السلام عليكم،
كلما دار الحديث عن التقية يحاول السلفيون إيها الناس من جمهور السنة أن التقية عقيدة إبتدعها الشيعة ولا علاقة لها بالإسلام، ويعتبرون أن التقية والكذب والنفاق هم شيئ واحد لا فرق بينهم ويجري عليهم نفس الحكم. لا أقول أن هذا الكلام الصادر منهم ينم عن جهل لأنهم يعلمون بما تحتويه كتبهم من روايات وأحاديث التي تؤكد أن النبي
كان يعمل بالتقية حتى مع أصحابه، فهل كان النبي
شيعيا مبتدعا كذابا حسب تصنيفكم للمسلمين على مسألة التقية؟
بعد القراءة بتأمل أنتظر تعليقاتكم ولكن بشيئ من المنطق والحكمة بعيدا عن التعصب المذهبي.
طبعا أنتظر مداخلات وتعليقات إخواني الشيعة أيضا.
شكرا لكم جميعا
1 - اخرج البخارى (ت/256ه ) من طريق قتيبه بن سعيد، عن عروه بن الزبير ان عائشه اخبرته ان رجلا استاذن فى الدخول الى منزل النبى، فقال: (ائذنوا له فبئس ابن العشيره، او بئس اخو العشيره، فلما دخل الان له الكلام. فقلت له: يا رسول اللّه!
قلت ما قلت ثم النت له فى القول؟! فقال: اى عائشه، ان شر الناس منزله عند اللّه من تركه او ودعه الناس اتقاء فحش).
وهذا الحديث صريح جدا بتقيه رسول اللّه من احد رعيته لفحشه، فكيف اذا لا تجوز تقيه من هو ليسبنبى من المسلم الظالم المتسلط الذى لا يقاس ظلمه مع ضرر كلامالفاحشالبذىء؟
2 - الحديث المشهور بين علماء المسلمين: (رفع اللّه من امتى الخطا، والنسيان، وما استكرهوا عليه).
وهذا الحديث يدل ايضا على مشروعيه التقيه، وان صاحبها لا يواخذ بشىء ما دام مكرها عليها، وقد مر فى كلام ابن العربى المالكى ماله علاقه بهذا الحديث ودلالته على التقيه فى تفسيره للايه الثانيه، فراجع.
3 - الحديث المروى عن ابن عمر (ت/65ه )، عن النبى انه قال: (المومن الذى يخالط الناس، ويصبر على اذاهم اعظم اجرا من المومن الذى لا يخالط الناس ولا يصبر على اذاهم). ولا تخفى ما فى مخالطه الناس من امور توجب المداراه، التى تدخل من هذا الباب فى حقل التقيه.
4 - اخرج الهيثمى (ت/807ه ) من طريق ابراهيم بن سعيد، عن النبى(ص)انهقال: (كيف انتم فى قوم مرجت عهودهم واماناتهم وصاروا حثاله؟ وشبك بين اصابعه. قالوا: كيف نصنع؟
قال: اصبروا وخالقوا الناس باخلاقهم، وخالفوهم باعمالهم).
ولعمرى، هل هناك اصرح من هذا بالتقيه؟ وكيف تكون مخالقه حثاله الناس باخلاقهم، ومخالفتهم فى اعمالهم من غير تقيه؟
5 - حديث ابن عمر عنالنبى انه قال: (لا ينبغى للمومن ان يذل نفسه، قال: قلت: يا رسول اللّه! كيف يذل نفسه؟ قال:
يتعرض من البلاء لما لا يطيق).
اقول: لقد طبق هذا الحديث من ادرك الحكم الاموى من الصحابه وما اكثرهم، بل وجميع التابعين، ذلك لان من الثابت الذى لا يرقى اليه الشك مطلقا، ان عليا(ع)قد لعنه الامويون على منابر المسلمين لعشرات من السنين، ولم يغير احد هذا المنكر لا من الصحابه ولا من التابعين، الا القليل الذى احتفظ التاريخ بمواقفهم وسجلها بكل اعزاز وتقدير، فقد ادرك الكل ان مثل هذا التغيير سيعرضهم الى ما لا يطيقون من البلاء، ولا اعلم موقفا اوضح منه فى التقيه.
6 - اخرج المحدثون عن على(ع) (ت/40ه ) وابن عباس (ت/68ه )، و معاذ ابن جبل (ت/18ه )، وعمر بن الخطاب (ت/23ه )، عن النبى، انه قال: (استعينوا على انجاح حوائجكم بالكتمان، فان كل ذى نعمه محسود).
اقول: لقد مرتفائده كتمان مومنآلفرعون ايمانه، حيثاستطاع -وبفضل كتمان ايمانه، وتظاهره بمظهر الناصح الشفيق على مصلحه فرعون وقومه - ان يثنى فرعون اللعين عما عزم عليه من جرم عظيم.
على ان هذا الحديث لا يعنى الامر بكتمان الحق والتظاهر بالباطل، ولا يحث على ذلك مطلقا، بل فيما يعنيه ان فى الكتمان فوائدا لا تتحقق بغيره، ولما كانت التقيه هى عباره عن كتمان ما ترى واظهار خلافه للحفاظ على النفس او العرض او المال، اذا اتضحت علاقه الحديث بالتقيه.
7 - حديث السيوطى، عن النبى قال: (بئس القوم قوم يمشى المومن فيهم بالتقيه والكتمان).
وهذا الحديث مويد بنصوص القرآن الكريم، وقد مر بعضها، حيث امتدح اللّه تعالى مومن آل فرعون، وذم فرعون وقومه.
كما وصف اهل الكهف بقوله تعالى: (انهم فتيه آمنوا بربهم وزدناهم هدى) ووصف قومهم بانهم: (ممن افترى على اللّه كذبا).
ولا يمكن والحال هذه تصور حياه اهل الكهف خاليه من التقيه، وهم بين ظهرانى قوم يفترون علىاللّه الكذب، مع عتو ملكهم دقيانوس (ت/385م) الذى جاس خلال الديار والبلاد بالعبث والفساد، وقتل من خالفه من المتمسكين بدين المسيح(ع)، وكانيتبعالناس فيخيرهم بين القتل وعباده الاوثان .
وقد اخرج المفسرون عن ابن عباس (ت/68ه )، وعطاء (ت/114ه )، ومجاهد (ت/103ه )، وعكرمه (ت/105ه )، وابن جريج (ت/150ه ) وغيرهم من ان عامه اهل بلدهم كانوا كفارا، وكان فيهم قوم يخفون ايمانهم على وجه التقيه، ومنهم اصحاب الكهف الذين كانوا من الاشراف على دين عيسى(ع)، وكانوا يعبدون اللّه سرا ويكتمون امرهم.
كل ذلك يويد صحه ما رواه السيوطى آنفا، ويفصح عن ان التقيه لا تكون من المومن ابدا، لان المومنين اخوه، والمومن مرآه المومن، وانما تكون من الانسان الظالم الذى لا يوتمن جانبه.
8 -ما رواه ابن العربى المالكى (ت/543ه ) فى احكام القرآن حول ارسال النبى جماعه من الصحابه لقتل كعب بن الاشرف الطائى فى السنه الثالثه من الهجره، وكان فيهم محمد بن مسلمه (ت/43ه )، وكيف ان ابن مسلمه واصحابه قد استاذنوا النبى فى ان ينالوا منه، فقالوا: (يارسول اللّه! اتاذن لنا ان ننال منك؟) فاذن لهم بذلك، وهكذا مكنهم اللّه تعالى على قتله بعد ان تظاهروالكعبتقيهوباذن النبىبانهم كرهوا دينه.
9 - الحديث المخرج فى كتب الطرفين، وهو من قوله: ( لا ضرر ولا ضرار) وفى لفظ آخر: (لا ضرر ولا ضرار فى الاسلام).
وهذه القاعده، اعنى: قاعده نفى الضرر، قد تفرعت منها قواعد كثيره، نص عليها ابن نجيم الحنفى (ت/970ه )، وقد ذكر فى كل منها مسائل شتى، ومنها المسائل المحتمل فيها وقوع الضرر، او المتيقن عند الاكراه، وسياتى كلامه فى الفصل الاخير عند الحديث عن التقيه فى فقه الاحناف.
10 - ما رواه الحسن البصرى (ت/110ه ) وايده عليه سائر المفسرين من ان عيونا لمسيلمه الكذاب (ت/12ه ) قد اخذوا رجلين من المسلمين فاتوه بهما، فقال لاحدهما: اتشهد ان محمدا رسول اللّه؟ قال: نعم. قال: اتشهد انى رسول اللّه، فابى ولم يشهد، فقتله. وقال مثل ذلك للثانى فشهد لمسيلمه الكذاب بما اراد، فاطلقه، فاتى النبى، واخبره بما جرى، فقال: (اما صاحبك فمضى على ايمانه، واما انت فاخذت بالرخصه).
11 - ما رواه ابن ماجه (ت/273ه ) فى قصه عمار بن ياسر (ت/37ه ) وامه سميه بنت خباط (ت/7ق. ه )، وصهيب (ت/38ه )، وبلال (ت/37ه ) والمقداد (ت/33ه ) قال: (فاخذهم المشركون والبسوهم ادراع الحديد وصهروهم فى الشمس فما منهم احد الا وقد واتاهم على ما ارادوا الا بلالا) وفى لفظ ابى عبيده بن محمد بن عمار بن ياسركما فى تفسير الطبرى (ت/310ه ): (اخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى باراهم فى بعض ما ارادوا، فشكا ذلك الى النبى، فقال النبى: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئنا بالايمان، قال النبى: فان عادوا فعد).
وفى لفظ الرازى (ت/606ه ) انه قيل بشان عمار: (يا رسول اللّه! ان عمارا كفر. فقال: كلا، ان عمارا ملىء ايمانا من فرقه الى قدمه، واختلط الايمان بلحمه ودمه، فاتى عمار رسول اللّه( وهو يبكى، فجعل رسول اللّه( يمسح عينيه ويقول: مالك؟ ان عادوا لك، فعد لهم بما قلت).
12 - وما يستدل به على التقيه فى هذا الباب ما اتفق عليه جميع المسلمين وبلا استثناء من انه كان يدعو الناس سرا الى الاسلام فى اول الامر، اشفاقا منه على هذا الدين العظيم حتى لا يخنق فى مهده، وتباد انصاره.
فالدعوه الى الاسلام قد بدات اذا من دائره التقيه، حيث اتفق علماء السيره، والمورخون، والمفسرون وغيرهم على القول بان رسول اللّه(ص)لم يجهر بالدعوه الى الاسلام الا بعد ثلاث سنين من نزول الوحى.
ولو كانت التقيه غير مشروعه، لكونها مثلا من الكذب والنفاق والخداع، او انها معارضه لعقيده الامر بالمعروف والنهى عن المنكر، لما مرت الدعوه الى هذا الدين الحنيف بهذا العمر من التستر والكتمان.
وقد مر عن ابن قتيبه (ت/276ه ) فى المسائل والاجوبه فى مناقشتنا لقول السرخسى فى تقيه النبى(ص)فى الايه الثانيه ما له علاقه بالمقام، فراجع.
وان دل هذا على شىء انما يدل على ضروره ملازمه التقيه لكل دعوه اصلاح، حتى لا يذاعامرها،وتخنقفىمهدها، ومما يشهد على صحه هذا القول هو ما ينادى به الاسلاميونفى الساحه الاسلاميه من ضروره تطبيق احكام الشرع الاسلامى، ولا شك ان تحركاتهم تلك لا بد وان تكون قد مرت بدور التقيه والكتمان، اذ لا يعقل ظهورها وبهذا الحجمالذى ارعب الكثير من الدوائر الاستعماريه كان فجاه وبلا استعداد وتنظيم.
13 - اخرج البخارى من طريق عبدالوهاب، عن ابى مليكه قال: (ان النبى( اهديت له اقبيه من ديباج مزرره بالذهب، فقسمها فى ناس من اصحابه، وعزل منها واحدا لمخرمه، فلما جاء، قال: خبات هذا لك.
قال ايوب احد رجال اسناد البخارى بثوبه انه يريد اياه، وكان فى خلقه شىء).
قال محمد بن يوسف الكرمانى (ت/786ه ) فى شرح صحيح البخارى: (ايوب بثوبه: اى: ملتبسا به، حالا عن لفظ خبات، يعنى: قال رسولاللّه(: خبات هذا الذهب لك، وكان ملتصقا بالثوب، وان رسول اللّه( كان يرى مخرمه ازاره، ليطيب قلبه به، لانه كان فى خلق مخرمه نوع من الشكاسه.
ولفظ: (قال بثوبه) معناه: اشار ايوب الى ثوبه ليستحضر فعل النبى( للحاضرين، قائلا: انه يرى مخرمه الازار).
اقول: ربما يقال ان الحديث ليس فيه ما يدل على تقيه النبى من مخرمه، لانه لم يظهر لمخرمه الا الواقع، فاين التقيه فى هذا الحديث؟
والجواب: ان فى هذا الحديث مداراه واضحه، والمداراه تدخل فى باب التقيه، بل لا فرق بينهما كما يظهر من كلام السرخسى فى حذيفه بن اليمان على ما سياتى فىموقف الصحابه من التقيه فى الفصل الثانى.
14 - واخرج البخارى ايضا من طريق عبداللّه بن مسيلمه، عن عبداللّه بن عمر، عن عائشه قالت: (ان رسول اللّه( قال لها: الم ترى قومك لما بنوا الكعبه اقتصروا على قواعد ابراهيم؟ فقلت: يا رسول اللّه! الا تردها على قواعد ابراهيم؟ قال: لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت). ولقد اعاد البخارى روايه الحديث بصيغ اخرى ايضا.
واخرج ابن ماجه (ت/273) من طريق ابن ابى شيبه، عن الاسود بن يزيد، عن عائشه قالت: (سالت رسول اللّه( عن الحجر؟ فقال: هو من البيت. قلت: ما منعهم ان يدخلوه فيه؟ قال: عجزت بهم النفقه. قلت: فما شان بابه مرتفعا، لا يصعد اليه الا بسلم؟ قال: ذلك فعل قومك، ليدخلوه من شاءوا ويمنعوه من شاءوا، ولولا ان قومك حديث عهد بكفر مخافه ان تنفر قلوبهم، لنظرت هل اغيره فادخل فيه ما انتقص منه، وجعلت بابه بالارض).
وهذا الحديث قد اخرجه البخارى بلفظه من طريق مسدد، عن الاسود بن يزيد، عن عائشه، كما اخرجه مسلم (ت/261ه ) فى صحيحه من طريقين كلاهما عن الاسود بن يزيد، عن عائشه، واخرجه الترمذى (ت/297ه ) كذلك وقال: (هذا حديث حسن صحيح).
وفى لفظ الامام احمد بن حنبل (ت/240ه ): (لولا ان قومك حديث عهد بشرك او بجاهليه لهدمت الكعبه، فالزقتها بالارض، وجعلت لها بابين: بابا شرقيا، وبابا غربيا، وزدت فيها من الحجر سته اذرع، فان قريشا اقتصرتها حين بنت الكعبه).
وقريب من هذا اللفظ ما اخرجه البخارى من طريق عبيد بن اسماعيل، عن هشام، عن ابيه، عن عائشه، ومن طريق سنان بن عمرو، عن عروه، عن عائشه. وبعد...اليس فى هذه الاحاديث دلاله صريحه على ان رسول اللّه(ص)كان يتقى القوم مخافه ان تنفر قلوبهم، لحداثه عهدهم بالكفر، وقربه من الشرك والجاهليه؟
كلما دار الحديث عن التقية يحاول السلفيون إيها الناس من جمهور السنة أن التقية عقيدة إبتدعها الشيعة ولا علاقة لها بالإسلام، ويعتبرون أن التقية والكذب والنفاق هم شيئ واحد لا فرق بينهم ويجري عليهم نفس الحكم. لا أقول أن هذا الكلام الصادر منهم ينم عن جهل لأنهم يعلمون بما تحتويه كتبهم من روايات وأحاديث التي تؤكد أن النبي


بعد القراءة بتأمل أنتظر تعليقاتكم ولكن بشيئ من المنطق والحكمة بعيدا عن التعصب المذهبي.
طبعا أنتظر مداخلات وتعليقات إخواني الشيعة أيضا.
شكرا لكم جميعا
1 - اخرج البخارى (ت/256ه ) من طريق قتيبه بن سعيد، عن عروه بن الزبير ان عائشه اخبرته ان رجلا استاذن فى الدخول الى منزل النبى، فقال: (ائذنوا له فبئس ابن العشيره، او بئس اخو العشيره، فلما دخل الان له الكلام. فقلت له: يا رسول اللّه!
قلت ما قلت ثم النت له فى القول؟! فقال: اى عائشه، ان شر الناس منزله عند اللّه من تركه او ودعه الناس اتقاء فحش).
وهذا الحديث صريح جدا بتقيه رسول اللّه من احد رعيته لفحشه، فكيف اذا لا تجوز تقيه من هو ليسبنبى من المسلم الظالم المتسلط الذى لا يقاس ظلمه مع ضرر كلامالفاحشالبذىء؟
2 - الحديث المشهور بين علماء المسلمين: (رفع اللّه من امتى الخطا، والنسيان، وما استكرهوا عليه).
وهذا الحديث يدل ايضا على مشروعيه التقيه، وان صاحبها لا يواخذ بشىء ما دام مكرها عليها، وقد مر فى كلام ابن العربى المالكى ماله علاقه بهذا الحديث ودلالته على التقيه فى تفسيره للايه الثانيه، فراجع.
3 - الحديث المروى عن ابن عمر (ت/65ه )، عن النبى انه قال: (المومن الذى يخالط الناس، ويصبر على اذاهم اعظم اجرا من المومن الذى لا يخالط الناس ولا يصبر على اذاهم). ولا تخفى ما فى مخالطه الناس من امور توجب المداراه، التى تدخل من هذا الباب فى حقل التقيه.
4 - اخرج الهيثمى (ت/807ه ) من طريق ابراهيم بن سعيد، عن النبى(ص)انهقال: (كيف انتم فى قوم مرجت عهودهم واماناتهم وصاروا حثاله؟ وشبك بين اصابعه. قالوا: كيف نصنع؟
قال: اصبروا وخالقوا الناس باخلاقهم، وخالفوهم باعمالهم).
ولعمرى، هل هناك اصرح من هذا بالتقيه؟ وكيف تكون مخالقه حثاله الناس باخلاقهم، ومخالفتهم فى اعمالهم من غير تقيه؟
5 - حديث ابن عمر عنالنبى انه قال: (لا ينبغى للمومن ان يذل نفسه، قال: قلت: يا رسول اللّه! كيف يذل نفسه؟ قال:
يتعرض من البلاء لما لا يطيق).
اقول: لقد طبق هذا الحديث من ادرك الحكم الاموى من الصحابه وما اكثرهم، بل وجميع التابعين، ذلك لان من الثابت الذى لا يرقى اليه الشك مطلقا، ان عليا(ع)قد لعنه الامويون على منابر المسلمين لعشرات من السنين، ولم يغير احد هذا المنكر لا من الصحابه ولا من التابعين، الا القليل الذى احتفظ التاريخ بمواقفهم وسجلها بكل اعزاز وتقدير، فقد ادرك الكل ان مثل هذا التغيير سيعرضهم الى ما لا يطيقون من البلاء، ولا اعلم موقفا اوضح منه فى التقيه.
6 - اخرج المحدثون عن على(ع) (ت/40ه ) وابن عباس (ت/68ه )، و معاذ ابن جبل (ت/18ه )، وعمر بن الخطاب (ت/23ه )، عن النبى، انه قال: (استعينوا على انجاح حوائجكم بالكتمان، فان كل ذى نعمه محسود).
اقول: لقد مرتفائده كتمان مومنآلفرعون ايمانه، حيثاستطاع -وبفضل كتمان ايمانه، وتظاهره بمظهر الناصح الشفيق على مصلحه فرعون وقومه - ان يثنى فرعون اللعين عما عزم عليه من جرم عظيم.
على ان هذا الحديث لا يعنى الامر بكتمان الحق والتظاهر بالباطل، ولا يحث على ذلك مطلقا، بل فيما يعنيه ان فى الكتمان فوائدا لا تتحقق بغيره، ولما كانت التقيه هى عباره عن كتمان ما ترى واظهار خلافه للحفاظ على النفس او العرض او المال، اذا اتضحت علاقه الحديث بالتقيه.
7 - حديث السيوطى، عن النبى قال: (بئس القوم قوم يمشى المومن فيهم بالتقيه والكتمان).
وهذا الحديث مويد بنصوص القرآن الكريم، وقد مر بعضها، حيث امتدح اللّه تعالى مومن آل فرعون، وذم فرعون وقومه.
كما وصف اهل الكهف بقوله تعالى: (انهم فتيه آمنوا بربهم وزدناهم هدى) ووصف قومهم بانهم: (ممن افترى على اللّه كذبا).
ولا يمكن والحال هذه تصور حياه اهل الكهف خاليه من التقيه، وهم بين ظهرانى قوم يفترون علىاللّه الكذب، مع عتو ملكهم دقيانوس (ت/385م) الذى جاس خلال الديار والبلاد بالعبث والفساد، وقتل من خالفه من المتمسكين بدين المسيح(ع)، وكانيتبعالناس فيخيرهم بين القتل وعباده الاوثان .
وقد اخرج المفسرون عن ابن عباس (ت/68ه )، وعطاء (ت/114ه )، ومجاهد (ت/103ه )، وعكرمه (ت/105ه )، وابن جريج (ت/150ه ) وغيرهم من ان عامه اهل بلدهم كانوا كفارا، وكان فيهم قوم يخفون ايمانهم على وجه التقيه، ومنهم اصحاب الكهف الذين كانوا من الاشراف على دين عيسى(ع)، وكانوا يعبدون اللّه سرا ويكتمون امرهم.
كل ذلك يويد صحه ما رواه السيوطى آنفا، ويفصح عن ان التقيه لا تكون من المومن ابدا، لان المومنين اخوه، والمومن مرآه المومن، وانما تكون من الانسان الظالم الذى لا يوتمن جانبه.
8 -ما رواه ابن العربى المالكى (ت/543ه ) فى احكام القرآن حول ارسال النبى جماعه من الصحابه لقتل كعب بن الاشرف الطائى فى السنه الثالثه من الهجره، وكان فيهم محمد بن مسلمه (ت/43ه )، وكيف ان ابن مسلمه واصحابه قد استاذنوا النبى فى ان ينالوا منه، فقالوا: (يارسول اللّه! اتاذن لنا ان ننال منك؟) فاذن لهم بذلك، وهكذا مكنهم اللّه تعالى على قتله بعد ان تظاهروالكعبتقيهوباذن النبىبانهم كرهوا دينه.
9 - الحديث المخرج فى كتب الطرفين، وهو من قوله: ( لا ضرر ولا ضرار) وفى لفظ آخر: (لا ضرر ولا ضرار فى الاسلام).
وهذه القاعده، اعنى: قاعده نفى الضرر، قد تفرعت منها قواعد كثيره، نص عليها ابن نجيم الحنفى (ت/970ه )، وقد ذكر فى كل منها مسائل شتى، ومنها المسائل المحتمل فيها وقوع الضرر، او المتيقن عند الاكراه، وسياتى كلامه فى الفصل الاخير عند الحديث عن التقيه فى فقه الاحناف.
10 - ما رواه الحسن البصرى (ت/110ه ) وايده عليه سائر المفسرين من ان عيونا لمسيلمه الكذاب (ت/12ه ) قد اخذوا رجلين من المسلمين فاتوه بهما، فقال لاحدهما: اتشهد ان محمدا رسول اللّه؟ قال: نعم. قال: اتشهد انى رسول اللّه، فابى ولم يشهد، فقتله. وقال مثل ذلك للثانى فشهد لمسيلمه الكذاب بما اراد، فاطلقه، فاتى النبى، واخبره بما جرى، فقال: (اما صاحبك فمضى على ايمانه، واما انت فاخذت بالرخصه).
11 - ما رواه ابن ماجه (ت/273ه ) فى قصه عمار بن ياسر (ت/37ه ) وامه سميه بنت خباط (ت/7ق. ه )، وصهيب (ت/38ه )، وبلال (ت/37ه ) والمقداد (ت/33ه ) قال: (فاخذهم المشركون والبسوهم ادراع الحديد وصهروهم فى الشمس فما منهم احد الا وقد واتاهم على ما ارادوا الا بلالا) وفى لفظ ابى عبيده بن محمد بن عمار بن ياسركما فى تفسير الطبرى (ت/310ه ): (اخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى باراهم فى بعض ما ارادوا، فشكا ذلك الى النبى، فقال النبى: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئنا بالايمان، قال النبى: فان عادوا فعد).
وفى لفظ الرازى (ت/606ه ) انه قيل بشان عمار: (يا رسول اللّه! ان عمارا كفر. فقال: كلا، ان عمارا ملىء ايمانا من فرقه الى قدمه، واختلط الايمان بلحمه ودمه، فاتى عمار رسول اللّه( وهو يبكى، فجعل رسول اللّه( يمسح عينيه ويقول: مالك؟ ان عادوا لك، فعد لهم بما قلت).
12 - وما يستدل به على التقيه فى هذا الباب ما اتفق عليه جميع المسلمين وبلا استثناء من انه كان يدعو الناس سرا الى الاسلام فى اول الامر، اشفاقا منه على هذا الدين العظيم حتى لا يخنق فى مهده، وتباد انصاره.
فالدعوه الى الاسلام قد بدات اذا من دائره التقيه، حيث اتفق علماء السيره، والمورخون، والمفسرون وغيرهم على القول بان رسول اللّه(ص)لم يجهر بالدعوه الى الاسلام الا بعد ثلاث سنين من نزول الوحى.
ولو كانت التقيه غير مشروعه، لكونها مثلا من الكذب والنفاق والخداع، او انها معارضه لعقيده الامر بالمعروف والنهى عن المنكر، لما مرت الدعوه الى هذا الدين الحنيف بهذا العمر من التستر والكتمان.
وقد مر عن ابن قتيبه (ت/276ه ) فى المسائل والاجوبه فى مناقشتنا لقول السرخسى فى تقيه النبى(ص)فى الايه الثانيه ما له علاقه بالمقام، فراجع.
وان دل هذا على شىء انما يدل على ضروره ملازمه التقيه لكل دعوه اصلاح، حتى لا يذاعامرها،وتخنقفىمهدها، ومما يشهد على صحه هذا القول هو ما ينادى به الاسلاميونفى الساحه الاسلاميه من ضروره تطبيق احكام الشرع الاسلامى، ولا شك ان تحركاتهم تلك لا بد وان تكون قد مرت بدور التقيه والكتمان، اذ لا يعقل ظهورها وبهذا الحجمالذى ارعب الكثير من الدوائر الاستعماريه كان فجاه وبلا استعداد وتنظيم.
13 - اخرج البخارى من طريق عبدالوهاب، عن ابى مليكه قال: (ان النبى( اهديت له اقبيه من ديباج مزرره بالذهب، فقسمها فى ناس من اصحابه، وعزل منها واحدا لمخرمه، فلما جاء، قال: خبات هذا لك.
قال ايوب احد رجال اسناد البخارى بثوبه انه يريد اياه، وكان فى خلقه شىء).
قال محمد بن يوسف الكرمانى (ت/786ه ) فى شرح صحيح البخارى: (ايوب بثوبه: اى: ملتبسا به، حالا عن لفظ خبات، يعنى: قال رسولاللّه(: خبات هذا الذهب لك، وكان ملتصقا بالثوب، وان رسول اللّه( كان يرى مخرمه ازاره، ليطيب قلبه به، لانه كان فى خلق مخرمه نوع من الشكاسه.
ولفظ: (قال بثوبه) معناه: اشار ايوب الى ثوبه ليستحضر فعل النبى( للحاضرين، قائلا: انه يرى مخرمه الازار).
اقول: ربما يقال ان الحديث ليس فيه ما يدل على تقيه النبى من مخرمه، لانه لم يظهر لمخرمه الا الواقع، فاين التقيه فى هذا الحديث؟
والجواب: ان فى هذا الحديث مداراه واضحه، والمداراه تدخل فى باب التقيه، بل لا فرق بينهما كما يظهر من كلام السرخسى فى حذيفه بن اليمان على ما سياتى فىموقف الصحابه من التقيه فى الفصل الثانى.
14 - واخرج البخارى ايضا من طريق عبداللّه بن مسيلمه، عن عبداللّه بن عمر، عن عائشه قالت: (ان رسول اللّه( قال لها: الم ترى قومك لما بنوا الكعبه اقتصروا على قواعد ابراهيم؟ فقلت: يا رسول اللّه! الا تردها على قواعد ابراهيم؟ قال: لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت). ولقد اعاد البخارى روايه الحديث بصيغ اخرى ايضا.
واخرج ابن ماجه (ت/273) من طريق ابن ابى شيبه، عن الاسود بن يزيد، عن عائشه قالت: (سالت رسول اللّه( عن الحجر؟ فقال: هو من البيت. قلت: ما منعهم ان يدخلوه فيه؟ قال: عجزت بهم النفقه. قلت: فما شان بابه مرتفعا، لا يصعد اليه الا بسلم؟ قال: ذلك فعل قومك، ليدخلوه من شاءوا ويمنعوه من شاءوا، ولولا ان قومك حديث عهد بكفر مخافه ان تنفر قلوبهم، لنظرت هل اغيره فادخل فيه ما انتقص منه، وجعلت بابه بالارض).
وهذا الحديث قد اخرجه البخارى بلفظه من طريق مسدد، عن الاسود بن يزيد، عن عائشه، كما اخرجه مسلم (ت/261ه ) فى صحيحه من طريقين كلاهما عن الاسود بن يزيد، عن عائشه، واخرجه الترمذى (ت/297ه ) كذلك وقال: (هذا حديث حسن صحيح).
وفى لفظ الامام احمد بن حنبل (ت/240ه ): (لولا ان قومك حديث عهد بشرك او بجاهليه لهدمت الكعبه، فالزقتها بالارض، وجعلت لها بابين: بابا شرقيا، وبابا غربيا، وزدت فيها من الحجر سته اذرع، فان قريشا اقتصرتها حين بنت الكعبه).
وقريب من هذا اللفظ ما اخرجه البخارى من طريق عبيد بن اسماعيل، عن هشام، عن ابيه، عن عائشه، ومن طريق سنان بن عمرو، عن عروه، عن عائشه. وبعد...اليس فى هذه الاحاديث دلاله صريحه على ان رسول اللّه(ص)كان يتقى القوم مخافه ان تنفر قلوبهم، لحداثه عهدهم بالكفر، وقربه من الشرك والجاهليه؟
تعليق