فراشات حول النور، لا تلبث تدور، حتى تفنى فيه! عاشقٌ، وأنت المعشوق، وَالِه وأنت الآله، ألست القائل لعشاقك: ((.. إني حبيب من أحبني، وجليس من جالسني، ومؤنسٌ لمن أنِسَ بذكري، وصاحب لمن صاحبني، ومختار لمن اختارني، ومطيع لمن أطاعني..)). فأي محبوب أنت؟! وكيف لا تُحب ولا تعشق وأنت ـ بسموّك وجلالك ـ تنزلت لعشاقك حتى صرت ـ وأنت المطاع الذي بيده كل شيء ـ مطيعاً لهم؟!
((إذا أحب العبد لقائي أحببت لقاءه.. وإذا تقرَّب اليَّ شبراً تقربت اليه ذراعاً، وإذا تقرّب الي ذراعاً تقربت اليه باعاً)).
فمنّا البدء ومنك القرب، ومنّا الشبر ومنك الذراع، ومنّا الذراع ومنك الباع. فالفراشة القابعة في دامس الظلالم كيف تعرف العشق والفناء؟ وكذا القلب الذي سها عنك وجفاك، كيف يمكنه أن يحبك؟! وهل يُعشق المجهول؟!
((إلهي ترددي في الآثار يوجب بعد المزار، فاجمعني عليك بخدمةٍ توصلني اليك. كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر اليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟! متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟! ومتى بعُدتَ حتى تكون الآثار هي التي توصل اليك؟ عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبدٍ لم تجعل له من حبك نصيباً...))[1].
ما أعظم كلامك يا سيد الشهداء العارفين!
ما أحلى ترنيماتك يا حسين بن علي وأنت تناغي ربَّك!
منك فلنتعلم دروس الحب الإلهي، وعلى خطى نهجك فليمشِ السالكون إلى حضيرة القدس. فأنت أيها العظيم من أقصر الطرق إلى محبة الله، أو ليس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ((أنا من حسين وحسين مني، أحبّ الله من أحب حسيناً، حسين سبط من الاسباط))[2].
لم ترضَ ـ يا سيد الشهداء ـ من الحب بالقول دون الفعل، بل أبى الذي احببته ـ جلَّ وعلا ـ إلا أن يجمع لك كل فضيلة، فحزت قصب السبق في مضمار الوصال ((الهي هذا ذلّي ظاهرٌ بين يديك، وهذا حالي لا يخفى عليك، منك اطلب الوصول اليك، وبك استدلُّ عليك، فاهدني بنورك اليك، وأقمني بصدق العبودية بين يديك..)). ها هي أقوالك يا سيد العارفين، ومن أحسن منك قيلا؛ فلنستزد منها روياً، ولنحتمل من عبقاتها نوراً جلياً، أولست القائل ـ يا بن رسول الله ـ مخاطباً ربك: ((أنت الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوليائك حتى عرفوك ووحدوك، وأنت الذي أزلت الاغيار عن قلوب أحبائك حتى لم يحبوا سواك ولم يلجأوا إلى غيرك، أنت المؤنس لهم حيث أوحشتهم العوالم، وأنت الذي هديتهم حيث استبانت لهم المعالم.
ماذا وجد من فقدك؟ وما الذي فقد من وجدك؟ لقد خاب من رضي دونك بدلاً..)).
وهكذا كانت سيرتك دليلاً للسالكين، ومناراً للمريدين. كيف لا! وقد رباك حبيب الله وأقرب الخلق اليه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، إذ كان لا يرتوي من لثم شفاهك وأنت صغير، ولطالما أمتطيت ظهره الشريف، وارتقيت كتفه المبارك، فأي معراجٍ عرجت يا أبا عبد الله؟! وأي مرتقىً رقيت!
وهكذا كانت حياتك كلها رقياً واستعلاء، فلم ترضَ بالمرتبة الدنيا بدل العليا، حتى تتوّج عشقك الابدي في ذلك اليوم المهول، وأي يوم هو؟ يوم لا كالايام، وساعاته لا كالساعات، ففي كل آنٍ منه يتجلى برهانٌ ساطع للحب والعشق الآلهي.
خروج: ركبٌ من الانوار، سلالة النبي المختار، ولده وبناته وأهل بيته اجبروا على ترك مكة مهد الرسالة أو يقيموا على الذل والهوان، انه الاسراء لكن لا لبيت المقدس بل لكربلاء يتقدمهم سيدهم وكبيرهم الحسين بن علي السبط، بقية الباقين من آل الرسول، بل وبقية الصالحين من انبياء ومرسلين.. انها رحلة لن تنتهي إلا باللقاء الموعود.
((الحمد لله، وما شاء الله، ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على رسوله، رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على بلاءه ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذّ عن رسول الله لحمته[3] بل هي مجموعةٌ له في حظيرة القدس، تقر بهم عينه، وينجز بهم وعده، من كان باذلاً فينا مهجته، وموطناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، اني راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى)) هكذا قال الحسين ـ عليه السلام ـ لكن لسائلٍ أن يسأل سيد الركب ـ كما سأله من كان بقربه آنذاك ـ ويقول له:
وتسير قافلة الانوار تلك، سبعة عشر نوراً من أهل بيت المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وأكثر من خمسين نوراً من خيار الصحابة والتابعين، بين من طعن بالسن حتى شد حاجبيه بعصابةٍ كيما يرى، وبين شاب في ريعان الشباب وزهرته، وبين يافع في ذروة الصبا، وبين طفلٍ لم يشتد عوده بعد بل حتى الاطفال الرضع خرجوا للقاء السرمدي ذاك، خرج كل ذاك الجمع ليقولوا للبشرية جمعاء ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه))[5]، لا يمنع من ذلك صغر ولا كبر، ولا جنس ولا لون، ولا شرف حسبٍ ولا خسته.
وصول: هي ((كرب ايل))[6] أي: مدينة قربان الرب، أو ((حرم الله)) وهي بشاطيء الفرات من أرض العراق، هي التي قال فيها سيد رسل الله صلى الله عليه وآله وسلم ((اخبرني جبريل أن حسيناً يقتل بشاطي الفرات))[7].
هي كربلاء محط تلك القافلة المهيبة، ((واهاً لك من تربة ليقتلنَّ بك قوم يدخلون الجنّة بغير حساب))[8] هكذا وصفها علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ حين مرَّ منها إلى صفين.
نزل العشاق ينتظرون اللقاء، تاجروا مع مشترٍ كريمٍ، الحسنة عنده بعشرٍ، بل يضاعف الحسنات اضعافاً كثيرة، بل يعطي بغير حساب، وعطاؤه ليس ككل عطاء، فهو عطاء لا نفاد ولا اضمحلال له، باعوا انفساً ليشتروا جنّةً عرضها السماوات والأرض أُعدت للمتقين.
((هذا موضع كربٍ وبلاء، ها هنا مناخ ركابنا، ومحط رحالنا وسفك دمائنا...))[9] قال الحسين عليه السلام.
ثم رفع يديه يناجي ربه وقد امتلأت عيناه بدموعٍ كنظم اللؤلؤ، يشكو إلى محبوبه ما المَّ به قائلاً: ((اللهم، إنّا عترة نبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قد أُخرجنا، وطردنا وأُزعجنا عن حرم جدنا، وتعدت بنو أمية علينا، اللهم فخذ لنا بحقنا وانصرنا على القوم الظالمين))[10].
ثم التفتَ إلى رفاق طريق العشق، إلى اصحابه وأهل بيته، قال لهم: بعد حمد الله والثناء عليه: ((أما بعد؛ فقد نزل بنا ما قد ترون، وان الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة[11] الاناء، وخسيس عيشٍ كالمرعى الوبيل[12]، ألا ترون إلى الحق لا يعمل به، والى الباطل لا يتناهى عنه، لَيرغب المؤمن في لقاء الله، فإني لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برما))[13].
فالأمر كالعملة ذو وجهين؛ وجه هو دفاع عن الدين وإقامة شعائره التي من أهمها الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوجه الثاني هو اشتياق ولوعة لا تفتر للقاء الله ـ جلَّ وعلا ـ.
لم يسغ لقوى الظلام أن ترى تلك الانوار تسطع في كربلاء، كما لم يسغ لقابيل أن يتقرب هابيل إلى ربه ويُتقبلَ عمله، فكان الموعد كربلاء.
تحركت كلاب الظلام المسعورة إلى تلك البقعة المباركة، ثلاثون الف أو يزيدون بخيلهم ورجلهم، وقد قرعوا طبول الباطل ليخرسوا صوت الحق، ليطفئوا نور الله في ارضه مردة الشياطين تلبست أثواب أنس، هي الاسياف التي ذبحت زكريا بن يحيى من قبل، واغتالت علي بن أبي طالبٍ بالأمس. فكان الموعد كربلاء.
((سمعنا يا بن رسول الله مقالتك، ولو كانت الدنيا لنا باقية، وكنّا فيها مخلدين لآثرنا النهوض معك على الاقامة فيها)).
((يا بن رسول الله لقد منَّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك، وتقطع فيك اعضاؤنا، ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة)).
عروج: وبزغ فجر يوم العاشر من محرم الحرام سنة 61 للهجرة، قلوب تخفق من شدة الشوق، تحسب الساعات والدقائق، كي تخضب بالدم لا الحناء، فهو عرس لكن لا كالأعراس، فها هو السيد الأعظم الحسين بن علي وقد جيء له بجفنة ـ اناء ـ فيها مسك، فتطيب وتحنط وكذا فعل جميع الاصحاب[14].
ولما كان شخص الحسين حجة على الناس لا بد من وجودها كي لا تخلو الأرض من حجة لله يحتج بها على الناس، ويوصل الناس إلى كمالهم المنشود، كان لا بد له ـ عليه السلام ـ من اتمام الحجة في ذلك اليوم (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّ عن بينة)[15]. فقام ـ عليه السلام ـ خطيباً ، ليفرغ عن لسان جده وأبيه قائلاً:
((أيها الناس، انسبوني من أنا؟ ثم راجعوا إلى انفسكم وعاتبوها وانظروا هل يحلُّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ التست ابن بنت نبيكم وابن وصيه وابن عمه؟ وأول المؤمنين بالله والمصدق لرسوله بما جاء من عند ربه؟ أو ليس حمزة سيد الشهداء عم أبي؟ أوليس جعفر الطيار عمي؟ أو لم يبلغكم قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لي ولأخي ((هذا سيدا شباب أهل الجنة)) ، فإن صدقتموني بما اقول وهو الحق، والله ما تعمدت الكذب منذ علمت أن الله يمقت عليه أهله، ويضرُّ به من اختلقه. وإن كذبتموني فإن فيكم من لو سألتموه أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الانصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟)).
ولكن هيهات، هيهات (بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون).
فأجابوه سراعاً، لكن برشق النبل واشراع الرماح وتجريد المواضي، وزحفت تلك العساكر الظالمة لتغطي ضوء الشمس بأكفها.
فما كان من سيد شباب أهل الجنة إلا أن يأذن لأصحابه المتفانين فيه قائلاً لهم: ((قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لا بد منه، فإنّ هذه السهام رسل القوم اليكم))[16].
سبعون ونيفاً ثبتوا لثلاثين الفاً أو يزيدون، وكانوا كلما حمي الوطيس ازدادوا حباً لسيدهم وحسينهم، وشوقاً لربهم، فضربوا امثالاً في الذود والوفاء والحب لا تسعها الاقلام، وتجف عندها المحابر، فكيف تصف الاقلام موقف سعيد بن عبد الله الحنفي الذي ثبت أمام الحسين يقيه السهام وهو يصلي، فكان سعيد هذا يبادر إلى السهام المتجهة صوب سيد شباب أهل الجنة، فيتقيها ببدنه، فوقف كالطود الأشم، إلى أن أتم الحسين ـ عليه السلام ـ صلاته، فهوى ذلك الجبل على الأرض وهو يتمتم ((اللهم العنهم لعن عادٍ وثمود، وأبلغ نبيك مني السلام، وابلغه ما لقيت من ألم الجراح، فإني اردت بذلك ثوابك ونصرة ذرية نبيك)).
ثم التفت لسيده قائلاً: أوفيت يا بن رسول الله؟
فأجابه الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ: نعم أنت أمامي في الجنة.
هكذا يصنع الحب الصادق، بل كيف تصف الاقلام من كان حب الحسين قد شغله عن درعه ولباس حربه فينزل لملاقاة العدو، بلا درع ولا مغفر، فينادى: أجننت يا عابس!
فيقول: حب الحسين أجنني.
وهكذا يسقط الضرغام تلو الضرغام، مستأنسين بالموت استيناس الرضيع بمحالب أُمه. حتى جاء دور أهل بيت الحسين يتقدمهم الابن الاكبر علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فاستأذنوا من سيدهم الاكبر في القتال، فقدمهم قرابين لربهم، فقاتلوا قتالاً لم تشهد العرب مثله، حتى صُرِّعوا دونه يقونه بمهجهم وارواحهم والكل ينادي قبل أن يرحل (عليك مني السلام أبا عبد الله).
ثم يبقى وحيداً سيد الشهداء، ينظر إلى جثث أهل بيته وأصحابه وقد كساها العشق اردية حمر اصطبغت بلونها أرض كربلاء، اطفال تتصارخ العطش العطش.. أخبية النسوة قد مزقتها السهام.. نساء مذعورات والهات..
أنا الحسين بن علي
آليت ألا انثني
أحمي عيالات أبي
امضي على دين النبي
رجل في قبال جيش، لم ينثنِ عزمه، ولم تفتر همته.
أخذ ـ عليه السلام ـ يصول ويجول غير آبهٍ بالجمع ولا مكترثٍ بالعدد، فهو شبل ذاك الاسد الهصور علي بن أبي طالب.
أربعة آلاف نبلة، وعدة الآفٍ من السيوف ومثلها من الرماح، ناهيك عن رضخ الحجارة وغيرها.
كان وجه سيد الشهداء يتلألأ ويشتد نورانيةً كلما اقترب اللقاء، حتى قال بعض قاتليه لعنهم الله: ((لقد شغلنا جمال وجهه ونور بهجته عن الفكرة في قتله))[17].
وجه مخضب بالدماء.. جسد مليء بالجراحات وقد صار كالقنفذ من كثرة السهام.. شفاه ذابلات من العطش.. عيون غائرات.. هكذا يلقى الحبيب حبيبه وفيه كل آثار الحب هذه. بل ان اوسمة الحب تزداد أكثر فاكثر حتى أُبين الرأس عن الجسد؛ فكان هذا أعظم وسام، ثم رُضَّ الجسد بحوافر الخيل بعد أن ترك عارياً.. وهكذا؛ يفنى العاشق بالمعشوق ليتم اللقاء.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنّ للحسين في بواطن المؤمنين معرفة مكتومة...))[18].
annajat.com
((إذا أحب العبد لقائي أحببت لقاءه.. وإذا تقرَّب اليَّ شبراً تقربت اليه ذراعاً، وإذا تقرّب الي ذراعاً تقربت اليه باعاً)).
فمنّا البدء ومنك القرب، ومنّا الشبر ومنك الذراع، ومنّا الذراع ومنك الباع. فالفراشة القابعة في دامس الظلالم كيف تعرف العشق والفناء؟ وكذا القلب الذي سها عنك وجفاك، كيف يمكنه أن يحبك؟! وهل يُعشق المجهول؟!
((إلهي ترددي في الآثار يوجب بعد المزار، فاجمعني عليك بخدمةٍ توصلني اليك. كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر اليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟! متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟! ومتى بعُدتَ حتى تكون الآثار هي التي توصل اليك؟ عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبدٍ لم تجعل له من حبك نصيباً...))[1].
ما أعظم كلامك يا سيد الشهداء العارفين!
ما أحلى ترنيماتك يا حسين بن علي وأنت تناغي ربَّك!
منك فلنتعلم دروس الحب الإلهي، وعلى خطى نهجك فليمشِ السالكون إلى حضيرة القدس. فأنت أيها العظيم من أقصر الطرق إلى محبة الله، أو ليس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ((أنا من حسين وحسين مني، أحبّ الله من أحب حسيناً، حسين سبط من الاسباط))[2].
لم ترضَ ـ يا سيد الشهداء ـ من الحب بالقول دون الفعل، بل أبى الذي احببته ـ جلَّ وعلا ـ إلا أن يجمع لك كل فضيلة، فحزت قصب السبق في مضمار الوصال ((الهي هذا ذلّي ظاهرٌ بين يديك، وهذا حالي لا يخفى عليك، منك اطلب الوصول اليك، وبك استدلُّ عليك، فاهدني بنورك اليك، وأقمني بصدق العبودية بين يديك..)). ها هي أقوالك يا سيد العارفين، ومن أحسن منك قيلا؛ فلنستزد منها روياً، ولنحتمل من عبقاتها نوراً جلياً، أولست القائل ـ يا بن رسول الله ـ مخاطباً ربك: ((أنت الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوليائك حتى عرفوك ووحدوك، وأنت الذي أزلت الاغيار عن قلوب أحبائك حتى لم يحبوا سواك ولم يلجأوا إلى غيرك، أنت المؤنس لهم حيث أوحشتهم العوالم، وأنت الذي هديتهم حيث استبانت لهم المعالم.
ماذا وجد من فقدك؟ وما الذي فقد من وجدك؟ لقد خاب من رضي دونك بدلاً..)).
وهكذا كانت سيرتك دليلاً للسالكين، ومناراً للمريدين. كيف لا! وقد رباك حبيب الله وأقرب الخلق اليه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، إذ كان لا يرتوي من لثم شفاهك وأنت صغير، ولطالما أمتطيت ظهره الشريف، وارتقيت كتفه المبارك، فأي معراجٍ عرجت يا أبا عبد الله؟! وأي مرتقىً رقيت!
وهكذا كانت حياتك كلها رقياً واستعلاء، فلم ترضَ بالمرتبة الدنيا بدل العليا، حتى تتوّج عشقك الابدي في ذلك اليوم المهول، وأي يوم هو؟ يوم لا كالايام، وساعاته لا كالساعات، ففي كل آنٍ منه يتجلى برهانٌ ساطع للحب والعشق الآلهي.
خروج: ركبٌ من الانوار، سلالة النبي المختار، ولده وبناته وأهل بيته اجبروا على ترك مكة مهد الرسالة أو يقيموا على الذل والهوان، انه الاسراء لكن لا لبيت المقدس بل لكربلاء يتقدمهم سيدهم وكبيرهم الحسين بن علي السبط، بقية الباقين من آل الرسول، بل وبقية الصالحين من انبياء ومرسلين.. انها رحلة لن تنتهي إلا باللقاء الموعود.
((الحمد لله، وما شاء الله، ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على رسوله، رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على بلاءه ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذّ عن رسول الله لحمته[3] بل هي مجموعةٌ له في حظيرة القدس، تقر بهم عينه، وينجز بهم وعده، من كان باذلاً فينا مهجته، وموطناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، اني راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى)) هكذا قال الحسين ـ عليه السلام ـ لكن لسائلٍ أن يسأل سيد الركب ـ كما سأله من كان بقربه آنذاك ـ ويقول له:
وتسير قافلة الانوار تلك، سبعة عشر نوراً من أهل بيت المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وأكثر من خمسين نوراً من خيار الصحابة والتابعين، بين من طعن بالسن حتى شد حاجبيه بعصابةٍ كيما يرى، وبين شاب في ريعان الشباب وزهرته، وبين يافع في ذروة الصبا، وبين طفلٍ لم يشتد عوده بعد بل حتى الاطفال الرضع خرجوا للقاء السرمدي ذاك، خرج كل ذاك الجمع ليقولوا للبشرية جمعاء ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه))[5]، لا يمنع من ذلك صغر ولا كبر، ولا جنس ولا لون، ولا شرف حسبٍ ولا خسته.
وصول: هي ((كرب ايل))[6] أي: مدينة قربان الرب، أو ((حرم الله)) وهي بشاطيء الفرات من أرض العراق، هي التي قال فيها سيد رسل الله صلى الله عليه وآله وسلم ((اخبرني جبريل أن حسيناً يقتل بشاطي الفرات))[7].
هي كربلاء محط تلك القافلة المهيبة، ((واهاً لك من تربة ليقتلنَّ بك قوم يدخلون الجنّة بغير حساب))[8] هكذا وصفها علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ حين مرَّ منها إلى صفين.
نزل العشاق ينتظرون اللقاء، تاجروا مع مشترٍ كريمٍ، الحسنة عنده بعشرٍ، بل يضاعف الحسنات اضعافاً كثيرة، بل يعطي بغير حساب، وعطاؤه ليس ككل عطاء، فهو عطاء لا نفاد ولا اضمحلال له، باعوا انفساً ليشتروا جنّةً عرضها السماوات والأرض أُعدت للمتقين.
((هذا موضع كربٍ وبلاء، ها هنا مناخ ركابنا، ومحط رحالنا وسفك دمائنا...))[9] قال الحسين عليه السلام.
ثم رفع يديه يناجي ربه وقد امتلأت عيناه بدموعٍ كنظم اللؤلؤ، يشكو إلى محبوبه ما المَّ به قائلاً: ((اللهم، إنّا عترة نبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قد أُخرجنا، وطردنا وأُزعجنا عن حرم جدنا، وتعدت بنو أمية علينا، اللهم فخذ لنا بحقنا وانصرنا على القوم الظالمين))[10].
ثم التفتَ إلى رفاق طريق العشق، إلى اصحابه وأهل بيته، قال لهم: بعد حمد الله والثناء عليه: ((أما بعد؛ فقد نزل بنا ما قد ترون، وان الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة[11] الاناء، وخسيس عيشٍ كالمرعى الوبيل[12]، ألا ترون إلى الحق لا يعمل به، والى الباطل لا يتناهى عنه، لَيرغب المؤمن في لقاء الله، فإني لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برما))[13].
فالأمر كالعملة ذو وجهين؛ وجه هو دفاع عن الدين وإقامة شعائره التي من أهمها الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوجه الثاني هو اشتياق ولوعة لا تفتر للقاء الله ـ جلَّ وعلا ـ.
لم يسغ لقوى الظلام أن ترى تلك الانوار تسطع في كربلاء، كما لم يسغ لقابيل أن يتقرب هابيل إلى ربه ويُتقبلَ عمله، فكان الموعد كربلاء.
تحركت كلاب الظلام المسعورة إلى تلك البقعة المباركة، ثلاثون الف أو يزيدون بخيلهم ورجلهم، وقد قرعوا طبول الباطل ليخرسوا صوت الحق، ليطفئوا نور الله في ارضه مردة الشياطين تلبست أثواب أنس، هي الاسياف التي ذبحت زكريا بن يحيى من قبل، واغتالت علي بن أبي طالبٍ بالأمس. فكان الموعد كربلاء.
((سمعنا يا بن رسول الله مقالتك، ولو كانت الدنيا لنا باقية، وكنّا فيها مخلدين لآثرنا النهوض معك على الاقامة فيها)).
((يا بن رسول الله لقد منَّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك، وتقطع فيك اعضاؤنا، ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة)).
عروج: وبزغ فجر يوم العاشر من محرم الحرام سنة 61 للهجرة، قلوب تخفق من شدة الشوق، تحسب الساعات والدقائق، كي تخضب بالدم لا الحناء، فهو عرس لكن لا كالأعراس، فها هو السيد الأعظم الحسين بن علي وقد جيء له بجفنة ـ اناء ـ فيها مسك، فتطيب وتحنط وكذا فعل جميع الاصحاب[14].
ولما كان شخص الحسين حجة على الناس لا بد من وجودها كي لا تخلو الأرض من حجة لله يحتج بها على الناس، ويوصل الناس إلى كمالهم المنشود، كان لا بد له ـ عليه السلام ـ من اتمام الحجة في ذلك اليوم (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّ عن بينة)[15]. فقام ـ عليه السلام ـ خطيباً ، ليفرغ عن لسان جده وأبيه قائلاً:
((أيها الناس، انسبوني من أنا؟ ثم راجعوا إلى انفسكم وعاتبوها وانظروا هل يحلُّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ التست ابن بنت نبيكم وابن وصيه وابن عمه؟ وأول المؤمنين بالله والمصدق لرسوله بما جاء من عند ربه؟ أو ليس حمزة سيد الشهداء عم أبي؟ أوليس جعفر الطيار عمي؟ أو لم يبلغكم قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لي ولأخي ((هذا سيدا شباب أهل الجنة)) ، فإن صدقتموني بما اقول وهو الحق، والله ما تعمدت الكذب منذ علمت أن الله يمقت عليه أهله، ويضرُّ به من اختلقه. وإن كذبتموني فإن فيكم من لو سألتموه أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الانصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟)).
ولكن هيهات، هيهات (بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون).
فأجابوه سراعاً، لكن برشق النبل واشراع الرماح وتجريد المواضي، وزحفت تلك العساكر الظالمة لتغطي ضوء الشمس بأكفها.
فما كان من سيد شباب أهل الجنة إلا أن يأذن لأصحابه المتفانين فيه قائلاً لهم: ((قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لا بد منه، فإنّ هذه السهام رسل القوم اليكم))[16].
سبعون ونيفاً ثبتوا لثلاثين الفاً أو يزيدون، وكانوا كلما حمي الوطيس ازدادوا حباً لسيدهم وحسينهم، وشوقاً لربهم، فضربوا امثالاً في الذود والوفاء والحب لا تسعها الاقلام، وتجف عندها المحابر، فكيف تصف الاقلام موقف سعيد بن عبد الله الحنفي الذي ثبت أمام الحسين يقيه السهام وهو يصلي، فكان سعيد هذا يبادر إلى السهام المتجهة صوب سيد شباب أهل الجنة، فيتقيها ببدنه، فوقف كالطود الأشم، إلى أن أتم الحسين ـ عليه السلام ـ صلاته، فهوى ذلك الجبل على الأرض وهو يتمتم ((اللهم العنهم لعن عادٍ وثمود، وأبلغ نبيك مني السلام، وابلغه ما لقيت من ألم الجراح، فإني اردت بذلك ثوابك ونصرة ذرية نبيك)).
ثم التفت لسيده قائلاً: أوفيت يا بن رسول الله؟
فأجابه الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ: نعم أنت أمامي في الجنة.
هكذا يصنع الحب الصادق، بل كيف تصف الاقلام من كان حب الحسين قد شغله عن درعه ولباس حربه فينزل لملاقاة العدو، بلا درع ولا مغفر، فينادى: أجننت يا عابس!
فيقول: حب الحسين أجنني.
وهكذا يسقط الضرغام تلو الضرغام، مستأنسين بالموت استيناس الرضيع بمحالب أُمه. حتى جاء دور أهل بيت الحسين يتقدمهم الابن الاكبر علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فاستأذنوا من سيدهم الاكبر في القتال، فقدمهم قرابين لربهم، فقاتلوا قتالاً لم تشهد العرب مثله، حتى صُرِّعوا دونه يقونه بمهجهم وارواحهم والكل ينادي قبل أن يرحل (عليك مني السلام أبا عبد الله).
ثم يبقى وحيداً سيد الشهداء، ينظر إلى جثث أهل بيته وأصحابه وقد كساها العشق اردية حمر اصطبغت بلونها أرض كربلاء، اطفال تتصارخ العطش العطش.. أخبية النسوة قد مزقتها السهام.. نساء مذعورات والهات..
أنا الحسين بن علي
آليت ألا انثني
أحمي عيالات أبي
امضي على دين النبي
رجل في قبال جيش، لم ينثنِ عزمه، ولم تفتر همته.
أخذ ـ عليه السلام ـ يصول ويجول غير آبهٍ بالجمع ولا مكترثٍ بالعدد، فهو شبل ذاك الاسد الهصور علي بن أبي طالب.
أربعة آلاف نبلة، وعدة الآفٍ من السيوف ومثلها من الرماح، ناهيك عن رضخ الحجارة وغيرها.
كان وجه سيد الشهداء يتلألأ ويشتد نورانيةً كلما اقترب اللقاء، حتى قال بعض قاتليه لعنهم الله: ((لقد شغلنا جمال وجهه ونور بهجته عن الفكرة في قتله))[17].
وجه مخضب بالدماء.. جسد مليء بالجراحات وقد صار كالقنفذ من كثرة السهام.. شفاه ذابلات من العطش.. عيون غائرات.. هكذا يلقى الحبيب حبيبه وفيه كل آثار الحب هذه. بل ان اوسمة الحب تزداد أكثر فاكثر حتى أُبين الرأس عن الجسد؛ فكان هذا أعظم وسام، ثم رُضَّ الجسد بحوافر الخيل بعد أن ترك عارياً.. وهكذا؛ يفنى العاشق بالمعشوق ليتم اللقاء.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنّ للحسين في بواطن المؤمنين معرفة مكتومة...))[18].
annajat.com
تعليق