بسم الله الرحمن الرحيم
بسم اللّه الرحمن الرحيم
وجيزة حول المباهلة
قال اللّه سبحانه: ﴿ الحَقُّ مِن رَبِّكَ فَلا تَكُن مِنَ المُمتَرين ٭ فَمَن حاجَّكَ فيهِ مِن بَعدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلمِ فَقُل تَعالَوا نَدعُ اَبناءَنا واَبناءَكُم ونِساءَنا ونِساءَكُم واَنفُسَنا واَنفُسَكُم ثُمَّ نَبتَهِل فَنَجعَل لَعنَتَ اللّهِ عَلَي الكذِبين﴾.[1]
من المعلوم الثابت أنّ رسول اللّهصلي الله عليه و آله و سلم خرج لمباهلة النصاري بعلي وفاطمة و الحسنين(عليهماالسلام) بأمر اللّه تعالي حين حاجّه النصاري في عيسي، وشأن نزول الآية المذكورة ذلك[2]، لكن مصبّ الكلام في هذه المقالة أمر آخر، وهو أنّه هل تجوز المباهلة في غير قضية عيسي(عليهالسلام) أم لا؟ وأنّه هل تجوز للإمام المعصوم(عليهالسلام) أم لا؟ وهل تجوز لغير المعصوم من المؤمنين أم لا؟ وهل يجوز تكرارها أم لا؟ فهنا اُمور يبحث عنها:
الأمر الأوّل: الحقّ فيه جواز المباهلة في غير قضية عيسي(عليهالسلام) أيضاً، إذ الظاهر من الآية الإطلاق، فضمير ﴿فيه﴾ يرجع إلي الحقّ الشامل لغير تلك القصة من الحقائق القرآنية، ويُؤيد هذا الرجوع بعض النصوص الواردة في ذيل الآية.[3] وعلي فرض رجوعه إلي ﴿مَثَل عيسي﴾ المذكور في الآية السابقة يجوز التعدّي عنه بالملاك؛ لأنّ مَثَله(عليهالسلام) تمثيل لما تصحّ فيه المباهلة لاأنّه تعيين له، فلاحصر لها في قصّة عيسي(عليهالسلام).
الأمر الثاني: الحقّ فيه التعميم أيضاً إلاّ فيما قام النصّ علي الاختصاص بالنبيّ، والمفروض فقده إذ لادليل في الآية علي الحصر ولميشهد عليه شاهد من خارج، فالإمام المعصوم الذي يكون علي بيّنةٍ من ربّه له أن يباهل من شاء وفيما أراد. هذا مضافاً إلي أنّه عالم بحكمه وغنيّ عن فتيا غيره، حيث إنّه عالم من ناحية النبيّصلي الله عليه و آله و سلم بجميع ما له وعليه من الحقّ والتكليف. وأمّا ما روي عن أبيجعفر الأحول قال: قال أبوعبداللّه(عليهالسلام): «ما تقول قريش في الخُمس؟ قال: قلت: تزعم أنّه لها، قال(عليهالسلام): ما أنصفونا واللّه، لو كان مباهلة ليباهلنّ بنا ولئن كان مبارزةً ليبارزنّ بنا ثمّ نكون وهم علي سواء؟!» [4]، بعد الغضّ عن السند، فنطاقه أنّ أهلالبيت(عليهمالسلام) يُباهل بهم لاأنّهم يباهلون رأساً، كما أنّ قصّة المباهلة أيضاً كانت كذلك، حيث إنّ رسول اللّه باهل بهم لاأنّهم(عليهمالسلام) بادروا رأساً بها. نعم إنّ الولاية الإلهية المصحوبة بالعصمة المانعة عن الاقتحام بما لاحجّة هناك كافية للبهال وكافلة للابتهال، ولاتمايز من هذه الجهة بين النبيصلي الله عليه و آله و سلم والإمام(عليهالسلام) وإن كان للنبيّصلي الله عليه و آله و سلم ميزة عليه أي علي الإمامعليهماآلافالصلاة والسلام.
الأمر الثالث: الحق فيه أيضاً التعميم. ويتضح بمقدّمة وهي: أنّ البِهال ليس احتجاجاً علمياً بَحْتاً ليكون جائزاً لكل مؤمن قام البرهان القطعي لديه وقدر علي أنيقيمه عند الخصام، وليس هو جهاداً عملياً صرفاً ليصحّ لكلّ من شري نفسه ابتغاء مرضاة اللّه إذ لاضير في شهادته؛ لأنّ المجاهد المحقّ قديُقْتَل في سبيل اللّه كما أنّه قد يَقْتل، قال اللّه سبحانه: ﴿ اِنَّ اللّهَ اشتَري مِنَ المُؤمِنينَ اَنفُسَهُم واَمولَهُم بِاَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقتِلونَ في سَبيلِ اللّهِ فَيَقتُلونَ ويُقتَلونَ وَعدًا عَلَيهِ حَقًّا فِي التَّورةِ والاِنجيلِ والقُرءانِ ومَن اَوفي بِعَهدِهِ مِنَ اللّهِ فَاستَبشِروا بِبَيعِكُمُ الَّذي بايَعتُم بِهِ وذلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظيم﴾ [5] بل المباهلة محاربة بالدعاء، ودعوي الهية لميُعْهَد مثلها قبل الإسلام حسبما ادّعاه سيّد مشائخنا رضيالدين عليبن موسيبن جعفربن طاووس(قدسسرّه)[6]: وكان أوّل مقامٍ فتح اللّه جلّجلاله فيه باب المباهلة الفاصلة في هذه الملة الفاضلة عند جحود حججه وبيّناته[7]، وكان أبلغ في تصديق صاحب النبوّة والرسالة من التحدي بالقرآن وأظهر في الدلالة لأنّ الذين تحدّاهمصلي الله عليه و آله و سلم بالقرآن قالوا: ﴿لَو نَشاءُ لَقُلنا مِثلَ هذا﴾ [8] وإن كان قولهم في مقام البهتان، ويوم المباهلة فما أقدموا علي دعوي الجحود؛ للعجز عن مباهلته؛ لظهور حجّته وعلاماته.[9]
فعند اتّضاح شأن البِهال وعلوّ شَأوِه فمن أين يصحّ لكلّ مؤمنٍ قاطعٍ بالحق ما لم يكن علي بيّنةٍ من ربّه أنّه سبحانه يجيب دعوته ويلبّي ابتهاله بتدمير العنود وإهلاك العدو اللدود أن يباهله؛ إذ يمكن أن لاتستجاب دعوته، فمن اقترح المباهلة ولم يستجب دعاؤه يرجع خاسراً وحسيراً خائباً، فيتخيّل الخصم اللجوج أنّ الإسلام ضعيف حصيد هشيمٍ تذروه الرياح يميناً وشمالاً وتلعب به الأهواء وتلفظه الأفواه وتحطمه الأرجل فيتخذه هزواً، مع أنّه نور لاظلام فيه وحياة لاموت له.
فلابدّ لمن يقتحم البِهال أن يقوم علي أساسٍ رصين وبنيانٍ مرصوص ويعتصم بعروةٍ وثقي لاانفصام لها، وهي الحجّة البالغة المجوّزة للبِهال المرخّصة فيه المُرغّبة إليه من كان علي بيّنةٍ من ربّه في معتقده، وتلك الحجّة الساطعة هي النصوص التي بعضها صحيح[10] وبعضها حسن[11] وإن كان بعضها ضعيفاً أو موقوفاًأو مرسلاً[12]، وروي هاتيك النصوص مشائخنا الثقات في جوامعهم ومجامعهم، ولنكتف بما رواه ثقةالإسلام الكليني(قدسسرّه) في جامعِه الكافي.
منها: ما رواه عن عليبن إبراهيم عن أبيه عن ابنأبيعمير، عن محمدبن حكيم، عن أبيمسروق، عن أبيعبداللّه(عليهالسلام) قال: قلت: إنّا نكلّم النّاس فنحتجّ عليهم بقول اللّهعزّوجلّ ﴿اَطيعُوا اللّهَ واَطيعُوا الرَّسولَ واُولِي الاَمرِ مِنكُم﴾ [13]، فيقولون: نزلت في أُمراء السرايا، فنحتجّ عليهم بقولهعزّوجلّ: ﴿اِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ ورَسولُهُ... ﴾ [14] الي آخر الآية فيقولون: نزلت في المؤمنين، ونحتجّ عليهم بقول اللّهعزّوجلّ: ﴿قُل لااَسَلُكُم عَلَيهِ اَجرًا اِلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُربي﴾ [15]، فيقولون: نزلت في قربي المسلمين، قال: فلم أدَع شيئاً ممّا حضرني ذكره من هذه وشبهه إلاّ ذكرته. فقال لي: «إذا كان ذلك فادعهم إلي المباهلة. قلت: وكيف أصنع؟ قال: أصلح نفسك ثلاثاً وأظنّه قال: وصم واغتسل وابرز أنت وهو إلي الجبّان، فشبّك أصابعك من يدك اليمني في أصابعه، ثمّ انصفه وابدأ بنفسك وقل: اللّهمّ ربّ السموات السبع وربّ الأرضين السبع، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، إن كان أبومسروق جحد حقّاً وادّعي باطلاً فأنزلْ عليه حُسباناً من السماء أو عذاباً أليماً، ثمّ ردّ الدَّعوة عليه فقل: وإن كان فلان جحَدَ حقّاً وادّعي باطلاً فأنزل عليه حسباناً من السماء أو عذاباً أليماً. ثمّ قال لي: فإنّك لاتلبث أن تري ذلك فيه»، فواللّه ما وجدتُ خَلقاً يجيبني إليه.[16]
يستفاد من هذا الحديث المعتبر أمور نشير إلي نبذةٍ منها:
أحدها: وهو الهامّ هنا جواز البِهال لغير المعصوم(عليهالسلام) لأنّه دفاع عن حرم الحق وذبّ عن حماه وحريمه بسلاح الضراعة. والمراد من الجواز هنا هو معناه العام المجتمع مع الندب تارةً ومع الوجوب أُخري؛ وذلك لاختلاف موارد الافتقار إلي إثبات الحقّ وإزاحة الباطل.
وثانيها: مورد المباهلة هو أمر ثبت أنّه ممّا جاء به النبيصلي الله عليه و آله و سلم وذكره الكتاب وصَدّقته العترة أي كان ممّا نطق به الثَقَلان، لا كلّ أمر انتهي إليه اجتهاد أيّ متفكّرٍ ديني يعارضه آراء متضاربة وأفكار متشاجرة أُخَر، وإلاّ لأصبح مبذولاً لكلّ من يحسب أنّه يُحسن صنعاً.
وثالثها: انّ البِهال عمل له كيفية خاصّة دخيلة في أصل قوامه أو في كماله، ولذا قال السائل: كيف أصنع؟
ورابعها: لزوم إصلاح النفس وتهذيبها ثلاثةأيام ولياليها لاخصوص الأيام أو الليالي، ولمثل هذه الثلاثة خصوصية تشاهد في أقلّ الاعتكاف.
وخامسها: صوم ثلاثة أيام حسب ما ظنّه الراوي حيث قال: وأظنّه قال: وصم، أي صم ثلاثةأيام كما في صوم الحاجة والاستسقاء وغير ذلك. وهذا الصوم أي صوم المباهلة هو غير صوم يوم المباهلة أي اليوم الرابعوالعشرين الذي قيل فيه: إنّه لادليل علي ندبه بالخصوص، بل رجحانه بعنوان شكر غلبة دعوي النبوة من ناحيةٍ وشكر نزول آية الولاية في حق عليبن أبيطالب أميرالمؤمنين(عليهالسلام) من ناحيةٍ أُخري.
وسادسها: الاغتسال في اليوم الثالث قبل الخروج إلي البِهال. وهذا غسل المباهلة وهو غير غسل يوم المباهلة سواء تحقق هناك بِهال أم لا، كما تقدّم في الصوم آنفاً. إلي غير ذلك من الآداب والسنن كالخروج إلي الجبّان في الصحراء وتشبيك الأصابع ورعاية النصفة بالابتداء في الدعاء علي نفسه.
وسابعها: استيلاء الرعب علي العنود اللدود حيث فرّ من البِهال كفرار الحُمُر المستنْفرة من القسْورة، كما قال: فواللّه ما وجدت خلقاً يجيبني إليه. والقائل هو أبومسروق السائل الراوي، ويحتمل أن يكون هو الإمام الصادق(عليهالسلام).
الأمر الرابع: لا بأس بتكرار المباهلة أو تكرار الملاعنة في بهالٍ واحد، حسب ما يترائي ممّا رواه الكلينيِ، عن محمّدبن يحيي، عن أحمدبن محمدبن عيسي، عن ابنمحبوب، عن أبيالعباس، عن أبيعبداللّه(عليهالسلام) في المباهلة قال: «تشبّك أصابعك في أصابعه ثمّ تقول: اللّهمّ إن كان فلان جحد حقاً وأقَرّ بباطلٍ فأصِبْه بحُسْبانٍ من السماء أو بعذابٍ من عنْدك، وتلاعنه سبعينمرّة».[17] والظاهر هو تعدّد اللعن في مباهلة فاردة، وإن أبيت عن ذلك ففي أكثر منها. وقد اختلف في معناه حيث ذهب بعض الشرّاح إلي أنّ الظاهر كون العدد في مجلس واحد[18]، وذهب بعض آخر منهم إلي أنّ المعني هو إن لم تقع الاستجابة في المرّة الاُولي لاعنه مرّةً ثانية وهكذا، واحتمال كون العدد في مجلسٍ واحدٍ بعيد.[19]
وعلي أيّ تقدير فالمراد هو جواز التكرار بلاخصوصيةٍ لعدد السبعين.
فتبيّن أنّ البِهال مع شرائطه جائز لغير المعصوم(عليهالسلام)، ولعلّه من هذا القبيل ما روي عن ابنعباس أنّه قال: من شاء باهلته أنّ الحقّ معي.[20]
ثمّ إنّه لم يُؤمر في شيء من نصوص الباب باستصحاب الأبناء والنساء وإن لميدلّ علي منعه دليل، فالجواز باقٍ بحاله من دون قصد الورود.
ثمّ إنّ ليوم المباهلة دعاء يخصّه لابأس بالاستمداد منه في مطلق الحاجة التي منها البِهال في غير ذلك اليوم، وقد روي ابنطاووسِ بإسناده عن الحسينبن خالد عن أبيعبداللّه(عليهالسلام) قال: «قال أبوجعفر(عليهالسلام): لو قلتُ إنّ في هذا الدعاء الإسم الأكبر لصدقتُ، ولو علم النّاس ما فيه من الإجابة لاضطربوا علي تعليمه بالأيدي، وأنا لاُقدّمه بين يدي حوائجي فينجح، وهو دعاء المباهلة من قول اللّه تعالي: ﴿قل تعالوا ندع أبنائنا... ﴾ وإنّ جبرائيل(عليهالسلام) نزل علي رسول اللّهصلي الله عليه و آله و سلم فأخبره بهذا الدعاء، قال: تخرج أنت ووصيّك وسبطاك وابنتك وباهل القوم وادْعوا به. قال أبوعبداللّه(عليهالسلام): فإذا دعوْتم فاجتهدوا في الدعاء فإنّ ما عند اللّه خيرٌ وأبقي من كنوز العلم، فاشفعوا به واكْتموه من غير أهله السفهاء والمنافقين. الدعاء: اللّهمّ إنّي أسألك من بهائك بأبْهاه وكلّ بهائك بهيّ، اللّهمّ إنّي أسألك ببهائك كلّه... ».[21]
أقول: هذا الدعاء أكمل وأجمع ممّا هو المعروف بدعاء السحر.
نسأل اللّه الذي لايخيب سائله ولاييأس آمله ولاينفد نائله ببركة هذا الدعاء، أن ينصر الإسلام وأهله وأن يخذل الكفر وأهله، وأن يصلّي علي محمّد وأهله وأن يعجّل فرج بقيّةاللّه أرواح من سواه فداه، وأن يجعلنا مع القرآن والعترة وأن لايُفَرّق بيننا وبينهما حتي نرد معاً علي تاركهماصلي الله عليه و آله و سلم بين المسلمين ومُخَلّفهماصلي الله عليه و آله و سلم فيهم الحوض. اللّهمّ إنّا ندعوك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا.
حرّره العبد المفتاق إلي مولاه السامق عبداللّه الجوادي الطبري الآملي. شوالالمكرم 1420 دي 1378 قم المحمية المحروسة، عشّ آلمحمّدصلي الله عليه و آله و سلم.
٭ ٭ ٭
[1] ـ سورة آل عمران، الآيات 61 ـ 60.
[2] ـ اُنظر: البرهان، ج 2، ص 52 ـ 42؛ الدر المنثور، ج 2، ص 233 ـ 228.
[3] ـ . تفسير العياشي، ج 1، ص 177 ـ 176؛ تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 348.
[4] ـ تفسير العياشي، ج 1، ص 176.
[5] ـ سورة التوبة، الآية 111.
[6] ـ إقبال الأعمال، ص 842 «في فضيلة يوم المباهلة».
[7] ـ همان.
[8] ـ سورة الأنفال، الآية 31.
[9] ـ إقبال الأعمال، ص 843.
[10] ـ مرآة العقول، ج 12، ص 189 ـ 185.
[11] ـ همان.
[12] ـ همان.
[13] ـ سورة النساء، الآية 59.
[14] ـ سورة المائدة، الآية 55.
[15] ـ سورة الشوري، الآية 23.
[16] ـ الكافي، ج 2، ص 514 ـ 513.
[17] ـ الكافي، ج 2، ص 514.
[18] ـ مرآة العقول، ج 12، ص 188.
[19] ـ شرح الكافي، المولي محمد صالح المازندراني، ج 10، ص 267.
[20] ـ مرآة العقول، ج 12، ص 185.
[21] ـ إقبال الأعمال، ص 846 ـ 845.
بسم اللّه الرحمن الرحيم
وجيزة حول المباهلة
قال اللّه سبحانه: ﴿ الحَقُّ مِن رَبِّكَ فَلا تَكُن مِنَ المُمتَرين ٭ فَمَن حاجَّكَ فيهِ مِن بَعدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلمِ فَقُل تَعالَوا نَدعُ اَبناءَنا واَبناءَكُم ونِساءَنا ونِساءَكُم واَنفُسَنا واَنفُسَكُم ثُمَّ نَبتَهِل فَنَجعَل لَعنَتَ اللّهِ عَلَي الكذِبين﴾.[1]
من المعلوم الثابت أنّ رسول اللّهصلي الله عليه و آله و سلم خرج لمباهلة النصاري بعلي وفاطمة و الحسنين(عليهماالسلام) بأمر اللّه تعالي حين حاجّه النصاري في عيسي، وشأن نزول الآية المذكورة ذلك[2]، لكن مصبّ الكلام في هذه المقالة أمر آخر، وهو أنّه هل تجوز المباهلة في غير قضية عيسي(عليهالسلام) أم لا؟ وأنّه هل تجوز للإمام المعصوم(عليهالسلام) أم لا؟ وهل تجوز لغير المعصوم من المؤمنين أم لا؟ وهل يجوز تكرارها أم لا؟ فهنا اُمور يبحث عنها:
الأمر الأوّل: الحقّ فيه جواز المباهلة في غير قضية عيسي(عليهالسلام) أيضاً، إذ الظاهر من الآية الإطلاق، فضمير ﴿فيه﴾ يرجع إلي الحقّ الشامل لغير تلك القصة من الحقائق القرآنية، ويُؤيد هذا الرجوع بعض النصوص الواردة في ذيل الآية.[3] وعلي فرض رجوعه إلي ﴿مَثَل عيسي﴾ المذكور في الآية السابقة يجوز التعدّي عنه بالملاك؛ لأنّ مَثَله(عليهالسلام) تمثيل لما تصحّ فيه المباهلة لاأنّه تعيين له، فلاحصر لها في قصّة عيسي(عليهالسلام).
الأمر الثاني: الحقّ فيه التعميم أيضاً إلاّ فيما قام النصّ علي الاختصاص بالنبيّ، والمفروض فقده إذ لادليل في الآية علي الحصر ولميشهد عليه شاهد من خارج، فالإمام المعصوم الذي يكون علي بيّنةٍ من ربّه له أن يباهل من شاء وفيما أراد. هذا مضافاً إلي أنّه عالم بحكمه وغنيّ عن فتيا غيره، حيث إنّه عالم من ناحية النبيّصلي الله عليه و آله و سلم بجميع ما له وعليه من الحقّ والتكليف. وأمّا ما روي عن أبيجعفر الأحول قال: قال أبوعبداللّه(عليهالسلام): «ما تقول قريش في الخُمس؟ قال: قلت: تزعم أنّه لها، قال(عليهالسلام): ما أنصفونا واللّه، لو كان مباهلة ليباهلنّ بنا ولئن كان مبارزةً ليبارزنّ بنا ثمّ نكون وهم علي سواء؟!» [4]، بعد الغضّ عن السند، فنطاقه أنّ أهلالبيت(عليهمالسلام) يُباهل بهم لاأنّهم يباهلون رأساً، كما أنّ قصّة المباهلة أيضاً كانت كذلك، حيث إنّ رسول اللّه باهل بهم لاأنّهم(عليهمالسلام) بادروا رأساً بها. نعم إنّ الولاية الإلهية المصحوبة بالعصمة المانعة عن الاقتحام بما لاحجّة هناك كافية للبهال وكافلة للابتهال، ولاتمايز من هذه الجهة بين النبيصلي الله عليه و آله و سلم والإمام(عليهالسلام) وإن كان للنبيّصلي الله عليه و آله و سلم ميزة عليه أي علي الإمامعليهماآلافالصلاة والسلام.
الأمر الثالث: الحق فيه أيضاً التعميم. ويتضح بمقدّمة وهي: أنّ البِهال ليس احتجاجاً علمياً بَحْتاً ليكون جائزاً لكل مؤمن قام البرهان القطعي لديه وقدر علي أنيقيمه عند الخصام، وليس هو جهاداً عملياً صرفاً ليصحّ لكلّ من شري نفسه ابتغاء مرضاة اللّه إذ لاضير في شهادته؛ لأنّ المجاهد المحقّ قديُقْتَل في سبيل اللّه كما أنّه قد يَقْتل، قال اللّه سبحانه: ﴿ اِنَّ اللّهَ اشتَري مِنَ المُؤمِنينَ اَنفُسَهُم واَمولَهُم بِاَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقتِلونَ في سَبيلِ اللّهِ فَيَقتُلونَ ويُقتَلونَ وَعدًا عَلَيهِ حَقًّا فِي التَّورةِ والاِنجيلِ والقُرءانِ ومَن اَوفي بِعَهدِهِ مِنَ اللّهِ فَاستَبشِروا بِبَيعِكُمُ الَّذي بايَعتُم بِهِ وذلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظيم﴾ [5] بل المباهلة محاربة بالدعاء، ودعوي الهية لميُعْهَد مثلها قبل الإسلام حسبما ادّعاه سيّد مشائخنا رضيالدين عليبن موسيبن جعفربن طاووس(قدسسرّه)[6]: وكان أوّل مقامٍ فتح اللّه جلّجلاله فيه باب المباهلة الفاصلة في هذه الملة الفاضلة عند جحود حججه وبيّناته[7]، وكان أبلغ في تصديق صاحب النبوّة والرسالة من التحدي بالقرآن وأظهر في الدلالة لأنّ الذين تحدّاهمصلي الله عليه و آله و سلم بالقرآن قالوا: ﴿لَو نَشاءُ لَقُلنا مِثلَ هذا﴾ [8] وإن كان قولهم في مقام البهتان، ويوم المباهلة فما أقدموا علي دعوي الجحود؛ للعجز عن مباهلته؛ لظهور حجّته وعلاماته.[9]
فعند اتّضاح شأن البِهال وعلوّ شَأوِه فمن أين يصحّ لكلّ مؤمنٍ قاطعٍ بالحق ما لم يكن علي بيّنةٍ من ربّه أنّه سبحانه يجيب دعوته ويلبّي ابتهاله بتدمير العنود وإهلاك العدو اللدود أن يباهله؛ إذ يمكن أن لاتستجاب دعوته، فمن اقترح المباهلة ولم يستجب دعاؤه يرجع خاسراً وحسيراً خائباً، فيتخيّل الخصم اللجوج أنّ الإسلام ضعيف حصيد هشيمٍ تذروه الرياح يميناً وشمالاً وتلعب به الأهواء وتلفظه الأفواه وتحطمه الأرجل فيتخذه هزواً، مع أنّه نور لاظلام فيه وحياة لاموت له.
فلابدّ لمن يقتحم البِهال أن يقوم علي أساسٍ رصين وبنيانٍ مرصوص ويعتصم بعروةٍ وثقي لاانفصام لها، وهي الحجّة البالغة المجوّزة للبِهال المرخّصة فيه المُرغّبة إليه من كان علي بيّنةٍ من ربّه في معتقده، وتلك الحجّة الساطعة هي النصوص التي بعضها صحيح[10] وبعضها حسن[11] وإن كان بعضها ضعيفاً أو موقوفاًأو مرسلاً[12]، وروي هاتيك النصوص مشائخنا الثقات في جوامعهم ومجامعهم، ولنكتف بما رواه ثقةالإسلام الكليني(قدسسرّه) في جامعِه الكافي.
منها: ما رواه عن عليبن إبراهيم عن أبيه عن ابنأبيعمير، عن محمدبن حكيم، عن أبيمسروق، عن أبيعبداللّه(عليهالسلام) قال: قلت: إنّا نكلّم النّاس فنحتجّ عليهم بقول اللّهعزّوجلّ ﴿اَطيعُوا اللّهَ واَطيعُوا الرَّسولَ واُولِي الاَمرِ مِنكُم﴾ [13]، فيقولون: نزلت في أُمراء السرايا، فنحتجّ عليهم بقولهعزّوجلّ: ﴿اِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ ورَسولُهُ... ﴾ [14] الي آخر الآية فيقولون: نزلت في المؤمنين، ونحتجّ عليهم بقول اللّهعزّوجلّ: ﴿قُل لااَسَلُكُم عَلَيهِ اَجرًا اِلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُربي﴾ [15]، فيقولون: نزلت في قربي المسلمين، قال: فلم أدَع شيئاً ممّا حضرني ذكره من هذه وشبهه إلاّ ذكرته. فقال لي: «إذا كان ذلك فادعهم إلي المباهلة. قلت: وكيف أصنع؟ قال: أصلح نفسك ثلاثاً وأظنّه قال: وصم واغتسل وابرز أنت وهو إلي الجبّان، فشبّك أصابعك من يدك اليمني في أصابعه، ثمّ انصفه وابدأ بنفسك وقل: اللّهمّ ربّ السموات السبع وربّ الأرضين السبع، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، إن كان أبومسروق جحد حقّاً وادّعي باطلاً فأنزلْ عليه حُسباناً من السماء أو عذاباً أليماً، ثمّ ردّ الدَّعوة عليه فقل: وإن كان فلان جحَدَ حقّاً وادّعي باطلاً فأنزل عليه حسباناً من السماء أو عذاباً أليماً. ثمّ قال لي: فإنّك لاتلبث أن تري ذلك فيه»، فواللّه ما وجدتُ خَلقاً يجيبني إليه.[16]
يستفاد من هذا الحديث المعتبر أمور نشير إلي نبذةٍ منها:
أحدها: وهو الهامّ هنا جواز البِهال لغير المعصوم(عليهالسلام) لأنّه دفاع عن حرم الحق وذبّ عن حماه وحريمه بسلاح الضراعة. والمراد من الجواز هنا هو معناه العام المجتمع مع الندب تارةً ومع الوجوب أُخري؛ وذلك لاختلاف موارد الافتقار إلي إثبات الحقّ وإزاحة الباطل.
وثانيها: مورد المباهلة هو أمر ثبت أنّه ممّا جاء به النبيصلي الله عليه و آله و سلم وذكره الكتاب وصَدّقته العترة أي كان ممّا نطق به الثَقَلان، لا كلّ أمر انتهي إليه اجتهاد أيّ متفكّرٍ ديني يعارضه آراء متضاربة وأفكار متشاجرة أُخَر، وإلاّ لأصبح مبذولاً لكلّ من يحسب أنّه يُحسن صنعاً.
وثالثها: انّ البِهال عمل له كيفية خاصّة دخيلة في أصل قوامه أو في كماله، ولذا قال السائل: كيف أصنع؟
ورابعها: لزوم إصلاح النفس وتهذيبها ثلاثةأيام ولياليها لاخصوص الأيام أو الليالي، ولمثل هذه الثلاثة خصوصية تشاهد في أقلّ الاعتكاف.
وخامسها: صوم ثلاثة أيام حسب ما ظنّه الراوي حيث قال: وأظنّه قال: وصم، أي صم ثلاثةأيام كما في صوم الحاجة والاستسقاء وغير ذلك. وهذا الصوم أي صوم المباهلة هو غير صوم يوم المباهلة أي اليوم الرابعوالعشرين الذي قيل فيه: إنّه لادليل علي ندبه بالخصوص، بل رجحانه بعنوان شكر غلبة دعوي النبوة من ناحيةٍ وشكر نزول آية الولاية في حق عليبن أبيطالب أميرالمؤمنين(عليهالسلام) من ناحيةٍ أُخري.
وسادسها: الاغتسال في اليوم الثالث قبل الخروج إلي البِهال. وهذا غسل المباهلة وهو غير غسل يوم المباهلة سواء تحقق هناك بِهال أم لا، كما تقدّم في الصوم آنفاً. إلي غير ذلك من الآداب والسنن كالخروج إلي الجبّان في الصحراء وتشبيك الأصابع ورعاية النصفة بالابتداء في الدعاء علي نفسه.
وسابعها: استيلاء الرعب علي العنود اللدود حيث فرّ من البِهال كفرار الحُمُر المستنْفرة من القسْورة، كما قال: فواللّه ما وجدت خلقاً يجيبني إليه. والقائل هو أبومسروق السائل الراوي، ويحتمل أن يكون هو الإمام الصادق(عليهالسلام).
الأمر الرابع: لا بأس بتكرار المباهلة أو تكرار الملاعنة في بهالٍ واحد، حسب ما يترائي ممّا رواه الكلينيِ، عن محمّدبن يحيي، عن أحمدبن محمدبن عيسي، عن ابنمحبوب، عن أبيالعباس، عن أبيعبداللّه(عليهالسلام) في المباهلة قال: «تشبّك أصابعك في أصابعه ثمّ تقول: اللّهمّ إن كان فلان جحد حقاً وأقَرّ بباطلٍ فأصِبْه بحُسْبانٍ من السماء أو بعذابٍ من عنْدك، وتلاعنه سبعينمرّة».[17] والظاهر هو تعدّد اللعن في مباهلة فاردة، وإن أبيت عن ذلك ففي أكثر منها. وقد اختلف في معناه حيث ذهب بعض الشرّاح إلي أنّ الظاهر كون العدد في مجلس واحد[18]، وذهب بعض آخر منهم إلي أنّ المعني هو إن لم تقع الاستجابة في المرّة الاُولي لاعنه مرّةً ثانية وهكذا، واحتمال كون العدد في مجلسٍ واحدٍ بعيد.[19]
وعلي أيّ تقدير فالمراد هو جواز التكرار بلاخصوصيةٍ لعدد السبعين.
فتبيّن أنّ البِهال مع شرائطه جائز لغير المعصوم(عليهالسلام)، ولعلّه من هذا القبيل ما روي عن ابنعباس أنّه قال: من شاء باهلته أنّ الحقّ معي.[20]
ثمّ إنّه لم يُؤمر في شيء من نصوص الباب باستصحاب الأبناء والنساء وإن لميدلّ علي منعه دليل، فالجواز باقٍ بحاله من دون قصد الورود.
ثمّ إنّ ليوم المباهلة دعاء يخصّه لابأس بالاستمداد منه في مطلق الحاجة التي منها البِهال في غير ذلك اليوم، وقد روي ابنطاووسِ بإسناده عن الحسينبن خالد عن أبيعبداللّه(عليهالسلام) قال: «قال أبوجعفر(عليهالسلام): لو قلتُ إنّ في هذا الدعاء الإسم الأكبر لصدقتُ، ولو علم النّاس ما فيه من الإجابة لاضطربوا علي تعليمه بالأيدي، وأنا لاُقدّمه بين يدي حوائجي فينجح، وهو دعاء المباهلة من قول اللّه تعالي: ﴿قل تعالوا ندع أبنائنا... ﴾ وإنّ جبرائيل(عليهالسلام) نزل علي رسول اللّهصلي الله عليه و آله و سلم فأخبره بهذا الدعاء، قال: تخرج أنت ووصيّك وسبطاك وابنتك وباهل القوم وادْعوا به. قال أبوعبداللّه(عليهالسلام): فإذا دعوْتم فاجتهدوا في الدعاء فإنّ ما عند اللّه خيرٌ وأبقي من كنوز العلم، فاشفعوا به واكْتموه من غير أهله السفهاء والمنافقين. الدعاء: اللّهمّ إنّي أسألك من بهائك بأبْهاه وكلّ بهائك بهيّ، اللّهمّ إنّي أسألك ببهائك كلّه... ».[21]
أقول: هذا الدعاء أكمل وأجمع ممّا هو المعروف بدعاء السحر.
نسأل اللّه الذي لايخيب سائله ولاييأس آمله ولاينفد نائله ببركة هذا الدعاء، أن ينصر الإسلام وأهله وأن يخذل الكفر وأهله، وأن يصلّي علي محمّد وأهله وأن يعجّل فرج بقيّةاللّه أرواح من سواه فداه، وأن يجعلنا مع القرآن والعترة وأن لايُفَرّق بيننا وبينهما حتي نرد معاً علي تاركهماصلي الله عليه و آله و سلم بين المسلمين ومُخَلّفهماصلي الله عليه و آله و سلم فيهم الحوض. اللّهمّ إنّا ندعوك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا.
حرّره العبد المفتاق إلي مولاه السامق عبداللّه الجوادي الطبري الآملي. شوالالمكرم 1420 دي 1378 قم المحمية المحروسة، عشّ آلمحمّدصلي الله عليه و آله و سلم.
٭ ٭ ٭
[1] ـ سورة آل عمران، الآيات 61 ـ 60.
[2] ـ اُنظر: البرهان، ج 2، ص 52 ـ 42؛ الدر المنثور، ج 2، ص 233 ـ 228.
[3] ـ . تفسير العياشي، ج 1، ص 177 ـ 176؛ تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 348.
[4] ـ تفسير العياشي، ج 1، ص 176.
[5] ـ سورة التوبة، الآية 111.
[6] ـ إقبال الأعمال، ص 842 «في فضيلة يوم المباهلة».
[7] ـ همان.
[8] ـ سورة الأنفال، الآية 31.
[9] ـ إقبال الأعمال، ص 843.
[10] ـ مرآة العقول، ج 12، ص 189 ـ 185.
[11] ـ همان.
[12] ـ همان.
[13] ـ سورة النساء، الآية 59.
[14] ـ سورة المائدة، الآية 55.
[15] ـ سورة الشوري، الآية 23.
[16] ـ الكافي، ج 2، ص 514 ـ 513.
[17] ـ الكافي، ج 2، ص 514.
[18] ـ مرآة العقول، ج 12، ص 188.
[19] ـ شرح الكافي، المولي محمد صالح المازندراني، ج 10، ص 267.
[20] ـ مرآة العقول، ج 12، ص 185.
[21] ـ إقبال الأعمال، ص 846 ـ 845.
تعليق