[FONT="Arial"][SIZE=20px][COLOR="Blue"]النور والظلام ... أضداد الحكمة التاوية
أ. س. ميغوليفسكي
لقد كانت الكونفوشيوسيَّة هي الديانة الرَّئيسة، النِّظام الاجتماعي الأساسي في الصين. بيد أنَّها لم تكن النظام الوحيد فيها. فتعاليم كونفوشيوس لم تتطرَّق إلى الأسئلة التي أقلقت الإنسان على مرِّ العصور في كل مكان من الدنيا: هل الروح خالدة، وهل ثمَّة حياة أخرى، وما الذي يحدث للإنسان بعد الموت، و...، وكان كونفوشيوس قد قال في هذا الصَّدد: "نحن لا نعرف كنه الحياة، فأنَّى لنا أن نعرف كنه الموت".
ومع ذلك كانت شائعة في أوساط الشعَّب دومًا تصوُّرات محدَّدة عن الأرواح، والحياة الأخرى. بيد أنَّ العقلانيَّة الصينية أوقفت امتداد مثل هذه الرؤى، فلم تتحوَّل إلى رؤى رائدة في المجتمع. ويعدُّ الفيلسوف لاو-تسزي [لاو-تسه] أبَ الدَّواسية. وكان هذا معاصرًا لكونفوشيوس. وعلى امتداد تاريخ الصين كله، حتى يومنا هذا، كانت الدوَّاسية تتطوَّر في موازاة الكونفوشيوسية. ولكن هذه الأخيرة كانت دائمًا تشغل المكانة الأولى في الدولة. أمَّا الدَّواسية فلم تسعَ إلى هذا في أيِّ يوم من الأيام. ومع ذلك أثبت أنَّها قادرة أنْ تستمر على قيد الحياة.
لقد كان للتعاليم الفلسفية–الدينية الدَّواسية تأثير كبير جدًا على الثقافة الصينية كلها، ثمَّ تجاوزت حدود الصِّين إلى ثقافة بلدان آسيا الأخرى: فيتنام، وكوريا، واليابان. فمدرسة إيزين [الزن] اليابانية مثلاً تكوَّنت من مركَّب تعاليم الدَّاوسيين والتعاليم البوذية الآتية من الهند. وتقوم أفكار الدَّاوسية في أساس الفنون القتالية المعروفة في الشرق الأقصى، مثل الكونفو، والتيتسيزي- شيوان و... على هذه الأفكار نفسها تأسَّست أفكار مدِّ أمد العمر، بل قام عليها أيضًا الطِّبُّ التقليدي الصيني على وجه العموم. وترتبط الدَّاوسية بكثير من العلوم الباطنية: علم التَّنجيم، والسيَّمياء، وعلم الفراسة، والسِّحر.
وعرضت أسس تعاليم الدَّواسية في كتاب لاو-تسزي كتاب الطريق والغبطة (داو دي تسزين). ويشغل هذا الكتاب في الدَّواسية المكانة نفسها التي يشغلها كتاب العهد الجديد في المسيحية والقرآن في الإسلام.
لقد عاش لاو-تسزي وأبدع في القرن 6 ق.م.. وقد كان ذلك العصر عصرًا مميزًا في تاريخ البشريَّة. ففي العام الي ترك فيه لاو-تسزي الصِّين وتوجَّه غربًا نحو الهند، ولد بوذا. وفي هذا الوقت نفسه كان فيثاغورس يبدع في دول المدن الإغريقية في إيطاليا. وقبل ذلك بقليل ظهرت إبداعات زرادشت العظيم، في المكان الذي تقاطعت فيه دروب حضارات الصيِّن، والهند، والبحر المتوسِّط. وفي العصر نفسه شاعت مواعظ أنبياء التوراة، وحكمة حكماء الكلدانيين. وبعد قليل ظهرت إبداعات سقراط في الغرب، ومو-تسزي في الشَّرق. وقد بشَّر هذا الأخير بالحبِّ الكلي الشامل الذي دخل الدِّيانات والتعاليم الحقَّة كلها. ضف إلى هؤلاء كلهم كونفوشيوس معاصر لاو-تسزي. لقد كانت تلك لحظة ساطعة في تاريخ الجنس البشري، تعرَّض فيها هذا الأخير "لصدمة باسيِّونارية" (= روحانية) تلقَّاها من العقل الكوني (حسب قول ل.ن. غومليوف). ففي وقت تاريخي قصير خرجت إلى الوجود الأفكار الأساسية القادرة على جرِّ البشرية وراءها. وقد حدَّدت تلك الأفكار عمليًّا كل سير العملية التاريخية اللاحقة، وقامت في صلب مختلف الدِّيانات التي نشأت بعد ذلك.
ونحن لا نعرف عن مؤسِّس الدَّواسية إلا النذر اليسير. وكلمة لاو-تسزي تعني "الفيلسوف القديم". كما يمكن ترجمتها بمعنى "الطفل القديم". كلنا يعرف عن الأطفال الجدِّيين الذن يدعونهم لذكائهم الشَّديد "بالعجائز". ويبدو أنَّ لاو-تسزي كان طفلاً من هذا النمط أمَّا اللَّقب الحقيقي لهذا الفيلسوف فهو "لي"، واسمه "زي". واستخدم إضافة إلى هذا اسمًا مستعارًا، هو "هاكويان".
ويفترضون أن لاو-تسزي ولد في حوالي العام 604 ق.م. وقد عاش والداه في قرية كيكو-زين من دائرة ليي في مقاطعة كوك التَّابعة لمملكة سو التي كانت تقع غير بعيد عن موقع مدينة بكين الآن. وليس معروفًا عمل والدي لاو-تسزي. فالرجل حمل لقب لي انتسابًا لأمه، واختار لقب والده هاكويان اسمًا مستعارًا له. ومما لا ريب فيه أنَّ لاو-تسزي نال قسطًا جيِّدًا من التعليم. وهذا ما يشهد عليه واقع وجوده موظَّفًا في جهاز الدولة (كان ناظر المكتبة الحكومية: الأرشيف). وكتب لاو-تسزي عن نفسه قائلاً: "كثير من الناس يملك ثروات، وأنا لا أملك شيئًا، كأنِّي أضعت كل شيء"، وقال أيضًا: "أنا أوزِّع الحسنات في خوف عظيم". لقد كانت الوظيفة التي يشغلها توفِّر له الموارد الضرورية للعيش.
كان لاو-تسزي متزوجًا، وكان ابنه سو يعمل في القوَّات المسلحة، وهي المهنة التي كان الوالد يرفضها على طول الخط.
وبعمله ناظر المكتبة الإمبراطورية توفَّرت للاو-تسزي فرصة لا تقدَّر بثمن ليتمِّم معارفه، فالمكتبة كانت أكبر مخزن للكتب في الصيِّن كلها. ويتَّضح من كتابه كتاب الطريق والغبطة أنَّ لاو-تسزي لم يكن راضيًا عن الحكمة العملية لشعبه، لا سيما وقد توفَّرت له إمكانية دراستها بالكامل. وفتحت الخدمة لدى الإمبراطور عيني هذا الفيلسوف على أنَّ السِّياسة عمل قذر. وكانت هذه الحقيقة منصفة في تلك الأزمنة أيضًا، بل في الأزمنة كلها.
لقد ترك لاو-تسزي العمل الحكومي وهو في سنِّ النُّضج. وقد برَّر قراره بعدم رضاه عن سير الشؤون الاجتماعية والسِّياسية. فاعتزل وحيدًا في كهف؛ الأمر الذي كان غريبًا بالنِّسبة للصيِّن. وعلى وجه العموم لم يكن لاو-تسزي صينيًّا في أشياء كثيرة. وفي معتزله كرَّس لاو-تسزي حياته للتأمل والتفكير. وخلال السنوات التي صرفها في الكهف فكَّر في أُسُس الدَّواسية وصاغها في كتابه الذي أشرنا إليه أعلاه: كتاب الطريق والغبطة. لقد كتب لاو-تسزي في الكتاب يقول:
عندما تتكلل الأعمال بنجاح باهر، ويغدو اكتساب اسم طيِّب حقيقة واقعة، فإن الاعتزال يغدو أفضل تصرُّف. وهذا هو الدَّاو السماوي بعينه.
وفي آخر المطاف عزم لاو-تسزي على أنْ يغادر الصِّين، ويترك بلاد البرابرة عبر الحدود الغربية إلى (الهند). ويرى بعض المستشرقين في هذا رمزًا يدلُّ على صلة كتاب لاو-تسزي بالغرب.
وترد أكثر المعلومات يقينًا عن لاو-تسزي في كتاب مذكرات تاريخية الذي وضعه المؤرَّخ الصيني الأكبر صيم-تسيان (145-86 ق.م) وجاء فيه: "يظنُّ بعضهم أنَّ لاو-تسزي عاش 160 عامًا، ويظنُّ آخرون أنه عاش 200 عامًا، بفضل حياة البرِّ التي عاشها وفق الدَّاو". وعن المظهر الخارجي للاو-تسزي كتب صيم-تسيان هكذا: "كان لاو-تسزي طويل القامة، وجهه أصفر اللون، حاجباه جميلان، أذناه طويلتان، جبينه عريض، وأسنانه متباعدة وجميلة، فمه مربَّع الشَّكل وشفتاه غليظتان وقبيحتان".
وتختلف تعاليم لاو-تسزي (= الدَّاوسيَّة) اختلافًا مبدئيًّا عن تعاليم كونفوشيوس. والواقع أنَّه كان ينبغي أن تختلفا، لأنَّ كلاً منهما عالج موضوعات مختلفة، وميادين مختلفة. فموضوع تعاليم كونفوشيوس، هو الآلام الدُّنيوية أما الموضوع الأساس عند لاو-تسزي، فهو أمداء الروح المشرقة. وبينما توجَّهت تعاليم كونفوشيوس نحو جعل حياة الجماعة، حياة المجتمع أفضل، فإنَّ تعاليم لاو-تسزي، كما تعاليم سقراط، قلبت بمعاكساتها الدَّائمة المدلول البدئي السَّليم، وهزَّت ثوابت التفكير المعتاد المبتذل. لقد سعى لاو-تسزي إلى إخراج الفكر البشري خارج حدود المدلول المعتاد، وفتح المدى الكوني أمامه. ولذلك لا ينبغي أن نعاكس هذا بذاك، إنَّما علينا أنْ نعي أنَّ كلاً منهما يكمِّل الآخر.
ومع ذلك فإنَّه لا ضير من أنْ نتوقف قليلاً عند معاكسة لاو-تسزي وكونفوشيوس؛ لا لأنَّ معاصريهما فعلوا هذا منذ آلاف السنين، بل لأنَّ هذه الوقفة تقدِّم لنا فرصة لفهم جوهر تعاليم لاو-تسزي فهمًا أفضل.
ثمَّة قصَّة–مثل في الكتاب الصيني القديم ربيع السيَّد ليوي وخريفه، تقول:
فقد أحد سكَّان مملكة تسزين قوسه، لكنَّه لم يبحث عنها، وعلل سلوكه هذا هكذا: امرء من تسزين أضاع، وامرء من تسزين وجد، فما الفرق؟!
وإذ سمع كونفوشيوس هذا قال:
فقط يجب حذف كلمة "من تسزين"، وعندئذ يستقيم الأمر!
ولكنْ عندما سمع لاو-تسزي هذا عينه قال:
يجب أنْ تحذف أيضًا كلمة امرء، وعندئذٍ يستقيم الأمر!
"يبقى كونفوشيوس دائمًا على المستوى البشري العام، فهذا بالنِّسبة إليه هو المستوى الأعلى الممكن، حيث حتى أكثر مفاهيم الجين تجريدًا وسموًّا تنعكس بهيروغليف رمزه المفتاحي الإنسان" (كلمة جين معناها الرحمة). ولكنَّ لاو-تسزي يذهب في المسألة إلى الأعمق، فيرتفع إلى الفكرة النقية، إلى المستوى الذي تجاوز الإنساني نحو الكوني. وفي هذه الحال فإنَّ كل شيء نسبي من الوجهة العملية، فيندغم الاكتساب بالفقدان. ولذلك قال لاو-تسزي:
أيتها البليَّة! عليك تستقرُّ السَّعادة. أيتها السَّعادة! أنت تقفين على البليَّة.
وقد نقل إلينا مختلف المصادر الصينية القديمة معلومات عن لقاء جرى بين كونفوشيوس ولاو-تسزي. فيروي لنا غي هون مثلاً أنَّ كونفوشيوس أحسَّ بالخزي وكان مشتتًا بعد لقائه مع لاو-تسزي، لأنَّه قابل فكرًا على مستوى أعلى (ويجب أنْ نأخذ بالحسبان أنَّ غي هون كان داوسيًّا).
ولكن كونفوشيوس اعترف لأحد تلامذته قائلاً:
لقد أدركت أنَّ فكره كالطير يحلِّق في الأعالي. فصنعت من بلاغتي سهمًا لأرمي الطير به، ولكنِّي لم أدركه، فضاعفت بذلك مجده. إنَّ فكره كالأيل تمامًا، كأنَّه الوعل في الأدغال. فأرسلت بلاغتي كلاب مطاردة لتطارد الأيل والوعل، لكنَّها فشلت في أدراكه، ولم تصب سوى العرج. إنَّ فكره كالسمكة في نهر عميق. فصنعت من بلاغتي صنَّارة لأصطاد هذه السمكة، لكني لم أصطد شيئًا، وتداخلت الصنارة في بعضها عقدًا. إنِّي لا أستطيع مطاردة تنين يحلِّق وراء الغيم ويتجوَّل في الصفاء الأعظم. لقد أدركت أنَّ لاو-تسزي هو كهذا التنين! ففغرت فمي دهشة، ولم أستطع إطباق شفتيِّ، وفجأة سقط لساني، وتعكَّرت روحي، ولم أعرف أين يمكث...
أمَّا في كتاب صيم-تيسان مذكرات تاريخية، فقد جاء عن اللِّقاء ما يلي:
عندما مرَّ كونفوشيوس في سيو، زار لاو-تسزي لكي يسمع رأيه بصدد الطُّقوس. فقال لاو-تسزي له: لاحظ أنَّ الذين علَّموا الشَّعب قد ماتوا وبلت عظامهم، لكنَّ كلامهم لا يزال على قيد الحياة حتى الآن. فعندما تساعد الظروف الحكيم، فإنَّه سيركب مركبة، أما عندما تعاكسه فإنَّه سيمشي على قدميه حاملاً أثقاله على رأسه ممسكًا أطرافها بيديه. وقد سمعت أنَّ التاجر الخبير يخفي بضاعته كأنَّه لا يتوفر على شيء منها. والأمر عينه تمامًا، عندما يتحلَّى الحكيم بأخلاق سامية، فإنَّ خارجه لا يوحي بذلك. ارمِ حكمتك ومعها كل ضرب من ضروب الأهواء، وابقِ على حبِّك لكل ما هو جميل مع ميل نحو الحساسية المرهفة، لأنَّه لا نفع من هذا كله بالنسبة إليك. وهذا ما أقوله لك، وأكثر من هذا لن أقول.
وبعد اللِّقاء قال كونفوشيوس لتلميذه حسب ما ورد عند تشجو-تسزي:
... في إدراك الطَّريق كنت كالدودة داخل إبريق مليء بالخلِّ: لو لم يرفع المعلَّم الغطاء لما أدركت الوحدة العظمى للسِّماء والأرض.
وغنيٌّ عن البيان أنَّ تشجو-تسزي قد كثَّف الألوان كثيرًا، لأنَّ كونفوشيوس لا يستحقُّ مثل هذا الهوان. ومع ذلك فإنَّ الصورة التي رسمت لكل من الفيلسوفين في هذا اللِّقاء، هي واحدة تقريبًا في كل مصدر: يستوي لاو-تسزي المجلل ببياض الشيب، على القمَّة، وأمامه يقف كونفوشيوس الأكثر شبابًا. وليس هذا مجرَّد عُمْرٍ، أو مشهد من مشاهد الحياة اليومية، إنَّما هذا رمز: سيِّد أكبر، وسيِّد أصغر وضيف. وكان على هذا الرَّمز أنْ يعكس هرم القيم الفلسفية.
لقد كان كونفوشيوس يعمل للمجتمع، أمَّا لاو-تسزي فقد وصف هذا المجتمع بأنَّه جمع من "البقر المقدس". ورأى الدولة والرحمة من زاوية مغايرة تمامًا.
إنَّ أُسِّ الأُسُس، حسب لاو-تسزي، هو الروح، الأُمُّ الأولى للوجود. فلاو-تسزي يتجوَّل في رحاب خارجية. ووجوده كله ساع نحو ما هو غير معتاد. وقد تأمَّل في الموت عبر صلته التي لا تنفصم عراها مع الحياة. ووضع العدم فوق كل وجود. وبينما يسعى كونفوشيوس إلى تغيير حياة المجتمع نحو الأحسن، في تعاليمه، فإنَّ لاو-تسزي كان بعيدًا تمامًا عن إلقاء أيِّ مواعظ، فلم يكن عنده سوى ثلاثة تلاميذ، ولكنَّ واحدًا منهم فقط كان فالحًا وأخذ عن معلِّمه المعرفة التي تتجاوز الشعور. وقد قامت هذه المعرفة في أنَّ الإنسان كان قادرًا على أنْ يرى ويسمع كل ما في هذا العالم "بغير عينين وأذنين"، وأنَّه "غرق روحيًا في اللاشيء". ونحن كنَّا قد بيَّنا في كتابنا الإله، والروح، والخلود إنَّه تحدث في أثناء ذلك مراجعة مباشرة للمعلومات عبر مقارنتها مع حقل الإعلام الكوني. فتعاليم لاو-تسزي لم تكن معدَّة للنخبة فقط، بل لنخبة النخبة، أي لأولئك الذين كانوا مؤهَّلين لإدراك الغبطة واكتساب نفاذ البصيرة، وبلوغ الحكمة الأبدية، وليس الدُّنيوية.
إنَّ لاو-تسزي يرى الأشياء بمقاييس مضاعفة. وهو يرى أنَّنا لا نرى هنا على الأرض سوى الظِّلال، أمَّا الموضوعات نفسها فنحن لا نراها. ونشير في السياق إلى أنَّ سقراط حلَّل مفهوم الظِّلِّ في السياق نفسه. فقد عدَّ أنَّه يمكن مقارنة الإنسان بالجالس في كهف قرب نار بحيث لا أنْ يرى سوى ظلال المارَّة فقط. وليس هذا في الواقع الأمر سوى تقليص لأبعاد المكان الثلاثة إلى بعدين. وعلى هذا المنوال يتَّهم لاو-تسزي كونفوشيوس بأنَّه يحاول أنْ يحكم على الحذاء عندما لا يرى أمامه سوى أثره على الأرض.
فتعاليم لاو-تسزي (الداوسيَّة)، هي تعاليم فلسفية عميقة تلامس جوهر العقيدة، وبناء العالم، ومكان الإنسان فيه. لقد رأى هذا الفيلسوف في العالم المحيط به وحدة لا تتجزَّأ، تسير وفق قوانين ثابتة. وكان على يقين راسخ بأنَّ كل ما في هذا الكون الموحَّد العظيم مترابط بعضه مع بعض ومتماثل بعضه مع بعض. وعلى المنوال نفسه جاء بناء المعمورة، والدَّولة، وجسم الإنسان. فجوهر الأشياء كلها واحد، لأنَّ قوانين الكون قطعية، باتَّة في أيِّ نقطة منه. وعليه فليس ثمَّة أهمِّية للزمان، أو لمكان معيَّن في المكان الكوني. ولذلك يجب على المرء الحكيم الذي أدرك هذه القوانين لو إدراكًا جزئيًّا، أنْ يسلك سلوكًا متماثلاً في كل مكان وزمان. ولهذا السبب فإنَّ تعاليم الحكيم لاو-تسزي لا تشيخ، إنَّما معاصرة، بل تقدُّمية أيضًا. واحكموا بأنفسكم: منذ ألفين وخمس مائة عام خلت أدرك لاو-تسزي أنَّ تراكم البشر في المدن عمل مهلك بالنِّسبة للجنس البشري. ورأى أنَّه يجب تقسيم التَّجمُّعات البشرية المهولة (المدن) إلى خلايا صغيرة، ويجب ألاَّ تستعمل في أماكن سكنى الناس أي حيل تقنية. فالإنسان لا يمكن أنْ يعيش سعيدًا إلاَّ في شروط طبيعية بكر نقية، إذ في مثل هذه الشروط فقط يمكن أنْ تسير حياته منسجمة مع الطبيعة، وعندئذٍ سيعود طعام الإنسان حلوًا، وحياته هادئة، وملابسه بديعة بحقٍّ. وتتطهَّر أخلاق الناس وعاداتهم من الكره والعنف. ويغدون سعداء مشرقين كما في الزمن القديم. ولن يكون للأسلحة دور في مثل هذه القرى سوى إبعاد الغواية لاستعمالها. ونحن لن نقول إلى أيِّ حدٍّ يبدو هذا واقعيًا بالنسبة للمجتمع المعاصر، فالإجابة واضحة. وما يبعث في النفس الأسى أنَّه إذا ما عبرت البشرية إلى حضارة جديدة تتوافق قوانينها مع قوانين الطبيعة، فإنَّ ذلك لن يكون إلاَّ عبر هزَّات وكوارث عالمية عميقة. وبعضها واقف الآن على عتبة الباب: تهديم طبقة الأوزون، والعوز المناعي المكتسب (الإيدز).
لقد أدرك لاو-تسزي أنَّ ارتقاء الجنس البشري لن يفضي إلى تقدُّم حقيقي، بل على الضِّدِّ من ذلك، سيدفع الإنسان بعيدًا عن التَّواؤم مع الطبيعة. وقد عرف أنَّ فرع التَّطوُّر هذا، فرع مسدود أمام تقدُّم البشرية. فنحن ملأنا الفخر إذ شطرنا الذَّرَّة، وأوغلنا عميقًا في علم الوراثة، لكنَّنا نقف الآن حائرين لا نعرف كيف ننجو من اكتشافاتنا. وكان لاو- تسزي قد رأى أنَّ الأفق مسدود أمام مثل هذا الارتقاء. ودعا إلى العيش في معاشر مغلقة، لأنَّ التَّقدُّم يقتلع انسان من الجنَّة ويقذف به إلى دوَّامة الزمن التي تسلبه السعادة الحقيقية. إنَّ السلاح الذي صنعه الإنسان لا يحمل سوى الموت والمعاناة. وهذا بدوره يجعل الإنسان بلا روح. فتغدو نجاحاته في نتيجة الحساب وهمًا ثمنه باهظ. وفي حالة العداء التي أحطنا وجودنا فيها هذه، نحن عاجزون عن تربية أطفالنا بروح حبِّ القريب، أي عاجزون عن جعلهم سعداء. وإذ نقتل في الحروب الكبيرة والصغيرة أعدادًا كبيرة من الناس الأبرياء، فإنَّنا نعجز عن اكتساب السكينة الروحية. كما تقتل المدن الكبرى مواطنينا وهم أحياء، إذ تجعل منهم مدمني مخدرات، ومدمني كحول، ولصوصًا. نحن نبشِّر "بالخير بالقبضات"، ونتناسى أنَّ هذا مجرد هراء نخدع أنفسنا به. وفي هذا الخداع تجري حياة أجيال بكاملها.
فمن أجل كنوز الأرض نهدم جبالها، ومن أجل درر البحار نعكر صفوها، ومن أجل نزاع وثرثرة نهلك أجسادنا.
أمَّا السلوك المستقيم فإنَّه يقوم في أن
لا يكون الحكيم طمَّاعًا: كلما أعطى الآخرين أكثر، كلما نال أكثر، وكلما بذل للآخرين أكثر، كلما اكتسب أكثر. (لاو-تسزي. "داو دي تسزين" كتاب الطريق والغبطة).
إذن فيما تقوم طريق الإنسان القويمة؟ إنها الطريق القانون، الداو. دعاها كونفوشيوس بالطريق البدئية، البدء، بينما دعاها يان سيون بالمكنونة. وليس الداو وحيدًا واحدًا في الكون اللامتناهي وحسب، وإنما هو أوحد في نوعه كذلك. ويبدأ بالداو "انتشار" العالم، أي ارتقاؤه في الزمان والمكان. فحسب لاو-تسزي إن الداو أحدث، في بدء الزمان، الحدود في الفراغ، وبدورها حدود الفراغ أحدثت الزمان والمكان. ثم أحدث الزمان والمكان الأثير البدئي (يوان تسي)، الذي انقسم فيما بعد إلى مبدأين كونيين اثنين (عنصرين): إين ويان. وأنجب هذان العنصران السَّماء، والأرض والإنسان. وبعدئذٍ أنجب هذا الثالوث حشد الأشياء، والكائنات، والظاهرات. وقد قال لاو-تسزي:
واحد أنجب اثنين، واثنان أنجبا ثلاثة، والثلاثة أنجبوا عشرة آلاف شيء.
ويرى لاو-تسزي إن وجود الداو "سابق على وجود الرب الأعلى"، إنه "يعيش منذ الأزل، ولا علَّة لوجوده".
لقد قلنا في كتاب الإله، والروح، والخلود، إن مبدأ كل شيء في الكون هو الحقل الإعلامي البيولوجي، ففيه تكمن خطة بناء الكون وتطويره. وكان لاو-تسزي قد رأى إنه في البدء عندما لم يكن ثمَّة مكان ولا زمان بعد، كان هناك الداو اللامتناهي وحده. وقد كان ذلك فراغًا خاليًا من كل شكل. ونحن نستطيع أن نقول، إن الداو هو هذا الحقل الإعلامي عينه، الذي يخترق الكون كله ويخلق الوجود من العدم.
وينقسم البناء الكوني في الفلسفة الداوسية إلى خمسة أطوار. في الطور الأول أُطلقت الخطة التي كانت كأنها رابضة "على تخوم العدم والأشكال". ويدعى الطور الأول طور "الانقلاب العظيم"، لحظة الدافع الأول الذي تلاه طور "البداية العظمى". ففي تلك اللحظة ظهرت سحابة الأثير الكوني المتماثلة تمام التماثل (سحابة برانا تسي). وتتوافق تصوُّرات لاو- تسزي هذه تمام التوافق مع تصوُّرات فيزياء الكون المعاصرة عن ارتقاء الكون بعد الانفجار الأكبر. وجاء في مذكرات عن أجيال الأرباب والملوك، إن "البداية العظمى تبدأ عند أول ظهور التسي البدئي"، وفي "الكاوس (= الخراب الكوني. م) المتماثل الظاهر لتوه، تتحرَّك مع الداو آلاف مؤلفة من الأشياء والكائنات المندغمة في كل واحد".
وتجري في الأطوار الأخرى التالية عملية تشكيل الكون. ولكن كل شيء يجري فيها وفق الخطة المرساة في الحقل الإعلامي للداو. فيبدأ الكون يتجسَّم رويدًا رويدًا، خارجًا من الكاوس، فيكتسب أشكاله ومكانه، ووظائفه. ويتلقى الأثير الكوني في أثناء ذلك توجهًا متباينًا. ويقع في هذا الطور انشطار الموجب والسالب، والإيجابي والسلبي، والخير والشر. وعن هذا كتب فيلسوف معاصر يقول:
كما العمليات التي تجري في حوض مائي عكر، حيث يترسَّب ويتباعد شيئًا فشيئًا الماء والطين المتخالطان في كتلة متماثلة واحدة، كذلك عمليات نشوء الكون ترفع إلى مجالات الكون العليا كل نوراني، ودقيق، ونقي؛ وترسِّب إلى تحت كل قاتم، وثقيل، وفظ، وقذر. فتولد السَّماء والأرض، ومع ظهورهما ينشطر الأثير الكوني كله إلى اثنين مكتسبًا علاقة مختلفة: الإيجابي والسلبي، والنور والظلام، والمذكر والمؤنث، واللين والصلب، وما إلى ذلك. وينبغي ألا نظن أن هذا العدد هو مجرد تقسيم ذهني، أو ثمرة إنشاءات فكرية تجريدية، أو رمزية جدلية. فـ "إين ويان" ليسا مجرد تناقض: تدفق الأثير النوراني والقاتم عبر قنوات الجسم الإنساني؛ وتخالطا في معايير مختلفة فخلقا الرجل والمرأة؛ وفي مختلف فصول السنة، وفي لحظات شتى من حركة النظام الكوني الدائبة، ساد الأثير في الكون باتجاهات مختلفة.
إن ظهور الكوسموس (=النظام الكوني) يعني "تشييء" الداو، تجسيمه. وهكذا ظهر الحد الأعظم للكون، الذي ينبض في داخله نبضًا متواصلاً، متمددًا أحيانًا، ومنكمشًا أحيانًا أخرى، نوعان من الأثير: إين ويان. ولذلك لم يعد الداو خطَّة، إمكانية كامنة، إنما تحوَّل إلى واقع مجسَّم. إن الداو هو القانون الكوني. لقد عدَّ لاو- تسزي إنه ليس ثمَّة مكان في الكون لا وجود للداو فيه. ونحن نضيف أن هذا ممكن بفضل البناء المتماثل للكون. أما عن حقل الإعلام (الداو)، فقد كتب لاو- تسزي يقول:
وأنت تنظر إليه لا تلحظه، وأنت تستمع إليه لا تسمعه، وتلمسه فلا تحس به.
ولذلك فإننا لا نرتاب في وجود الحقل الإعلامي، أي العقل الكوني. وعنه كتب صيما تصين يقول:
يجري الينبوع العظيم للدرب من السَّماء، والسَّماء لا تتغيَّر، وكذلك الدرب لا تتغير أيضًا.
وعن هذا نفسه كتب أوغسطين المغبوط يقول:
أفي مكان آخر يجري الينبوع الذي منه يتدفق إلينا الوجود والحياة؟ كلا، فأنت تصنعنا يا رب!
أ. س. ميغوليفسكي
لقد كانت الكونفوشيوسيَّة هي الديانة الرَّئيسة، النِّظام الاجتماعي الأساسي في الصين. بيد أنَّها لم تكن النظام الوحيد فيها. فتعاليم كونفوشيوس لم تتطرَّق إلى الأسئلة التي أقلقت الإنسان على مرِّ العصور في كل مكان من الدنيا: هل الروح خالدة، وهل ثمَّة حياة أخرى، وما الذي يحدث للإنسان بعد الموت، و...، وكان كونفوشيوس قد قال في هذا الصَّدد: "نحن لا نعرف كنه الحياة، فأنَّى لنا أن نعرف كنه الموت".
ومع ذلك كانت شائعة في أوساط الشعَّب دومًا تصوُّرات محدَّدة عن الأرواح، والحياة الأخرى. بيد أنَّ العقلانيَّة الصينية أوقفت امتداد مثل هذه الرؤى، فلم تتحوَّل إلى رؤى رائدة في المجتمع. ويعدُّ الفيلسوف لاو-تسزي [لاو-تسه] أبَ الدَّواسية. وكان هذا معاصرًا لكونفوشيوس. وعلى امتداد تاريخ الصين كله، حتى يومنا هذا، كانت الدوَّاسية تتطوَّر في موازاة الكونفوشيوسية. ولكن هذه الأخيرة كانت دائمًا تشغل المكانة الأولى في الدولة. أمَّا الدَّواسية فلم تسعَ إلى هذا في أيِّ يوم من الأيام. ومع ذلك أثبت أنَّها قادرة أنْ تستمر على قيد الحياة.
لقد كان للتعاليم الفلسفية–الدينية الدَّواسية تأثير كبير جدًا على الثقافة الصينية كلها، ثمَّ تجاوزت حدود الصِّين إلى ثقافة بلدان آسيا الأخرى: فيتنام، وكوريا، واليابان. فمدرسة إيزين [الزن] اليابانية مثلاً تكوَّنت من مركَّب تعاليم الدَّاوسيين والتعاليم البوذية الآتية من الهند. وتقوم أفكار الدَّاوسية في أساس الفنون القتالية المعروفة في الشرق الأقصى، مثل الكونفو، والتيتسيزي- شيوان و... على هذه الأفكار نفسها تأسَّست أفكار مدِّ أمد العمر، بل قام عليها أيضًا الطِّبُّ التقليدي الصيني على وجه العموم. وترتبط الدَّاوسية بكثير من العلوم الباطنية: علم التَّنجيم، والسيَّمياء، وعلم الفراسة، والسِّحر.
وعرضت أسس تعاليم الدَّواسية في كتاب لاو-تسزي كتاب الطريق والغبطة (داو دي تسزين). ويشغل هذا الكتاب في الدَّواسية المكانة نفسها التي يشغلها كتاب العهد الجديد في المسيحية والقرآن في الإسلام.
لقد عاش لاو-تسزي وأبدع في القرن 6 ق.م.. وقد كان ذلك العصر عصرًا مميزًا في تاريخ البشريَّة. ففي العام الي ترك فيه لاو-تسزي الصِّين وتوجَّه غربًا نحو الهند، ولد بوذا. وفي هذا الوقت نفسه كان فيثاغورس يبدع في دول المدن الإغريقية في إيطاليا. وقبل ذلك بقليل ظهرت إبداعات زرادشت العظيم، في المكان الذي تقاطعت فيه دروب حضارات الصيِّن، والهند، والبحر المتوسِّط. وفي العصر نفسه شاعت مواعظ أنبياء التوراة، وحكمة حكماء الكلدانيين. وبعد قليل ظهرت إبداعات سقراط في الغرب، ومو-تسزي في الشَّرق. وقد بشَّر هذا الأخير بالحبِّ الكلي الشامل الذي دخل الدِّيانات والتعاليم الحقَّة كلها. ضف إلى هؤلاء كلهم كونفوشيوس معاصر لاو-تسزي. لقد كانت تلك لحظة ساطعة في تاريخ الجنس البشري، تعرَّض فيها هذا الأخير "لصدمة باسيِّونارية" (= روحانية) تلقَّاها من العقل الكوني (حسب قول ل.ن. غومليوف). ففي وقت تاريخي قصير خرجت إلى الوجود الأفكار الأساسية القادرة على جرِّ البشرية وراءها. وقد حدَّدت تلك الأفكار عمليًّا كل سير العملية التاريخية اللاحقة، وقامت في صلب مختلف الدِّيانات التي نشأت بعد ذلك.
ونحن لا نعرف عن مؤسِّس الدَّواسية إلا النذر اليسير. وكلمة لاو-تسزي تعني "الفيلسوف القديم". كما يمكن ترجمتها بمعنى "الطفل القديم". كلنا يعرف عن الأطفال الجدِّيين الذن يدعونهم لذكائهم الشَّديد "بالعجائز". ويبدو أنَّ لاو-تسزي كان طفلاً من هذا النمط أمَّا اللَّقب الحقيقي لهذا الفيلسوف فهو "لي"، واسمه "زي". واستخدم إضافة إلى هذا اسمًا مستعارًا، هو "هاكويان".
ويفترضون أن لاو-تسزي ولد في حوالي العام 604 ق.م. وقد عاش والداه في قرية كيكو-زين من دائرة ليي في مقاطعة كوك التَّابعة لمملكة سو التي كانت تقع غير بعيد عن موقع مدينة بكين الآن. وليس معروفًا عمل والدي لاو-تسزي. فالرجل حمل لقب لي انتسابًا لأمه، واختار لقب والده هاكويان اسمًا مستعارًا له. ومما لا ريب فيه أنَّ لاو-تسزي نال قسطًا جيِّدًا من التعليم. وهذا ما يشهد عليه واقع وجوده موظَّفًا في جهاز الدولة (كان ناظر المكتبة الحكومية: الأرشيف). وكتب لاو-تسزي عن نفسه قائلاً: "كثير من الناس يملك ثروات، وأنا لا أملك شيئًا، كأنِّي أضعت كل شيء"، وقال أيضًا: "أنا أوزِّع الحسنات في خوف عظيم". لقد كانت الوظيفة التي يشغلها توفِّر له الموارد الضرورية للعيش.
كان لاو-تسزي متزوجًا، وكان ابنه سو يعمل في القوَّات المسلحة، وهي المهنة التي كان الوالد يرفضها على طول الخط.
وبعمله ناظر المكتبة الإمبراطورية توفَّرت للاو-تسزي فرصة لا تقدَّر بثمن ليتمِّم معارفه، فالمكتبة كانت أكبر مخزن للكتب في الصيِّن كلها. ويتَّضح من كتابه كتاب الطريق والغبطة أنَّ لاو-تسزي لم يكن راضيًا عن الحكمة العملية لشعبه، لا سيما وقد توفَّرت له إمكانية دراستها بالكامل. وفتحت الخدمة لدى الإمبراطور عيني هذا الفيلسوف على أنَّ السِّياسة عمل قذر. وكانت هذه الحقيقة منصفة في تلك الأزمنة أيضًا، بل في الأزمنة كلها.
لقد ترك لاو-تسزي العمل الحكومي وهو في سنِّ النُّضج. وقد برَّر قراره بعدم رضاه عن سير الشؤون الاجتماعية والسِّياسية. فاعتزل وحيدًا في كهف؛ الأمر الذي كان غريبًا بالنِّسبة للصيِّن. وعلى وجه العموم لم يكن لاو-تسزي صينيًّا في أشياء كثيرة. وفي معتزله كرَّس لاو-تسزي حياته للتأمل والتفكير. وخلال السنوات التي صرفها في الكهف فكَّر في أُسُس الدَّواسية وصاغها في كتابه الذي أشرنا إليه أعلاه: كتاب الطريق والغبطة. لقد كتب لاو-تسزي في الكتاب يقول:
عندما تتكلل الأعمال بنجاح باهر، ويغدو اكتساب اسم طيِّب حقيقة واقعة، فإن الاعتزال يغدو أفضل تصرُّف. وهذا هو الدَّاو السماوي بعينه.
وفي آخر المطاف عزم لاو-تسزي على أنْ يغادر الصِّين، ويترك بلاد البرابرة عبر الحدود الغربية إلى (الهند). ويرى بعض المستشرقين في هذا رمزًا يدلُّ على صلة كتاب لاو-تسزي بالغرب.
وترد أكثر المعلومات يقينًا عن لاو-تسزي في كتاب مذكرات تاريخية الذي وضعه المؤرَّخ الصيني الأكبر صيم-تسيان (145-86 ق.م) وجاء فيه: "يظنُّ بعضهم أنَّ لاو-تسزي عاش 160 عامًا، ويظنُّ آخرون أنه عاش 200 عامًا، بفضل حياة البرِّ التي عاشها وفق الدَّاو". وعن المظهر الخارجي للاو-تسزي كتب صيم-تسيان هكذا: "كان لاو-تسزي طويل القامة، وجهه أصفر اللون، حاجباه جميلان، أذناه طويلتان، جبينه عريض، وأسنانه متباعدة وجميلة، فمه مربَّع الشَّكل وشفتاه غليظتان وقبيحتان".
وتختلف تعاليم لاو-تسزي (= الدَّاوسيَّة) اختلافًا مبدئيًّا عن تعاليم كونفوشيوس. والواقع أنَّه كان ينبغي أن تختلفا، لأنَّ كلاً منهما عالج موضوعات مختلفة، وميادين مختلفة. فموضوع تعاليم كونفوشيوس، هو الآلام الدُّنيوية أما الموضوع الأساس عند لاو-تسزي، فهو أمداء الروح المشرقة. وبينما توجَّهت تعاليم كونفوشيوس نحو جعل حياة الجماعة، حياة المجتمع أفضل، فإنَّ تعاليم لاو-تسزي، كما تعاليم سقراط، قلبت بمعاكساتها الدَّائمة المدلول البدئي السَّليم، وهزَّت ثوابت التفكير المعتاد المبتذل. لقد سعى لاو-تسزي إلى إخراج الفكر البشري خارج حدود المدلول المعتاد، وفتح المدى الكوني أمامه. ولذلك لا ينبغي أن نعاكس هذا بذاك، إنَّما علينا أنْ نعي أنَّ كلاً منهما يكمِّل الآخر.
ومع ذلك فإنَّه لا ضير من أنْ نتوقف قليلاً عند معاكسة لاو-تسزي وكونفوشيوس؛ لا لأنَّ معاصريهما فعلوا هذا منذ آلاف السنين، بل لأنَّ هذه الوقفة تقدِّم لنا فرصة لفهم جوهر تعاليم لاو-تسزي فهمًا أفضل.
ثمَّة قصَّة–مثل في الكتاب الصيني القديم ربيع السيَّد ليوي وخريفه، تقول:
فقد أحد سكَّان مملكة تسزين قوسه، لكنَّه لم يبحث عنها، وعلل سلوكه هذا هكذا: امرء من تسزين أضاع، وامرء من تسزين وجد، فما الفرق؟!
وإذ سمع كونفوشيوس هذا قال:
فقط يجب حذف كلمة "من تسزين"، وعندئذ يستقيم الأمر!
ولكنْ عندما سمع لاو-تسزي هذا عينه قال:
يجب أنْ تحذف أيضًا كلمة امرء، وعندئذٍ يستقيم الأمر!
"يبقى كونفوشيوس دائمًا على المستوى البشري العام، فهذا بالنِّسبة إليه هو المستوى الأعلى الممكن، حيث حتى أكثر مفاهيم الجين تجريدًا وسموًّا تنعكس بهيروغليف رمزه المفتاحي الإنسان" (كلمة جين معناها الرحمة). ولكنَّ لاو-تسزي يذهب في المسألة إلى الأعمق، فيرتفع إلى الفكرة النقية، إلى المستوى الذي تجاوز الإنساني نحو الكوني. وفي هذه الحال فإنَّ كل شيء نسبي من الوجهة العملية، فيندغم الاكتساب بالفقدان. ولذلك قال لاو-تسزي:
أيتها البليَّة! عليك تستقرُّ السَّعادة. أيتها السَّعادة! أنت تقفين على البليَّة.
وقد نقل إلينا مختلف المصادر الصينية القديمة معلومات عن لقاء جرى بين كونفوشيوس ولاو-تسزي. فيروي لنا غي هون مثلاً أنَّ كونفوشيوس أحسَّ بالخزي وكان مشتتًا بعد لقائه مع لاو-تسزي، لأنَّه قابل فكرًا على مستوى أعلى (ويجب أنْ نأخذ بالحسبان أنَّ غي هون كان داوسيًّا).
ولكن كونفوشيوس اعترف لأحد تلامذته قائلاً:
لقد أدركت أنَّ فكره كالطير يحلِّق في الأعالي. فصنعت من بلاغتي سهمًا لأرمي الطير به، ولكنِّي لم أدركه، فضاعفت بذلك مجده. إنَّ فكره كالأيل تمامًا، كأنَّه الوعل في الأدغال. فأرسلت بلاغتي كلاب مطاردة لتطارد الأيل والوعل، لكنَّها فشلت في أدراكه، ولم تصب سوى العرج. إنَّ فكره كالسمكة في نهر عميق. فصنعت من بلاغتي صنَّارة لأصطاد هذه السمكة، لكني لم أصطد شيئًا، وتداخلت الصنارة في بعضها عقدًا. إنِّي لا أستطيع مطاردة تنين يحلِّق وراء الغيم ويتجوَّل في الصفاء الأعظم. لقد أدركت أنَّ لاو-تسزي هو كهذا التنين! ففغرت فمي دهشة، ولم أستطع إطباق شفتيِّ، وفجأة سقط لساني، وتعكَّرت روحي، ولم أعرف أين يمكث...
أمَّا في كتاب صيم-تيسان مذكرات تاريخية، فقد جاء عن اللِّقاء ما يلي:
عندما مرَّ كونفوشيوس في سيو، زار لاو-تسزي لكي يسمع رأيه بصدد الطُّقوس. فقال لاو-تسزي له: لاحظ أنَّ الذين علَّموا الشَّعب قد ماتوا وبلت عظامهم، لكنَّ كلامهم لا يزال على قيد الحياة حتى الآن. فعندما تساعد الظروف الحكيم، فإنَّه سيركب مركبة، أما عندما تعاكسه فإنَّه سيمشي على قدميه حاملاً أثقاله على رأسه ممسكًا أطرافها بيديه. وقد سمعت أنَّ التاجر الخبير يخفي بضاعته كأنَّه لا يتوفر على شيء منها. والأمر عينه تمامًا، عندما يتحلَّى الحكيم بأخلاق سامية، فإنَّ خارجه لا يوحي بذلك. ارمِ حكمتك ومعها كل ضرب من ضروب الأهواء، وابقِ على حبِّك لكل ما هو جميل مع ميل نحو الحساسية المرهفة، لأنَّه لا نفع من هذا كله بالنسبة إليك. وهذا ما أقوله لك، وأكثر من هذا لن أقول.
وبعد اللِّقاء قال كونفوشيوس لتلميذه حسب ما ورد عند تشجو-تسزي:
... في إدراك الطَّريق كنت كالدودة داخل إبريق مليء بالخلِّ: لو لم يرفع المعلَّم الغطاء لما أدركت الوحدة العظمى للسِّماء والأرض.
وغنيٌّ عن البيان أنَّ تشجو-تسزي قد كثَّف الألوان كثيرًا، لأنَّ كونفوشيوس لا يستحقُّ مثل هذا الهوان. ومع ذلك فإنَّ الصورة التي رسمت لكل من الفيلسوفين في هذا اللِّقاء، هي واحدة تقريبًا في كل مصدر: يستوي لاو-تسزي المجلل ببياض الشيب، على القمَّة، وأمامه يقف كونفوشيوس الأكثر شبابًا. وليس هذا مجرَّد عُمْرٍ، أو مشهد من مشاهد الحياة اليومية، إنَّما هذا رمز: سيِّد أكبر، وسيِّد أصغر وضيف. وكان على هذا الرَّمز أنْ يعكس هرم القيم الفلسفية.
لقد كان كونفوشيوس يعمل للمجتمع، أمَّا لاو-تسزي فقد وصف هذا المجتمع بأنَّه جمع من "البقر المقدس". ورأى الدولة والرحمة من زاوية مغايرة تمامًا.
إنَّ أُسِّ الأُسُس، حسب لاو-تسزي، هو الروح، الأُمُّ الأولى للوجود. فلاو-تسزي يتجوَّل في رحاب خارجية. ووجوده كله ساع نحو ما هو غير معتاد. وقد تأمَّل في الموت عبر صلته التي لا تنفصم عراها مع الحياة. ووضع العدم فوق كل وجود. وبينما يسعى كونفوشيوس إلى تغيير حياة المجتمع نحو الأحسن، في تعاليمه، فإنَّ لاو-تسزي كان بعيدًا تمامًا عن إلقاء أيِّ مواعظ، فلم يكن عنده سوى ثلاثة تلاميذ، ولكنَّ واحدًا منهم فقط كان فالحًا وأخذ عن معلِّمه المعرفة التي تتجاوز الشعور. وقد قامت هذه المعرفة في أنَّ الإنسان كان قادرًا على أنْ يرى ويسمع كل ما في هذا العالم "بغير عينين وأذنين"، وأنَّه "غرق روحيًا في اللاشيء". ونحن كنَّا قد بيَّنا في كتابنا الإله، والروح، والخلود إنَّه تحدث في أثناء ذلك مراجعة مباشرة للمعلومات عبر مقارنتها مع حقل الإعلام الكوني. فتعاليم لاو-تسزي لم تكن معدَّة للنخبة فقط، بل لنخبة النخبة، أي لأولئك الذين كانوا مؤهَّلين لإدراك الغبطة واكتساب نفاذ البصيرة، وبلوغ الحكمة الأبدية، وليس الدُّنيوية.
إنَّ لاو-تسزي يرى الأشياء بمقاييس مضاعفة. وهو يرى أنَّنا لا نرى هنا على الأرض سوى الظِّلال، أمَّا الموضوعات نفسها فنحن لا نراها. ونشير في السياق إلى أنَّ سقراط حلَّل مفهوم الظِّلِّ في السياق نفسه. فقد عدَّ أنَّه يمكن مقارنة الإنسان بالجالس في كهف قرب نار بحيث لا أنْ يرى سوى ظلال المارَّة فقط. وليس هذا في الواقع الأمر سوى تقليص لأبعاد المكان الثلاثة إلى بعدين. وعلى هذا المنوال يتَّهم لاو-تسزي كونفوشيوس بأنَّه يحاول أنْ يحكم على الحذاء عندما لا يرى أمامه سوى أثره على الأرض.
فتعاليم لاو-تسزي (الداوسيَّة)، هي تعاليم فلسفية عميقة تلامس جوهر العقيدة، وبناء العالم، ومكان الإنسان فيه. لقد رأى هذا الفيلسوف في العالم المحيط به وحدة لا تتجزَّأ، تسير وفق قوانين ثابتة. وكان على يقين راسخ بأنَّ كل ما في هذا الكون الموحَّد العظيم مترابط بعضه مع بعض ومتماثل بعضه مع بعض. وعلى المنوال نفسه جاء بناء المعمورة، والدَّولة، وجسم الإنسان. فجوهر الأشياء كلها واحد، لأنَّ قوانين الكون قطعية، باتَّة في أيِّ نقطة منه. وعليه فليس ثمَّة أهمِّية للزمان، أو لمكان معيَّن في المكان الكوني. ولذلك يجب على المرء الحكيم الذي أدرك هذه القوانين لو إدراكًا جزئيًّا، أنْ يسلك سلوكًا متماثلاً في كل مكان وزمان. ولهذا السبب فإنَّ تعاليم الحكيم لاو-تسزي لا تشيخ، إنَّما معاصرة، بل تقدُّمية أيضًا. واحكموا بأنفسكم: منذ ألفين وخمس مائة عام خلت أدرك لاو-تسزي أنَّ تراكم البشر في المدن عمل مهلك بالنِّسبة للجنس البشري. ورأى أنَّه يجب تقسيم التَّجمُّعات البشرية المهولة (المدن) إلى خلايا صغيرة، ويجب ألاَّ تستعمل في أماكن سكنى الناس أي حيل تقنية. فالإنسان لا يمكن أنْ يعيش سعيدًا إلاَّ في شروط طبيعية بكر نقية، إذ في مثل هذه الشروط فقط يمكن أنْ تسير حياته منسجمة مع الطبيعة، وعندئذٍ سيعود طعام الإنسان حلوًا، وحياته هادئة، وملابسه بديعة بحقٍّ. وتتطهَّر أخلاق الناس وعاداتهم من الكره والعنف. ويغدون سعداء مشرقين كما في الزمن القديم. ولن يكون للأسلحة دور في مثل هذه القرى سوى إبعاد الغواية لاستعمالها. ونحن لن نقول إلى أيِّ حدٍّ يبدو هذا واقعيًا بالنسبة للمجتمع المعاصر، فالإجابة واضحة. وما يبعث في النفس الأسى أنَّه إذا ما عبرت البشرية إلى حضارة جديدة تتوافق قوانينها مع قوانين الطبيعة، فإنَّ ذلك لن يكون إلاَّ عبر هزَّات وكوارث عالمية عميقة. وبعضها واقف الآن على عتبة الباب: تهديم طبقة الأوزون، والعوز المناعي المكتسب (الإيدز).
لقد أدرك لاو-تسزي أنَّ ارتقاء الجنس البشري لن يفضي إلى تقدُّم حقيقي، بل على الضِّدِّ من ذلك، سيدفع الإنسان بعيدًا عن التَّواؤم مع الطبيعة. وقد عرف أنَّ فرع التَّطوُّر هذا، فرع مسدود أمام تقدُّم البشرية. فنحن ملأنا الفخر إذ شطرنا الذَّرَّة، وأوغلنا عميقًا في علم الوراثة، لكنَّنا نقف الآن حائرين لا نعرف كيف ننجو من اكتشافاتنا. وكان لاو- تسزي قد رأى أنَّ الأفق مسدود أمام مثل هذا الارتقاء. ودعا إلى العيش في معاشر مغلقة، لأنَّ التَّقدُّم يقتلع انسان من الجنَّة ويقذف به إلى دوَّامة الزمن التي تسلبه السعادة الحقيقية. إنَّ السلاح الذي صنعه الإنسان لا يحمل سوى الموت والمعاناة. وهذا بدوره يجعل الإنسان بلا روح. فتغدو نجاحاته في نتيجة الحساب وهمًا ثمنه باهظ. وفي حالة العداء التي أحطنا وجودنا فيها هذه، نحن عاجزون عن تربية أطفالنا بروح حبِّ القريب، أي عاجزون عن جعلهم سعداء. وإذ نقتل في الحروب الكبيرة والصغيرة أعدادًا كبيرة من الناس الأبرياء، فإنَّنا نعجز عن اكتساب السكينة الروحية. كما تقتل المدن الكبرى مواطنينا وهم أحياء، إذ تجعل منهم مدمني مخدرات، ومدمني كحول، ولصوصًا. نحن نبشِّر "بالخير بالقبضات"، ونتناسى أنَّ هذا مجرد هراء نخدع أنفسنا به. وفي هذا الخداع تجري حياة أجيال بكاملها.
فمن أجل كنوز الأرض نهدم جبالها، ومن أجل درر البحار نعكر صفوها، ومن أجل نزاع وثرثرة نهلك أجسادنا.
أمَّا السلوك المستقيم فإنَّه يقوم في أن
لا يكون الحكيم طمَّاعًا: كلما أعطى الآخرين أكثر، كلما نال أكثر، وكلما بذل للآخرين أكثر، كلما اكتسب أكثر. (لاو-تسزي. "داو دي تسزين" كتاب الطريق والغبطة).
إذن فيما تقوم طريق الإنسان القويمة؟ إنها الطريق القانون، الداو. دعاها كونفوشيوس بالطريق البدئية، البدء، بينما دعاها يان سيون بالمكنونة. وليس الداو وحيدًا واحدًا في الكون اللامتناهي وحسب، وإنما هو أوحد في نوعه كذلك. ويبدأ بالداو "انتشار" العالم، أي ارتقاؤه في الزمان والمكان. فحسب لاو-تسزي إن الداو أحدث، في بدء الزمان، الحدود في الفراغ، وبدورها حدود الفراغ أحدثت الزمان والمكان. ثم أحدث الزمان والمكان الأثير البدئي (يوان تسي)، الذي انقسم فيما بعد إلى مبدأين كونيين اثنين (عنصرين): إين ويان. وأنجب هذان العنصران السَّماء، والأرض والإنسان. وبعدئذٍ أنجب هذا الثالوث حشد الأشياء، والكائنات، والظاهرات. وقد قال لاو-تسزي:
واحد أنجب اثنين، واثنان أنجبا ثلاثة، والثلاثة أنجبوا عشرة آلاف شيء.
ويرى لاو-تسزي إن وجود الداو "سابق على وجود الرب الأعلى"، إنه "يعيش منذ الأزل، ولا علَّة لوجوده".
لقد قلنا في كتاب الإله، والروح، والخلود، إن مبدأ كل شيء في الكون هو الحقل الإعلامي البيولوجي، ففيه تكمن خطة بناء الكون وتطويره. وكان لاو-تسزي قد رأى إنه في البدء عندما لم يكن ثمَّة مكان ولا زمان بعد، كان هناك الداو اللامتناهي وحده. وقد كان ذلك فراغًا خاليًا من كل شكل. ونحن نستطيع أن نقول، إن الداو هو هذا الحقل الإعلامي عينه، الذي يخترق الكون كله ويخلق الوجود من العدم.
وينقسم البناء الكوني في الفلسفة الداوسية إلى خمسة أطوار. في الطور الأول أُطلقت الخطة التي كانت كأنها رابضة "على تخوم العدم والأشكال". ويدعى الطور الأول طور "الانقلاب العظيم"، لحظة الدافع الأول الذي تلاه طور "البداية العظمى". ففي تلك اللحظة ظهرت سحابة الأثير الكوني المتماثلة تمام التماثل (سحابة برانا تسي). وتتوافق تصوُّرات لاو- تسزي هذه تمام التوافق مع تصوُّرات فيزياء الكون المعاصرة عن ارتقاء الكون بعد الانفجار الأكبر. وجاء في مذكرات عن أجيال الأرباب والملوك، إن "البداية العظمى تبدأ عند أول ظهور التسي البدئي"، وفي "الكاوس (= الخراب الكوني. م) المتماثل الظاهر لتوه، تتحرَّك مع الداو آلاف مؤلفة من الأشياء والكائنات المندغمة في كل واحد".
وتجري في الأطوار الأخرى التالية عملية تشكيل الكون. ولكن كل شيء يجري فيها وفق الخطة المرساة في الحقل الإعلامي للداو. فيبدأ الكون يتجسَّم رويدًا رويدًا، خارجًا من الكاوس، فيكتسب أشكاله ومكانه، ووظائفه. ويتلقى الأثير الكوني في أثناء ذلك توجهًا متباينًا. ويقع في هذا الطور انشطار الموجب والسالب، والإيجابي والسلبي، والخير والشر. وعن هذا كتب فيلسوف معاصر يقول:
كما العمليات التي تجري في حوض مائي عكر، حيث يترسَّب ويتباعد شيئًا فشيئًا الماء والطين المتخالطان في كتلة متماثلة واحدة، كذلك عمليات نشوء الكون ترفع إلى مجالات الكون العليا كل نوراني، ودقيق، ونقي؛ وترسِّب إلى تحت كل قاتم، وثقيل، وفظ، وقذر. فتولد السَّماء والأرض، ومع ظهورهما ينشطر الأثير الكوني كله إلى اثنين مكتسبًا علاقة مختلفة: الإيجابي والسلبي، والنور والظلام، والمذكر والمؤنث، واللين والصلب، وما إلى ذلك. وينبغي ألا نظن أن هذا العدد هو مجرد تقسيم ذهني، أو ثمرة إنشاءات فكرية تجريدية، أو رمزية جدلية. فـ "إين ويان" ليسا مجرد تناقض: تدفق الأثير النوراني والقاتم عبر قنوات الجسم الإنساني؛ وتخالطا في معايير مختلفة فخلقا الرجل والمرأة؛ وفي مختلف فصول السنة، وفي لحظات شتى من حركة النظام الكوني الدائبة، ساد الأثير في الكون باتجاهات مختلفة.
إن ظهور الكوسموس (=النظام الكوني) يعني "تشييء" الداو، تجسيمه. وهكذا ظهر الحد الأعظم للكون، الذي ينبض في داخله نبضًا متواصلاً، متمددًا أحيانًا، ومنكمشًا أحيانًا أخرى، نوعان من الأثير: إين ويان. ولذلك لم يعد الداو خطَّة، إمكانية كامنة، إنما تحوَّل إلى واقع مجسَّم. إن الداو هو القانون الكوني. لقد عدَّ لاو- تسزي إنه ليس ثمَّة مكان في الكون لا وجود للداو فيه. ونحن نضيف أن هذا ممكن بفضل البناء المتماثل للكون. أما عن حقل الإعلام (الداو)، فقد كتب لاو- تسزي يقول:
وأنت تنظر إليه لا تلحظه، وأنت تستمع إليه لا تسمعه، وتلمسه فلا تحس به.
ولذلك فإننا لا نرتاب في وجود الحقل الإعلامي، أي العقل الكوني. وعنه كتب صيما تصين يقول:
يجري الينبوع العظيم للدرب من السَّماء، والسَّماء لا تتغيَّر، وكذلك الدرب لا تتغير أيضًا.
وعن هذا نفسه كتب أوغسطين المغبوط يقول:
أفي مكان آخر يجري الينبوع الذي منه يتدفق إلينا الوجود والحياة؟ كلا، فأنت تصنعنا يا رب!
تعليق