الإيمان حالة نفسية و نقاط تقاطع
( بقلم خالص جلبي )
عاصر الفلكي المشهور ( سيمون لابلاس ) صاحب كتاب ( الأجرام السماوية ) نابليون وكان أول من اشار الى فكرة الثقوب السوداء في الكون حسب إفادة الفيزيائي الكوني ( ستيفن هوكنج ) صاحب الكتاب الشهير ( قصة قصيرة للزمن ) . سأله نابليون يوماً عن النظام السماوي أين مكان الله فيه ؟ كان جوابه إن النظام الكوني يشتغل كساعة عملاقة فلايحتاج لإله يقوم عليه ؟
هذا الضرب من الحوار يروي مأساة العلم والدين . الكون ساعة عملاقة والقوانين تمشي بانتظام أبدي ، والمادة خالدة ، والكون وجد منذ أبد الآبدين وسيبقى هكذا الى آخر الدهر .
ثلاث أسئلة محيرة واجهتني منذ الصغر أولها كانت من ابن عمي لي حينما قال لي أتحداك أنني سأموت خلال الأيام القادمة وكنت يومها مراهقاً ؟ فبدأت أفكر في جواب بدون جدوى ؟؟ وهو فعلاً مازال حياً يرزق حتى اليوم ؟! والسؤال الثاني عندما كنت طالباً ثانوياً فطرح أحد الطلبة الشيوعيين سؤالاً محرجاً على استاذ الديانة أنكم تقولون أن العمر محتم ولكن العلم استطاع أن يرفع متوسط عمر الانسان فما جواب الدين عليه ؟ حاول استاذ الديانة أن يرد ولكنه في الواقع كان يحاول إسكات الطالب أكثر من تقديم جواباً مقنعاً ؟!
والسؤال الثالث كان في الصف الأول الجامعي حينما سألني أحدهم هل يستطيع ربك أن يخلق حجراً لايستطيع حمله ؟ إن أجبت بنعم أو لا كان الهاً عاجزاً ؟!
حتى وصلت الى إجابات واضحة في مستويات الاسئلة الثلاث كان علي أن اسبر ثقافة جديدة وطرق من الفكر غير تقليدية . وهكذا كانت الأجوبة تتعلق بموت معلق على رؤوسنا لايستطيع أحد أن يحدد موعده ، علمه عند ربي لايجليه لوقته الا هو ، والعلم رفع متوسط العمر الاجتماعي وليس الفردي وحظوظ الانسان من عمر وعمل وصحة وتعليم مرتبطة بالمجتمع الذي يولد فيه الانسان أكثر من جهده الفردي فقد يعمر شخص في راوندا أكثر من اليابان كما قد يغنى شخص في مصر أكثر من ألمانيا ، ولكن الانسان الذي يولد في أفغانستان عليه أن يعاني الحرب الأهلية ، ومن يولد في البلاد العربية قد يحمل حقائبه يوماً مغادراً وطنه كما فعل فتية الكهف ، ومن يولد في الجزائر قد يضرب بالرصاص في أي لحظة من مسلح مجهول .
كما أن طرح الاسئلة الخاطئة يتطلب تصحيح صيغة السؤال قبل الإجابة عليها .
يروى عن فيلسوف أنه كان يمشي مع تلاميذه ثم غافلهم فأحضر حجراً معرضاً للشمس فقلبه فأصبح أعلاه بارداً وأسفله ساخناً ثم سأل التلاميذ كيف تعللون برودة سطح الحجر وسخونة قاعه أمام شمس مسلطة عليه ؟؟ احتار التلاميذ في الإجابة فلفت نظرهم الى عدم الإجابة على سؤال خاطيء بل بتصحيح طرح السؤال لذا كان السؤال الصحيح نصف إجابة ؟
في الواقع تمتعت بقراءة كتابة الدكتور الفاضل ( هاني رزق ) عن ( التطور الموجه) فشعرت أنني في عالم رحب من الفكر في بناء متماسك ، ودقة علمية مفرطة ، ومعلومات كثيفة حديثة من آخر ماأنتجته مطابخ الفكر ومراكز البحث العلمي . وأنا معه في كل الخطوط العريضة التي وصل إليها . الخالق المطلق والبرمجة الهادفة والجمال المسيطر والمبدأ الانساني والقيم الأخلاقية والحق في بناء الكون فلا عبثية.
مع هذا فعندي ثلاث ملاحظات حول ماكتب الدكتور الفاضل الأول في ماسماه بالعلم السيء ، والثاني في انهيار قوانين الفيزياء في حقبة الانفجار العظيم ، والثالث عن الإيمان العقلي .
ولكن قبل أن أبدأ بالأفكار الثلاثة يجب أن أقرر قضيتين أراهما على جانب كبير من الأهمية : الأولى عن محاولة تشريح الإيمان والعلم ، والثاني عن نقاط تقاطع الثقافات والأديان .
في الحوار الصاخب الذي تم بين الشيخ ( أحمد ديدات ) من جنوب أفريقيا والقس ( جيمس سواكرت ) في امريكا كان يحرص كل منهما على إثبات أن دين الآخر مزيف ؟؟ فأما سواكرت فقد بدأ الحفلة بهجومه على نظام تعدد الزوجات بأن المسيحي صياد ماهر فيحسن اختياره من أول الصيد محولاً بذلك المرأة الى فريسة تطارد لصائد بسهم وقوس في عودة الى عشرة آلاف سنة الى الخلف ، لينهي القس المذكور سمعته بعد سنوات مع فضيحة أخلاقية نشرتها مجلة الشبيجل الألمانية ، أما الشيخ ديدات فقد أقسم في المناظرة أنه سيدفع من جيبه كذا من الدولارات إن استطاع سواكرت أن يقرأ نصاً على وجه التحديد من التوراة ؟! ماكان من سواكرت الا أن تقدم وهو يقول أنتم ياأهل الخليج ومن تبعكم حري بنا أن نستفيد من بترودولاركم وتقدم فقرأ النص الذي تفوح منه رائحة جنسية ، وعندما طلب سواكرت من ديدات أن يسمح له أن يحاضر بحرية في بلد اسلامي متشدد كما سمح له بمطلق الحديث في أمريكا كان جواب ديدات عليه كل شيء الا الجواب ، فقال : كل بلد له فيزا دخول والبلد الذي سألت تأشيرة الدخول اليه هي الشهادتان فيجب أن تعلن اسلامك أولاً ثم تدخل ؟! قد يصلح الجواب كنكتة ولكنها في موضع الجد لاتثير سوى الكآبة .
كان الرجلان في سجال مايقرب من حفلات المصارعة الحرة في إثارة مواضيع قديمة بكلمات جديدة لاتنتهي الا حلول بل إلغاء كل حل ، في اشتباكات تزيد من تعقيد إشكاليات المواضيع القديمة ، ولم تأت الأديان بحال لهذا النوع من المناظرات ، ولاتسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم .
تقدم الفقهاء الى يسوع المسيح ومعهم زانية يدفعونها أمامهم وهو يشرح أفكاره لتلاميذ متحلقين حوله بخطوط يخطها على الأرض صرخوا باعلى صوتهم : يامعلم هذه زانية فتقدم فارجمها ؟ كانوا خبثاء يريدون إيقاعه في أمرين أحلاهما مر ؟ فإن قال بالرجم سقط في مصيدة مخالفة القوانين الرومانية بالتحريض على القتل ؟ وإن امتنع خالف الشريعة الموسوية فكان هرطيقاً ؟! تابع يسوع يخط على الأرض ثم التفت اليهم ببراءة ونطق بجملة من أجمل مانقله لنا التاريخ وأكثرها افحاما للخصم ؟ عندما زحزح موضع النقاش الى حقل مختلف ... من كان منكم بلا خطيئة فليتقدم فليرمها بحجر ؟! فانقشع عنه جمهور الفقهاء .. فالتفت الى الفتاة التي كان قدرها أن تعيش في مجتمع بلاضمانات ، لاتجد طريقة للعيش الا بالتكسب بجسمها : اذهبي فلاتخطئي ثانية ... إن القرآن يلتقي مع الانجيل كما لم لم يفعل سواجرت وديدات عندما اختصما ؛ فالقرآن اعتبر أن من يكره الفتيات على البغاء ذنبها مغفور وعقاب من يدفعها الى الفاحشة غير مغفور ( ولاتكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ) .
عندما أقسم القرآن بأربع بالتين والزيتون والطور والكعبة لم يخطر في بالنا معنى الإشارة الى شجرة التين ولكننا نعلم أن الإشارات الأخرى واضحة الدلالة على منابع ثلاث ديانات ولم يخطر في بالنا التجلي الروحي لبوذا تحت شجرة التين تحديداً .
كل الأديان والثقافات الكبرى والمصلحين والفلاسفة كانوا يلتقون في نقطتين لايختلفون عليها : التسامي بالانسان والعدل في المجتمع ، وبتعبير الانجيل السلام على الأرض وفي القلوب المسرة . ومانحتاج اليه اليوم هو البحث عن نقاط الالتقاء لبناء الانسانية وليس التفتيش عن عورات البعض ؛ فهذه نحملها جميعاً ، ومن كان بيته من زجاج لم يضرب الناس بالحجارة ، ومن كان بلاخطيئة فليكن أول رامي ؟ ولكن التحدي الأكبر للناس جميعاً هو حب الآخرين والتنافس في الخير .
ماهو الإيمان ؟ ماهو العلم ؟ وهل يمكن المزج بينهما ؟ لابد إذاً من تعريف كلهما وإن كان القرآن ذكر هذا المزيج مكرراً في موضعين : الأول عن قوة رفع الانسان في هذا المستحضر الجديد من مزيج العلم والإيمان ، والثاني عن إدراك هذه الطائفة التي تتحلى بالميزتين بهذا اليقين الراسخ لفكرة اليوم الآخر والبعث والنشور ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ـ وقال الذين أوتوا العلم الإيمان لقد لبثتم في كتاب الله الى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لاتعلمون ) .
أعجبني تعريف الدكتور ( محمد كامل حسين ) في كتابه ( وحدة المعرفة ) لفكرة تطابق النظام العقلي والكوني سنحاول الاعتماد عليها كفكرة تأسيسة : ( في الكون نظام وفي العقل نظام والمعرفة هي مطابقة النظامين . والنظامان من معدن واحد ، والمطابقة بينهما ممكنة لما فيهما من تشابه ، ولو لم يكونا متشابهين لاستحالت المعرفة ، ولولم تكن المطابقة بينهما ممكنة ماعلم أحد شيئاً ، وتشابه النظامين الكوني والعقلي ليس فرضاً يحتاج الى برهان بل هو جوهر إمكان المعرفة ، ومن أنكره فقد أنكر المعرفة كلها ، وهذا الإنكار خطأ يدل عليه ماحقق العقل من قدرة على التحكم في كثير من الأمور الطبيعية ، ولم نكن لنستطيع تحقيق شيء من ذلك لو أن النظامين كانا مختلفين ، ومهما تغيرت المعرفة ومذاهب التفكير وفهمنا للكون فإن الحقيقة التي تثبت ثبوتا قطعياً هو هذا التوافق بين نظام الكون ونظام العقل ) .
في الواقع إذا أردنا الدخول الى عالم الإيمان فلابد لنا من معرفة نظرة الكتب المقدسة وتعريفها لهذا المصطلح أما العلم فلابد لنا من معرفة كيف ينظر العلماء عموماً الى هذا المصطلح لتحديده وهل يمكن أن نخرج بعجينة من العينتين الإيمان والعلم ، أو وهو الأفضل هل يمكن كتابة معادلة رياضية كما في علاقة الطاقة بالمادة ، بحيث يمكن تحويل أحد الحدين الى الآخر ؛ فتصبح الطاقة تحولاً كمياً مذهلاً لكم محدود من المادة ، أو بالعكس تصبح المادة تكثفاً خرافياً للطاقة ؟
هل يمكن أن نرسم معادلة يتوحد فيها العلم الإيمان فيصبحان كلاهما وجهان لعملة واحدة أو طرفان لمعادلة مشتركة أو تجليان لحقيقة أساسية واحدة . لنرى ؟؟
الايمان حالة نفسية قبل أن يكون حسابات عقلية باردة تتحرك في مخططات لاتعرف الراحة ؛ فقد تمر علينا في اليوم الواحد لحظات من القنوط الكافر ، كما قد ننتعش بلحظات رائعة من الإيمان المحلق فهذه ميزة للإيمان .
عندما وصف ( مالك بن نبي ) في كتابه ( وجهة العالم الاسلامي ) أحد المصلحين الاجتماعيين أشار الى أنه : لم يكن يفسر القرآن تفسيرا على طريقة أهل الكلام والمنطق البارد ، بل كان يوحي بالآيات الى الضمائر التي يزلزل كيانها ، فلم يعد القرآن على شفتيه وثيقة باردة أو قانوناً محرراً ، وإنما كان انبثاقاً للكلام الالهي الحي ، ونور يأتي مباشرة من السماء فيضيء ويهدي ، ومنبعاً للطاقة يكهرب إرادة الجموع .
وكان يسوع في الانجيل يخاطب الجموع كمن له سلطان وليس كالكتبة والفريسيين وكان يكلمهم بأمثال قائلاً هوذا الزارع قد خرج ليزرع فبعضه سقط على الطريق واذ لم يكن له أصل فلما طلعت الشمس احترق ، ومنه وقع على الأرض فاختطفته الطيور ، ومنه وقع بين الشوك فلما طلع اختنق ، ومنه وقع في الأرض الطيبة فأخرج مائة وستين وثلاثين .
كان يسوع يقرب الأفكار المجردة بقصص واقعية تدب فيها الحياة ونحن نريد من بحثنا الحالي أن نسحب منه كل حيوية وحياة فلننتبه ؟!
ماينقص العالم اليوم ليس المزيد من كثافة المعلومات أن الكون رائع ومعقد وغامض ومبرمج وخلفه عقل مطلق ، ماينقصه حرارة الإيمان والتربية الروحية ، ماينقصه ليس العقلانية بل التصوف ، ليس بمعنى اغتيال العقل المنظم عند شيخ طريقة فمن قال لشيخه لا لم يفلح ، والمريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي المغسل ، والمريد بين الشيخين كالمرأة بين الرجلين ؟؟ لا ليس هذا ولكنه وثبة جديدة في الروح .... قد تقول من سيقوم بها ؟ كيف ؟ متى ؟ أين ؟ لسؤال أحوم حوله ولكن ليس عندي جواب على وجه الدقة عليه !! ولاحرج ... يسوع المسيح أراد أن يقول للتلاميذ في مثل الزارع الشيطان يخطف القلوب كالطير تأكل الحب ، والمحنة والاضطهاد تذهب بالإيمان السطحي ، ومن يتورط في وهم العالم وغرور الغنى سيختنق في شوك الحياة ، ومن يجد البيئة المناسبة سيعطي ثمراً رائعاً فلنتعلم من حكمة المسيح أين نلقي بذورنا ؟
يتبع
( بقلم خالص جلبي )
عاصر الفلكي المشهور ( سيمون لابلاس ) صاحب كتاب ( الأجرام السماوية ) نابليون وكان أول من اشار الى فكرة الثقوب السوداء في الكون حسب إفادة الفيزيائي الكوني ( ستيفن هوكنج ) صاحب الكتاب الشهير ( قصة قصيرة للزمن ) . سأله نابليون يوماً عن النظام السماوي أين مكان الله فيه ؟ كان جوابه إن النظام الكوني يشتغل كساعة عملاقة فلايحتاج لإله يقوم عليه ؟
هذا الضرب من الحوار يروي مأساة العلم والدين . الكون ساعة عملاقة والقوانين تمشي بانتظام أبدي ، والمادة خالدة ، والكون وجد منذ أبد الآبدين وسيبقى هكذا الى آخر الدهر .
ثلاث أسئلة محيرة واجهتني منذ الصغر أولها كانت من ابن عمي لي حينما قال لي أتحداك أنني سأموت خلال الأيام القادمة وكنت يومها مراهقاً ؟ فبدأت أفكر في جواب بدون جدوى ؟؟ وهو فعلاً مازال حياً يرزق حتى اليوم ؟! والسؤال الثاني عندما كنت طالباً ثانوياً فطرح أحد الطلبة الشيوعيين سؤالاً محرجاً على استاذ الديانة أنكم تقولون أن العمر محتم ولكن العلم استطاع أن يرفع متوسط عمر الانسان فما جواب الدين عليه ؟ حاول استاذ الديانة أن يرد ولكنه في الواقع كان يحاول إسكات الطالب أكثر من تقديم جواباً مقنعاً ؟!
والسؤال الثالث كان في الصف الأول الجامعي حينما سألني أحدهم هل يستطيع ربك أن يخلق حجراً لايستطيع حمله ؟ إن أجبت بنعم أو لا كان الهاً عاجزاً ؟!
حتى وصلت الى إجابات واضحة في مستويات الاسئلة الثلاث كان علي أن اسبر ثقافة جديدة وطرق من الفكر غير تقليدية . وهكذا كانت الأجوبة تتعلق بموت معلق على رؤوسنا لايستطيع أحد أن يحدد موعده ، علمه عند ربي لايجليه لوقته الا هو ، والعلم رفع متوسط العمر الاجتماعي وليس الفردي وحظوظ الانسان من عمر وعمل وصحة وتعليم مرتبطة بالمجتمع الذي يولد فيه الانسان أكثر من جهده الفردي فقد يعمر شخص في راوندا أكثر من اليابان كما قد يغنى شخص في مصر أكثر من ألمانيا ، ولكن الانسان الذي يولد في أفغانستان عليه أن يعاني الحرب الأهلية ، ومن يولد في البلاد العربية قد يحمل حقائبه يوماً مغادراً وطنه كما فعل فتية الكهف ، ومن يولد في الجزائر قد يضرب بالرصاص في أي لحظة من مسلح مجهول .
كما أن طرح الاسئلة الخاطئة يتطلب تصحيح صيغة السؤال قبل الإجابة عليها .
يروى عن فيلسوف أنه كان يمشي مع تلاميذه ثم غافلهم فأحضر حجراً معرضاً للشمس فقلبه فأصبح أعلاه بارداً وأسفله ساخناً ثم سأل التلاميذ كيف تعللون برودة سطح الحجر وسخونة قاعه أمام شمس مسلطة عليه ؟؟ احتار التلاميذ في الإجابة فلفت نظرهم الى عدم الإجابة على سؤال خاطيء بل بتصحيح طرح السؤال لذا كان السؤال الصحيح نصف إجابة ؟
في الواقع تمتعت بقراءة كتابة الدكتور الفاضل ( هاني رزق ) عن ( التطور الموجه) فشعرت أنني في عالم رحب من الفكر في بناء متماسك ، ودقة علمية مفرطة ، ومعلومات كثيفة حديثة من آخر ماأنتجته مطابخ الفكر ومراكز البحث العلمي . وأنا معه في كل الخطوط العريضة التي وصل إليها . الخالق المطلق والبرمجة الهادفة والجمال المسيطر والمبدأ الانساني والقيم الأخلاقية والحق في بناء الكون فلا عبثية.
مع هذا فعندي ثلاث ملاحظات حول ماكتب الدكتور الفاضل الأول في ماسماه بالعلم السيء ، والثاني في انهيار قوانين الفيزياء في حقبة الانفجار العظيم ، والثالث عن الإيمان العقلي .
ولكن قبل أن أبدأ بالأفكار الثلاثة يجب أن أقرر قضيتين أراهما على جانب كبير من الأهمية : الأولى عن محاولة تشريح الإيمان والعلم ، والثاني عن نقاط تقاطع الثقافات والأديان .
في الحوار الصاخب الذي تم بين الشيخ ( أحمد ديدات ) من جنوب أفريقيا والقس ( جيمس سواكرت ) في امريكا كان يحرص كل منهما على إثبات أن دين الآخر مزيف ؟؟ فأما سواكرت فقد بدأ الحفلة بهجومه على نظام تعدد الزوجات بأن المسيحي صياد ماهر فيحسن اختياره من أول الصيد محولاً بذلك المرأة الى فريسة تطارد لصائد بسهم وقوس في عودة الى عشرة آلاف سنة الى الخلف ، لينهي القس المذكور سمعته بعد سنوات مع فضيحة أخلاقية نشرتها مجلة الشبيجل الألمانية ، أما الشيخ ديدات فقد أقسم في المناظرة أنه سيدفع من جيبه كذا من الدولارات إن استطاع سواكرت أن يقرأ نصاً على وجه التحديد من التوراة ؟! ماكان من سواكرت الا أن تقدم وهو يقول أنتم ياأهل الخليج ومن تبعكم حري بنا أن نستفيد من بترودولاركم وتقدم فقرأ النص الذي تفوح منه رائحة جنسية ، وعندما طلب سواكرت من ديدات أن يسمح له أن يحاضر بحرية في بلد اسلامي متشدد كما سمح له بمطلق الحديث في أمريكا كان جواب ديدات عليه كل شيء الا الجواب ، فقال : كل بلد له فيزا دخول والبلد الذي سألت تأشيرة الدخول اليه هي الشهادتان فيجب أن تعلن اسلامك أولاً ثم تدخل ؟! قد يصلح الجواب كنكتة ولكنها في موضع الجد لاتثير سوى الكآبة .
كان الرجلان في سجال مايقرب من حفلات المصارعة الحرة في إثارة مواضيع قديمة بكلمات جديدة لاتنتهي الا حلول بل إلغاء كل حل ، في اشتباكات تزيد من تعقيد إشكاليات المواضيع القديمة ، ولم تأت الأديان بحال لهذا النوع من المناظرات ، ولاتسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم .
تقدم الفقهاء الى يسوع المسيح ومعهم زانية يدفعونها أمامهم وهو يشرح أفكاره لتلاميذ متحلقين حوله بخطوط يخطها على الأرض صرخوا باعلى صوتهم : يامعلم هذه زانية فتقدم فارجمها ؟ كانوا خبثاء يريدون إيقاعه في أمرين أحلاهما مر ؟ فإن قال بالرجم سقط في مصيدة مخالفة القوانين الرومانية بالتحريض على القتل ؟ وإن امتنع خالف الشريعة الموسوية فكان هرطيقاً ؟! تابع يسوع يخط على الأرض ثم التفت اليهم ببراءة ونطق بجملة من أجمل مانقله لنا التاريخ وأكثرها افحاما للخصم ؟ عندما زحزح موضع النقاش الى حقل مختلف ... من كان منكم بلا خطيئة فليتقدم فليرمها بحجر ؟! فانقشع عنه جمهور الفقهاء .. فالتفت الى الفتاة التي كان قدرها أن تعيش في مجتمع بلاضمانات ، لاتجد طريقة للعيش الا بالتكسب بجسمها : اذهبي فلاتخطئي ثانية ... إن القرآن يلتقي مع الانجيل كما لم لم يفعل سواجرت وديدات عندما اختصما ؛ فالقرآن اعتبر أن من يكره الفتيات على البغاء ذنبها مغفور وعقاب من يدفعها الى الفاحشة غير مغفور ( ولاتكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ) .
عندما أقسم القرآن بأربع بالتين والزيتون والطور والكعبة لم يخطر في بالنا معنى الإشارة الى شجرة التين ولكننا نعلم أن الإشارات الأخرى واضحة الدلالة على منابع ثلاث ديانات ولم يخطر في بالنا التجلي الروحي لبوذا تحت شجرة التين تحديداً .
كل الأديان والثقافات الكبرى والمصلحين والفلاسفة كانوا يلتقون في نقطتين لايختلفون عليها : التسامي بالانسان والعدل في المجتمع ، وبتعبير الانجيل السلام على الأرض وفي القلوب المسرة . ومانحتاج اليه اليوم هو البحث عن نقاط الالتقاء لبناء الانسانية وليس التفتيش عن عورات البعض ؛ فهذه نحملها جميعاً ، ومن كان بيته من زجاج لم يضرب الناس بالحجارة ، ومن كان بلاخطيئة فليكن أول رامي ؟ ولكن التحدي الأكبر للناس جميعاً هو حب الآخرين والتنافس في الخير .
ماهو الإيمان ؟ ماهو العلم ؟ وهل يمكن المزج بينهما ؟ لابد إذاً من تعريف كلهما وإن كان القرآن ذكر هذا المزيج مكرراً في موضعين : الأول عن قوة رفع الانسان في هذا المستحضر الجديد من مزيج العلم والإيمان ، والثاني عن إدراك هذه الطائفة التي تتحلى بالميزتين بهذا اليقين الراسخ لفكرة اليوم الآخر والبعث والنشور ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ـ وقال الذين أوتوا العلم الإيمان لقد لبثتم في كتاب الله الى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لاتعلمون ) .
أعجبني تعريف الدكتور ( محمد كامل حسين ) في كتابه ( وحدة المعرفة ) لفكرة تطابق النظام العقلي والكوني سنحاول الاعتماد عليها كفكرة تأسيسة : ( في الكون نظام وفي العقل نظام والمعرفة هي مطابقة النظامين . والنظامان من معدن واحد ، والمطابقة بينهما ممكنة لما فيهما من تشابه ، ولو لم يكونا متشابهين لاستحالت المعرفة ، ولولم تكن المطابقة بينهما ممكنة ماعلم أحد شيئاً ، وتشابه النظامين الكوني والعقلي ليس فرضاً يحتاج الى برهان بل هو جوهر إمكان المعرفة ، ومن أنكره فقد أنكر المعرفة كلها ، وهذا الإنكار خطأ يدل عليه ماحقق العقل من قدرة على التحكم في كثير من الأمور الطبيعية ، ولم نكن لنستطيع تحقيق شيء من ذلك لو أن النظامين كانا مختلفين ، ومهما تغيرت المعرفة ومذاهب التفكير وفهمنا للكون فإن الحقيقة التي تثبت ثبوتا قطعياً هو هذا التوافق بين نظام الكون ونظام العقل ) .
في الواقع إذا أردنا الدخول الى عالم الإيمان فلابد لنا من معرفة نظرة الكتب المقدسة وتعريفها لهذا المصطلح أما العلم فلابد لنا من معرفة كيف ينظر العلماء عموماً الى هذا المصطلح لتحديده وهل يمكن أن نخرج بعجينة من العينتين الإيمان والعلم ، أو وهو الأفضل هل يمكن كتابة معادلة رياضية كما في علاقة الطاقة بالمادة ، بحيث يمكن تحويل أحد الحدين الى الآخر ؛ فتصبح الطاقة تحولاً كمياً مذهلاً لكم محدود من المادة ، أو بالعكس تصبح المادة تكثفاً خرافياً للطاقة ؟
هل يمكن أن نرسم معادلة يتوحد فيها العلم الإيمان فيصبحان كلاهما وجهان لعملة واحدة أو طرفان لمعادلة مشتركة أو تجليان لحقيقة أساسية واحدة . لنرى ؟؟
الايمان حالة نفسية قبل أن يكون حسابات عقلية باردة تتحرك في مخططات لاتعرف الراحة ؛ فقد تمر علينا في اليوم الواحد لحظات من القنوط الكافر ، كما قد ننتعش بلحظات رائعة من الإيمان المحلق فهذه ميزة للإيمان .
عندما وصف ( مالك بن نبي ) في كتابه ( وجهة العالم الاسلامي ) أحد المصلحين الاجتماعيين أشار الى أنه : لم يكن يفسر القرآن تفسيرا على طريقة أهل الكلام والمنطق البارد ، بل كان يوحي بالآيات الى الضمائر التي يزلزل كيانها ، فلم يعد القرآن على شفتيه وثيقة باردة أو قانوناً محرراً ، وإنما كان انبثاقاً للكلام الالهي الحي ، ونور يأتي مباشرة من السماء فيضيء ويهدي ، ومنبعاً للطاقة يكهرب إرادة الجموع .
وكان يسوع في الانجيل يخاطب الجموع كمن له سلطان وليس كالكتبة والفريسيين وكان يكلمهم بأمثال قائلاً هوذا الزارع قد خرج ليزرع فبعضه سقط على الطريق واذ لم يكن له أصل فلما طلعت الشمس احترق ، ومنه وقع على الأرض فاختطفته الطيور ، ومنه وقع بين الشوك فلما طلع اختنق ، ومنه وقع في الأرض الطيبة فأخرج مائة وستين وثلاثين .
كان يسوع يقرب الأفكار المجردة بقصص واقعية تدب فيها الحياة ونحن نريد من بحثنا الحالي أن نسحب منه كل حيوية وحياة فلننتبه ؟!
ماينقص العالم اليوم ليس المزيد من كثافة المعلومات أن الكون رائع ومعقد وغامض ومبرمج وخلفه عقل مطلق ، ماينقصه حرارة الإيمان والتربية الروحية ، ماينقصه ليس العقلانية بل التصوف ، ليس بمعنى اغتيال العقل المنظم عند شيخ طريقة فمن قال لشيخه لا لم يفلح ، والمريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي المغسل ، والمريد بين الشيخين كالمرأة بين الرجلين ؟؟ لا ليس هذا ولكنه وثبة جديدة في الروح .... قد تقول من سيقوم بها ؟ كيف ؟ متى ؟ أين ؟ لسؤال أحوم حوله ولكن ليس عندي جواب على وجه الدقة عليه !! ولاحرج ... يسوع المسيح أراد أن يقول للتلاميذ في مثل الزارع الشيطان يخطف القلوب كالطير تأكل الحب ، والمحنة والاضطهاد تذهب بالإيمان السطحي ، ومن يتورط في وهم العالم وغرور الغنى سيختنق في شوك الحياة ، ومن يجد البيئة المناسبة سيعطي ثمراً رائعاً فلنتعلم من حكمة المسيح أين نلقي بذورنا ؟
يتبع
تعليق