تفكك مفهوم الأمة وضرورة المراجعة
د.طه جابر العلواني
ما يهمني هو بيان كيف تحطم مفهوم "الأمة" وتم تفكيكه لصالح دعاة الطائفية السياسية والحزبية والمصالح والولاءات الضيقة؛ بحيث لم يَعُد عند أي من هؤلاء أي ولاء للأمة أو للملة، وذلك ليعلم من بقي من أبناء الأمة أننا في حاجة ماسة، بل في حالة اضطرار إلى العمل الجاد لتحقيق أمرين اثنين:
الأول: توحيد الله -تعالى- وإفراده بالألوهية والربوبية والصفات وتكريس ولائنا -كله- له وحده لا شريك له من حكومة أو طائفة أو حزب أو قبيلة أو سواها.
الثاني: العمل على إعادة بناء الأمة -مفاهيم وكيانا- لعل ذلك يساعد على إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وأهم ما نحتاجه لتكون البداية سليمة أن نقوم -جميعا- بعملية مراجعة جماعية على مستوى الأمة -"سابقا"- لتراثنا كله، منذ وفاة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- والتحاقه بالرفيق الأعلى، وحتى الساعة التي نحن فيها.
وهذه المراجعة يجب أن تكون مراجعة منهجية تنهض بأعبائها الجسام جامعات متخصصة ومراكز بحوث تضم صفوة من علماء الأمة المتخصصين في كل فروع المعرفة. وهذه المراجعة ليست من قبيل الترف الفكري، بل هي مراجعة ضرورية يستحيل بناء مشروع يستهدف إعادة بناء "الأمة" من دونها.
فإننا في كثير من محاولات الإصلاح والتجديد السابقة كنا نهرع إلى المواجهات التي تُفرض علينا، أو نتصدى لها دون قيام بالمراجعة فنفرح بانتصار شكلي أو غلبة مؤقتة لا تلبث أن تتبخر في مواجهة أخرى، وهكذا. فبقيت سلبياتنا الفكرية تتراكم، وأخطاؤنا وانحرافاتنا تترسخ حتى بلغنا هذا الحضيض الذي نتردى فيه.
إننا في حاجة إلى المراجعات الشاملة لعلومنا وثقافاتنا ونظمنا وحركاتنا وتاريخنا -كله- ومهما أخذت هذه المراجعة من جهد ومال ووقت فإنها ضرورة لا بد منها، وشرط مسبق لا بد من تحقيقه، ولا يقبل -بحال- تجاوزه.
وقد يكون لي أن أقترح على إخواني المؤرخين تقسيم تاريخ الأمة إلى مراحل ثلاث:
المرحلة الأولى: هي المرحلة الممتدة من عصر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وحتى عصر التدوين.
المرحلة الثانية: من عصر التدوين حتى بداية مرحلة الاحتكاك بالغرب من موقع الضعف والفرقة والتمزق.
المرحلة الثالثة: وهي التي بدأت فيها الأمة محاولة اللحاق بالركب الغربي الأوربي، ولا ترى مانعا من تبني رؤيته وأفكاره ونظمه وعلومه لإحداث التجديد أو بلوغ الحداثة، ويمكن اعتبار نهاية المرحلة الثانية وبداية المرحلة الثالثة من عصر سليم الثاني، أو دخول نابليون مصر أو أي مفصل تاريخي مؤثر آخر.
وإذا كنا قد ذهبنا إلى اختيار هذا الفاصل؛ لأنه يمثل فاصلا حقيقيا في مجال الرؤية الكلية والمعرفة والثقافة والفكر والتشريع وأنماط السلوك والحياة، فهذه -كلها- في المرحلة الأولى كان المنطلق فيها من الإسلام؛ فهو المرجعية المطلقة والوحيدة فيه.
أما المرحلة الثانية فقد تغيرت المرجعية فيها فصارت مزدوجة تجرى فيها مقاربة معطيات مرجعية -من فلسفة وعلوم موروثة عن الأوائل وسواهم- بالإسلام.
وفي المرحلة الثالثة دخلت المرجعية الغربية إلى الساحة بالمقاربة ثم المقارنة، وهكذا حتى ألف المسلمون ذلك وهيمنت المرجعية الغربية على حياة المسلمين كلها؛ من النظام السياسي إلى نظام إدارة المساجد والمؤسسات الدينية. وأرزت المرجعية الإسلامية، وانكمشت لتحصر في دائرة ما عرف بـ"الأحوال الشخصية". وحتى هذه بقيت المرجعية الغربية تزحف عليها وتنقصها من أطرافها حتى لم يبق منها إلا القليل الذي تجرى الآن عملية إنهائه والتخلص منه. * مقاييس مقترحة للمراجعة:
ولقائل أن يقول: وماذا عن "الصحوة الإسلامية" والبنوك الإسلامية والتعليم الإسلامي، بل والانقلابات الإسلامية، والحكومات الإسلامية، والحكومات التي انبثقت عنها، بل هناك "السياحة الدينية" بتكرار الحج والعمرة لدى فريق، وزيارة أضرحة الصالحين وشهداء آل البيت، ألا يدل ذلك على أن المسلمين ما يزالون بخير؟ فأقول:
إن هذه الممارسات -كلها- تنطلق من فكر المقاربات والمقارنات، ومن إحساس عميق بالهزيمة والإحباط، ورغبة شديدة في الغياب عن الشهود، فالشهود قاسٍ معذب مؤرق موجع، والكل يحب الغياب، ولكلٍّ وجهته في التخلص من عذاب الشهود بالغياب، أي غياب، لكن ذلك -كله- لا يغير من حقائق الواقع شيئا.
إن مراجعة تفاصيل تراث المراحل الثلاث ضرورة لا بد منها، ولا بد أن يتم ذلك وفقا لمقاييس صارمة مطردة منعكسة لا تحابي أحدا ولا تجامل فرقة ناجية أو هالكة.

د.طه جابر العلواني
ما يهمني هو بيان كيف تحطم مفهوم "الأمة" وتم تفكيكه لصالح دعاة الطائفية السياسية والحزبية والمصالح والولاءات الضيقة؛ بحيث لم يَعُد عند أي من هؤلاء أي ولاء للأمة أو للملة، وذلك ليعلم من بقي من أبناء الأمة أننا في حاجة ماسة، بل في حالة اضطرار إلى العمل الجاد لتحقيق أمرين اثنين:
الأول: توحيد الله -تعالى- وإفراده بالألوهية والربوبية والصفات وتكريس ولائنا -كله- له وحده لا شريك له من حكومة أو طائفة أو حزب أو قبيلة أو سواها.
الثاني: العمل على إعادة بناء الأمة -مفاهيم وكيانا- لعل ذلك يساعد على إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وأهم ما نحتاجه لتكون البداية سليمة أن نقوم -جميعا- بعملية مراجعة جماعية على مستوى الأمة -"سابقا"- لتراثنا كله، منذ وفاة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- والتحاقه بالرفيق الأعلى، وحتى الساعة التي نحن فيها.
وهذه المراجعة يجب أن تكون مراجعة منهجية تنهض بأعبائها الجسام جامعات متخصصة ومراكز بحوث تضم صفوة من علماء الأمة المتخصصين في كل فروع المعرفة. وهذه المراجعة ليست من قبيل الترف الفكري، بل هي مراجعة ضرورية يستحيل بناء مشروع يستهدف إعادة بناء "الأمة" من دونها.
فإننا في كثير من محاولات الإصلاح والتجديد السابقة كنا نهرع إلى المواجهات التي تُفرض علينا، أو نتصدى لها دون قيام بالمراجعة فنفرح بانتصار شكلي أو غلبة مؤقتة لا تلبث أن تتبخر في مواجهة أخرى، وهكذا. فبقيت سلبياتنا الفكرية تتراكم، وأخطاؤنا وانحرافاتنا تترسخ حتى بلغنا هذا الحضيض الذي نتردى فيه.
إننا في حاجة إلى المراجعات الشاملة لعلومنا وثقافاتنا ونظمنا وحركاتنا وتاريخنا -كله- ومهما أخذت هذه المراجعة من جهد ومال ووقت فإنها ضرورة لا بد منها، وشرط مسبق لا بد من تحقيقه، ولا يقبل -بحال- تجاوزه.
وقد يكون لي أن أقترح على إخواني المؤرخين تقسيم تاريخ الأمة إلى مراحل ثلاث:
المرحلة الأولى: هي المرحلة الممتدة من عصر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وحتى عصر التدوين.
المرحلة الثانية: من عصر التدوين حتى بداية مرحلة الاحتكاك بالغرب من موقع الضعف والفرقة والتمزق.
المرحلة الثالثة: وهي التي بدأت فيها الأمة محاولة اللحاق بالركب الغربي الأوربي، ولا ترى مانعا من تبني رؤيته وأفكاره ونظمه وعلومه لإحداث التجديد أو بلوغ الحداثة، ويمكن اعتبار نهاية المرحلة الثانية وبداية المرحلة الثالثة من عصر سليم الثاني، أو دخول نابليون مصر أو أي مفصل تاريخي مؤثر آخر.
وإذا كنا قد ذهبنا إلى اختيار هذا الفاصل؛ لأنه يمثل فاصلا حقيقيا في مجال الرؤية الكلية والمعرفة والثقافة والفكر والتشريع وأنماط السلوك والحياة، فهذه -كلها- في المرحلة الأولى كان المنطلق فيها من الإسلام؛ فهو المرجعية المطلقة والوحيدة فيه.
أما المرحلة الثانية فقد تغيرت المرجعية فيها فصارت مزدوجة تجرى فيها مقاربة معطيات مرجعية -من فلسفة وعلوم موروثة عن الأوائل وسواهم- بالإسلام.
وفي المرحلة الثالثة دخلت المرجعية الغربية إلى الساحة بالمقاربة ثم المقارنة، وهكذا حتى ألف المسلمون ذلك وهيمنت المرجعية الغربية على حياة المسلمين كلها؛ من النظام السياسي إلى نظام إدارة المساجد والمؤسسات الدينية. وأرزت المرجعية الإسلامية، وانكمشت لتحصر في دائرة ما عرف بـ"الأحوال الشخصية". وحتى هذه بقيت المرجعية الغربية تزحف عليها وتنقصها من أطرافها حتى لم يبق منها إلا القليل الذي تجرى الآن عملية إنهائه والتخلص منه. * مقاييس مقترحة للمراجعة:
ولقائل أن يقول: وماذا عن "الصحوة الإسلامية" والبنوك الإسلامية والتعليم الإسلامي، بل والانقلابات الإسلامية، والحكومات الإسلامية، والحكومات التي انبثقت عنها، بل هناك "السياحة الدينية" بتكرار الحج والعمرة لدى فريق، وزيارة أضرحة الصالحين وشهداء آل البيت، ألا يدل ذلك على أن المسلمين ما يزالون بخير؟ فأقول:
إن هذه الممارسات -كلها- تنطلق من فكر المقاربات والمقارنات، ومن إحساس عميق بالهزيمة والإحباط، ورغبة شديدة في الغياب عن الشهود، فالشهود قاسٍ معذب مؤرق موجع، والكل يحب الغياب، ولكلٍّ وجهته في التخلص من عذاب الشهود بالغياب، أي غياب، لكن ذلك -كله- لا يغير من حقائق الواقع شيئا.
إن مراجعة تفاصيل تراث المراحل الثلاث ضرورة لا بد منها، ولا بد أن يتم ذلك وفقا لمقاييس صارمة مطردة منعكسة لا تحابي أحدا ولا تجامل فرقة ناجية أو هالكة.
تعليق