذي انشطرت على طاولته المتواضعة الذرة ؛ فحدثت بأخبارها ، لأول مرة منذ أن تحدث عنها ( ديموقريطس ) اليوناني ، وأسس علماء المسلمين فلسفة كاملة حولها ، عن منظومة الجزء الذي لايتجزأ ، هل يتجزأ ؟ كان الفيزيائي ( فيرنر هايزنبرغ ) الذي طوَّر نظرية الارتياب أو ( اللايقين UNCERTAINITY PRINCIPLE ) في ميكانيكا الكم ، يهز رأسه متالماً ، من أخبار هيروشيما ، التي دوَّت زمن الاعتقال ؛ فلولا التطويرات الأولى لمفاهيم الفيزياء الذرية ، ماتمكن ( روبرت اوبنهايمر ) الذي كان في قبضة العسكري الأمريكي ( ليزلي جروفز ) في قاعدة الأبحاث النووية في ( لوس آلاموس ) ، يتدفق عليه نهر من ذهب بلغ ملياري دولار ، ومقدار من الطاقة يكفي لإضاءة مدينة كبيرة لسنوات ، من تفجير أول قنبلة ( بلوتونيوم ) تجريبية في ( آلامو جوردو ) في الساعة الخامسة والنصف من صباح 16 يوليو 1945م . من يمتلك صاروخ عابر للقارات ، يركب على رقبته رأس نووي حراري ، يصل الى أي نقطة في الكرة الأرضية ، في مدى عشرين دقيقة ، يصيب هدفه بخطأ يقترب من مائة متر ، محسوبة برقائق الكمبيوتر ، يمتلك السلطان العالمي ؛ فلم تعد الدول العظمى بالامتداد الجغرافي، بل بسلطان العلم . من يملك المعرفة يملك القوة ، وارتفعت اليابان بالعلم بدون سلاح ، مع قدرتها على تصنيع أي سلاح . كانت المفاجأة من جهنم ( هيروشيما ) مضاعفة للعلماء والعسكريين معاً ، فمن نار مشعلها ولد السلام العالمي ، على غير موعد .
        يروي لنا العلم هذا التناقض المحير دوماً ، على صورة قانون دوري يتكرر ، في شهادة صاعقة ، أن كل اندفاع لتطوير سلاح عسكري ، يتحول في النهاية لخدمة الانسانية والسلام العالمي .
        الانترنيت ونظام الدفاع الكوني ( SDI ) والقنبلة النووية ، كانت ثلاث أنظمة لخدمة آلة العنف العسكري . ( الانترنيت ) في البنتاغون كشبكة اتصالات معلوماتية ، و( نظام الصواريخ ) خارج فضائية لاصطياد الصواريخ النووية المضادة ، وشبكة ( الساتلايت ) للتجسس ، من نموذج ثقب المفتاح ( KEY - WHOLE 11 ) الذي يحوم حول الكرة الأرضية ، في كل مدار بتسعين دقيقة ، يمسح فيها الأرض ، يسترق السمع مثل الجن ، و ( السلاح النووي ) كقوة استراتيجية لامتلاك العالم ، في نظام مابعد الحرب العالمية الثانية .
        الذي حصل أن الأنظمة الثلاث صبت في خدمة الانسانية ، تؤكد أن الزبد يذهب جفاءً ، وأن ماينفع الناس يمكث في الأرض ، كذلك يضرب الله الأمثال . الانترنيت أصبح أوقيانوس طامي من المعلومات ، لاتكف أمواجه عن التلاحق ، تبتلع العالم في ثقافة جديدة للانسان ، وأن نماذج من أمثال ابن نوح العاق ؛ لن ينفعه أي جبل يأوي اليه ، في ثقافة كونية ، يولد فيها انسان عالمي الثقافة ، يتنافس فيها مع الآخرين ، بالفكر وليس القوة . لقد تحول رصيد ( فكر القوة ) الى ( قوة الفكرة ) فهل يعقل هذه الحقيقة رجل رشيد ؟ نظام الصواريخ الكوني وأقمار التجسس ، ملأ سطوح المنازل بالدشوش ، تقلب وجهها في السماء ، تفتح أفواهها بلا شبع ، بدون انطباق ، تلتقط خبر الملأ العلوي ، ومايوحي من الأخبار ، بلمح البصر أو هو اقرب ، تنهي عهد الكذب السياسي ، والاحتكار المحلي ، ويثبت العلم نفسه كمحطم رائع للجغرافيا . ومن حريق هيروشيما يولد السلام العالمي ، في صدمة صاعقة غير متوقعة للسياسيين ، الذي لايرون في العادة أبعد من أرنبة انوفهم ، أو الجنرالات الذين أجرت عليهم مجلة الشبيجل الألمانية تحقيقاً ، أنهم كانوا عبر التاريخ أكثر خلق الله بلاهة وحمقاً وإجراماً ، وتبدأ الحيرة اليوم ، عن أبسط الطرق وأقلها تكليفاً ، لتفكيك الرؤوس النووية . هذه المرة سبق التطبيق النظرية ، وتثبت فكرة المؤرخ البريطاني ( توينبي ) أن الأفكار الجديدة ، يجب أن تتطابق مع الوسائل المطوَّرة ؛ فلايعقل وضع الزيت الطازج ، في أزقة عتيقة مهترئة ؛ فلا الزيت عليه نحافظ ، ولا الأوعية تبقى . لايمكن لنظام العبودية مع آلة ( العضلات ) أن يستمر مع تقدم الآلة الحديدية . لايمكن للصناعة أن تترسخ وتحافظ على نفسها ، في مجتمع عصري ، بدون تطوير وسائل اللامركزية والديموقراطية . هل يمكن أن ننجو من الموت كقدر ؛ كذلك الديموقراطية تتقدم في العالم بقدر كوني لازب . هذه الأفكار حول الانسان الجديد ، والسلام العالمي ، تشبه ظاهرة السوبرنوفا لسياسي العالم الثالث ، فكما تأخر وصول ضوء الانفجار النجمي مليون سنة الى الأرض ، فقد نبقى ألف سنة أخرى على باب العلم دون أن ندخله ، لإننا لانملك المفتاح . مشكلة العالم العربي أنه يعيش اليوم طوفان الحداثة ، بدون سفينة نوح للنجاة الفكرية ، بأعظم من طوفان نوح . طوفان نوح الجديد بعد سبعة آلاف سنة ، ثقافي يطم بامواجه الهادرة المشارق والمغارب ، بدون عاصم من امواج تجري بهم كالجبال . العالم العربي بعد سيف معاوية ، ومصادرة الحياة الراشدية ، وتاميم العقل ، والغاء الفن ، بعد إقفال باب الاجتهاد ، تدفق فيه الصليبيون الفقراء ، الى العالم الجديد ، فملكوا أربع قارات ، وكل البحار ، والثروة ، والنفوذ العالمي ، مدججين بإدارة عالمية ، ومراكز البحث العلمي ومصارف المال بدون إقطاع وكنيسة وطاغية .
        العقل العربي اليوم يمشي منكوساً على رأسه ، بدون ان يحس بالدوار ، لم يتكيف بعد مع العالم الجديد ، لإنه لايعرفه ، فهو لم يشترك في صناعته منذ خمسة قرون ، فيما يشبه قصص السندباد مع ملك الجان الأزرق .

        منقول

        تعليق

        المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
        حفظ-تلقائي
        x

        رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

        صورة التسجيل تحديث الصورة

        اقرأ في منتديات يا حسين

        تقليص

        لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

        يعمل...
        X