التوحيد في منهج أهل البيت
في زمن الإمام الرضا(ع)، اختلف الناس في أصول التوحيد وخطوطه، بعد أن دخلت الآراء الفلسفية إلى الواقع الإسلامي وتنوّعت المفاهيم، فيُوضح(ع) هذا المفهوم في ما ينقله عنه محمد بن زيد قال: "جئت إلى الرضا(ع) أسأله عن التوحيد، فأملى عليَّ وكأنَّ الإمام(ع) أراد أن يسجّل ما يقوله ليبقى منهجاً للناس في التوحيد، كما يجب أن يتصوّره الناس ويعتقدوه، مما كان الإمام(ع) ينتزعه من القرآن انتزاعاً : "الحمد لله فاطر الأشياء إنشاءً ـ فهو سبحانه الذي خلقها وأنشأها ـ ومبتدعها ابتداعاً بقدرته ـ فهي تمثّل سرَّ الخالق في كلِّ ما أبدعه ـ وحكمته ـ لأنَّ الله تعالى عندما يخلق الأشياء فإنَّه يخلقها بالحكمة ليضع عناصرها التي تمثّل خطوط وجودها في موقعها، حيث تتكامل عناصر الخلق لتحقّق الهدف المراد منها ـ لا من شيءٍ سابق فيبطل الاختراع ـ لم يخلقها من شيءٍ سابق عليها فيبطل الاختراع، فالله تعالى يخترع (يخلق) المادة والصورة معاً، وليس كمثل الذين يعملون على اختراع الصورة من خلال المادة والنماذج التي كانت سابقة على اختراعهم، فتكون اختراعاتهم نسخاً عن المثال، فالله عزَّ وجلّ يخلق المادة والصورة معاً، لأنَّه مخترع الأشياء في عناصرها كلِّها ـ ولا لعلّة ـ لسبب يسبقها ـ فلا يصحّ الابتداع، خلق ما شاء ـ فبمشيئته كان الخلق ـ كيف شاء ـ وبمشيئته كانت الصورة والتنوّع ـ متوحِّداً بذلك ـ فليس له شريك في ذلك كلِّه ـ لإظهار حكمته ـ من خلال طبيعة هذا التناسق والأسرار التي تتمثّل في عناصر الأشياء ومكوّناتها ـ وحقيقة ربوبيّته ـ لأنَّه هو الذي يربّي الأشياء وينمّيها ويحرّكها كيف شاء ـ لا تضبطه العقول ـ لأنَّ العقول لا تملك الآلية التي يمكن من خلالها أن تحصل على معرفته وعلمه المطلق، لأنَّه سبحانه هو المطلق الذي لا حدَّ له، ومهما كانت سعة تأملات العقل واتساع تجربته، فإنَّه لا يمكن أن يتصوّر المطلق، لأنَّ له حدوداً لا بدَّ أن يقف عندها ـ ولا تبلغه الأوهام ـ لأنَّ الأوهام التي تمثّل بعض منطقة الوعي الداخليّ للإنسان، لا تملك الوسائل التي تستطيع بها أن تبلغ مقام ربِّها ـ ولا تدركه الأبصار ـ لأنَّه ليس جسماً ليُرى، وليس مادّةً تقع تحت إمكانية الرؤية ـ ولا يحيط به مقدار ، لأنَّه فوق المقدار الذي يمثّل المحدود، والله هو المطلق الذي لا حدَّ له في أيِّ شيء، فكيف يمكن لمقدَّر أن يقدِّر ما لا يُحصى؟ ـ عجزت دونه العبارة ـ لأنَّ الكلمات تمثّل المعاني التي يمكن للإنسان أن يعبّر عنها، وهي الأمور التي يتصوّرها في تأمّلاته، أو التي يعيشها في تجاربه، والله سبحانه وتعالى فوق ذلك، فلا يمكن أن تحيط به العبارة ـ وكَّلت دونه الأبصار ـ سواء كانت أبصار العيون أو أبصار القلوب ـ وضلّ فيه تصاريف الصفات ـ فعندما يريد الإنسان أن يصرّف وينوّع في صفات الله، فإنَّه سوف يدخل في متاهات كثيرة، لأنَّه لا يستطيع تحديدها بشكل دقيق ـ احتجب بغير حجاب محجوب، واستتر بغير سِتْرٍ مستور ـ والناس عندما يحتجبون عن بعضهم البعض، والأشياء عندما تحجب عن بعضها البعض، فإنَّها تُحجب من خلال سِتْر وحجاب، أما الله سبحانه وتعالى فإنَّه يحتجب من غير حجاب، وذلك من خلال طبيعة وجوده الذي لا يملك أحدٌ أن يتطلّع إليه أو يراه ـ عُرف بغير رؤية ـ لأنَّه تعالى عُرِف بالعقل وبخلقه، على اعتبار أنَّ الخلق يدلُّ على الخالق ـ وُوصِف بغير صورة ـ فنحن نصف الله بالخالق والرازق والقويّ والحكيم وما إلى ذلك، مما تدركه عقولنا في معنى صفة الله ـ ونُعِتَ بغير جسم ـ لأنَّ الإنسان عندما ينعت(يصف) المرئيات، فإنَّه ينعتها من خلال ملامح الجسم الموجود، لكنَّ الله سبحانه يُنعت بغير جسم ـ لا إله إلا هو الكبير المتعال"(23).
وفي بعض أحاديثه(ع) عن العباس بن هلال، قال: "سألت الرِّضا(ع) عن قول الله: {اللهُ نورُ السمواتِ والأرض} [النور:35] فما هو المقصود من النور؟ هل هو النور الماديّ كما هو نور الشمس مثلاً، أم هو النور المعنوي؟ إنَّ الإمام الرضا(ع) يرى بأنَّ المقصود من النور، هو النور الذي يضيء العقول والقلوب والأرواح والحياة كلَّها، وهو هنا النور المعنوي فقال: "هادٍ لأهل السماء وهادٍ لأهل الأرض"(24)، أي أنَّه سبحانه وتعالى يضيء طريق الهدى في عقولهم وحياتهم وكلِّ شؤونهم وأوضاعهم، به يهتدون من خلال ما أودعه في أسرار وجودهم، أو مما ألهم به عقولهم.
وفي رواية (البرقي): "هدى لأهل السماء وهدى لأهل الأرض". وعن الحسن بن الوشاء عن أبي الحسن الرضا(ع) قال: "سألته، فقلت: الله فوّض الأمر إلى العباد؟ ـ أي هل أنَّ الله سبحانه وتعالى خلق الناس، وقال لهم إنّي فوّضتُ لكم شؤون حياتكم ولا دخل لي بذلك، أي عزل نفسه تعالى عن التدخّل في شؤون العباد؟ وهذه هي نظرية التفويض التي كانت موجودةً في الواقع الفلسفيّ والكلامي آنذاك، قال: اللهُ أعزُّ من ذلك {فلله العزّة جميعاً} [فاطر:20] ـ فعندما يعطي عباده الاختيار، فإنَّه يملك أن يضبطهم ويردعهم، حيث تبقى هيمنتُه على الأمر كلِّه من خلال ما أودعه في الكون وفي حياة الناس من سُنَن، ومن خلال قوّته التي تشمل كلَّ شيء ـ فجبرهم على المعاصي؟ ـ هل أنَّ الله يتدخّل في شؤونهم بشكل مباشر، بحيث إنهم إذا عصوا، فإنَّهم يعصون على أساس أنهم مجبورون على المعصية، لأنَّه لا حرية لهم ولا اختيار في ذلك، لأنّ الله سبحانه هو المسيطر على الأمر كلِّه ـ قال: الله أعدل وأحكم من ذلك ـ فالله تعالى لا يمكن أن يجبر الناس على المعاصي ويعاقبهم على ذلك، لأنَّ الحكيم المطلق لا يفعل ذلك ـ ثم قال: قال الله تعالى: يابن آدم، أنا أولى بحسناتك ـ لأنَّ حسناتك انطلقت من العناصر الإيجابيّة التي أودعتُها في وجودك، فلقد أعطيتك العقل الذي تدرك به الحسن من القبيح، كما وتدرك به نتائج الأفعال السلبيّة والإيجابيّة، وقد أعطيتك الحواس التي تستطيع أن تحصل من خلالها على مفردات المعرفة كلِّها، وقد أوحيت إليك بالوحي الذي يعرّفك ما لا يستطيع أن يدركه عقلك وحسُّك، وقد أعطيتك الوسائل التي تدرك بها وتطيع، فأنا أولى بحسناتك منك، فهي وإن انطلقت من إرادتك، لكن ما حقّق لك هذه الإرادة، ما هو من فضل ربِّك الذي دعاك وشجّعك وألهمك وأعطاك الوسائل في تحقيق ذلك ـ وأنت أولى بسيئاتك مني، عملت المعاصي بقوّتي التي جعلت فيك"(25)، لأنّي عندما أعطيتك القوّة والإرادة، حذّرتك من السيئات، وأوحيت إليك بالوسائل المعنويّة والماديّة التي تبتعد بها عن السيئات، ولكنَّ سوء الاختيار هو الذي جعلك تعمل هذه السيئات.
وعن عبد العزيز بن مسلم قال: "سألت الرّضا(ع) عن قول الله عزَّ وجلّ، {نَسُوا اللهَ فنسيَهُم} [التوبة:67]، فقال(ع): "إنَّ الله لا ينسى ولا يسهو، وإنَّما ينسى ويسهو المخلوق المحدَث، ألا تسمعه عزَّ وجلّ يقول: {وما كان ربُّك نسِيّاً} [مريم:64]، فالنسيان هو غيبوبة الشخص عن الوجدان والوعي ـ وإنَّما يجازي من نسيه ونسي لقاءَ يومه بأن ينسيهم أنفسهم ـ ونسيهم يعني أهملهم، أي جازاهم على نسيانهم له من خلال نسيانهم لمسؤولياتهم ومقام ربِّهم، فتعامل معهم كتعاملهم مع بعضهم البعض عندما ينسى أحدُهم الآخر، وذلك بأن يهمله ولا يعتني به ـ كما قال الله عزَّ وجلّ: {وَلا تكونوا كالذين نسوا اللهَ فأنساهُم أنفسَهُم أولئك هُمُ الفاسقون} [الحشر:19] فالإنسان عندما ينسى مسؤولياته، يكون قد نسي ربه ونسيَ مصلحته وقال تعالى: {فاليوم ننساهُم كما نسوا لقاءَ يومهم هذا}(26) [الأعراف:51]"، أي فتركهم كما تركوا الاستعداد للقاء يومهم. فالنسيان عندما يُنسب إلى الله في هذا المجال فهو يعني الإهمال لهم.
وعن الحسن بن عليّ بن فضّال قال: "سألت الرضا(ع) عن قول الله عزَّ وجلّ: {كلاّ إنَّهُم عن ربِّهم يومئذٍ لمحجوبون} [المطففين:15] وهذا مما ينافي العقيدة، إذ كيف يمكن أن يكون هناك شيءٌ محجوبٌ عن الله، فبحسب المعنى المطابقي أو اللغوي للكلمة، فإنَّ هؤلاء محجوبون عن الله سبحانه وتعالى، أي لم يعد يراهم فقال(ع): "إنَّ الله تعالى لا يوصَف بمكانٍ يحلّ فيه فيحجب عنه فيه عباده، ولكنه يعني أنهم عن ثواب ربِّهم محجوبون" ـ أي محجوبون عن رحمة الله ولطفه وأجره ـ قال: وسألته عن قول الله عزَّ وجلّ: {وجاء ربُّك والمَلَكُ صفّاً صفّاً} [الفجر:22] فقال: "إنَّ الله لا يُوصَفُ بالمجيء والذهاب، تعالى عن الانتقال ـ فالذي ينتقل من مكانٍ إلى آخر هو الجسم، والله تعالى ليس بجسم ـ إنَّما يعني بذلك: وجاء أمرُ ربِّك والمَلَكُ صفّاً صفّاً"(27)، لأنَّ الله يتمثّل في يوم القيامة بمواقع قوّته، فكأنّه يهيمن عليها من خلال أمره وعظمته وهيمنته.
من كتابات السيد فضل الله
في زمن الإمام الرضا(ع)، اختلف الناس في أصول التوحيد وخطوطه، بعد أن دخلت الآراء الفلسفية إلى الواقع الإسلامي وتنوّعت المفاهيم، فيُوضح(ع) هذا المفهوم في ما ينقله عنه محمد بن زيد قال: "جئت إلى الرضا(ع) أسأله عن التوحيد، فأملى عليَّ وكأنَّ الإمام(ع) أراد أن يسجّل ما يقوله ليبقى منهجاً للناس في التوحيد، كما يجب أن يتصوّره الناس ويعتقدوه، مما كان الإمام(ع) ينتزعه من القرآن انتزاعاً : "الحمد لله فاطر الأشياء إنشاءً ـ فهو سبحانه الذي خلقها وأنشأها ـ ومبتدعها ابتداعاً بقدرته ـ فهي تمثّل سرَّ الخالق في كلِّ ما أبدعه ـ وحكمته ـ لأنَّ الله تعالى عندما يخلق الأشياء فإنَّه يخلقها بالحكمة ليضع عناصرها التي تمثّل خطوط وجودها في موقعها، حيث تتكامل عناصر الخلق لتحقّق الهدف المراد منها ـ لا من شيءٍ سابق فيبطل الاختراع ـ لم يخلقها من شيءٍ سابق عليها فيبطل الاختراع، فالله تعالى يخترع (يخلق) المادة والصورة معاً، وليس كمثل الذين يعملون على اختراع الصورة من خلال المادة والنماذج التي كانت سابقة على اختراعهم، فتكون اختراعاتهم نسخاً عن المثال، فالله عزَّ وجلّ يخلق المادة والصورة معاً، لأنَّه مخترع الأشياء في عناصرها كلِّها ـ ولا لعلّة ـ لسبب يسبقها ـ فلا يصحّ الابتداع، خلق ما شاء ـ فبمشيئته كان الخلق ـ كيف شاء ـ وبمشيئته كانت الصورة والتنوّع ـ متوحِّداً بذلك ـ فليس له شريك في ذلك كلِّه ـ لإظهار حكمته ـ من خلال طبيعة هذا التناسق والأسرار التي تتمثّل في عناصر الأشياء ومكوّناتها ـ وحقيقة ربوبيّته ـ لأنَّه هو الذي يربّي الأشياء وينمّيها ويحرّكها كيف شاء ـ لا تضبطه العقول ـ لأنَّ العقول لا تملك الآلية التي يمكن من خلالها أن تحصل على معرفته وعلمه المطلق، لأنَّه سبحانه هو المطلق الذي لا حدَّ له، ومهما كانت سعة تأملات العقل واتساع تجربته، فإنَّه لا يمكن أن يتصوّر المطلق، لأنَّ له حدوداً لا بدَّ أن يقف عندها ـ ولا تبلغه الأوهام ـ لأنَّ الأوهام التي تمثّل بعض منطقة الوعي الداخليّ للإنسان، لا تملك الوسائل التي تستطيع بها أن تبلغ مقام ربِّها ـ ولا تدركه الأبصار ـ لأنَّه ليس جسماً ليُرى، وليس مادّةً تقع تحت إمكانية الرؤية ـ ولا يحيط به مقدار ، لأنَّه فوق المقدار الذي يمثّل المحدود، والله هو المطلق الذي لا حدَّ له في أيِّ شيء، فكيف يمكن لمقدَّر أن يقدِّر ما لا يُحصى؟ ـ عجزت دونه العبارة ـ لأنَّ الكلمات تمثّل المعاني التي يمكن للإنسان أن يعبّر عنها، وهي الأمور التي يتصوّرها في تأمّلاته، أو التي يعيشها في تجاربه، والله سبحانه وتعالى فوق ذلك، فلا يمكن أن تحيط به العبارة ـ وكَّلت دونه الأبصار ـ سواء كانت أبصار العيون أو أبصار القلوب ـ وضلّ فيه تصاريف الصفات ـ فعندما يريد الإنسان أن يصرّف وينوّع في صفات الله، فإنَّه سوف يدخل في متاهات كثيرة، لأنَّه لا يستطيع تحديدها بشكل دقيق ـ احتجب بغير حجاب محجوب، واستتر بغير سِتْرٍ مستور ـ والناس عندما يحتجبون عن بعضهم البعض، والأشياء عندما تحجب عن بعضها البعض، فإنَّها تُحجب من خلال سِتْر وحجاب، أما الله سبحانه وتعالى فإنَّه يحتجب من غير حجاب، وذلك من خلال طبيعة وجوده الذي لا يملك أحدٌ أن يتطلّع إليه أو يراه ـ عُرف بغير رؤية ـ لأنَّه تعالى عُرِف بالعقل وبخلقه، على اعتبار أنَّ الخلق يدلُّ على الخالق ـ وُوصِف بغير صورة ـ فنحن نصف الله بالخالق والرازق والقويّ والحكيم وما إلى ذلك، مما تدركه عقولنا في معنى صفة الله ـ ونُعِتَ بغير جسم ـ لأنَّ الإنسان عندما ينعت(يصف) المرئيات، فإنَّه ينعتها من خلال ملامح الجسم الموجود، لكنَّ الله سبحانه يُنعت بغير جسم ـ لا إله إلا هو الكبير المتعال"(23).
وفي بعض أحاديثه(ع) عن العباس بن هلال، قال: "سألت الرِّضا(ع) عن قول الله: {اللهُ نورُ السمواتِ والأرض} [النور:35] فما هو المقصود من النور؟ هل هو النور الماديّ كما هو نور الشمس مثلاً، أم هو النور المعنوي؟ إنَّ الإمام الرضا(ع) يرى بأنَّ المقصود من النور، هو النور الذي يضيء العقول والقلوب والأرواح والحياة كلَّها، وهو هنا النور المعنوي فقال: "هادٍ لأهل السماء وهادٍ لأهل الأرض"(24)، أي أنَّه سبحانه وتعالى يضيء طريق الهدى في عقولهم وحياتهم وكلِّ شؤونهم وأوضاعهم، به يهتدون من خلال ما أودعه في أسرار وجودهم، أو مما ألهم به عقولهم.
وفي رواية (البرقي): "هدى لأهل السماء وهدى لأهل الأرض". وعن الحسن بن الوشاء عن أبي الحسن الرضا(ع) قال: "سألته، فقلت: الله فوّض الأمر إلى العباد؟ ـ أي هل أنَّ الله سبحانه وتعالى خلق الناس، وقال لهم إنّي فوّضتُ لكم شؤون حياتكم ولا دخل لي بذلك، أي عزل نفسه تعالى عن التدخّل في شؤون العباد؟ وهذه هي نظرية التفويض التي كانت موجودةً في الواقع الفلسفيّ والكلامي آنذاك، قال: اللهُ أعزُّ من ذلك {فلله العزّة جميعاً} [فاطر:20] ـ فعندما يعطي عباده الاختيار، فإنَّه يملك أن يضبطهم ويردعهم، حيث تبقى هيمنتُه على الأمر كلِّه من خلال ما أودعه في الكون وفي حياة الناس من سُنَن، ومن خلال قوّته التي تشمل كلَّ شيء ـ فجبرهم على المعاصي؟ ـ هل أنَّ الله يتدخّل في شؤونهم بشكل مباشر، بحيث إنهم إذا عصوا، فإنَّهم يعصون على أساس أنهم مجبورون على المعصية، لأنَّه لا حرية لهم ولا اختيار في ذلك، لأنّ الله سبحانه هو المسيطر على الأمر كلِّه ـ قال: الله أعدل وأحكم من ذلك ـ فالله تعالى لا يمكن أن يجبر الناس على المعاصي ويعاقبهم على ذلك، لأنَّ الحكيم المطلق لا يفعل ذلك ـ ثم قال: قال الله تعالى: يابن آدم، أنا أولى بحسناتك ـ لأنَّ حسناتك انطلقت من العناصر الإيجابيّة التي أودعتُها في وجودك، فلقد أعطيتك العقل الذي تدرك به الحسن من القبيح، كما وتدرك به نتائج الأفعال السلبيّة والإيجابيّة، وقد أعطيتك الحواس التي تستطيع أن تحصل من خلالها على مفردات المعرفة كلِّها، وقد أوحيت إليك بالوحي الذي يعرّفك ما لا يستطيع أن يدركه عقلك وحسُّك، وقد أعطيتك الوسائل التي تدرك بها وتطيع، فأنا أولى بحسناتك منك، فهي وإن انطلقت من إرادتك، لكن ما حقّق لك هذه الإرادة، ما هو من فضل ربِّك الذي دعاك وشجّعك وألهمك وأعطاك الوسائل في تحقيق ذلك ـ وأنت أولى بسيئاتك مني، عملت المعاصي بقوّتي التي جعلت فيك"(25)، لأنّي عندما أعطيتك القوّة والإرادة، حذّرتك من السيئات، وأوحيت إليك بالوسائل المعنويّة والماديّة التي تبتعد بها عن السيئات، ولكنَّ سوء الاختيار هو الذي جعلك تعمل هذه السيئات.
وعن عبد العزيز بن مسلم قال: "سألت الرّضا(ع) عن قول الله عزَّ وجلّ، {نَسُوا اللهَ فنسيَهُم} [التوبة:67]، فقال(ع): "إنَّ الله لا ينسى ولا يسهو، وإنَّما ينسى ويسهو المخلوق المحدَث، ألا تسمعه عزَّ وجلّ يقول: {وما كان ربُّك نسِيّاً} [مريم:64]، فالنسيان هو غيبوبة الشخص عن الوجدان والوعي ـ وإنَّما يجازي من نسيه ونسي لقاءَ يومه بأن ينسيهم أنفسهم ـ ونسيهم يعني أهملهم، أي جازاهم على نسيانهم له من خلال نسيانهم لمسؤولياتهم ومقام ربِّهم، فتعامل معهم كتعاملهم مع بعضهم البعض عندما ينسى أحدُهم الآخر، وذلك بأن يهمله ولا يعتني به ـ كما قال الله عزَّ وجلّ: {وَلا تكونوا كالذين نسوا اللهَ فأنساهُم أنفسَهُم أولئك هُمُ الفاسقون} [الحشر:19] فالإنسان عندما ينسى مسؤولياته، يكون قد نسي ربه ونسيَ مصلحته وقال تعالى: {فاليوم ننساهُم كما نسوا لقاءَ يومهم هذا}(26) [الأعراف:51]"، أي فتركهم كما تركوا الاستعداد للقاء يومهم. فالنسيان عندما يُنسب إلى الله في هذا المجال فهو يعني الإهمال لهم.
وعن الحسن بن عليّ بن فضّال قال: "سألت الرضا(ع) عن قول الله عزَّ وجلّ: {كلاّ إنَّهُم عن ربِّهم يومئذٍ لمحجوبون} [المطففين:15] وهذا مما ينافي العقيدة، إذ كيف يمكن أن يكون هناك شيءٌ محجوبٌ عن الله، فبحسب المعنى المطابقي أو اللغوي للكلمة، فإنَّ هؤلاء محجوبون عن الله سبحانه وتعالى، أي لم يعد يراهم فقال(ع): "إنَّ الله تعالى لا يوصَف بمكانٍ يحلّ فيه فيحجب عنه فيه عباده، ولكنه يعني أنهم عن ثواب ربِّهم محجوبون" ـ أي محجوبون عن رحمة الله ولطفه وأجره ـ قال: وسألته عن قول الله عزَّ وجلّ: {وجاء ربُّك والمَلَكُ صفّاً صفّاً} [الفجر:22] فقال: "إنَّ الله لا يُوصَفُ بالمجيء والذهاب، تعالى عن الانتقال ـ فالذي ينتقل من مكانٍ إلى آخر هو الجسم، والله تعالى ليس بجسم ـ إنَّما يعني بذلك: وجاء أمرُ ربِّك والمَلَكُ صفّاً صفّاً"(27)، لأنَّ الله يتمثّل في يوم القيامة بمواقع قوّته، فكأنّه يهيمن عليها من خلال أمره وعظمته وهيمنته.
من كتابات السيد فضل الله