إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

:: فلسفة الشعائر الحسينيّة - اللطم - الزنجيل - التطبير ::

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • :: فلسفة الشعائر الحسينيّة - اللطم - الزنجيل - التطبير ::

    بسم الله الرحمن الرحيم
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف



    :: فلسفة الشعائر الحسينيّة - اللطم - الزنجيل - التطبير ::

    (إحسان الفضلي)
    المراجعة والتدقيق : الأديب حيدر السلامي

    ====

    الإهداء:
    إلى إمامي وسيدي ومولاي صاحب العصر والزمان , الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه , وسهّل مخرجه , وجعلنا من أنصاره) .
    قالت اُمّ المصائب زينب (عليها السّلام) : فكد كيك , واسعَ سعيك ، وناصب جهدك , فوالله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا ، ولا ترحض عنك عارها . وهل رأيك إلاّ فند , وأيامك إلاّ عدد , وجمعك إلاّ بدد , يوم ينادي المنادي : ألا لعنة الله على الظالمين .

    فالحمد لله ربِّ العالمين الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة ، ولآخرنا بالشهادة والرحمة , ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ويوجب لهم المزيد ، ويحسن علينا الخلافة إنه رحيم ودود ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .


    ====

    المقدّمة
    بسم الله الرحمن الرحيم
    لقد اعتاد الباحث في مدرسة أهل البيت (عليهم السّلام) أن يجد إشاراتهم ومعطياتهم في كافة مجالات الحياة ؛ سواء العلميّة منها أو غير العلميّة ، فلا بدّ أن يكون هناك توضيح لطالب العلم وللمتحير في كيفية النهج الواجب اتخاذه لبلوغ الحق والرسوّ في شاطئ اليقين .

    ومن هنا يتسائل الباحث عمّا أوضحته لنا مدرسة أهل البيت (عليهم السّلام) في المنهج الإعلامي , وكيف لنا أن نستقي المعرفة منها في هذا المجال ؟
    والمتتبع لتاريخ أهل البيت (عليهم السّلام) يستطيع أن يجد الإشارات الإعلاميّة واضحة بيّنة . ولعل من أوضحها سلاح البكاء الذي استخدمته الزهراء (عليها السّلام) ليكون رسالة إعلاميّة واضحة وصريحة الدلالة على سلب الحقوق , وصرخة مدويّة بوجه الظالمين .

    وإنّ هذا السلاح هو نفسه الذي استخدمه الإمام زين العابدين (عليه السّلام)(1) أمام الطغيان الاُموي ؛ فنحن نرى أحاديث أهل البيت (عليهم السّلام) العديدة في الحث على البكاء والتباكي , وما هي في الحقيقة إلاّ دعوة صريحة لاستخدام هذا السلاح بوجه الطغاة والمتجبرين في كلِّ زمان ومكان .

    والغريب أننا نرى اليوم بعض الدعوات والنداءات على ترك هذا السلاح الذي حثّ عليه أهل البيت (عليهم السّلام) في المناسبة تلو الاُخرى ، ونرى أصحاب هذه الدعوات أنفسهم يتقبّلون أساليب الإعلام الغربية بكل رحابة صدر ، في حين إنك ترى الغربيِّين يستخدمون للدلالة على الاحتجاج من وقوع ظلم معين الاعتصام مثلاً . وهو إن تأملت فيه تجده يقع في سياق البكاء للدلالة على الظلم , بل هما من قبيل وجهين لعملة واحدة تصب في مقام إيقاع الألم على النفس للدلالة على أنها تتعرض لألم أكبر هو الظلم .

    وعندما يقع الاعتصام من أحد الأشخاص ترى الدنيا تقوم وتقعد ؛ لما يشير إليه الاعتصام من دلالة واضحة على سوء الإدارة المعنية ، وأنها مارست الظلم بحق الشخص المعتصم . وهذا ما نتلمسه كذلك من سلاح البكاء الذي هو من الاُمور الفطرية التي جعلها المولى (عزّ وجلّ) من طبيعة الجنس البشري ، وأنه عند تعرضه للألم يبكي .

    والألم تارة يكون مادياً واُخرى يكون معنوياً ؛ فالإنسان عندما يتعرّض لفقد عزيز , أو يُهضم حقه تراه يبكي بطبيعة الفطرة التي جعلها الله (عزّ وجلّ) فيه ، وهذا الألم المعنوي . وأمّا المادي فهو ما يتعرّض له من حوادث تؤدّي إلى تلف في جسمه ؛ من كسر أو جرح أو قرح وغيرها ، وبنفس الفطرة تراه يبكي عند التعرّض لمثل هذه الحوادث . ويتحول البكاء رمزاً ومتنفساً عندما يكون الألم ـ معنوياً كان أو مادياً ـ من الشدة بمكان .

    وفي إطار تبيين فلسفة الشعائر الحسينيّة لا بدّ لنا أن نعلم أنّ الشعائر الحسينيّة هي رمز من رموز الاحتجاج الواضحة في وجه الظلم الذي وقع على أهل البيت (عليهم السّلام) ، ونرجو أن يكون لهذا العمل المتواضع ثقلاً في الميزان ، وأن يهدي إلى الحق .

    كما وأرجو من جميع إخوتي في الإيمان أن يعفوا ويصفحوا عن العثرات والزلات ، وأن لا ينسونا من الدعاء بالتوفيق ؛ لكي نكون جميعاً من أنصار سيدة نساء العالمين ، المواسين لها في مصابها الجلل بما جرى عليها وعلى آل البيت (عليهم السّلام)(2) .

    1 ـ قال الإمام جعفر الصادق (عليه السّلام) : (( البكّاؤون خمسة : آدم , ويعقوب , ويوسف , وفاطمة بنت محمد , وعلي بن الحسين (عليهم السّلام) ؛ فأمّا آدم فبكى على الجنّة حتّى صار في خدّيه أمثال الأودية ؛ وأمّا يعقوب فبكى على يوسف حتّى ذهب بصره , وحتّى قيل له : (قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنْ الْهَالِكِينَ) .

    وأمّا يوسف فبكى على يعقوب حتّى تأذّى به أهلُ السجن , فقالوا له : إمّا أن تبكي بالليل وتسكت بالنهار , وإمّا أن تبكي بالنهار وتسكت بالليل . فصالحهم على واحدة منهما ؛ وأمّا فاطمة فبكت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتّى تأذّى به أهل المدينة , فقالوا لها : قد آذيتينا بكثرة بكائك . فكانت تخرج إلى المقابر , مقابر الشهداء , فتبكي حتّى تقضي حاجتها ثمّ تنصرف ؛ وأمّا علي بن الحسين فبكى على الحسين (عليه السّلام) عشرين سنة , أو أربعين سنة , ما وُضع بين يديه طعام إلاّ بكى , حتّى قال له مولىً له : جُعلت فداك يابن رسول الله ! إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين . قال : (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) . إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلاّ خنقتني لذلك عبرة لي ))(بحار الأنوار43 / 155 ـ باب 7) .

    2 ـ عن أبي بصير قال : كنت عند أبي عبد الله (عليه السّلام) اُحدّثه فدخل عليه ابنهُ , فقال له : (( مرحباً )) . وضمّه وقبّله , وقال : (( حقّر الله مَن حقّركم , وانتقم الله ممّن وتركم , وخذل الله مَن خذلكم , ولعن الله مَن قتلكم , وكان الله لكم ولياً وحافظاً وناصراً ؛ فقد طال بكاء النساء , وبكاء الأنبياء والصدّيقين , والشهداء وملائكة السماء )) .
    ثمَّ بكى , وقال : (( يا أبا بصير , إذا نظرت إلى ولد الحسين (عليه السّلام) أتاني ما لا أملكه بما أتى إلى أبيهم وآلهم . يا أبا بصير , إنّ فاطمة (عليها السّلام) لتبكيه وتشهق ، فتزفر جهنم زفرة لولا أنّ الخزنة يسمعون بكاءها , وقد استعدّوا لذلك ؛ مخافة أن يخرج منها عنق ... إلى أن قال : فلا تزال الملائكة مشفقين , يبكون لبكائها , ويدعون الله ويتضرعون إليه ... )) .

    إلى أن قال : قلتُ : جُعلت فداك ! إنّ هذا الأمر عظيم !

    قال : (( غيره أعظم منه ما لم تسمعه )) .

    ثم قال : (( يا أبا بصير , أما تحبُّ أن تكون فيمن يُسعد فاطمة (عليها السّلام) ؟ )) .

    فبكيت حين قالها , فما قدرت على المنطق , وما قدرت على كلامي من البكاء . (مستدرك الوسائل 10 / 314 ـ 315) .

    وقال الإمام الصادق (عليه السّلام) لزرارة : (( وما عينٌ أحبّ إلى الله ولا عبرة من عين بكت ودمعت عليه ـ الإمام الحسين (عليه السّلام) ـ . وما من باكٍ يبكيه إلاّ وقد وصل فاطمة وأسعدها عليه , ووصل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , وأدّى حقّنا . وما من عبد يُحشر إلاّ وعيناه باكيةٌ إلاّ الباكين على جدي الحسين (عليه السّلام) , تحت العرش , وفي ظل العرش , لا يخافون سوء يوم الحساب )) . (مستدرك الوسائل 10 / 314) .


    ====

    فلسفة الشعائر الحسينيّة:

    كثر في الآونة الأخيرة الكلام حول الشعائر الحسينيّة ، ولسنا هنا في معرض دراسة ومناقشة الأسباب التي تخفّت وراء هذا الكلام ، بل نسعى إلى أن نميط اللثام عن بعض النقاط غير الواضحة لدى كثيرين ممّن يخوضون في هذه الاُمور الدقيقة , ويثيرون حولها النقاشات والحوارات التي قد تزيد الطين بلة , وتسدل على الحقائق أستاراً وحجباً لعدم استنادها إلى المنهج العلمي , وانحدارها إلى التذوّق الحسّي والانفعال العاطفي ليس غير .

    ومن [خلال] متابعة هذه الحوارات وتقصّي محاورها وجدناها على الأكثر تنصبّ في شقين :

    الشق الأوّل :
    حول الجانب الفقهي , ومدى مشروعيّة هذه الشعائر , ومن خلاله التعرض إلى الجانب التأريخي لها . والمفجع في الأمر تداول هذا الجانب لدى عامة الناس , وإبداء الآراء الشخصية فيه ، وكأن لا وجود لأهل الاختصاص الذين يجب أن نرجع إليهم في مثل هذا النوع من الاُمور ، ونعلم من خلالهم مدى مشروعيّة هذه الشعائر , وكيفية التعامل معها من جهة شرعيّة . وأهل الاختصاص هم مراجعنا في التقليد , رحم الله الماضين منهم , وحفظ الباقين ذخراً لهذه الاُمّة , ولنصرة هذا الدين .

    والمتتبع لآراء فقهائنا يستطيع أن يرى بوضوح وجلاء تام أنّ مراجعنا , وعلى مدى التسلسل التاريخي لهم , لم يظهر فيهم من يحرّم هذه الشعائر , بل في أقل التقادير ذهبوا إلى إباحتها , والكثير منهم ذهب إلى استحبابها شرعاً , وأنها من الاُمور التي تبيّن مدى مظلومية أهل البيت (عليهم السّلام) .

    كما إنها من مظاهر الجزع على أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) ، هذا إلى جانب أنه لا يوجد دليل واحد على عدم مشروعيّة هذه الشعائر الحسينيّة ، وأعني دليلاً فقهياً يعتد به . أمّا الحديث عن أدلة من مثل أنّ هذه الشعائر غير إنسانية وما شابه فهو حديث خرافة ساقط عن الاعتبار , وما هذه البالونات المثارة من حوله إلاّ تخرّصات لا يمكن اعتمادها كأدلةٍ فقهيةٍ , وقد نوقشت وأمثالها من قبل فقهائنا الأجلاء بما يكفي الباحث مؤونة الرد عليها . كما أنّ هناك الكثير من المطبوعات التي تشير إلى الأدلة الشرعيّة التي اعتمدها فقهاؤنا في هذه المسألة .

    والتكليف الشرعي أمام هذه الشعائر بتعدد أنواعها يرجع فيه الشخص إلى مرجع تقليده ، وليس إلى رأيه الشخصي وتشخيصه الموضوعي . فكما نعلم أنّ في جميع الرسائل العملية لمراجعنا (حفظهم الله) العبارة التالية : عمل العامي بلا تقليد باطل .

    وهذه العبارة لا يذكرها فقهاؤنا إلاّ لأنها تبين أمراً واضحاً وصريحاً ورد في روايات أهل البيت (عليهم السّلام) ؛ ولذا يجب على كلِّ مكلف الرجوع إلى مرجع تقليده في مسألة الشعائر الحسينيّة كما يرجع إليه في جميع العبادات والمعاملات .

    ولا أظن ولم أسمع يوماً أنّ أحداً أجبر شخصاً آخر على ممارسة إحدى الشعائر , وإنّما الأمر يرجع إلى نفس الشخص ومدى شعوره بالانتماء والولاء لأهل البيت (عليهم السّلام) , ومدى تفاعله الشخصي معها . وهذا أمر واضح نستطيع أن نتلمسه من الواقع العملي لها ؛ فنجد شخصاً يشعر بالمواساة الحقيقية من خلال اللطم , وآخر يشعر بها من خلال الزنجيل وغيرها من الشعائر الاُخرى .

    ونحن هنا لسنا بصدد بيان الأدلّة الفقهية والتاريخيّة , وسرد آراء المراجع (حفظهم الله ورعاهم) ؛ ففيهم الكفاية لمَن يطلب ذلك , ويستطيع مراجعتهم أو وكلاءهم لتحصيل ذلك .

    أما الشقّ الثاني :
    فينحصر حول الجانب الفلسفي لهذه الشعائر , وما هو الغرض منها , وماذا تمثل هذه الشعائر ؟ وسيكون محور حديثنا حول هذا الجانب , محاولين توضيحه بأبسط العبارة وأوضحها , سائلين المولى الأجر والثواب في ذلك .

    ولكي نبيّن هذا الجانب سنحاول أخذ بعض هذه الشعائر كاُنموذج , ونشير إلى ما تمثّله وما تعنيه كلّ على حدة ؛ لكي يستطيع المتتبع أن يدرك من خلالها عمق وأبعاد المعاني التي تشير إليها .

    اللطم (اللدم) ، الزنجيل ، التطبير.

    وقد اخترت هذه الثلاثة بناءً على أنّ اللطم هو أكثر الشعائر انتشاراً , والزنجيل والتطبير الأكثر تداولاً في النقاش . ولم استطع أن اُبيّن جميع الشعائر ؛ كون تعدادها وبيان حكمتها يخرج هذا الكتيب عن الاختصار المنشود . على أمل التعرض لها في مؤلّفات اُخرى إن شاء المولى (عزّ وجلّ) .

    وقبل بيان حكمة كلٍّ من هذه المفردات الثلاث ، لا بدّ لي من الإشارة إلى العلّة والغاية التي لاجلهما قامت هذه الشعائر , مع أني مهما ذكرت من العلل والغايات فإنها لن تكون سوى قطرة من بحر خضم ؛ لما تحمله هذه الشعائر من أهداف نبيلة سامية ترمي إلى خدمة الاُمّة ورفعتها .

    يتبع...~


  • #2
    ثمرة ممارسة الشعائر الحسينيّة.
    إنّ العلة الرئيسة التي لأجلها كانت الشعائر الحسينيّة هي الممارسة الإعلاميّة الواضحة والمشيرة إلى الحق المسلوب ، وأنّ جميع الغايات والأهداف الاُخرى تتفرع منها .

    ويمكن إجمال تلك الأهداف بالنقاط التالية :

    1 ـ نشر تاريخ وعلوم أهل البيت (عليهم السّلام) وبيان فضلهم . ولا يخفى عظيم الحاجة إلى ذلك ؛ لما تعرّض له هذا التاريخ من تشويه ودس , لا سيما في العصرين الاُموي والعباسي ، وما عملته وتعمله الأقلام المأجورة والضالة إلى يومنا .

    2 ـ خلق الترابط العاطفي مع أهل بيت العصمة (عليهم السّلام) والذي هو نص صريح في القرآن الحكيم : (قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)(1) .

    3 ـ تربية وتوعية الجيل الجديد ، وبناء أساس فطري عقائدي متين يستند إليه .

    ونستطيع تلمّس الحاجة إلى ذلك من خلال مناهج الدراسة في المدارس الأكاديمية , ووسائل الإعلام المرئية على وجه التحديد التي تفتقر إلى ذكر أهل البيت (عليهم السّلام) , وما تخلفه من تأثيرات أساسية في التشكيل العقائدي للجيل الصاعد . ومن هذه النقطة ندرك مدى الحاجة للتمسّك الشديد بهذه الشعائر وتوجيه أجيال المستقبل نحوها .

    4 ـ تربية النفوس وإعدادها لنصرة إمام العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرجه , وسهّل مخرجه) من خلال ترسيخ القيم والمبادئ السامية ؛ مثل التضحية , والمواساة , ونصرة الحق وغيرها ، والتحقير والتنفير للصفات المذمومة ؛ مثل الطمع , والظلم , وقسوة القلب وغيرها(2) .

    5 ـ مخاطبة البشر كافة ، وبغض النظرعن الاختلاف والتباين الثقافي بينهم .

    ومن المعلوم أنّ الاُمّة الإسلاميّة ـ على سبيل المثال ـ تضم العديد من القوميات والأعراق والجنسيات التي هي بدورها تختلف من حيث الموروث الحضاري والثقافي ، ومخاطبتهم بالإعلام المكتوب لا تتيسر للجميع حتّى في عصر العولمة . أمّا الشعائر فإنها أشبه ما تكون في خطابها إلى اللوحة الفنية التي يستطيع الجميع أن يدرك مدى روعتها وجمال تعبيراتها وإن كان هذا الإدراك يختلف بالدرجة وفقاً للوعي الثقافي .

    6 ـ خلق عامل وحدوي من خلال المشاركة الجماهيرية في المواساة لأهل البيت (عليهم السّلام) .

    ولعل هذا العامل من أهم العوامل المستبطنة في أحاديث أهل البيت (عليهم السّلام) التي تحثّ على المواساة والحزن في مصابهم . فمن المعلوم في علم النفس أنّ الإنسان عندما يكون في حالة الحزن يصبح تأثره العاطفي سريعاً , فيكون على سبيل المثال سريع الرضا والحب والانفعال ، وكذلك إنّ وجود شخص آخر يشاركه المصاب معه يؤدّي مع ما ذكرناه إلى زيادة الاُلفة والمحبة والتودد بين المشاركين في الشعائر الحسينيّة , وتقوية أنفسهم على تحمّل أعباء الحياة ، وهذا ما يخلق جو الوحدة بين المشاركين ؛ الوحدة في المصاب , والوحدة في الهدف , والوحدة في التسابق لتحصيل الأجر والثواب في المواساة(3) .

    ومن هنا كانت هذه الشعائر تمثّل أحد الأعمدة التي يقوم عليها المذهب جنباً إلى جنب مع المرجعيّة التي تمثّل الإدارة والعقل الموجّه , في حين أنّ الشعائر تمثّل العنصر الجامع والموحّد بين أبناء المذهب على اختلاف جنسياتهم وقومياتهم .

    وعليه ندرك أن المحارب لهذه الشعائر لا يخلو من أحد أمرين : إمّا جاهل مغرور أو طامع معادي يهدف إلى تمزيق وحدة أبناء المذهب . قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) : (( قصم ظهري رجلان ؛ جاهل متنسك , وعالم متهتّك ))(4) .

    ــــــــــــــــ
    (1) سورة الشورى / 23 .
    (2) عن الإمام الباقر (عليه السّلام) قال : (( يا علقمة , واندبوا الحسين (عليه السّلام) وابكوه , وليأمر أحدكم مَن في داره بالبكاء عليه , وليقم عليه في داره المصيبة بإظهار الجزع والبكاء , وتلاقوا يومئذ بالبكاء بعضكم إلى بعض في البيوت , وحيث تلاقيتم , وليعزِّ بعضكم بعضاً بمصاب الحسين (عليه السّلام) )) .
    قلتُ : أصلحك الله ! كيف يعزَّي بعضنا بعضاً ؟
    قال : (( تقولون : أحسن الله أجورنا بمصابنا بأبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) , وجعلنا من الطالبين بثأره مع الإمام المهدي إلى الحقِّ من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وعليهم أجمعين) . وإن استطاع أحدكم أن لا يمضي يومه في حاجة فافعلوا ؛ فإنه يوم نحس لا تُقضى فيه حاجة مؤمن , وإن قُضيت لم يُبارك فيها , ولم يُرشد . ولا يدّخرن أحدكم لمنزله في ذلك اليوم شيئاً ؛ فإنه مَن فعل ذلك لم يُبارك فيه )) .
    قال الإمام الباقر (عليه السّلام) : (( أنا ضامن لمَن فعل ذلك له عند الله (عزّ وجلّ) ما تقدم به الذكر من عظيم الثواب , وحشره الله في جملة المستشهدين مع الحسين (عليه السّلام) )) . (مستدرك الوسائل 10 / 316 ـ 317) .
    (3) عن ابن خارجة , عن أبي عبد الله الصادق (عليه السّلام) , قال : كنا عنده فذكرنا الحسين بن علي (عليه السّلام) , وعلى قاتله لعنة الله , فبكى أبو عبد الله (عليه السّلام) وبكينا , قال : ثم رفع رأسه فقال : (( قال الحسين بن علي (عليه السّلام) : أنا قتيل العبرة , لا يذكرني مؤمن إلاّ بكى )) . (مستدرك الوسائل 10 / 311) .
    (4) شرح نهج البلاغة 20 / 284 .

    ====

    أولاً: اللطم (اللدم).

    وهو من أقدم الشعائر التي مارستها الشيعة لإظهار حالة التفجّع والحزن لمصيبة سيد الشهداء الحسين , ومصائب الأئمة المعصومين (عليهم السّلام) .

    إذ يجتمع حشد من الموالين في مكان مقدس ؛ كالمسجد أو الحسينيّة أو بعض الأوقاف , فيجرّدون نصف أبدانهم ويبدؤون بلدم الصدور , ولطم الخدود , وضرب الرؤوس بأساليب منسقة حزينة .

    ولتنسيق الضربات التي ينهالون بها على صدورهم يصعد شاعر أو حافظ للشعر وينشد قصائد منظمة باُسلوب خاص تذكّر اللاطمين بمصائب أهل البيت (عليهم السّلام) , وتحافظ نبراتها على وحدة الضرب , وهم يتجاوبون مع الراثي في ترديد بعض الأبيات الشعرية(1) , والضرب باليد يكون على الجانب الأيسر من الصدر , أي فوق منطقة القلب .

    واللطم هو أحد أهم وسائل إظهار الجزع على المعصومين (عليهم السّلام) وأكثرها انتشاراً ؛ ولتوضيح ذلك يجب علينا أن نعرف أنّ من طبيعة الجسم البشري أنه عندما يتعرّض إلى الألم المعنوي ـ الظلم تحديداً ـ يفرز هرمونات تعمل على زيادة الطاقة لديه ؛ ليكون مستعداً للدفاع عن نفسه .

    واللطم هو إحدى الوسائل للتنفيس عن هذه الطاقة والتي بدورها تشير إلى أن هناك ظلماً واقعاً وحقاً مسلوباً . وإنّ الذين يلطمون يشيرون من خلال اللطم إلى ذلك الظلم والحق .

    وجُعل ليكون جزءاً مهماً من الشعائر الحسينيّة كونه يمثل مواساة للزهراء (عليها السّلام) ، كما أن فيه إشارة إلى أن أهم ما ينبض بالحياة ـ القلب ـ ليرخص ويحزن لما جرى على آل محمد (عليهم السّلام) ، وأنّ مصدر الحياة هذا أضربه بنفسي دون خوف أو وجل ؛ دلالة على عظيم المصاب , أي عظيم الحق المسلوب والظلم الواقع .

    ومن الأدلة على ذلك ما يشير إليه علم الأدلة الجنائية ، أنّ المجني عليه إذا كان مضروباً في قلبه , أو في منطقة قريبة عليه يُعرف أنّ الجاني كان ينوي قتل المجني عليه ، بخلاف ما لو كانت الإصابة في البطن أو الأطراف .

    كما وأنّ التركيبة الجماعية في اللطم تشير إلى الوحدة والاشتراك في الإشارة إلى الحقِّ والمطالبة به . هذا هو الجانب الفلسفي لللطم بأبسط صورة ممكنة أستطيع أن اُقدّمها لك أخي القارئ .

    ـــــــــــــ
    (1) قاموس الشعائر الحسينيّة ـ لمؤلفه حيدر السلامي .

    يتبع...~

    تعليق


    • #3
      ثانياً: الزنجيل (ضرب السلاسل).

      موكب يتكون بتجمّع عدد غفير من الناس في مركز معيّن يقيمون فيه مأتماً على الإمام الحسين (عليه السّلام) , ثمّ يجردون ظهورهم ـ بلبس خاص من القماش الأسود الذي فُصّل خصيصاً لهذا الغرض ـ ويقبضون بأيديهم مقابض حزمة من السلاسل الرقيقة , فيضربون أكتافهم بها باُسلوب رتيب ينظّمه قرع الطبول والصنوج , بطور حربي عنيف , وينطلقون من مركز تجمعهم , ويسيرون عبر الشوارع إلى مكان مقدّس ينفضون فيه , وهم يهزجون في كلِّ ذلك بأناشيد حزينة , أو يهتفون : (مظلوم .. حسين .. شهيد .. عطشان .. يا حسين)(1) .

      والناظر لهذا الموكب يستشعر مدى قوة التحمّل لدى الضاربين وصبرهم .

      والتحليل الفلسفي لهذا الموكب هو أنّ الزنجيل في كلِّ البلدان الحضارية يشير إلى الظلم والاضطهاد , ويستطيع أي شخص أن يتلمس ذلك واضحاً وجلياً في معارض كبار الرسّامين , وفي الاُطروحات الأدبيّة قديماً وحديثاً . فعندما يضرب به على الظهر يراد الإشارة إلى أنّ الظلم والاضطهاد الذي جرى على أهل البيت (عليهم السّلام) وعلى شيعتهم لن يحيدنا عن خطِّهم وعن طريقهم ، وأنّ اضطهادكم أيها الظالمون نجعله وراء ظهورنا , ولا قيمة له ؛ ولذا كان الضرب بالزنجيل على الظهور وليس على الصدور .

      كما أنه يبعث بالرسالة الآتية : أيها الظالمون , إن كنتم تظنون أنكم تخيفوننا بالظلم والجور وكافة أنواع الاضطهاد ، فها نحن نضرب أنفسنا لكي نريكم أننا على استعداد لتحمّل ظلمكم , واضطهادكم لنا , في سبيل البقاء على العهد مع أهل البيت (عليهم السّلام) .

      هذه هي الحكمة التي تستطيع أن تستشعرها بوضوح أيها الموالي لأهل البيت (عليهم السّلام) ، كما يستطيع ذلك المعادي لهم .

      ــــــــــ
      (1) المصدر السابق نفسه .

      ====

      ثالثاً: التطبير المقدس.

      والتطبير هو لبس الأكفان , وحلق الرأس في صبيحة اليوم العاشر من محرم الحرام , يوم استشهاد أبي الأحرار أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) ؛ إذ يضرب المتطبّر رأسه بالسيف وينزل الدم من رأسه ، ويكون ذلك في موكب يسير فيه المتطبرون وهم ينادون : حيدر , حيدر ، مع قرع الطبول , والرايات البيضاء الملطّخة بالأحمر , ومزامير الحرب .

      وهذه الشعيرة الحسينيّة هي أكثر الشعائر التي اُثير الجدل حولها مع بعد وعمق المعنى الذي تشير إليه .

      وقبل بيان فلسفة هذه الشعيرة أعود فأذكر أنّ كلَّ مكلّف يرجع إلى مرجع تقليده في جميع اُموره من العبادات والمعاملات ، ولا يجوز له أن يرجع إلى نفسه في تشخيص صحة هذا العمل أو ذاك من جهة شرعيّة .

      كما أنّ مراجعنا العظام (دام ظلهم) على درجة من التقوى والإيمان ما يجعلهم يبحثون ويمحّصون كثيراً لكي يتوصلوا إلى الأحكام الشرعيّة ، وأنّهم أهل الاختصاص الذين يجب الرجوع إليهم في كافة التكاليف الشرعيّة ، وأنّ الدين الإسلامي ليس دين الانتقائية والمزاجية التي يجنح إليها البعض نتيجة التأثر بالأفكار الدخيلة على الدين والمذهب , (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)(1) .

      والآن نوضّح الحكمة من هذا الموكب من خلال التعرّض للمفردات التي وردت في تعريفه ، وهي : لبس الأكفان , وحلق الرؤس ، وضرب الرأس بالسيف , والمناداة بـ (حيدر) .

      عُرف منذ القدم عند العرب وخصوصاً في العصر الإسلامي أنّ حلق الرأس ولبس الكفن يرمز إلى الاستعداد والمبايعة على الموت . والدارس للتاريخ الإسلامي يستطيع أن يرى ذلك بوضوح(2) ؛ فالمتطبر عندما يحلق رأسه ويرتدي الكفن إنما يشير بذلك إلى البيعة على الموت ، ولكن لمن هذه البيعة ؟

      قد يرد هذا السؤال على ذهن القارئ الكريم ، والجواب عليه هو : أننا نعلم من خلال الروايات عن أهل البيت (عليهم السّلام) أنّ إمام العصر والزمان الحجة القائم (عجّل الله تعالى فرجه , وسهّل مخرجه , وجعلنا من أنصاره) يظهر في يوم العاشر من محرم الحرام(3) ؛ ومن هنا كان المتطبر عندما يحلق راسه ويرتدي الكفن في يوم العاشر من محرم الحرام يشير إلى البيعة على الموت لإمام العصر والزمان ، وهذا هو ما تشير إليه المفردة الاُولى .

      أمّا المفردة الثانية , وهي ضرب الرأس بالسيف والمناداة بـ (حيدر) , فتشير بجنب البيعة على الموت مع الإمام إلى أنني اُبايعك يا سيدي ومولاي يا صاحب الزمان على الأخذ بالثأر معك ممّن اغتصب حقَّ جدك الكرار (عليه السّلام) ، وإنّ القوم قد بدا منهم ما بدا , وتجرؤوا ما تجرؤوا منذ نادى جبرائيل : تهدمت والله أركان الهدى(4) ؛ ولذا ترى المتطبر ينادي : حيدر حيدر , في حين أنه في يوم العاشر من محرم الحرام .

      وإنّ المتطبر يشير في مجمل ذلك إلى أنّه يبايع كما بايع أصحاب الحسين الشهيد (عليه السّلام) . وهل هناك بيعة أصدق من بيعتهم (رضوان الله تعالى عليهم)(5) ؟ وهل هناك بيعة أنبل من بيعتهم ؟ لا والله , يقولها كلُّ صادق مدرك لما جرى على سيد الشهداء (عليه السّلام) ، يقولها كلُّ مَن رضع عشق الحسين (عليه السّلام) ، يقولها كلُّ مَن أصدق النية مع ربه ، يقولها كلُّ مَن يرجو شفاعة أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة (عليهم السّلام) ، يقولها كلُّ مَن يرجو لقاء ربه بوجه كريم .

      ـــــــــــــ
      (1) سورة الذاريات / 55 .
      (2) قال : فلما أمسى بايعه ثلاثمئة وستّون رجلاً على الموت , فقال لهم أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( اغدوا بنا إلى أحجار الزيت مُحلقين )) . وحلق أمير المؤمنين (عليه السّلام) , فما وافى من القوم محلقاً إلاّ أبو ذر , والمقداد , وحذيفة بن اليمان , وعمار بن ياسر , وجاء سلمان في آخر القوم . فرفع (عليه السّلام) يده إلى السماء فقال : (( اللهمَّ إنّ القوم استضعفوني كما استضعفت بنو إسرائيل هارون )) . (الكافي ـ الخطبة الطالوتية) .
      (( أتاني أربعون رجلاً من المهاجرين والأنصار فبايعوني , وفيهم الزبير , فأمرتهم أن يصبحوا عند بابي محلقين رؤسهم , عليهم السلاح , فما وافى منهم أحد , ولا صبّحني منهم غير أربعة ؛ سلمان والمقداد , وأبو ذر والزبير )) . (مستدرك الوسائل 11 / 74 ـ باب28) .
      فما استجاب له من جميعهم إلاّ أربعة وعشرون رجلاً , فأمرهم أن يصبحوا بكرة محلقين رؤسهم , مع سلاحهم , قد بايعوه على الموت , فأصبح ولم يوافه منهم أحد غير أربعة .
      قلت لسلمان : مَن الأربعة
      قال : أنا وأبو ذر , والمقداد والزبير بن العوام . (بحار الأنوار 22 / 328 ـ باب10) .
      (3) عن أبي بصير قال : قال أبو عبد الله (عليه السّلام) : (( يُنادى باسم القائم (عجّل الله فرجه , وسهّل مخرجه) في ليلة ثلاث وعشرين ، ويقوم في يوم عاشوراء ، وهو اليوم الذي قُتل فيه الحسين بن علي (عليهما السّلام) . لكأني به في يوم السبت العاشر من المحرم قائماً بين الركن والمقام , جبرائيل (عليه السّلام) عن يده اليمنى ينادي : البيعة لله . فتصير إليه شيعته من أطراف الأرض , تُطوى لهم طياً حتّى يبايعوه , فيملأ الله به الأرض عدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً )) . (الإرشاد 2 / 378) .
      (4) ونادى جبرائيل بين السماء والأرض بصوت يسمعه كل مستيقظ : تهدّمت والله أركان الهدى , وانطمست والله نجوم السماء وأعلام التقى , وانفصمت والله العروة الوثقى ؛ قُتل ابن عمِّ محمّد المصطفى , قُتل الوصي المُجتبى , قُتل عليٌّ المرتضى , قتلُ والله سيدُ الأوصياء , قتله أشقى الأشقياء . (بحار الأنوار 42 / 280 ـ باب 127) .
      (5) (( السّلام عليكم يا أولياء الله وأحباءه , السّلام عليكم يا أصفياء الله وأوداءه , السّلام عليكم يا أنصار دين الله ... )) . (زيارة وارث)

      ====

      قد يورد بعض الإشكالات ثلة من الناس الذين عاشوا بعيداً عن أجواء العشق الحسيني , منها :

      أوّلاً : ليس جميع المشاركين في هذه الشعائر يدركون فلسفة الشعائر , وإنّ الكثير منهم لا يستطيع أن يدرك هذه الفلسفة مع أنّه يشارك في هذه الشعائر , وبنية غير النية التي تحدّثنا عنها .

      والجواب على ذلك : إن لم يكن جميع المشاركين في الشعائر الحسينيّة يدركون العمق الفلسفي لها فهذا لا يعني أنها خالية من هذا العمق ، مَثَلها مثل أمر الوالد لولده بأن يفعل أمراً ما يرى فيه الوالد مصلحة لولده في فعله , في حين إنّ الولد يرى عكس ذلك , فهل رؤية الولد تعني أنّ أمر الوالد خالي من المصلحة ؟

      كما إننا نستطيع أن نجد تأثيرات هذه الفلسفة , وكيف إنها جلية وواضحة لدى الكثيرين ممّن ينقمون علينا بسببها . وأقول لك وبوضوح : إنّ سبب نقمتهم على هذه الشعائر إنما هو الدليل الأوضح على استيعابهم لما فيها من إشارات واضحة وبيّنة استشعروها ، وعرفوا مغزاها ؛ ولذا كان منهم عدم تقبّلها ؛ لما تمسّ من تحريفاتهم وتضليلهم على حقائق آل البيت (عليهم السّلام) .

      وإلاّ فما معنى إنزعاجهم من أن أفعل بنفسي ما اُريد وفق الحدود الشرعيّة التي بيّنها لنا مراجعنا أيّدهم الله ، في حين يفترض وفق المنطق العقلي أنهم يسعدوا من تألمي وضربي لنفسي وأنا اُمثّل حقيقة يرفضونها ؟! ولكنها الحقيقة المرة التي تطفح على وجوه معانديها رغم أنوفهم .

      ثانياً : إنّ هذه الشعائر لم تقم في عصر الأئمة (عليهم السّلام) , فلا توجد عندنا رواية واحدة على أنّ أحد الأئمة قام بضرب رأسه بالسيف , أو ضرب ظهره بالسلاسل , أو لدم صدره , وبالتالي فهي بدعة وليست من الدين بشيء .

      والجواب ذُكر ضمناً في صفحات هذا الكتيب ، وهو : إنّ تقييم أنّ هذه الشعائر بدعة أو لا نرجع به إلى أهل الاختصاص , وليس إلى انفعالاتنا الشخصيّة وذوقنا الخاص . وأهل الاختصاص مراجعنا (حفظ الله الباقين منهم ورحم الماضين) , وليس من قائل منهم بأنها بدعة ، هذا أولاً .

      وثانياً : إنّه على القياس المذكور ـ أي إنّ الشيء الذي لم يقم به الإمام (عليه السّلام) , أو [لم يرد] فيه حكم فهو بدعة ـ يكون حكم المجتهد في قضية مثل الاستنساخ البشري , أو أطفال الأنابيب مثلاً بدعة , وحكم المجتهد في قضية مثل التلفزيون واستخدامه بدعة , وحكم المجتهد في الصلاة في طائرة بدعة , و ... إلخ , فكلها لم ينصّ فيها برواية واحدة على أنّ أحد الأئمة (عليهم السّلام) قام بها , أو أعطى حكماً على إحداها .

      فانتبه أخي القائل بالبدعة ؛ لئلاّ تبتدع أمراً تريد به نفي البدعة .

      ثالثاً : إنّ سير المواكب في الشوارع في عصرنا الحالي يجعل الأجانب ينظرون إلينا بعين السخرية والاستهزاء , ويرموننا بالتخلف والرجعية .

      والجواب : إنّ الدين ليس قائماً على حسن نظرة الأجانب إلينا أو عدم استهزائهم بنا ؛ فهم يستهزؤون بنا كوننا نسجد على التراب , وهم يستغربون منّا عدم مصافحتنا للنساء , وينظرون إلينا بعين الاستصغار لذلك , فهل يدعو الأمر إلى أن لا نسجد على التراب , وأن نصافح النساء ؟ هذا أوّلاً .

      أمّا ثانياً : إنّ لهم من عاداتهم ومراسيمهم الدينية والاجتماعية ما يوجب استهزاءنا بهم , فهل أعاروا ذلك أهمية ؟ كلا ، بل يمارسونها ويفتخرون بها ؛ سواء رضينا أم لم نرضَ .

      أمّا ثالثاً : فأيهما أهم , أن نحافظ على أبنائنا ونؤدّبهم بالأدب الحسيني أم نرضي الأجانب وندع جيلنا الجديد ضعيفاً في بحر التيارات والأفكار المنحرفة ؟

      رابعاً : إنّ المشاركين في هذه الشعائر يبذلون جهودهم وأموالهم , في حين لو أنهم بذلوها على تزويج الشباب , وإصلاح المجتمع , وتدعيم الاُمّة الإسلاميّة فهو أصلح وأولى .

      والجواب : إنّ بذل الجهد والأموال في هذه الشعائر هو إصلاح للمجتمع وتدعيم للاُمّة , وليس العكس ـ طبعاً لا يمكن إدراك ذلك لمَن لا يعي أبعاد هذه الشعائر وأهدافها ـ , على أن لا منافاة بين الأمرين , وليس ثمة تلازم .

      فكما أن تزويج الشباب مستحب ، فإنّ إقامة ودعم الشعائر مستحب , كذلك مع فرق أنّ تزويج الشباب يعود بالفائدة على بعض الأفراد , في حين إنّ إقامة الشعائر تعود بالفائدة على المجتمع ؛ فالمال والجهد المبذول لإقامة إحدى الشعائر في إحدى الحسينيات الكبيرة قد يكفي لتزويج أربعة أشخاص , أو حتّى ثمانية ، في حين إن المشاركين في الحسينيّة قد يصل عددهم إلى مئات , فأيهم أولى ؟

      وهذا كما ذكرت أعلاه لا يعني عدم استحباب تزويج الشباب والسعي بذلك , ولكنه لا يتنافى . كما لا منافاة بين غسل الجمعة الذي هو من المستحبات المؤكدة , وبين غسل اليدين قبل الطعام الذي هو مستحب أيضاً ، فلا يمكن أن نقول : إنّ الماء المبذول في غسل الجمعة نستخدمه في غسل اليدين ؛ لان غسل اليدين يمنع الأمراض فهو أولى(1) .

      خامساً : إنّ الكثير من المشاركين في هذه الشعائر ليسوا من المتمسكين دينياً , بل تراهم من البعيدين عن الدين , ولا يتخذون هذه الشعائر إلاّ طريقاً للرياء .

      والجواب على ذلك : إنّ اتخاذ بعضهم ـ وليس الكثير ـ هذه الشعائر طريقاً للرياء لا يعني خلوّها من الفائدة والحكمة ؛ فكما إنّ البعض يتخذ الصلاة والجلوس في المساجد والتسبيح طريقاً للرياء , فلا يعني هذا خلوها من الحكمة .

      وذكرت البعض ـ وليس الكثير ـ من الواقع العملي كون الرياء في الصلاة والتسبيح وغيرها من العبادات أسهل بكثير للمرائي من ضرب الظهر بالسلاسل , وشق الرأس بالسيف , ولدم الصدر ، هذا أوّلاً .

      أمّا ثانياً : فإنّ الشبهة المذكورة تُحسب للشعائر لا عليها ؛ فهي تدل على عمق التأثير الإيجابي لهذه الشعائر في المجتمع بحيث يسعى المراؤون إليها ، فلو كان تأثيرها فرضاً سلبياً وضعيفاً لما سعى اليها المراؤون .

      كما إنّ المهم توضيحه : إنّ مقولة هؤلاء إنما هي لعدم إدراكهم العشق الحسيني الذي يذوب فيه العاشق في معشوقه , وينسى كل ما دون هذا العشق الذي هو لله وفي الله تعالى .

      وقبل أن أنهي هذا الموضوع لا بدّ لي من الإشارة إلى أنه في أحد الأيام دار حوار بيني وبين أحد المبلّغين ، فقال : إنه لو يتم إلغاء موكب التطبير يكون أفضل .

      فقلت له : لماذا ؟

      أجاب : إنّ من أصعب الاُمور التي اُواجهها في التبليغ السؤال عن موكب التطبير , وأغلبهم لا يستطيعون إدراك حكمته ، خصوصاً هم جديدون على المذهب .

      فأجبته : فماذا تقول لهم ؟

      فقال : أقول لهم : هذا من فعل بعض الأفراد وليس أمراً عاماً .

      فأجبته : وهذا خير ما تفعل في إطار التبليغ ، فكما إنه في هذا الإطار يقال لمن يدخل جديداً على الدين عندما يُسأل : هل يجب أن اُصلّي ؟ نعم إذا كنت تستطيع وتريد ذلك ؛ فإن فيها فائدة كبيرة لك . ويتدرجون معه شيئاً فشيئاً حتّى يصلوا معه خلال فترة زمنية إلى الصلوات المستحبة وغيرها من المستحبات ، كذلك الأمر في الشعائر الحسينيّة , سوف يدركها تدريجياً ويفهم الغاية والحكمة منها ، ثمّ تراه مستقبلاً من أول المشاركين فيها .

      ولا بدّ لي أن أذكر هذه القصة التي وردت في كتاب بحار الأنوار عن لسان العلامة المجلسي (رضوان الله تعالى عليه) : ورأيت في بعض مؤلّفات أصحابنا أنه حكي عن السيد علي الحسيني قال : كنت مجاوراً في مشهد مولاي علي بن موسى الرضا (عليه السّلام) مع جماعة من المؤمنين , فلما كان اليوم العاشر من شهر عاشوراء ابتدأ رجل من أصحابنا يقرأ مقتل الحسين (عليه السّلام) , فوردت رواية عن الباقر (عليه السّلام) أنه قال : (( مَن ذرفت عيناه على مصابِ الحسين ولو مثل جناح البعوضة غفر الله له ذنوبَه ولو كانت مثلَ زبد البحر )) .

      وكان في المجلس معنا جاهل مركّب يدّعي العلم ولا يعرفه , فقال : ليس هذا بصحيح , والعقل لا يعتقده .

      وكثر البحث بيننا , وافترقنا على ذلك المجلس وهو مصرّ على العناد في تكذيب الحديث , فنام ذلك الرجل تلك الليلة , فرأى في منامه كأنّ القيامة قد قامت , وحُشر الناس في صعيد صفصف , (لاَ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلاَ أَمْتاً) , وقد نُصبت الموازين , وامتد الصراط , ووُضع الحساب , ونُشرت الكتب , واُسعرت النيران , وزخرفت الجنان , واشتد الحر عليه , وإذا هو قد عطش عطشاً شديداً , وبقي يطلب الماء فلا يجده , فالتفت يميناً وشمالاً وإذا هو بحوض عظيم الطول والعرض .

      قال : قلتُ في نفسي : هذا هو الكوثر . فإذا فيه ماء أبرد من الثلج , وأحلى من العذب , وإذا عند الحوض رجلان وامرأة ، أنوارهم تشرق على الخلائق , ومع ذلك لبسهم السواد , وهم باكون محزونون , فقلت : مَن هؤلاء ؟

      فقيل لي : هذا محمّد المصطفى , وهذا الإمام علي المرتضى , وهذه الطاهرة فاطمة الزهراء .

      فقلتُ : ما لي أراهم لابسين السواد , وباكين ومحزونين ؟

      فقيل لي : أليس هذا يوم عاشوراء ، يوم مقتل الحسين ؟ فهم محزونون لأجل ذلك.

      قال : فدنوت إلى سيدة النساء فاطمة , وقلت لها : يا بنت رسول الله , إني عطشان .

      فنظرت إلي شزرا وقالت لي : (( أنت الذي تنكر فضل البكاء على مصاب ولدي الحسين , ومهجة قلبي , وقرة عيني الشهيد المقتول ظلماً وعدواناً , لعن الله قاتليه وظالميه ومانعيه من شرب الماء ! )) .

      قال الرجل : فانتبهت من نومي فزعاً مرعوباً , واستغفرت الله كثيراً , وندمت على ما كان مني , وأتيت إلى أصحابي الذين كنت معهم , وخبّرت برؤياي , وتبت إلى الله (عزّ وجلّ) .

      اللهمّ صلِّ على محمّد وآله , وأرني الحقَّ حقاً حتّى أتبعه , والباطل باطلاً حتّى أجتنبه , ولا تجعله عليَّ متشابهاً فأتّبع هواي بغير هدىً منك , واجعل هواي تبعاً لرضاك وطاعتك , وخذ لنفسك رضاها من نفسي , واهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي مَن تشاء إلى صراط مستقيم , والحمد لله ربِّ العالمين , وصلّى الله على محمّد وآله الطيبين الطاهرين .

      ـــــــــــــــ
      (1) مناجاة موسى (عليه السّلام) , وقد قال : يا ربِّ , لم فضّلت اُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) على سائر الاُمم ؟
      فقال الله تعالى : ( فضلتهم لعشر خصال ) .
      قال موسى (عليه السّلام) : وما تلك الخصال التي يعملونها حتّى آمر بني إسرائيل يعملونها ؟
      قال الله تعالى : ( الصلاة والزكاة , والصوم والحج , والجهاد , والجمعة والجماعة , والقرآن والعلم , والعاشوراء ) .
      قال موسى (عليه السّلام) : يا رب , وما العاشوراء ؟
      قال : ( البكاء والتباكي على سبط محمّد (صلّى الله عليه وآله) , والمرثية والعزاء على مصيبة ولد المصطفى . يا موسى , ما من عبد من عبيدي في ذلك الزمان بكى أو تباكى , وتعزّى على ولد المصطفى (صلّى الله عليه وآله) إلاّ وكانت له الجنة ثابتاً فيها . وما من عبد أنفق من ماله في محبّة ابن بنت نبيّه طعاماً , وغير ذلك درهماً إلاّ وباركت له في الدار الدنيا ؛ الدرهم بسبعين درهماً , وكان معافاً في الجنّة , وغفرت له ذنوبه .
      وعزّتي وجلالي , ما من رجل أو امرأة سال دمع عينيه في يوم عاشوراء وغيره قطرةً واحدةً إلاّ وكُتب له أجر مئة شهيد ) . (مستدرك الوسائل10 / 318 ـ 319) .

      المصدر:
      http://www.m-alhassanain.com/kotob%2...alat/index.htm

      ونسألكم الدعاء...~

      تعليق


      • #4
        ثانياً: الزنجيل (ضرب السلاسل).

        موكب يتكون بتجمّع عدد غفير من الناس في مركز معيّن يقيمون فيه مأتماً على الإمام الحسين (عليه السّلام) , ثمّ يجردون ظهورهم ـ بلبس خاص من القماش الأسود الذي فُصّل خصيصاً لهذا الغرض ـ ويقبضون بأيديهم مقابض حزمة من السلاسل الرقيقة , فيضربون أكتافهم بها باُسلوب رتيب ينظّمه قرع الطبول والصنوج , بطور حربي عنيف , وينطلقون من مركز تجمعهم , ويسيرون عبر الشوارع إلى مكان مقدّس ينفضون فيه , وهم يهزجون في كلِّ ذلك بأناشيد حزينة , أو يهتفون : (مظلوم .. حسين .. شهيد .. عطشان .. يا حسين)(1) .

        والناظر لهذا الموكب يستشعر مدى قوة التحمّل لدى الضاربين وصبرهم .

        والتحليل الفلسفي لهذا الموكب هو أنّ الزنجيل في كلِّ البلدان الحضارية يشير إلى الظلم والاضطهاد , ويستطيع أي شخص أن يتلمس ذلك واضحاً وجلياً في معارض كبار الرسّامين , وفي الاُطروحات الأدبيّة قديماً وحديثاً . فعندما يضرب به على الظهر يراد الإشارة إلى أنّ الظلم والاضطهاد الذي جرى على أهل البيت (عليهم السّلام) وعلى شيعتهم لن يحيدنا عن خطِّهم وعن طريقهم ، وأنّ اضطهادكم أيها الظالمون نجعله وراء ظهورنا , ولا قيمة له ؛ ولذا كان الضرب بالزنجيل على الظهور وليس على الصدور .

        كما أنه يبعث بالرسالة الآتية : أيها الظالمون , إن كنتم تظنون أنكم تخيفوننا بالظلم والجور وكافة أنواع الاضطهاد ، فها نحن نضرب أنفسنا لكي نريكم أننا على استعداد لتحمّل ظلمكم , واضطهادكم لنا , في سبيل البقاء على العهد مع أهل البيت (عليهم السّلام) .

        هذه هي الحكمة التي تستطيع أن تستشعرها بوضوح أيها الموالي لأهل البيت (عليهم السّلام) ، كما يستطيع ذلك المعادي لهم .

        ــــــــــ
        (1) المصدر السابق نفسه .

        ====

        ثالثاً: التطبير المقدس.

        والتطبير هو لبس الأكفان , وحلق الرأس في صبيحة اليوم العاشر من محرم الحرام , يوم استشهاد أبي الأحرار أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) ؛ إذ يضرب المتطبّر رأسه بالسيف وينزل الدم من رأسه ، ويكون ذلك في موكب يسير فيه المتطبرون وهم ينادون : حيدر , حيدر ، مع قرع الطبول , والرايات البيضاء الملطّخة بالأحمر , ومزامير الحرب .

        وهذه الشعيرة الحسينيّة هي أكثر الشعائر التي اُثير الجدل حولها مع بعد وعمق المعنى الذي تشير إليه .

        وقبل بيان فلسفة هذه الشعيرة أعود فأذكر أنّ كلَّ مكلّف يرجع إلى مرجع تقليده في جميع اُموره من العبادات والمعاملات ، ولا يجوز له أن يرجع إلى نفسه في تشخيص صحة هذا العمل أو ذاك من جهة شرعيّة .

        كما أنّ مراجعنا العظام (دام ظلهم) على درجة من التقوى والإيمان ما يجعلهم يبحثون ويمحّصون كثيراً لكي يتوصلوا إلى الأحكام الشرعيّة ، وأنّهم أهل الاختصاص الذين يجب الرجوع إليهم في كافة التكاليف الشرعيّة ، وأنّ الدين الإسلامي ليس دين الانتقائية والمزاجية التي يجنح إليها البعض نتيجة التأثر بالأفكار الدخيلة على الدين والمذهب , (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)(1) .

        والآن نوضّح الحكمة من هذا الموكب من خلال التعرّض للمفردات التي وردت في تعريفه ، وهي : لبس الأكفان , وحلق الرؤس ، وضرب الرأس بالسيف , والمناداة بـ (حيدر) .

        عُرف منذ القدم عند العرب وخصوصاً في العصر الإسلامي أنّ حلق الرأس ولبس الكفن يرمز إلى الاستعداد والمبايعة على الموت . والدارس للتاريخ الإسلامي يستطيع أن يرى ذلك بوضوح(2) ؛ فالمتطبر عندما يحلق رأسه ويرتدي الكفن إنما يشير بذلك إلى البيعة على الموت ، ولكن لمن هذه البيعة ؟

        قد يرد هذا السؤال على ذهن القارئ الكريم ، والجواب عليه هو : أننا نعلم من خلال الروايات عن أهل البيت (عليهم السّلام) أنّ إمام العصر والزمان الحجة القائم (عجّل الله تعالى فرجه , وسهّل مخرجه , وجعلنا من أنصاره) يظهر في يوم العاشر من محرم الحرام(3) ؛ ومن هنا كان المتطبر عندما يحلق راسه ويرتدي الكفن في يوم العاشر من محرم الحرام يشير إلى البيعة على الموت لإمام العصر والزمان ، وهذا هو ما تشير إليه المفردة الاُولى .

        أمّا المفردة الثانية , وهي ضرب الرأس بالسيف والمناداة بـ (حيدر) , فتشير بجنب البيعة على الموت مع الإمام إلى أنني اُبايعك يا سيدي ومولاي يا صاحب الزمان على الأخذ بالثأر معك ممّن اغتصب حقَّ جدك الكرار (عليه السّلام) ، وإنّ القوم قد بدا منهم ما بدا , وتجرؤوا ما تجرؤوا منذ نادى جبرائيل : تهدمت والله أركان الهدى(4) ؛ ولذا ترى المتطبر ينادي : حيدر حيدر , في حين أنه في يوم العاشر من محرم الحرام .

        وإنّ المتطبر يشير في مجمل ذلك إلى أنّه يبايع كما بايع أصحاب الحسين الشهيد (عليه السّلام) . وهل هناك بيعة أصدق من بيعتهم (رضوان الله تعالى عليهم)(5) ؟ وهل هناك بيعة أنبل من بيعتهم ؟ لا والله , يقولها كلُّ صادق مدرك لما جرى على سيد الشهداء (عليه السّلام) ، يقولها كلُّ مَن رضع عشق الحسين (عليه السّلام) ، يقولها كلُّ مَن أصدق النية مع ربه ، يقولها كلُّ مَن يرجو شفاعة أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة (عليهم السّلام) ، يقولها كلُّ مَن يرجو لقاء ربه بوجه كريم .

        ـــــــــــــ
        (1) سورة الذاريات / 55 .
        (2) قال : فلما أمسى بايعه ثلاثمئة وستّون رجلاً على الموت , فقال لهم أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( اغدوا بنا إلى أحجار الزيت مُحلقين )) . وحلق أمير المؤمنين (عليه السّلام) , فما وافى من القوم محلقاً إلاّ أبو ذر , والمقداد , وحذيفة بن اليمان , وعمار بن ياسر , وجاء سلمان في آخر القوم . فرفع (عليه السّلام) يده إلى السماء فقال : (( اللهمَّ إنّ القوم استضعفوني كما استضعفت بنو إسرائيل هارون )) . (الكافي ـ الخطبة الطالوتية) .
        (( أتاني أربعون رجلاً من المهاجرين والأنصار فبايعوني , وفيهم الزبير , فأمرتهم أن يصبحوا عند بابي محلقين رؤسهم , عليهم السلاح , فما وافى منهم أحد , ولا صبّحني منهم غير أربعة ؛ سلمان والمقداد , وأبو ذر والزبير )) . (مستدرك الوسائل 11 / 74 ـ باب28) .
        فما استجاب له من جميعهم إلاّ أربعة وعشرون رجلاً , فأمرهم أن يصبحوا بكرة محلقين رؤسهم , مع سلاحهم , قد بايعوه على الموت , فأصبح ولم يوافه منهم أحد غير أربعة .
        قلت لسلمان : مَن الأربعة
        قال : أنا وأبو ذر , والمقداد والزبير بن العوام . (بحار الأنوار 22 / 328 ـ باب10) .
        (3) عن أبي بصير قال : قال أبو عبد الله (عليه السّلام) : (( يُنادى باسم القائم (عجّل الله فرجه , وسهّل مخرجه) في ليلة ثلاث وعشرين ، ويقوم في يوم عاشوراء ، وهو اليوم الذي قُتل فيه الحسين بن علي (عليهما السّلام) . لكأني به في يوم السبت العاشر من المحرم قائماً بين الركن والمقام , جبرائيل (عليه السّلام) عن يده اليمنى ينادي : البيعة لله . فتصير إليه شيعته من أطراف الأرض , تُطوى لهم طياً حتّى يبايعوه , فيملأ الله به الأرض عدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً )) . (الإرشاد 2 / 378) .
        (4) ونادى جبرائيل بين السماء والأرض بصوت يسمعه كل مستيقظ : تهدّمت والله أركان الهدى , وانطمست والله نجوم السماء وأعلام التقى , وانفصمت والله العروة الوثقى ؛ قُتل ابن عمِّ محمّد المصطفى , قُتل الوصي المُجتبى , قُتل عليٌّ المرتضى , قتلُ والله سيدُ الأوصياء , قتله أشقى الأشقياء . (بحار الأنوار 42 / 280 ـ باب 127) .
        (5) (( السّلام عليكم يا أولياء الله وأحباءه , السّلام عليكم يا أصفياء الله وأوداءه , السّلام عليكم يا أنصار دين الله ... )) . (زيارة وارث)

        ====

        قد يورد بعض الإشكالات ثلة من الناس الذين عاشوا بعيداً عن أجواء العشق الحسيني , منها :

        أوّلاً : ليس جميع المشاركين في هذه الشعائر يدركون فلسفة الشعائر , وإنّ الكثير منهم لا يستطيع أن يدرك هذه الفلسفة مع أنّه يشارك في هذه الشعائر , وبنية غير النية التي تحدّثنا عنها .

        والجواب على ذلك : إن لم يكن جميع المشاركين في الشعائر الحسينيّة يدركون العمق الفلسفي لها فهذا لا يعني أنها خالية من هذا العمق ، مَثَلها مثل أمر الوالد لولده بأن يفعل أمراً ما يرى فيه الوالد مصلحة لولده في فعله , في حين إنّ الولد يرى عكس ذلك , فهل رؤية الولد تعني أنّ أمر الوالد خالي من المصلحة ؟

        كما إننا نستطيع أن نجد تأثيرات هذه الفلسفة , وكيف إنها جلية وواضحة لدى الكثيرين ممّن ينقمون علينا بسببها . وأقول لك وبوضوح : إنّ سبب نقمتهم على هذه الشعائر إنما هو الدليل الأوضح على استيعابهم لما فيها من إشارات واضحة وبيّنة استشعروها ، وعرفوا مغزاها ؛ ولذا كان منهم عدم تقبّلها ؛ لما تمسّ من تحريفاتهم وتضليلهم على حقائق آل البيت (عليهم السّلام) .

        وإلاّ فما معنى إنزعاجهم من أن أفعل بنفسي ما اُريد وفق الحدود الشرعيّة التي بيّنها لنا مراجعنا أيّدهم الله ، في حين يفترض وفق المنطق العقلي أنهم يسعدوا من تألمي وضربي لنفسي وأنا اُمثّل حقيقة يرفضونها ؟! ولكنها الحقيقة المرة التي تطفح على وجوه معانديها رغم أنوفهم .

        ثانياً : إنّ هذه الشعائر لم تقم في عصر الأئمة (عليهم السّلام) , فلا توجد عندنا رواية واحدة على أنّ أحد الأئمة قام بضرب رأسه بالسيف , أو ضرب ظهره بالسلاسل , أو لدم صدره , وبالتالي فهي بدعة وليست من الدين بشيء .

        والجواب ذُكر ضمناً في صفحات هذا الكتيب ، وهو : إنّ تقييم أنّ هذه الشعائر بدعة أو لا نرجع به إلى أهل الاختصاص , وليس إلى انفعالاتنا الشخصيّة وذوقنا الخاص . وأهل الاختصاص مراجعنا (حفظ الله الباقين منهم ورحم الماضين) , وليس من قائل منهم بأنها بدعة ، هذا أولاً .

        وثانياً : إنّه على القياس المذكور ـ أي إنّ الشيء الذي لم يقم به الإمام (عليه السّلام) , أو [لم يرد] فيه حكم فهو بدعة ـ يكون حكم المجتهد في قضية مثل الاستنساخ البشري , أو أطفال الأنابيب مثلاً بدعة , وحكم المجتهد في قضية مثل التلفزيون واستخدامه بدعة , وحكم المجتهد في الصلاة في طائرة بدعة , و ... إلخ , فكلها لم ينصّ فيها برواية واحدة على أنّ أحد الأئمة (عليهم السّلام) قام بها , أو أعطى حكماً على إحداها .

        فانتبه أخي القائل بالبدعة ؛ لئلاّ تبتدع أمراً تريد به نفي البدعة .

        ثالثاً : إنّ سير المواكب في الشوارع في عصرنا الحالي يجعل الأجانب ينظرون إلينا بعين السخرية والاستهزاء , ويرموننا بالتخلف والرجعية .

        والجواب : إنّ الدين ليس قائماً على حسن نظرة الأجانب إلينا أو عدم استهزائهم بنا ؛ فهم يستهزؤون بنا كوننا نسجد على التراب , وهم يستغربون منّا عدم مصافحتنا للنساء , وينظرون إلينا بعين الاستصغار لذلك , فهل يدعو الأمر إلى أن لا نسجد على التراب , وأن نصافح النساء ؟ هذا أوّلاً .

        أمّا ثانياً : إنّ لهم من عاداتهم ومراسيمهم الدينية والاجتماعية ما يوجب استهزاءنا بهم , فهل أعاروا ذلك أهمية ؟ كلا ، بل يمارسونها ويفتخرون بها ؛ سواء رضينا أم لم نرضَ .

        أمّا ثالثاً : فأيهما أهم , أن نحافظ على أبنائنا ونؤدّبهم بالأدب الحسيني أم نرضي الأجانب وندع جيلنا الجديد ضعيفاً في بحر التيارات والأفكار المنحرفة ؟

        رابعاً : إنّ المشاركين في هذه الشعائر يبذلون جهودهم وأموالهم , في حين لو أنهم بذلوها على تزويج الشباب , وإصلاح المجتمع , وتدعيم الاُمّة الإسلاميّة فهو أصلح وأولى .

        والجواب : إنّ بذل الجهد والأموال في هذه الشعائر هو إصلاح للمجتمع وتدعيم للاُمّة , وليس العكس ـ طبعاً لا يمكن إدراك ذلك لمَن لا يعي أبعاد هذه الشعائر وأهدافها ـ , على أن لا منافاة بين الأمرين , وليس ثمة تلازم .

        فكما أن تزويج الشباب مستحب ، فإنّ إقامة ودعم الشعائر مستحب , كذلك مع فرق أنّ تزويج الشباب يعود بالفائدة على بعض الأفراد , في حين إنّ إقامة الشعائر تعود بالفائدة على المجتمع ؛ فالمال والجهد المبذول لإقامة إحدى الشعائر في إحدى الحسينيات الكبيرة قد يكفي لتزويج أربعة أشخاص , أو حتّى ثمانية ، في حين إن المشاركين في الحسينيّة قد يصل عددهم إلى مئات , فأيهم أولى ؟

        وهذا كما ذكرت أعلاه لا يعني عدم استحباب تزويج الشباب والسعي بذلك , ولكنه لا يتنافى . كما لا منافاة بين غسل الجمعة الذي هو من المستحبات المؤكدة , وبين غسل اليدين قبل الطعام الذي هو مستحب أيضاً ، فلا يمكن أن نقول : إنّ الماء المبذول في غسل الجمعة نستخدمه في غسل اليدين ؛ لان غسل اليدين يمنع الأمراض فهو أولى(1) .

        خامساً : إنّ الكثير من المشاركين في هذه الشعائر ليسوا من المتمسكين دينياً , بل تراهم من البعيدين عن الدين , ولا يتخذون هذه الشعائر إلاّ طريقاً للرياء .

        والجواب على ذلك : إنّ اتخاذ بعضهم ـ وليس الكثير ـ هذه الشعائر طريقاً للرياء لا يعني خلوّها من الفائدة والحكمة ؛ فكما إنّ البعض يتخذ الصلاة والجلوس في المساجد والتسبيح طريقاً للرياء , فلا يعني هذا خلوها من الحكمة .

        وذكرت البعض ـ وليس الكثير ـ من الواقع العملي كون الرياء في الصلاة والتسبيح وغيرها من العبادات أسهل بكثير للمرائي من ضرب الظهر بالسلاسل , وشق الرأس بالسيف , ولدم الصدر ، هذا أوّلاً .

        أمّا ثانياً : فإنّ الشبهة المذكورة تُحسب للشعائر لا عليها ؛ فهي تدل على عمق التأثير الإيجابي لهذه الشعائر في المجتمع بحيث يسعى المراؤون إليها ، فلو كان تأثيرها فرضاً سلبياً وضعيفاً لما سعى اليها المراؤون .

        كما إنّ المهم توضيحه : إنّ مقولة هؤلاء إنما هي لعدم إدراكهم العشق الحسيني الذي يذوب فيه العاشق في معشوقه , وينسى كل ما دون هذا العشق الذي هو لله وفي الله تعالى .

        وقبل أن أنهي هذا الموضوع لا بدّ لي من الإشارة إلى أنه في أحد الأيام دار حوار بيني وبين أحد المبلّغين ، فقال : إنه لو يتم إلغاء موكب التطبير يكون أفضل .

        فقلت له : لماذا ؟

        أجاب : إنّ من أصعب الاُمور التي اُواجهها في التبليغ السؤال عن موكب التطبير , وأغلبهم لا يستطيعون إدراك حكمته ، خصوصاً هم جديدون على المذهب .

        فأجبته : فماذا تقول لهم ؟

        فقال : أقول لهم : هذا من فعل بعض الأفراد وليس أمراً عاماً .

        فأجبته : وهذا خير ما تفعل في إطار التبليغ ، فكما إنه في هذا الإطار يقال لمن يدخل جديداً على الدين عندما يُسأل : هل يجب أن اُصلّي ؟ نعم إذا كنت تستطيع وتريد ذلك ؛ فإن فيها فائدة كبيرة لك . ويتدرجون معه شيئاً فشيئاً حتّى يصلوا معه خلال فترة زمنية إلى الصلوات المستحبة وغيرها من المستحبات ، كذلك الأمر في الشعائر الحسينيّة , سوف يدركها تدريجياً ويفهم الغاية والحكمة منها ، ثمّ تراه مستقبلاً من أول المشاركين فيها .

        ولا بدّ لي أن أذكر هذه القصة التي وردت في كتاب بحار الأنوار عن لسان العلامة المجلسي (رضوان الله تعالى عليه) : ورأيت في بعض مؤلّفات أصحابنا أنه حكي عن السيد علي الحسيني قال : كنت مجاوراً في مشهد مولاي علي بن موسى الرضا (عليه السّلام) مع جماعة من المؤمنين , فلما كان اليوم العاشر من شهر عاشوراء ابتدأ رجل من أصحابنا يقرأ مقتل الحسين (عليه السّلام) , فوردت رواية عن الباقر (عليه السّلام) أنه قال : (( مَن ذرفت عيناه على مصابِ الحسين ولو مثل جناح البعوضة غفر الله له ذنوبَه ولو كانت مثلَ زبد البحر )) .

        وكان في المجلس معنا جاهل مركّب يدّعي العلم ولا يعرفه , فقال : ليس هذا بصحيح , والعقل لا يعتقده .

        وكثر البحث بيننا , وافترقنا على ذلك المجلس وهو مصرّ على العناد في تكذيب الحديث , فنام ذلك الرجل تلك الليلة , فرأى في منامه كأنّ القيامة قد قامت , وحُشر الناس في صعيد صفصف , (لاَ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلاَ أَمْتاً) , وقد نُصبت الموازين , وامتد الصراط , ووُضع الحساب , ونُشرت الكتب , واُسعرت النيران , وزخرفت الجنان , واشتد الحر عليه , وإذا هو قد عطش عطشاً شديداً , وبقي يطلب الماء فلا يجده , فالتفت يميناً وشمالاً وإذا هو بحوض عظيم الطول والعرض .

        قال : قلتُ في نفسي : هذا هو الكوثر . فإذا فيه ماء أبرد من الثلج , وأحلى من العذب , وإذا عند الحوض رجلان وامرأة ، أنوارهم تشرق على الخلائق , ومع ذلك لبسهم السواد , وهم باكون محزونون , فقلت : مَن هؤلاء ؟

        فقيل لي : هذا محمّد المصطفى , وهذا الإمام علي المرتضى , وهذه الطاهرة فاطمة الزهراء .

        فقلتُ : ما لي أراهم لابسين السواد , وباكين ومحزونين ؟

        فقيل لي : أليس هذا يوم عاشوراء ، يوم مقتل الحسين ؟ فهم محزونون لأجل ذلك.

        قال : فدنوت إلى سيدة النساء فاطمة , وقلت لها : يا بنت رسول الله , إني عطشان .

        فنظرت إلي شزرا وقالت لي : (( أنت الذي تنكر فضل البكاء على مصاب ولدي الحسين , ومهجة قلبي , وقرة عيني الشهيد المقتول ظلماً وعدواناً , لعن الله قاتليه وظالميه ومانعيه من شرب الماء ! )) .

        قال الرجل : فانتبهت من نومي فزعاً مرعوباً , واستغفرت الله كثيراً , وندمت على ما كان مني , وأتيت إلى أصحابي الذين كنت معهم , وخبّرت برؤياي , وتبت إلى الله (عزّ وجلّ) .

        اللهمّ صلِّ على محمّد وآله , وأرني الحقَّ حقاً حتّى أتبعه , والباطل باطلاً حتّى أجتنبه , ولا تجعله عليَّ متشابهاً فأتّبع هواي بغير هدىً منك , واجعل هواي تبعاً لرضاك وطاعتك , وخذ لنفسك رضاها من نفسي , واهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي مَن تشاء إلى صراط مستقيم , والحمد لله ربِّ العالمين , وصلّى الله على محمّد وآله الطيبين الطاهرين .

        ـــــــــــــــ
        (1) مناجاة موسى (عليه السّلام) , وقد قال : يا ربِّ , لم فضّلت اُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) على سائر الاُمم ؟
        فقال الله تعالى : ( فضلتهم لعشر خصال ) .
        قال موسى (عليه السّلام) : وما تلك الخصال التي يعملونها حتّى آمر بني إسرائيل يعملونها ؟
        قال الله تعالى : ( الصلاة والزكاة , والصوم والحج , والجهاد , والجمعة والجماعة , والقرآن والعلم , والعاشوراء ) .
        قال موسى (عليه السّلام) : يا رب , وما العاشوراء ؟
        قال : ( البكاء والتباكي على سبط محمّد (صلّى الله عليه وآله) , والمرثية والعزاء على مصيبة ولد المصطفى . يا موسى , ما من عبد من عبيدي في ذلك الزمان بكى أو تباكى , وتعزّى على ولد المصطفى (صلّى الله عليه وآله) إلاّ وكانت له الجنة ثابتاً فيها . وما من عبد أنفق من ماله في محبّة ابن بنت نبيّه طعاماً , وغير ذلك درهماً إلاّ وباركت له في الدار الدنيا ؛ الدرهم بسبعين درهماً , وكان معافاً في الجنّة , وغفرت له ذنوبه .
        وعزّتي وجلالي , ما من رجل أو امرأة سال دمع عينيه في يوم عاشوراء وغيره قطرةً واحدةً إلاّ وكُتب له أجر مئة شهيد ) . (مستدرك الوسائل10 / 318 ـ 319) .

        المصدر:
        http://www.m-alhassanain.com/kotob%2...alat/index.htm

        ونسألكم الدعاء...~

        تعليق


        • #5
          ثانياً: الزنجيل (ضرب السلاسل).

          موكب يتكون بتجمّع عدد غفير من الناس في مركز معيّن يقيمون فيه مأتماً على الإمام الحسين (عليه السّلام) , ثمّ يجردون ظهورهم ـ بلبس خاص من القماش الأسود الذي فُصّل خصيصاً لهذا الغرض ـ ويقبضون بأيديهم مقابض حزمة من السلاسل الرقيقة , فيضربون أكتافهم بها باُسلوب رتيب ينظّمه قرع الطبول والصنوج , بطور حربي عنيف , وينطلقون من مركز تجمعهم , ويسيرون عبر الشوارع إلى مكان مقدّس ينفضون فيه , وهم يهزجون في كلِّ ذلك بأناشيد حزينة , أو يهتفون : (مظلوم .. حسين .. شهيد .. عطشان .. يا حسين)(1) .

          والناظر لهذا الموكب يستشعر مدى قوة التحمّل لدى الضاربين وصبرهم .

          والتحليل الفلسفي لهذا الموكب هو أنّ الزنجيل في كلِّ البلدان الحضارية يشير إلى الظلم والاضطهاد , ويستطيع أي شخص أن يتلمس ذلك واضحاً وجلياً في معارض كبار الرسّامين , وفي الاُطروحات الأدبيّة قديماً وحديثاً . فعندما يضرب به على الظهر يراد الإشارة إلى أنّ الظلم والاضطهاد الذي جرى على أهل البيت (عليهم السّلام) وعلى شيعتهم لن يحيدنا عن خطِّهم وعن طريقهم ، وأنّ اضطهادكم أيها الظالمون نجعله وراء ظهورنا , ولا قيمة له ؛ ولذا كان الضرب بالزنجيل على الظهور وليس على الصدور .

          كما أنه يبعث بالرسالة الآتية : أيها الظالمون , إن كنتم تظنون أنكم تخيفوننا بالظلم والجور وكافة أنواع الاضطهاد ، فها نحن نضرب أنفسنا لكي نريكم أننا على استعداد لتحمّل ظلمكم , واضطهادكم لنا , في سبيل البقاء على العهد مع أهل البيت (عليهم السّلام) .

          هذه هي الحكمة التي تستطيع أن تستشعرها بوضوح أيها الموالي لأهل البيت (عليهم السّلام) ، كما يستطيع ذلك المعادي لهم .

          ــــــــــ
          (1) المصدر السابق نفسه .

          ====

          ثالثاً: التطبير المقدس.

          والتطبير هو لبس الأكفان , وحلق الرأس في صبيحة اليوم العاشر من محرم الحرام , يوم استشهاد أبي الأحرار أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) ؛ إذ يضرب المتطبّر رأسه بالسيف وينزل الدم من رأسه ، ويكون ذلك في موكب يسير فيه المتطبرون وهم ينادون : حيدر , حيدر ، مع قرع الطبول , والرايات البيضاء الملطّخة بالأحمر , ومزامير الحرب .

          وهذه الشعيرة الحسينيّة هي أكثر الشعائر التي اُثير الجدل حولها مع بعد وعمق المعنى الذي تشير إليه .

          وقبل بيان فلسفة هذه الشعيرة أعود فأذكر أنّ كلَّ مكلّف يرجع إلى مرجع تقليده في جميع اُموره من العبادات والمعاملات ، ولا يجوز له أن يرجع إلى نفسه في تشخيص صحة هذا العمل أو ذاك من جهة شرعيّة .

          كما أنّ مراجعنا العظام (دام ظلهم) على درجة من التقوى والإيمان ما يجعلهم يبحثون ويمحّصون كثيراً لكي يتوصلوا إلى الأحكام الشرعيّة ، وأنّهم أهل الاختصاص الذين يجب الرجوع إليهم في كافة التكاليف الشرعيّة ، وأنّ الدين الإسلامي ليس دين الانتقائية والمزاجية التي يجنح إليها البعض نتيجة التأثر بالأفكار الدخيلة على الدين والمذهب , (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)(1) .

          والآن نوضّح الحكمة من هذا الموكب من خلال التعرّض للمفردات التي وردت في تعريفه ، وهي : لبس الأكفان , وحلق الرؤس ، وضرب الرأس بالسيف , والمناداة بـ (حيدر) .

          عُرف منذ القدم عند العرب وخصوصاً في العصر الإسلامي أنّ حلق الرأس ولبس الكفن يرمز إلى الاستعداد والمبايعة على الموت . والدارس للتاريخ الإسلامي يستطيع أن يرى ذلك بوضوح(2) ؛ فالمتطبر عندما يحلق رأسه ويرتدي الكفن إنما يشير بذلك إلى البيعة على الموت ، ولكن لمن هذه البيعة ؟

          قد يرد هذا السؤال على ذهن القارئ الكريم ، والجواب عليه هو : أننا نعلم من خلال الروايات عن أهل البيت (عليهم السّلام) أنّ إمام العصر والزمان الحجة القائم (عجّل الله تعالى فرجه , وسهّل مخرجه , وجعلنا من أنصاره) يظهر في يوم العاشر من محرم الحرام(3) ؛ ومن هنا كان المتطبر عندما يحلق راسه ويرتدي الكفن في يوم العاشر من محرم الحرام يشير إلى البيعة على الموت لإمام العصر والزمان ، وهذا هو ما تشير إليه المفردة الاُولى .

          أمّا المفردة الثانية , وهي ضرب الرأس بالسيف والمناداة بـ (حيدر) , فتشير بجنب البيعة على الموت مع الإمام إلى أنني اُبايعك يا سيدي ومولاي يا صاحب الزمان على الأخذ بالثأر معك ممّن اغتصب حقَّ جدك الكرار (عليه السّلام) ، وإنّ القوم قد بدا منهم ما بدا , وتجرؤوا ما تجرؤوا منذ نادى جبرائيل : تهدمت والله أركان الهدى(4) ؛ ولذا ترى المتطبر ينادي : حيدر حيدر , في حين أنه في يوم العاشر من محرم الحرام .

          وإنّ المتطبر يشير في مجمل ذلك إلى أنّه يبايع كما بايع أصحاب الحسين الشهيد (عليه السّلام) . وهل هناك بيعة أصدق من بيعتهم (رضوان الله تعالى عليهم)(5) ؟ وهل هناك بيعة أنبل من بيعتهم ؟ لا والله , يقولها كلُّ صادق مدرك لما جرى على سيد الشهداء (عليه السّلام) ، يقولها كلُّ مَن رضع عشق الحسين (عليه السّلام) ، يقولها كلُّ مَن أصدق النية مع ربه ، يقولها كلُّ مَن يرجو شفاعة أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة (عليهم السّلام) ، يقولها كلُّ مَن يرجو لقاء ربه بوجه كريم .

          ـــــــــــــ
          (1) سورة الذاريات / 55 .
          (2) قال : فلما أمسى بايعه ثلاثمئة وستّون رجلاً على الموت , فقال لهم أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( اغدوا بنا إلى أحجار الزيت مُحلقين )) . وحلق أمير المؤمنين (عليه السّلام) , فما وافى من القوم محلقاً إلاّ أبو ذر , والمقداد , وحذيفة بن اليمان , وعمار بن ياسر , وجاء سلمان في آخر القوم . فرفع (عليه السّلام) يده إلى السماء فقال : (( اللهمَّ إنّ القوم استضعفوني كما استضعفت بنو إسرائيل هارون )) . (الكافي ـ الخطبة الطالوتية) .
          (( أتاني أربعون رجلاً من المهاجرين والأنصار فبايعوني , وفيهم الزبير , فأمرتهم أن يصبحوا عند بابي محلقين رؤسهم , عليهم السلاح , فما وافى منهم أحد , ولا صبّحني منهم غير أربعة ؛ سلمان والمقداد , وأبو ذر والزبير )) . (مستدرك الوسائل 11 / 74 ـ باب28) .
          فما استجاب له من جميعهم إلاّ أربعة وعشرون رجلاً , فأمرهم أن يصبحوا بكرة محلقين رؤسهم , مع سلاحهم , قد بايعوه على الموت , فأصبح ولم يوافه منهم أحد غير أربعة .
          قلت لسلمان : مَن الأربعة
          قال : أنا وأبو ذر , والمقداد والزبير بن العوام . (بحار الأنوار 22 / 328 ـ باب10) .
          (3) عن أبي بصير قال : قال أبو عبد الله (عليه السّلام) : (( يُنادى باسم القائم (عجّل الله فرجه , وسهّل مخرجه) في ليلة ثلاث وعشرين ، ويقوم في يوم عاشوراء ، وهو اليوم الذي قُتل فيه الحسين بن علي (عليهما السّلام) . لكأني به في يوم السبت العاشر من المحرم قائماً بين الركن والمقام , جبرائيل (عليه السّلام) عن يده اليمنى ينادي : البيعة لله . فتصير إليه شيعته من أطراف الأرض , تُطوى لهم طياً حتّى يبايعوه , فيملأ الله به الأرض عدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً )) . (الإرشاد 2 / 378) .
          (4) ونادى جبرائيل بين السماء والأرض بصوت يسمعه كل مستيقظ : تهدّمت والله أركان الهدى , وانطمست والله نجوم السماء وأعلام التقى , وانفصمت والله العروة الوثقى ؛ قُتل ابن عمِّ محمّد المصطفى , قُتل الوصي المُجتبى , قُتل عليٌّ المرتضى , قتلُ والله سيدُ الأوصياء , قتله أشقى الأشقياء . (بحار الأنوار 42 / 280 ـ باب 127) .
          (5) (( السّلام عليكم يا أولياء الله وأحباءه , السّلام عليكم يا أصفياء الله وأوداءه , السّلام عليكم يا أنصار دين الله ... )) . (زيارة وارث)

          ====

          قد يورد بعض الإشكالات ثلة من الناس الذين عاشوا بعيداً عن أجواء العشق الحسيني , منها :

          أوّلاً : ليس جميع المشاركين في هذه الشعائر يدركون فلسفة الشعائر , وإنّ الكثير منهم لا يستطيع أن يدرك هذه الفلسفة مع أنّه يشارك في هذه الشعائر , وبنية غير النية التي تحدّثنا عنها .

          والجواب على ذلك : إن لم يكن جميع المشاركين في الشعائر الحسينيّة يدركون العمق الفلسفي لها فهذا لا يعني أنها خالية من هذا العمق ، مَثَلها مثل أمر الوالد لولده بأن يفعل أمراً ما يرى فيه الوالد مصلحة لولده في فعله , في حين إنّ الولد يرى عكس ذلك , فهل رؤية الولد تعني أنّ أمر الوالد خالي من المصلحة ؟

          كما إننا نستطيع أن نجد تأثيرات هذه الفلسفة , وكيف إنها جلية وواضحة لدى الكثيرين ممّن ينقمون علينا بسببها . وأقول لك وبوضوح : إنّ سبب نقمتهم على هذه الشعائر إنما هو الدليل الأوضح على استيعابهم لما فيها من إشارات واضحة وبيّنة استشعروها ، وعرفوا مغزاها ؛ ولذا كان منهم عدم تقبّلها ؛ لما تمسّ من تحريفاتهم وتضليلهم على حقائق آل البيت (عليهم السّلام) .

          وإلاّ فما معنى إنزعاجهم من أن أفعل بنفسي ما اُريد وفق الحدود الشرعيّة التي بيّنها لنا مراجعنا أيّدهم الله ، في حين يفترض وفق المنطق العقلي أنهم يسعدوا من تألمي وضربي لنفسي وأنا اُمثّل حقيقة يرفضونها ؟! ولكنها الحقيقة المرة التي تطفح على وجوه معانديها رغم أنوفهم .

          ثانياً : إنّ هذه الشعائر لم تقم في عصر الأئمة (عليهم السّلام) , فلا توجد عندنا رواية واحدة على أنّ أحد الأئمة قام بضرب رأسه بالسيف , أو ضرب ظهره بالسلاسل , أو لدم صدره , وبالتالي فهي بدعة وليست من الدين بشيء .

          والجواب ذُكر ضمناً في صفحات هذا الكتيب ، وهو : إنّ تقييم أنّ هذه الشعائر بدعة أو لا نرجع به إلى أهل الاختصاص , وليس إلى انفعالاتنا الشخصيّة وذوقنا الخاص . وأهل الاختصاص مراجعنا (حفظ الله الباقين منهم ورحم الماضين) , وليس من قائل منهم بأنها بدعة ، هذا أولاً .

          وثانياً : إنّه على القياس المذكور ـ أي إنّ الشيء الذي لم يقم به الإمام (عليه السّلام) , أو [لم يرد] فيه حكم فهو بدعة ـ يكون حكم المجتهد في قضية مثل الاستنساخ البشري , أو أطفال الأنابيب مثلاً بدعة , وحكم المجتهد في قضية مثل التلفزيون واستخدامه بدعة , وحكم المجتهد في الصلاة في طائرة بدعة , و ... إلخ , فكلها لم ينصّ فيها برواية واحدة على أنّ أحد الأئمة (عليهم السّلام) قام بها , أو أعطى حكماً على إحداها .

          فانتبه أخي القائل بالبدعة ؛ لئلاّ تبتدع أمراً تريد به نفي البدعة .

          ثالثاً : إنّ سير المواكب في الشوارع في عصرنا الحالي يجعل الأجانب ينظرون إلينا بعين السخرية والاستهزاء , ويرموننا بالتخلف والرجعية .

          والجواب : إنّ الدين ليس قائماً على حسن نظرة الأجانب إلينا أو عدم استهزائهم بنا ؛ فهم يستهزؤون بنا كوننا نسجد على التراب , وهم يستغربون منّا عدم مصافحتنا للنساء , وينظرون إلينا بعين الاستصغار لذلك , فهل يدعو الأمر إلى أن لا نسجد على التراب , وأن نصافح النساء ؟ هذا أوّلاً .

          أمّا ثانياً : إنّ لهم من عاداتهم ومراسيمهم الدينية والاجتماعية ما يوجب استهزاءنا بهم , فهل أعاروا ذلك أهمية ؟ كلا ، بل يمارسونها ويفتخرون بها ؛ سواء رضينا أم لم نرضَ .

          أمّا ثالثاً : فأيهما أهم , أن نحافظ على أبنائنا ونؤدّبهم بالأدب الحسيني أم نرضي الأجانب وندع جيلنا الجديد ضعيفاً في بحر التيارات والأفكار المنحرفة ؟

          رابعاً : إنّ المشاركين في هذه الشعائر يبذلون جهودهم وأموالهم , في حين لو أنهم بذلوها على تزويج الشباب , وإصلاح المجتمع , وتدعيم الاُمّة الإسلاميّة فهو أصلح وأولى .

          والجواب : إنّ بذل الجهد والأموال في هذه الشعائر هو إصلاح للمجتمع وتدعيم للاُمّة , وليس العكس ـ طبعاً لا يمكن إدراك ذلك لمَن لا يعي أبعاد هذه الشعائر وأهدافها ـ , على أن لا منافاة بين الأمرين , وليس ثمة تلازم .

          فكما أن تزويج الشباب مستحب ، فإنّ إقامة ودعم الشعائر مستحب , كذلك مع فرق أنّ تزويج الشباب يعود بالفائدة على بعض الأفراد , في حين إنّ إقامة الشعائر تعود بالفائدة على المجتمع ؛ فالمال والجهد المبذول لإقامة إحدى الشعائر في إحدى الحسينيات الكبيرة قد يكفي لتزويج أربعة أشخاص , أو حتّى ثمانية ، في حين إن المشاركين في الحسينيّة قد يصل عددهم إلى مئات , فأيهم أولى ؟

          وهذا كما ذكرت أعلاه لا يعني عدم استحباب تزويج الشباب والسعي بذلك , ولكنه لا يتنافى . كما لا منافاة بين غسل الجمعة الذي هو من المستحبات المؤكدة , وبين غسل اليدين قبل الطعام الذي هو مستحب أيضاً ، فلا يمكن أن نقول : إنّ الماء المبذول في غسل الجمعة نستخدمه في غسل اليدين ؛ لان غسل اليدين يمنع الأمراض فهو أولى(1) .

          خامساً : إنّ الكثير من المشاركين في هذه الشعائر ليسوا من المتمسكين دينياً , بل تراهم من البعيدين عن الدين , ولا يتخذون هذه الشعائر إلاّ طريقاً للرياء .

          والجواب على ذلك : إنّ اتخاذ بعضهم ـ وليس الكثير ـ هذه الشعائر طريقاً للرياء لا يعني خلوّها من الفائدة والحكمة ؛ فكما إنّ البعض يتخذ الصلاة والجلوس في المساجد والتسبيح طريقاً للرياء , فلا يعني هذا خلوها من الحكمة .

          وذكرت البعض ـ وليس الكثير ـ من الواقع العملي كون الرياء في الصلاة والتسبيح وغيرها من العبادات أسهل بكثير للمرائي من ضرب الظهر بالسلاسل , وشق الرأس بالسيف , ولدم الصدر ، هذا أوّلاً .

          أمّا ثانياً : فإنّ الشبهة المذكورة تُحسب للشعائر لا عليها ؛ فهي تدل على عمق التأثير الإيجابي لهذه الشعائر في المجتمع بحيث يسعى المراؤون إليها ، فلو كان تأثيرها فرضاً سلبياً وضعيفاً لما سعى اليها المراؤون .

          كما إنّ المهم توضيحه : إنّ مقولة هؤلاء إنما هي لعدم إدراكهم العشق الحسيني الذي يذوب فيه العاشق في معشوقه , وينسى كل ما دون هذا العشق الذي هو لله وفي الله تعالى .

          وقبل أن أنهي هذا الموضوع لا بدّ لي من الإشارة إلى أنه في أحد الأيام دار حوار بيني وبين أحد المبلّغين ، فقال : إنه لو يتم إلغاء موكب التطبير يكون أفضل .

          فقلت له : لماذا ؟

          أجاب : إنّ من أصعب الاُمور التي اُواجهها في التبليغ السؤال عن موكب التطبير , وأغلبهم لا يستطيعون إدراك حكمته ، خصوصاً هم جديدون على المذهب .

          فأجبته : فماذا تقول لهم ؟

          فقال : أقول لهم : هذا من فعل بعض الأفراد وليس أمراً عاماً .

          فأجبته : وهذا خير ما تفعل في إطار التبليغ ، فكما إنه في هذا الإطار يقال لمن يدخل جديداً على الدين عندما يُسأل : هل يجب أن اُصلّي ؟ نعم إذا كنت تستطيع وتريد ذلك ؛ فإن فيها فائدة كبيرة لك . ويتدرجون معه شيئاً فشيئاً حتّى يصلوا معه خلال فترة زمنية إلى الصلوات المستحبة وغيرها من المستحبات ، كذلك الأمر في الشعائر الحسينيّة , سوف يدركها تدريجياً ويفهم الغاية والحكمة منها ، ثمّ تراه مستقبلاً من أول المشاركين فيها .

          ولا بدّ لي أن أذكر هذه القصة التي وردت في كتاب بحار الأنوار عن لسان العلامة المجلسي (رضوان الله تعالى عليه) : ورأيت في بعض مؤلّفات أصحابنا أنه حكي عن السيد علي الحسيني قال : كنت مجاوراً في مشهد مولاي علي بن موسى الرضا (عليه السّلام) مع جماعة من المؤمنين , فلما كان اليوم العاشر من شهر عاشوراء ابتدأ رجل من أصحابنا يقرأ مقتل الحسين (عليه السّلام) , فوردت رواية عن الباقر (عليه السّلام) أنه قال : (( مَن ذرفت عيناه على مصابِ الحسين ولو مثل جناح البعوضة غفر الله له ذنوبَه ولو كانت مثلَ زبد البحر )) .

          وكان في المجلس معنا جاهل مركّب يدّعي العلم ولا يعرفه , فقال : ليس هذا بصحيح , والعقل لا يعتقده .

          وكثر البحث بيننا , وافترقنا على ذلك المجلس وهو مصرّ على العناد في تكذيب الحديث , فنام ذلك الرجل تلك الليلة , فرأى في منامه كأنّ القيامة قد قامت , وحُشر الناس في صعيد صفصف , (لاَ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلاَ أَمْتاً) , وقد نُصبت الموازين , وامتد الصراط , ووُضع الحساب , ونُشرت الكتب , واُسعرت النيران , وزخرفت الجنان , واشتد الحر عليه , وإذا هو قد عطش عطشاً شديداً , وبقي يطلب الماء فلا يجده , فالتفت يميناً وشمالاً وإذا هو بحوض عظيم الطول والعرض .

          قال : قلتُ في نفسي : هذا هو الكوثر . فإذا فيه ماء أبرد من الثلج , وأحلى من العذب , وإذا عند الحوض رجلان وامرأة ، أنوارهم تشرق على الخلائق , ومع ذلك لبسهم السواد , وهم باكون محزونون , فقلت : مَن هؤلاء ؟

          فقيل لي : هذا محمّد المصطفى , وهذا الإمام علي المرتضى , وهذه الطاهرة فاطمة الزهراء .

          فقلتُ : ما لي أراهم لابسين السواد , وباكين ومحزونين ؟

          فقيل لي : أليس هذا يوم عاشوراء ، يوم مقتل الحسين ؟ فهم محزونون لأجل ذلك.

          قال : فدنوت إلى سيدة النساء فاطمة , وقلت لها : يا بنت رسول الله , إني عطشان .

          فنظرت إلي شزرا وقالت لي : (( أنت الذي تنكر فضل البكاء على مصاب ولدي الحسين , ومهجة قلبي , وقرة عيني الشهيد المقتول ظلماً وعدواناً , لعن الله قاتليه وظالميه ومانعيه من شرب الماء ! )) .

          قال الرجل : فانتبهت من نومي فزعاً مرعوباً , واستغفرت الله كثيراً , وندمت على ما كان مني , وأتيت إلى أصحابي الذين كنت معهم , وخبّرت برؤياي , وتبت إلى الله (عزّ وجلّ) .

          اللهمّ صلِّ على محمّد وآله , وأرني الحقَّ حقاً حتّى أتبعه , والباطل باطلاً حتّى أجتنبه , ولا تجعله عليَّ متشابهاً فأتّبع هواي بغير هدىً منك , واجعل هواي تبعاً لرضاك وطاعتك , وخذ لنفسك رضاها من نفسي , واهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي مَن تشاء إلى صراط مستقيم , والحمد لله ربِّ العالمين , وصلّى الله على محمّد وآله الطيبين الطاهرين .

          ـــــــــــــــ
          (1) مناجاة موسى (عليه السّلام) , وقد قال : يا ربِّ , لم فضّلت اُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) على سائر الاُمم ؟
          فقال الله تعالى : ( فضلتهم لعشر خصال ) .
          قال موسى (عليه السّلام) : وما تلك الخصال التي يعملونها حتّى آمر بني إسرائيل يعملونها ؟
          قال الله تعالى : ( الصلاة والزكاة , والصوم والحج , والجهاد , والجمعة والجماعة , والقرآن والعلم , والعاشوراء ) .
          قال موسى (عليه السّلام) : يا رب , وما العاشوراء ؟
          قال : ( البكاء والتباكي على سبط محمّد (صلّى الله عليه وآله) , والمرثية والعزاء على مصيبة ولد المصطفى . يا موسى , ما من عبد من عبيدي في ذلك الزمان بكى أو تباكى , وتعزّى على ولد المصطفى (صلّى الله عليه وآله) إلاّ وكانت له الجنة ثابتاً فيها . وما من عبد أنفق من ماله في محبّة ابن بنت نبيّه طعاماً , وغير ذلك درهماً إلاّ وباركت له في الدار الدنيا ؛ الدرهم بسبعين درهماً , وكان معافاً في الجنّة , وغفرت له ذنوبه .
          وعزّتي وجلالي , ما من رجل أو امرأة سال دمع عينيه في يوم عاشوراء وغيره قطرةً واحدةً إلاّ وكُتب له أجر مئة شهيد ) . (مستدرك الوسائل10 / 318 ـ 319) .

          المصدر:
          http://www.m-alhassanain.com/kotob%2...alat/index.htm

          ونسألكم الدعاء...~

          تعليق

          المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
          حفظ-تلقائي
          x

          رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

          صورة التسجيل تحديث الصورة

          اقرأ في منتديات يا حسين

          تقليص

          لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

          يعمل...
          X