ذلكم هو الطوفان أيها التائهون
من كتابات ميخائيل نعيمة
كل منكم طوفان في ذاته و سفينة و ربان .
أتريدون أن تعرفوا كيف أصبح الإنسان طوفاناً في ذاته ؟
عندما شطرت الإرادة الكلية آدم إلى شطرين كيما يتمكن من معرفة نفسه و وحدته مع الواحد الأحد عندئذ صار آدمين : آدم الذكر و آدم الأنثى .
و عندئذ طغت عليه أمواج من الشهوات التي تولدها الثنائية . و هي شهوات لا يكاد يحصيها عدّ و ليس لأشكالها و ألوانها نهاية . و هي لا تشفق على ذاتها من التبذير و قوتها على التوليد و التناسل تكاد تكون بغير حد .
و ها هو الإنسان حتى اليوم محمول على غوارب أمواجها الصاخبة . ما تكاد موجة ترفعه إلى الأعالي حتى تهبط به الأخرى إلى القاع . ذلك لأن هذه الشهوات تجري أزواجاً أزواجاً نظير ما يسير الإنسان أزواجاً .
و هي و إن تكن في الواقع متممة الواحدة للأخرى تبدو مع ذلك لعين الجاهل كما لو كانت نقائض بعضها لبعض و كأنها في صراع أبدي لا هوادة فيه و لا هدنة على الإطلاق .
ذلكم هو الطوفان التي حُتم على الإنسان مقاومته ساعةً فساعة و يوماً فيوماً طوال الثنائية الشاقة .
ذلكم هو الطوفان الذي تنفجر ينابيعه من قلوبكم و تكاد تجرفكم بسيلها العارم .
ذلكم هو الطوفان الذي لن يزين قوسُ قزح سماءكم حتى تتحد سماؤكم بأرضكم في قران أبدي فتصبحا واحداً .
منذ أن زرع آدم نفسه في حواء و الناس يجنون إعصاراً تلو إعصار و طوفاناً تلو طوفان . فما أن تتفاقم شهوات من صنف واحد فتشتد صولتها و ترجح كفتها حتى يفقد الناس التوازن في حياتهم و يطغى عليهم طوفان هذه الشهوات أو تلك إلى أن تسترد حياتهم توازتها . و لكن هذا التوازن لن يستتب لهم حتى يتعلموا أن يعجنوا جميع شهواتهم في معجن المحبة كيما يخبزوا منها خبز الفهم المقدس .
قد يكون الطوفان الذي غمر الأرض في عهد نوح أكبر طوفان عرفته البشرية حتى اليوم . و لكنه ما كان الأول و لن يكون الأخير من سلسلة الطوفانات . فطوفان النار و الدم الذي عما قريب سيجتاج الأرض سيفوقه عنفاً و خراباً . ألعلكم اتخذتم العدة لتعوموا أم أنتم قانعون بأن تغرقوا مع الغارقين؟
و أسفاه إنكم لفي شغل عن كل ذلك . و شغلكم الدائم هو أن تزيدوا فوق أوزاركم أوزاراً , و أن تخدروا دمائكم باللذات المثقلة بالألم و أن تختطوا لكم سُبُلاً في مهامه لا ماء فيها و لا حياة و أن تفتشوا في عرصات أهراء الحياة عن حبوب تلتقطونها بين أقذار البهائم من غير أن يخطر لكم و لو أن تلوصوا من خصائص الأبواب على ما في داخل الأهراء من الخيرات . فكيف لكم ألا تغرقوا يا أيها التائهون ؟
و انتم و قد صوّر الله فيكم صورته و مثّل مثاله , توشكون أن تمحوا الصورة و المثال . فقد مسختم قامتكم الإلهية إلى حدّ أنكم لا تميزونها عن قاماتكم بشيء و طليتم وجهكم الربّاني بالوحل ثم حجبتموه بالمساخر البهلوانية فكيف لكم أن تجابهوا الطوفان طوفانكم – يا أيها التأئهون ؟
إنكم ما لم تعملوا بالنصح سُدت في وجهكم مسالك الأرض فما كانت الأرض لكم غير جدث , و أُُغلقت أبواب السماء فما كانت السماء لكم أكثر من كفن . حين أن الأرض أُعدت من البدء لتكون لكم مهداً ملكياً و السماء لتكون لكم عرشاً .
أقول لكم ثانية : أنتم الطوفان و أنتم السفينة و أنتم الربّان . أما الطوفان فشهواتكم . و أما السفينة فجسدكم . و أما الربان فإيمانكم . و هذه كلها تتخللها إرادتكم . و من فوق هذه كلها يهيمن فهمكم .
اهتموا لسفينتكم كيما تكون متينة و صالحة لمصادمة الأمواج و لكن حذار من أن تبذروا كل أيامكم على السفينة وحدها لئلا يفوتكم وقت الملاحة فيدهمكم الفناء و يقضي عليكم و على سفينتكم قضاء لا مرد له .
ثم اهتموا لربانكم كيما يكون رزيناً و غني الخبرة بأسرار الملاحة .
و لكن الأهم من ذلك و هذا أن تبحثوا عن ينابيع الطوفان و أن تدربوا إرادتكم على تجفيفها واحداً بعد واحد . و إذ ذاك تهدأ ثورة الطوفان و رويداً رويداً تتلاشى .
ألا احرقوا الشهوة قبل أن تحرقكم .
لا تتفحصوا فم الشهوة لتروا ما إذا كان مسلحاً بأنياب مسمومة أم بقوارض معسولة . فالنحلة التي تجني من الأزهار شهدها تجني سمّها كذلك .
ولا تتأملوا وجه الشهوة أجميل هو أم قبيح . إن وجه الحيّة كان أجمل في عين حواء من وجه الله .
و لا تزنوا الشهوة في ميزان . فمن منكم يقابل بين وزن الجبل و وزن عقد من اللؤلؤ ؟ و الحق أن عقد اللولؤ لأثقل من الجبل بكثير .
ثم إن من الشهوات ما يصدح في النهار صدح البلابل و يغرد أغاريد السماء . و لكنه يفحّ فحيح الأفاعي , و يعضّ و يمزّق تحت ستار الليل . و منها ما هو سمين بالأفراح و الملذّات , إلا أنه لا يلبث أن ينقلب إلى هياكل عظمية تتدلى منها سرائد الأحزان و الأوجاع .
و منها ما يبدو لكم وديع الطرف سهل المراس و لكنه يتحول بغتة إلى ذئاب خاطفة و ضباع نهمة . و منها ما تفوح منه رائحة و لا رائحة الفلّ و الياسمين ما دمتم بعيدين عنه . إلا أنكم حالما تلمسونه تفوح منه عليكم روائح أشدّ كراهة من روائح الجيف و الجعلان .
لا تغربلوا شهواتكم بغية فصل الصالح منها عن الطالح , ذلكم عمل من الباطل بمكان . لأن الصالح لا يحيا بغير الطالح . و الطالح لا يمدّ جذوره إلا في تربة الصالح .
واحدة هي شجرة الخير و الشر و واحدة هي ثمرتها . و عبثاً تحاولون أن تتذوقوا الخير من غير أن تتذوقوا الشر في آن معاً .
إن ثدياً ترضعون منه الحياة لهو عين الثدي الذي منه ترضعون الموت . و إن يداً تهزكم في السرير لهي عين اليد التي تحفر لكم الرمس .
تلكم أيها التائهون هي طبيعة الثنائية . فلا يخطرنّ لأحدكم ببال أن يتصدى لها برأي أو باعتراض . و حذار ثمّ حذار أن تحاولوا شقّها إلى شطرين لتأخذوا الشطر الذي تستسيغون و تطرحوا الآخر جانباً . ذلكم هو باطل الأباطيل و قبض الريح .
أتريدون أن تصبحوا أسياد الثنائية بدلاً من أن تكونوا عبيدها ؟ إذن روّضوا أنفسكم على اقتبالها كما لو كانت بريئة من كل خير و شر .
أما تخثر لبن الحياة و الموت و احمض في أفواهكم ؟ أما آن لكم أن تشطفوا أفواهكم بمحلول جديد لا هو بالخير و لا هو بالشر لأنه أقوى و أنقى من الإثنين ؟ أما آن لكم أن تتوقوا إلى الثمرة التي ليست بالحلوة و لا بالمرة لأنها ما نمت على شجرة الخير و الشر ؟
أتودون أن تنعتقوا من براثن الثنائية ؟ إذن فاقتلعوا شجرتها – شجرة الخير و الشر من قلوبكم , اقتلعوها بجذعها و جذورها كيما يتاح لبذرة الحياة الربّانية بذرة الفهم المقدس المتسامي فوق كل خير و شر أن تنمو و تثمر مكانها .
تقولون إنها لرسالة قاتمة عابسة. فهي تسلبنا لذّة الأمل بالغد . و هي تجعلنا في الحياة بمثابة شهودٍ بُكمٍ لا شأن لهم في كل ما يشهدون . في حين أننا نرغب في النضال مهما تكن قيمة الأمر المناضل من أجله . و ما أحلى الصيد و القنص و إن لم تكن الطريدة غير منام أو خيال .
هكذا تقولون في قلوبكم , ناسين أن قلوبكم ليست قلوبكم على الإطلاق ما دامت أعنتها في ايدي شهواتكم من خير و من شر.
أما إذا شئتم أن تملكوا أعنة قلوبكم فعليكم أن تعجنوا كلّ شهواتكم – صالحها و طالحها – في معجن واحد هو معجن المحبة كيما تخبزوها في تنور واحد هو تنور الفهم المقدس حيث تلتئم المتناقضات كلها في الله .
ليكفّنّ كل واحد منكم منذ الآن عن تعكير عالم تفاقم عكره .
كيف تأملون أن تنشلوا ماء زلالاً من بئر لا تنفكون تطرحون فيها كلّ أنواع الأقذار و الرجاسات ؟ أم كيف لحوض من الماء أن يبقى صافياً ما دمتم تحركون الماء فيه بغير انقطاع ؟
لا تلقوا شباككم في عالمٍ كدرٍ بغية صيد الصفاء لئلا تصطادوا الكدر لا غير .
و لا تلقوها في عالم تتأكله الضغينة أملاً بأن تصطادوا المحبة لئلا تصطادوا الضغينة لا غير .
و لا تلقوها في عالم يمرح فيه الموت راجين أن تحظوا بالحياة لئلا تصطادوا الموت لا غير .
فالعالم لا يدفع لكم نقداً غير نقده . و نقد العالم أبداً ذو وجهين .
إنكم لن تستدروا من الحجر لبناً . و لن تبنوا من البقر هياكل .
و لكن ألقوا شباككم في ذاتكم الإلهية الغنية أبداً بسلام الفهم المقدس .
لا تطالبوا العالم بما لا تطالبون به أنفسكم . و لا تطالبوا إنساناً بغير ما ترون من حقه أن يطالبكم به .
و ما عسى أن يكون ذلك الشيء الذي إذا ما ظفرتم به من العالم مكنكم من الغلبة على الطوفان و من الوصول إلى أرضٍ بتول طلّقت الألم و اقترنت بالسماء محبة أبدية و سلام سرمدي و فهم إلهي ؟
ألعله وفرة المتاع و الصيت و السلطان ؟ أم هو المجد العالمي و ما يحفّ به من التجلة و الاحترام ؟ أم هو الطموح تكلل بالظفر , و الأمل المنشود تحقق ؟ و لكن جميع هذه ينابيع تغذي طوفانكم . ألا انبذوها و من أفكاركم ألا اصرفوها عنكم .
كونوا هادئين كيما تكونوا نيّرين .
و كونوا نيّرين كيما تنفذ أبصاركم إلى قلب العالم .
فأنتم إذا ما نفذتم إلى قلب العالم أبصرتم كل ما فيه من قحط و أدركتم أنه عاجز عن إعطائكم الحرّية و السلام و الحياة التي تنشدون .
جلّ ما يستطيع العالم أن يعطيكم إياه هو الجسد أو الفُلك التي بها تتمكنون من مخر عباب الحياة الثنائية . و ذلك لا يجرؤ إنسان أن يتمنّن عليكم به . فالمسكونة مكلفة بتأدية لكم و تأدية أوده . أما حفظه قوياً و خالياً من الغش و الفساد ليكون صالحاً لمقاومة الطوفان – مثلما كانت فُلك نوح , أما كبح ما فيه من الكواسر و الضواري على حد ما كبح نوح الضواري و الكواسر التي كانت في فُلكه – فأمر منوط بكم و بكم لا غير .
و أما أن يكون لكم إيمان مستيقظ العين و القلب ليدير الدفة إيمان لا يتزعزع بالإرادة الكلية التي لن يقودكم سواها إلى أبواب عدن السعيدة – فأمر منوط بكم كذلك وبكم لا غير .
و أما أن تكون لكم إرادة لا تعرف الجزع – إرادة التغلب و الوصول إلى شجرة الفهم المقدس التي هي شجرة الحياة – فأمر منوط بكم كذلك و بكم لا غير .
الإنسان سائر إلى الله . فما من وجهة أخرى جديرة بآلامه . و أي بأس في أن يكون طريقه مفروشاً بالعواصف و الزوابع ؟ فالإيمان النقي القلب الحادّ البصيرة و البصر ليتمنطق بالزوبعة و يمتطي العاصفة .
ألا سابقوا الزمان . فكل ساعة تقتلونها بالتذبذب و البطالة ساعة حبلى بالوجع . و الناس حتى أكثرهم حركة متذبذبون في الغالب و بطّالون .
أنتم بناة سفنٍ كلٌ على طريقته . و انتم بحارون كل في سبيله . ذاك هو العمل المُعد لكم منذ الأزل : أن تمخروا عباب ذلك المحيط اللامتناهي الذي هو أنتم لتظفروا منه بلحن الوجود الصامت الذي هو الله .
لكل شيء محور منه يشعّ و عليه تدور حركته فإن تكن الحياة – حياتكم – دائرةً محورها الوصول إلى الله فكل أعمالكم يجب أن تتمركز في ذلك المحور فتنطلق منه و تدور عليه و إلا كانت تذبذباً و بطالة .
و لا شغل للأنبياء على الأرض إلا أن يقودوا الإنسان إلى ميراثه الإلهي .
تحياتي
من كتابات ميخائيل نعيمة
كل منكم طوفان في ذاته و سفينة و ربان .
أتريدون أن تعرفوا كيف أصبح الإنسان طوفاناً في ذاته ؟
عندما شطرت الإرادة الكلية آدم إلى شطرين كيما يتمكن من معرفة نفسه و وحدته مع الواحد الأحد عندئذ صار آدمين : آدم الذكر و آدم الأنثى .
و عندئذ طغت عليه أمواج من الشهوات التي تولدها الثنائية . و هي شهوات لا يكاد يحصيها عدّ و ليس لأشكالها و ألوانها نهاية . و هي لا تشفق على ذاتها من التبذير و قوتها على التوليد و التناسل تكاد تكون بغير حد .
و ها هو الإنسان حتى اليوم محمول على غوارب أمواجها الصاخبة . ما تكاد موجة ترفعه إلى الأعالي حتى تهبط به الأخرى إلى القاع . ذلك لأن هذه الشهوات تجري أزواجاً أزواجاً نظير ما يسير الإنسان أزواجاً .
و هي و إن تكن في الواقع متممة الواحدة للأخرى تبدو مع ذلك لعين الجاهل كما لو كانت نقائض بعضها لبعض و كأنها في صراع أبدي لا هوادة فيه و لا هدنة على الإطلاق .
ذلكم هو الطوفان التي حُتم على الإنسان مقاومته ساعةً فساعة و يوماً فيوماً طوال الثنائية الشاقة .
ذلكم هو الطوفان الذي تنفجر ينابيعه من قلوبكم و تكاد تجرفكم بسيلها العارم .
ذلكم هو الطوفان الذي لن يزين قوسُ قزح سماءكم حتى تتحد سماؤكم بأرضكم في قران أبدي فتصبحا واحداً .
منذ أن زرع آدم نفسه في حواء و الناس يجنون إعصاراً تلو إعصار و طوفاناً تلو طوفان . فما أن تتفاقم شهوات من صنف واحد فتشتد صولتها و ترجح كفتها حتى يفقد الناس التوازن في حياتهم و يطغى عليهم طوفان هذه الشهوات أو تلك إلى أن تسترد حياتهم توازتها . و لكن هذا التوازن لن يستتب لهم حتى يتعلموا أن يعجنوا جميع شهواتهم في معجن المحبة كيما يخبزوا منها خبز الفهم المقدس .
قد يكون الطوفان الذي غمر الأرض في عهد نوح أكبر طوفان عرفته البشرية حتى اليوم . و لكنه ما كان الأول و لن يكون الأخير من سلسلة الطوفانات . فطوفان النار و الدم الذي عما قريب سيجتاج الأرض سيفوقه عنفاً و خراباً . ألعلكم اتخذتم العدة لتعوموا أم أنتم قانعون بأن تغرقوا مع الغارقين؟
و أسفاه إنكم لفي شغل عن كل ذلك . و شغلكم الدائم هو أن تزيدوا فوق أوزاركم أوزاراً , و أن تخدروا دمائكم باللذات المثقلة بالألم و أن تختطوا لكم سُبُلاً في مهامه لا ماء فيها و لا حياة و أن تفتشوا في عرصات أهراء الحياة عن حبوب تلتقطونها بين أقذار البهائم من غير أن يخطر لكم و لو أن تلوصوا من خصائص الأبواب على ما في داخل الأهراء من الخيرات . فكيف لكم ألا تغرقوا يا أيها التائهون ؟
و انتم و قد صوّر الله فيكم صورته و مثّل مثاله , توشكون أن تمحوا الصورة و المثال . فقد مسختم قامتكم الإلهية إلى حدّ أنكم لا تميزونها عن قاماتكم بشيء و طليتم وجهكم الربّاني بالوحل ثم حجبتموه بالمساخر البهلوانية فكيف لكم أن تجابهوا الطوفان طوفانكم – يا أيها التأئهون ؟
إنكم ما لم تعملوا بالنصح سُدت في وجهكم مسالك الأرض فما كانت الأرض لكم غير جدث , و أُُغلقت أبواب السماء فما كانت السماء لكم أكثر من كفن . حين أن الأرض أُعدت من البدء لتكون لكم مهداً ملكياً و السماء لتكون لكم عرشاً .
أقول لكم ثانية : أنتم الطوفان و أنتم السفينة و أنتم الربّان . أما الطوفان فشهواتكم . و أما السفينة فجسدكم . و أما الربان فإيمانكم . و هذه كلها تتخللها إرادتكم . و من فوق هذه كلها يهيمن فهمكم .
اهتموا لسفينتكم كيما تكون متينة و صالحة لمصادمة الأمواج و لكن حذار من أن تبذروا كل أيامكم على السفينة وحدها لئلا يفوتكم وقت الملاحة فيدهمكم الفناء و يقضي عليكم و على سفينتكم قضاء لا مرد له .
ثم اهتموا لربانكم كيما يكون رزيناً و غني الخبرة بأسرار الملاحة .
و لكن الأهم من ذلك و هذا أن تبحثوا عن ينابيع الطوفان و أن تدربوا إرادتكم على تجفيفها واحداً بعد واحد . و إذ ذاك تهدأ ثورة الطوفان و رويداً رويداً تتلاشى .
ألا احرقوا الشهوة قبل أن تحرقكم .
لا تتفحصوا فم الشهوة لتروا ما إذا كان مسلحاً بأنياب مسمومة أم بقوارض معسولة . فالنحلة التي تجني من الأزهار شهدها تجني سمّها كذلك .
ولا تتأملوا وجه الشهوة أجميل هو أم قبيح . إن وجه الحيّة كان أجمل في عين حواء من وجه الله .
و لا تزنوا الشهوة في ميزان . فمن منكم يقابل بين وزن الجبل و وزن عقد من اللؤلؤ ؟ و الحق أن عقد اللولؤ لأثقل من الجبل بكثير .
ثم إن من الشهوات ما يصدح في النهار صدح البلابل و يغرد أغاريد السماء . و لكنه يفحّ فحيح الأفاعي , و يعضّ و يمزّق تحت ستار الليل . و منها ما هو سمين بالأفراح و الملذّات , إلا أنه لا يلبث أن ينقلب إلى هياكل عظمية تتدلى منها سرائد الأحزان و الأوجاع .
و منها ما يبدو لكم وديع الطرف سهل المراس و لكنه يتحول بغتة إلى ذئاب خاطفة و ضباع نهمة . و منها ما تفوح منه رائحة و لا رائحة الفلّ و الياسمين ما دمتم بعيدين عنه . إلا أنكم حالما تلمسونه تفوح منه عليكم روائح أشدّ كراهة من روائح الجيف و الجعلان .
لا تغربلوا شهواتكم بغية فصل الصالح منها عن الطالح , ذلكم عمل من الباطل بمكان . لأن الصالح لا يحيا بغير الطالح . و الطالح لا يمدّ جذوره إلا في تربة الصالح .
واحدة هي شجرة الخير و الشر و واحدة هي ثمرتها . و عبثاً تحاولون أن تتذوقوا الخير من غير أن تتذوقوا الشر في آن معاً .
إن ثدياً ترضعون منه الحياة لهو عين الثدي الذي منه ترضعون الموت . و إن يداً تهزكم في السرير لهي عين اليد التي تحفر لكم الرمس .
تلكم أيها التائهون هي طبيعة الثنائية . فلا يخطرنّ لأحدكم ببال أن يتصدى لها برأي أو باعتراض . و حذار ثمّ حذار أن تحاولوا شقّها إلى شطرين لتأخذوا الشطر الذي تستسيغون و تطرحوا الآخر جانباً . ذلكم هو باطل الأباطيل و قبض الريح .
أتريدون أن تصبحوا أسياد الثنائية بدلاً من أن تكونوا عبيدها ؟ إذن روّضوا أنفسكم على اقتبالها كما لو كانت بريئة من كل خير و شر .
أما تخثر لبن الحياة و الموت و احمض في أفواهكم ؟ أما آن لكم أن تشطفوا أفواهكم بمحلول جديد لا هو بالخير و لا هو بالشر لأنه أقوى و أنقى من الإثنين ؟ أما آن لكم أن تتوقوا إلى الثمرة التي ليست بالحلوة و لا بالمرة لأنها ما نمت على شجرة الخير و الشر ؟
أتودون أن تنعتقوا من براثن الثنائية ؟ إذن فاقتلعوا شجرتها – شجرة الخير و الشر من قلوبكم , اقتلعوها بجذعها و جذورها كيما يتاح لبذرة الحياة الربّانية بذرة الفهم المقدس المتسامي فوق كل خير و شر أن تنمو و تثمر مكانها .
تقولون إنها لرسالة قاتمة عابسة. فهي تسلبنا لذّة الأمل بالغد . و هي تجعلنا في الحياة بمثابة شهودٍ بُكمٍ لا شأن لهم في كل ما يشهدون . في حين أننا نرغب في النضال مهما تكن قيمة الأمر المناضل من أجله . و ما أحلى الصيد و القنص و إن لم تكن الطريدة غير منام أو خيال .
هكذا تقولون في قلوبكم , ناسين أن قلوبكم ليست قلوبكم على الإطلاق ما دامت أعنتها في ايدي شهواتكم من خير و من شر.
أما إذا شئتم أن تملكوا أعنة قلوبكم فعليكم أن تعجنوا كلّ شهواتكم – صالحها و طالحها – في معجن واحد هو معجن المحبة كيما تخبزوها في تنور واحد هو تنور الفهم المقدس حيث تلتئم المتناقضات كلها في الله .
ليكفّنّ كل واحد منكم منذ الآن عن تعكير عالم تفاقم عكره .
كيف تأملون أن تنشلوا ماء زلالاً من بئر لا تنفكون تطرحون فيها كلّ أنواع الأقذار و الرجاسات ؟ أم كيف لحوض من الماء أن يبقى صافياً ما دمتم تحركون الماء فيه بغير انقطاع ؟
لا تلقوا شباككم في عالمٍ كدرٍ بغية صيد الصفاء لئلا تصطادوا الكدر لا غير .
و لا تلقوها في عالم تتأكله الضغينة أملاً بأن تصطادوا المحبة لئلا تصطادوا الضغينة لا غير .
و لا تلقوها في عالم يمرح فيه الموت راجين أن تحظوا بالحياة لئلا تصطادوا الموت لا غير .
فالعالم لا يدفع لكم نقداً غير نقده . و نقد العالم أبداً ذو وجهين .
إنكم لن تستدروا من الحجر لبناً . و لن تبنوا من البقر هياكل .
و لكن ألقوا شباككم في ذاتكم الإلهية الغنية أبداً بسلام الفهم المقدس .
لا تطالبوا العالم بما لا تطالبون به أنفسكم . و لا تطالبوا إنساناً بغير ما ترون من حقه أن يطالبكم به .
و ما عسى أن يكون ذلك الشيء الذي إذا ما ظفرتم به من العالم مكنكم من الغلبة على الطوفان و من الوصول إلى أرضٍ بتول طلّقت الألم و اقترنت بالسماء محبة أبدية و سلام سرمدي و فهم إلهي ؟
ألعله وفرة المتاع و الصيت و السلطان ؟ أم هو المجد العالمي و ما يحفّ به من التجلة و الاحترام ؟ أم هو الطموح تكلل بالظفر , و الأمل المنشود تحقق ؟ و لكن جميع هذه ينابيع تغذي طوفانكم . ألا انبذوها و من أفكاركم ألا اصرفوها عنكم .
كونوا هادئين كيما تكونوا نيّرين .
و كونوا نيّرين كيما تنفذ أبصاركم إلى قلب العالم .
فأنتم إذا ما نفذتم إلى قلب العالم أبصرتم كل ما فيه من قحط و أدركتم أنه عاجز عن إعطائكم الحرّية و السلام و الحياة التي تنشدون .
جلّ ما يستطيع العالم أن يعطيكم إياه هو الجسد أو الفُلك التي بها تتمكنون من مخر عباب الحياة الثنائية . و ذلك لا يجرؤ إنسان أن يتمنّن عليكم به . فالمسكونة مكلفة بتأدية لكم و تأدية أوده . أما حفظه قوياً و خالياً من الغش و الفساد ليكون صالحاً لمقاومة الطوفان – مثلما كانت فُلك نوح , أما كبح ما فيه من الكواسر و الضواري على حد ما كبح نوح الضواري و الكواسر التي كانت في فُلكه – فأمر منوط بكم و بكم لا غير .
و أما أن يكون لكم إيمان مستيقظ العين و القلب ليدير الدفة إيمان لا يتزعزع بالإرادة الكلية التي لن يقودكم سواها إلى أبواب عدن السعيدة – فأمر منوط بكم كذلك وبكم لا غير .
و أما أن تكون لكم إرادة لا تعرف الجزع – إرادة التغلب و الوصول إلى شجرة الفهم المقدس التي هي شجرة الحياة – فأمر منوط بكم كذلك و بكم لا غير .
الإنسان سائر إلى الله . فما من وجهة أخرى جديرة بآلامه . و أي بأس في أن يكون طريقه مفروشاً بالعواصف و الزوابع ؟ فالإيمان النقي القلب الحادّ البصيرة و البصر ليتمنطق بالزوبعة و يمتطي العاصفة .
ألا سابقوا الزمان . فكل ساعة تقتلونها بالتذبذب و البطالة ساعة حبلى بالوجع . و الناس حتى أكثرهم حركة متذبذبون في الغالب و بطّالون .
أنتم بناة سفنٍ كلٌ على طريقته . و انتم بحارون كل في سبيله . ذاك هو العمل المُعد لكم منذ الأزل : أن تمخروا عباب ذلك المحيط اللامتناهي الذي هو أنتم لتظفروا منه بلحن الوجود الصامت الذي هو الله .
لكل شيء محور منه يشعّ و عليه تدور حركته فإن تكن الحياة – حياتكم – دائرةً محورها الوصول إلى الله فكل أعمالكم يجب أن تتمركز في ذلك المحور فتنطلق منه و تدور عليه و إلا كانت تذبذباً و بطالة .
و لا شغل للأنبياء على الأرض إلا أن يقودوا الإنسان إلى ميراثه الإلهي .
تحياتي