تنظر الشيعة إلى أئمة أهل البيت، نظرة مثالية، تحوطها هالة من التقديس، لا تقتحمها الظنون ولا تخالطها الشكوك، فهم شخوص كريمة تتجسد فيها المثل العليا من الخير والحق والعلم والعدل لا ينحرفون ولا يجورون، قد تساموا بأنفسهم على الأهواء والشهوات، والخطايا والذنوب.
لأن الأئمة -في نظرهم- حجج الله على العباد بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهم الذين يعرِّفون العباد بالحلال والحرام، فعن العبد الصالح -عليه السلام- قال: «إن الحجة لا تقوم لله على خلقه إلا بإمام يعرف»([1]) وعن سليم بن قيس الهلالي، عن أمير المؤمنين -عليه السلام- قال: «إن الله تبارك وتعالى طهَّرنا وعصمنا وجعلنا شهداء على خلقه وحجَّته في أرضه، وجعلنا مع القرآن وجعل القرآن معنا، لا نفارقه ولا يفارقنا»([2]).
ولأنه لا يعرف الله ولا يعبده إلا من عرف الإمام الحجة، فعن جابر قال: سمعت أبا جعفر -عليه السلام- يقول: «إنما يعرف الله -عزّ وجلّ- ويعبده من عرف الله وعرف إمامه منَّا أهل البيت، ومن لا يعرف الله -عزّ وجلّ- ولا يعرف الإمام منَّا أهل البيت، فإنما يعرف ويعبد غير الله، وهكذا والله ضلالاً»([3])، وعن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: «الأوصياء هم أبواب الله -عزّ وجلّ- التي يؤتى منها، ولولاهم ما عُرف الله عزّ وجلّ، وبهم احتج الله تبارك وتعالى على خلقه»([4])، فلهذه النظرة المقدسة لأئمة آل البيت وصفوا بالعصمة، إذ قد أنزلوا منزلة أعظم من منزلة الأنبياء؛ إذ يروون عنهم: «إن لنا مع الله حالات لا يسعها ملك مقرب ولا نبي مرسل»([5])، واللائق في الأنبياء أنهم مؤيدون بالوحي معصومون لا يقرّون على خطأ.
فالقول بعصمة الأئمة من أبرز آراء الشيعة التي تمتاز بها عن غيرها من الفرق الإسلامية الأخرى وهو الطابع الوحيد لهم منذ أقدم عصورهم إلى اليوم، فالأئمة عندهم كالأنبياء في جهة العصمة على قول([6])، وقد عرّف العصمة أحد مشايخهم -وهو المفيد- بأنها: «لطف يفعله الله تعالى بالمكلف، بحيث تمنع منه وقوع المعصية وترك الطاعة مع قدرته عليها»([7]) والعصمة شرط وجوب في الإمام؛ لأنهم يعتقدون «أن الإمام يجب أن يكون معصوماً من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن، من سن الطفولة إلى الموت عمداً وسهواً، كما يجب أن يكون معصوماً من السهو والخطأ والنسيان؛ لأن الأئمة حفظة الشرع والقـوّامون عليه حالـهم في ذلك حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم»([8])؛ «لأنه حافظ الشرع.. ولأن الكتاب لا يحيط بالأحكام، إذ لا تعيين فيه لكثير منها كعدد الركعات ومقادير الزكوات؛ ولأن الكتاب في نفسه لابد له من حافظ موثوق به»([9]).
وقد رأيت أن أجمع في هذه الرسالة نُبَذاً من الأقوال والحجج التي تبيِّن وجه الحق فيها مع إعطاء أئمة آل البيت المنزلة التي رضيها لهم الله -عزّ وجلّ- ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وعرفوها هم لأنفسهم. فاقرأها وتأملها عسى الله أن ينفع بها القارئ والكاتب.
الأنبياء هم رحمة الله بعباده، فما كان الله ليخلق عبثاً، ولا ليترك سدى، فأرسل الرسل وأنزل عليهم الكتب: ((لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)) [النساء:165].. ((لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)) [الأنفال:42].
فالأنبياء «هم» أفضل الخلق، وهم أصحاب الدرجات العلى في الآخرة.. وأفضل السابقين المقربين.
وقد اتفق «المسلمون» «على أن الأنبياء معصومون فيما يبلغونه عن الله تعالى، وهذا هو مقصود الرسالة؛ فإن الرسول هو الذي يبلّغ عن الله أمره ونهيه وخبره، وهم معصومون في تبليغ الرسالة.. بحيث لا يجوز أن يستقر في ذلك شيء من الخطأ»([10]).
«وهم متفقون على أنهم لا يُقرّون على خطأ في الدين أصلاً، ولا على فسوق ولا كذب، وفي الجملة كل ما يقدح في نبوتهم وتبليغهم عن الله فهم متفقون على تنزيههم عنه. وعامة الجمهور الذين يجوِّزون عليهم الصغائر يقولون: إنهم معصومون من الإقرار عليها فلا يصدر عنهم ما يضرهم»([11])
وأما النسيان والسهو والخطأ فواقع منهم؛ لأنهم بشر، والذي لا ينسى هو الله، قال تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال: ((لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى)) [طه:52]، وقد جاء القرآن مصرحاً بأن الأنبياء يقع منهم النسيان، فقال تعالى عن يوشع بن نون أنه قال لموسى عليهما السلام: ((فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ)) [الكهف:73]، وقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ((وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)) [الكهف:24]، وقال له أيضاً: ((سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى)) [الأعلى:6]، وقال تعالى عن موسى عليه السلام وهو يخاطب الخضر: ((لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ)) [الكهف:73].
وقد ثبت في السنة النبوية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقع منه السهو في الصلاة، وهذا يؤيد ما جاء في القرآن من جواز النسيان على الأنبياء عليهم السلام منها:
عن أبي عبد الله جعفر الصادق رحمه الله قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سها فسلّم في ركعتين»([12]).
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظهر خمس ركعات ثم انفتل، فقال له بعض القوم: يا رسول الله! هل زيد في الصلاة شيء؟ قال: وما ذاك؟ قال: صليت بنا خمس ركعات([13]).
وعن أبي عبد الله رحمه الله قال: صلّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ سلّم في ركعتين، فسأله من خلفه: يا رسول الله! أحدث في الصلاة شيء؟ فقال: وما ذاك؟ قال: إنما صليت ركعتين، فقال: أكذلك يا ذا اليدين؟ وكان يدعى ذو الشمالين، فقال: نعم، فبنى على صلاته فأتمّ الصلاة أربعاً - إلى أن قال: وسجد سجدتين لمكان الكلام([14]).
وعن الإمام الرضا رحمه الله أنه لعن وكذّب من يقول أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يسه في صلاته، قيل له رحمه الله: «إن في الكوفة قوماً يزعمون أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يقع عليه السهو في صلاته، فقال: كذبوا لعنهم الله، إن الذي لا يسهو هو الله لا إلى إلا هو»([15]).
ومع تقرير أن السهو والنسيان يقعان من الأنبياء؛ فهو لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى، فكل شيء عنده بمقدار، ويمكن أن نلحظ منها حكمة استنان المسلمين بهم.
فهذا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يخبر عن نفسه أنه ينسى فهل نحن أعلم بنفسه صلى الله عليه وآله وسلم من نفسه، وقد سبق أن ذكرنا أن الله أخبر بذلك في كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهل نحن أعلم من الله ورسوله؟!!
فهل يصح بعد هذا الكلام الواضح الصريح أن نحرف كلامه - صلى الله عليه وآله وسلم - ونقول: لا يا رسول الله، أنت لا تعرف نفسك، ولا تعرف ما وهبه الله لك، نحن أعلم بك من نفسك، أنت لا تنسى ولا تسهو!
وإذا كان هذا في النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبقية إخوانه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكيف يصح أن ننسب هذا الأمر - عدم السهو والنسيان والخطأ - إلى الأئمة، وندّعي لهم ما لم يختص به الأنبياء عليهم السلام.
ولا يعني قولنا بأن الأئمة غير معصومين أنّا ننتقصهم أو نحطّ من قدرهم، بل قولنا بأنهم غير معصومين فيه تزكية لهم ورفع لشأنهم، وأيضاً: اعتراف الرجل الجليل القدر بما هو عليه من الحاجة إلى توبته واستغفاره، ومغفرة الله له ورحمته دَلَّ ذلك على صدقه وتواضعه وعبوديته لله، وبُعده عن الكبر والكذب، بخلاف من يقول: ما بي حاجة إلى شيء من هذا ولا يصدر مني ما يحوجني إلى مغفرة الله وتوبته عليَّ.
ولا يلزم القول بعدم عصمة الأئمة التنفير من قولهم وعدم الوثوق بهم، فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه أصرَّ وتمسك بالحق الذي هو عليه عند التحكيم؛ فتواقحت عليه الخوارج جهلاً، ونفروا منه رضي الله عنه لتمسكه بالحق، فعلم أن التوبة والاستغفار لا توجب تنفيراً ولا تزيل وثوقاً بخلاف دعوى البراءة مما يُتاب منه ويستغفر، ودعوى السلامة مما يُحوِج الرجوع إلى الله واللجأ إليه؛ فإنه هو الذي ينفرّ القلوب ويزيل الثقة، فإن هذا لم يُعلم أنه صدر إلا عن كذّاب أو جاهل، أما الأول فإنه يصدر عن الصادقين العالمين».
ومما يجدر أن نذكره هنا أقوال الأئمة من آل البيت والتي تبين حقيقة أنفسهم فتأملها:
قال علي بن أبي طالب رضي لله عنه: «لابد للناس من أمير برّ أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو وتأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي».([16])
«أنت ترى أنه لم يشترط العصمة في الأمير، ولم يُشر لها من قريب أو بعيد، بل رأى أنه لابد من نصب أمير تناط به مصالح العباد والبلاد، ولم يقل أنه لا يلي أمر الناس إلا إمام معصوم، وكل راية تقوم غير راية المعصوم فهي راية جاهلية، ولم يحصر الإمارة في الاثني عشر المعصومين عند الشيعة ويكفر من تولاها من خلفاء المسلمين كما تذهب إليه الشيعة، بل رأى ضرورة قيام إمام ولو كان فاجراً وجعل إمارته شرعية بدليل أنه أجاز الجهاد في ظل إمارة الفاجر».([17])
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «لا تخالوني بالمصانعة ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي، ولا التماس إعظام النفس؛ فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل؛ فإني لستُ في نفسي بفوق أن أخطئ ولا آمن ذلك من فعلي»([18]).
«فأمير المؤمنين يطلب من أصحابه ألا يترددوا في إبداء النصيحة والمشورة ولا يمنعهم من ذلك المجاملة والمصانعة، أو أن يُظن به أنه لا يقبل الحق إذا قيل له، استثقالاً له وتعظيماً لنفسه؛ فإن الحاكم الذي لا يقبل مشورة الرعية، ولا يرضى أن يقال له أخطأت، هو عن العمل بالحق والعدل أبعد؛ لأن من يثقله استماع النصيحة فهو عن العمل بها أعجز، فلا تكفوا عن مقالة بحق ولا مشورة بعدل؛ فالجماعة أقرب إلى الحق والعصمة، والفرد لا يأمن على نفسه الوقوع في الخطأ.
فهو هنا لم يدّع ما تزعم الشيعة فيه من أنه لا يخطئ، بل أكد أنه لا يأمن على نفسه من الخطأ، كما لم يعلن استغناءه عن مشورة الرعية بل طلب منهم المشورة بالحق والعدل؛ لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة وكل فرد لوحده معرض للضلالة، فعلم أن دعوى العصمة من مخترعات غلاة الشيعة»([19]).
وكان علي بن الحسين رحمه الله يدعو ويقول: «اللهم لك الحمد على سترك بعد علمك، فكلنا قد اقترف العائبة فلم تشهره وارتكب الفاحشة فلم تفضحه.. كم نهي لك قد أتيناه وأمر قد وقفتنا عليه فتعديناه وسيئة اكتسبناها، وخطيئة ارتكبناها»([20])
وقال أبو عبد الله جعفر الصادق رحمه الله لما ذكر له السهو: «أو ينفلت من ذلك أحد؟! ربما أقعدت الخادم خلفي يحفظ عليَّ صلاتي»([21])
وقال أبو عبد الله رحمه الله: «إنَّا لنذنب ونسيء ثم نتوب إلى الله متاباً»([22])
والواقع العملي للأئمة يتنافى مع هذه العصمة؛ فإن ظاهرة الاختلاف في أعمال الأئمة كانت سبباً مباشراً لخروج بعض الشيعة من نطاق التشيع حيث رابهم أمر هذا التناقض، ومن أمثلة ذلك ما يذكره القمي والنوبختي «من أنه بعد قتل الحسين حارت فرقة من أصحابه، وقالت: قد اختلف علينا فعل الحسن والحسين؛ لأنه إن كان الذي فعله الحسن حقاً واجباً صواباً من موادعته معاوية وتسليمه له عند عجزه عن القيام بمحاربته مع كثرة أنصار الحسن وقوتهم؛ فما فعله الحسين من محاربته يزيد بن معاوية مع قلة أنصاره وضعفهم وكثرة أصحاب يزيد حتى قُتل وقُتل أصحابه جميعاً باطل غير واجب؛ لأن الحسين كان أعذر في القعود من محاربة يزيد وطلب الصلح والموادعة من الحسن في القعود عن محاربة معاوية، وإن كان ما فعله الحسين حقاً واجباً صواباً من مجاهدته يزيد حتى قتل ولده وأصحابه فقعود الحسن وتركه مجاهدة معاوية وقتاله ومعه العدد الكثير باطل، فشكوا في إمامتهما ورجعوا فدخلوا في مقالة العوام»([23])
وأخــــــيراً:
تبين أن القول الحق: «أن لا نعتقد أن أحداً معصوم بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل الخلفاء وغير الخلفاء يجوز عليهم الخطأ، والذنوب التي تقع منهم قد يتوبون منها، وقد تكفر عنهم بحسناتهم الكثيرة، وقد يبتلون أيضاً بمصائب يكفر الله عنهم بها، وقد يكفر عنهم بغير ذلك.
ومن قال بأن هناك معصوما بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنه لم يخطئ قط، ولم يذنب قط، فهذا مما يظهر كذبه وضلاله لكل ذي عقل.
«فالناس بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يتعلمون الدين من الإمام، بل الأئمة والأمة كلهم يتعلمون الدين من الكتاب والسنة، ولهذا لم يأمر الله عند التنازع برد الأمر إلى الأئمة بل قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)) [النساء:59]، فأمر بالرد عند التنازع إلى الله والرسول لا إلى الأئمة وولاة الأمور، وإنما أمر بطاعة ولاة الأمور تبعاً لطاعة الرسول»([24]).
«وإن أي إمام من الأئمة كائناً من كان منفذ للشرع وليس مشرعاً، والذي يعصم الأمة من الضلال هو القرآن الكريم الذي تعهد الله سبحانه بحفظه: ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) [الحجر:9]، ثم من بعد ذلك السنة النبوية وما تحتاج إليه الأمة ولا تجده في هذين المصدرين فإنها تُعمل عقلها وتجتهد فيما يعرض لها؛ فإنها لا تجتمع على ضلالة بنص قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهي التي تعصم الإمام من الخطأ، فالإمام فرد يخطئ ويصيب كسائر البشر من لدن آدم عليه السلام، أما الأمة فهي أحق بأن تصيب»([25]).
لأن الأئمة -في نظرهم- حجج الله على العباد بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهم الذين يعرِّفون العباد بالحلال والحرام، فعن العبد الصالح -عليه السلام- قال: «إن الحجة لا تقوم لله على خلقه إلا بإمام يعرف»([1]) وعن سليم بن قيس الهلالي، عن أمير المؤمنين -عليه السلام- قال: «إن الله تبارك وتعالى طهَّرنا وعصمنا وجعلنا شهداء على خلقه وحجَّته في أرضه، وجعلنا مع القرآن وجعل القرآن معنا، لا نفارقه ولا يفارقنا»([2]).
ولأنه لا يعرف الله ولا يعبده إلا من عرف الإمام الحجة، فعن جابر قال: سمعت أبا جعفر -عليه السلام- يقول: «إنما يعرف الله -عزّ وجلّ- ويعبده من عرف الله وعرف إمامه منَّا أهل البيت، ومن لا يعرف الله -عزّ وجلّ- ولا يعرف الإمام منَّا أهل البيت، فإنما يعرف ويعبد غير الله، وهكذا والله ضلالاً»([3])، وعن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: «الأوصياء هم أبواب الله -عزّ وجلّ- التي يؤتى منها، ولولاهم ما عُرف الله عزّ وجلّ، وبهم احتج الله تبارك وتعالى على خلقه»([4])، فلهذه النظرة المقدسة لأئمة آل البيت وصفوا بالعصمة، إذ قد أنزلوا منزلة أعظم من منزلة الأنبياء؛ إذ يروون عنهم: «إن لنا مع الله حالات لا يسعها ملك مقرب ولا نبي مرسل»([5])، واللائق في الأنبياء أنهم مؤيدون بالوحي معصومون لا يقرّون على خطأ.
فالقول بعصمة الأئمة من أبرز آراء الشيعة التي تمتاز بها عن غيرها من الفرق الإسلامية الأخرى وهو الطابع الوحيد لهم منذ أقدم عصورهم إلى اليوم، فالأئمة عندهم كالأنبياء في جهة العصمة على قول([6])، وقد عرّف العصمة أحد مشايخهم -وهو المفيد- بأنها: «لطف يفعله الله تعالى بالمكلف، بحيث تمنع منه وقوع المعصية وترك الطاعة مع قدرته عليها»([7]) والعصمة شرط وجوب في الإمام؛ لأنهم يعتقدون «أن الإمام يجب أن يكون معصوماً من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن، من سن الطفولة إلى الموت عمداً وسهواً، كما يجب أن يكون معصوماً من السهو والخطأ والنسيان؛ لأن الأئمة حفظة الشرع والقـوّامون عليه حالـهم في ذلك حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم»([8])؛ «لأنه حافظ الشرع.. ولأن الكتاب لا يحيط بالأحكام، إذ لا تعيين فيه لكثير منها كعدد الركعات ومقادير الزكوات؛ ولأن الكتاب في نفسه لابد له من حافظ موثوق به»([9]).
وقد رأيت أن أجمع في هذه الرسالة نُبَذاً من الأقوال والحجج التي تبيِّن وجه الحق فيها مع إعطاء أئمة آل البيت المنزلة التي رضيها لهم الله -عزّ وجلّ- ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وعرفوها هم لأنفسهم. فاقرأها وتأملها عسى الله أن ينفع بها القارئ والكاتب.
الأنبياء هم رحمة الله بعباده، فما كان الله ليخلق عبثاً، ولا ليترك سدى، فأرسل الرسل وأنزل عليهم الكتب: ((لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)) [النساء:165].. ((لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)) [الأنفال:42].
فالأنبياء «هم» أفضل الخلق، وهم أصحاب الدرجات العلى في الآخرة.. وأفضل السابقين المقربين.
وقد اتفق «المسلمون» «على أن الأنبياء معصومون فيما يبلغونه عن الله تعالى، وهذا هو مقصود الرسالة؛ فإن الرسول هو الذي يبلّغ عن الله أمره ونهيه وخبره، وهم معصومون في تبليغ الرسالة.. بحيث لا يجوز أن يستقر في ذلك شيء من الخطأ»([10]).
«وهم متفقون على أنهم لا يُقرّون على خطأ في الدين أصلاً، ولا على فسوق ولا كذب، وفي الجملة كل ما يقدح في نبوتهم وتبليغهم عن الله فهم متفقون على تنزيههم عنه. وعامة الجمهور الذين يجوِّزون عليهم الصغائر يقولون: إنهم معصومون من الإقرار عليها فلا يصدر عنهم ما يضرهم»([11])
وأما النسيان والسهو والخطأ فواقع منهم؛ لأنهم بشر، والذي لا ينسى هو الله، قال تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال: ((لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى)) [طه:52]، وقد جاء القرآن مصرحاً بأن الأنبياء يقع منهم النسيان، فقال تعالى عن يوشع بن نون أنه قال لموسى عليهما السلام: ((فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ)) [الكهف:73]، وقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ((وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)) [الكهف:24]، وقال له أيضاً: ((سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى)) [الأعلى:6]، وقال تعالى عن موسى عليه السلام وهو يخاطب الخضر: ((لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ)) [الكهف:73].
وقد ثبت في السنة النبوية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقع منه السهو في الصلاة، وهذا يؤيد ما جاء في القرآن من جواز النسيان على الأنبياء عليهم السلام منها:
عن أبي عبد الله جعفر الصادق رحمه الله قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سها فسلّم في ركعتين»([12]).
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظهر خمس ركعات ثم انفتل، فقال له بعض القوم: يا رسول الله! هل زيد في الصلاة شيء؟ قال: وما ذاك؟ قال: صليت بنا خمس ركعات([13]).
وعن أبي عبد الله رحمه الله قال: صلّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ سلّم في ركعتين، فسأله من خلفه: يا رسول الله! أحدث في الصلاة شيء؟ فقال: وما ذاك؟ قال: إنما صليت ركعتين، فقال: أكذلك يا ذا اليدين؟ وكان يدعى ذو الشمالين، فقال: نعم، فبنى على صلاته فأتمّ الصلاة أربعاً - إلى أن قال: وسجد سجدتين لمكان الكلام([14]).
وعن الإمام الرضا رحمه الله أنه لعن وكذّب من يقول أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يسه في صلاته، قيل له رحمه الله: «إن في الكوفة قوماً يزعمون أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يقع عليه السهو في صلاته، فقال: كذبوا لعنهم الله، إن الذي لا يسهو هو الله لا إلى إلا هو»([15]).
ومع تقرير أن السهو والنسيان يقعان من الأنبياء؛ فهو لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى، فكل شيء عنده بمقدار، ويمكن أن نلحظ منها حكمة استنان المسلمين بهم.
فهذا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يخبر عن نفسه أنه ينسى فهل نحن أعلم بنفسه صلى الله عليه وآله وسلم من نفسه، وقد سبق أن ذكرنا أن الله أخبر بذلك في كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهل نحن أعلم من الله ورسوله؟!!
فهل يصح بعد هذا الكلام الواضح الصريح أن نحرف كلامه - صلى الله عليه وآله وسلم - ونقول: لا يا رسول الله، أنت لا تعرف نفسك، ولا تعرف ما وهبه الله لك، نحن أعلم بك من نفسك، أنت لا تنسى ولا تسهو!
وإذا كان هذا في النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبقية إخوانه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكيف يصح أن ننسب هذا الأمر - عدم السهو والنسيان والخطأ - إلى الأئمة، وندّعي لهم ما لم يختص به الأنبياء عليهم السلام.
ولا يعني قولنا بأن الأئمة غير معصومين أنّا ننتقصهم أو نحطّ من قدرهم، بل قولنا بأنهم غير معصومين فيه تزكية لهم ورفع لشأنهم، وأيضاً: اعتراف الرجل الجليل القدر بما هو عليه من الحاجة إلى توبته واستغفاره، ومغفرة الله له ورحمته دَلَّ ذلك على صدقه وتواضعه وعبوديته لله، وبُعده عن الكبر والكذب، بخلاف من يقول: ما بي حاجة إلى شيء من هذا ولا يصدر مني ما يحوجني إلى مغفرة الله وتوبته عليَّ.
ولا يلزم القول بعدم عصمة الأئمة التنفير من قولهم وعدم الوثوق بهم، فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه أصرَّ وتمسك بالحق الذي هو عليه عند التحكيم؛ فتواقحت عليه الخوارج جهلاً، ونفروا منه رضي الله عنه لتمسكه بالحق، فعلم أن التوبة والاستغفار لا توجب تنفيراً ولا تزيل وثوقاً بخلاف دعوى البراءة مما يُتاب منه ويستغفر، ودعوى السلامة مما يُحوِج الرجوع إلى الله واللجأ إليه؛ فإنه هو الذي ينفرّ القلوب ويزيل الثقة، فإن هذا لم يُعلم أنه صدر إلا عن كذّاب أو جاهل، أما الأول فإنه يصدر عن الصادقين العالمين».
ومما يجدر أن نذكره هنا أقوال الأئمة من آل البيت والتي تبين حقيقة أنفسهم فتأملها:
قال علي بن أبي طالب رضي لله عنه: «لابد للناس من أمير برّ أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو وتأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي».([16])
«أنت ترى أنه لم يشترط العصمة في الأمير، ولم يُشر لها من قريب أو بعيد، بل رأى أنه لابد من نصب أمير تناط به مصالح العباد والبلاد، ولم يقل أنه لا يلي أمر الناس إلا إمام معصوم، وكل راية تقوم غير راية المعصوم فهي راية جاهلية، ولم يحصر الإمارة في الاثني عشر المعصومين عند الشيعة ويكفر من تولاها من خلفاء المسلمين كما تذهب إليه الشيعة، بل رأى ضرورة قيام إمام ولو كان فاجراً وجعل إمارته شرعية بدليل أنه أجاز الجهاد في ظل إمارة الفاجر».([17])
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «لا تخالوني بالمصانعة ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي، ولا التماس إعظام النفس؛ فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل؛ فإني لستُ في نفسي بفوق أن أخطئ ولا آمن ذلك من فعلي»([18]).
«فأمير المؤمنين يطلب من أصحابه ألا يترددوا في إبداء النصيحة والمشورة ولا يمنعهم من ذلك المجاملة والمصانعة، أو أن يُظن به أنه لا يقبل الحق إذا قيل له، استثقالاً له وتعظيماً لنفسه؛ فإن الحاكم الذي لا يقبل مشورة الرعية، ولا يرضى أن يقال له أخطأت، هو عن العمل بالحق والعدل أبعد؛ لأن من يثقله استماع النصيحة فهو عن العمل بها أعجز، فلا تكفوا عن مقالة بحق ولا مشورة بعدل؛ فالجماعة أقرب إلى الحق والعصمة، والفرد لا يأمن على نفسه الوقوع في الخطأ.
فهو هنا لم يدّع ما تزعم الشيعة فيه من أنه لا يخطئ، بل أكد أنه لا يأمن على نفسه من الخطأ، كما لم يعلن استغناءه عن مشورة الرعية بل طلب منهم المشورة بالحق والعدل؛ لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة وكل فرد لوحده معرض للضلالة، فعلم أن دعوى العصمة من مخترعات غلاة الشيعة»([19]).
وكان علي بن الحسين رحمه الله يدعو ويقول: «اللهم لك الحمد على سترك بعد علمك، فكلنا قد اقترف العائبة فلم تشهره وارتكب الفاحشة فلم تفضحه.. كم نهي لك قد أتيناه وأمر قد وقفتنا عليه فتعديناه وسيئة اكتسبناها، وخطيئة ارتكبناها»([20])
وقال أبو عبد الله جعفر الصادق رحمه الله لما ذكر له السهو: «أو ينفلت من ذلك أحد؟! ربما أقعدت الخادم خلفي يحفظ عليَّ صلاتي»([21])
وقال أبو عبد الله رحمه الله: «إنَّا لنذنب ونسيء ثم نتوب إلى الله متاباً»([22])
والواقع العملي للأئمة يتنافى مع هذه العصمة؛ فإن ظاهرة الاختلاف في أعمال الأئمة كانت سبباً مباشراً لخروج بعض الشيعة من نطاق التشيع حيث رابهم أمر هذا التناقض، ومن أمثلة ذلك ما يذكره القمي والنوبختي «من أنه بعد قتل الحسين حارت فرقة من أصحابه، وقالت: قد اختلف علينا فعل الحسن والحسين؛ لأنه إن كان الذي فعله الحسن حقاً واجباً صواباً من موادعته معاوية وتسليمه له عند عجزه عن القيام بمحاربته مع كثرة أنصار الحسن وقوتهم؛ فما فعله الحسين من محاربته يزيد بن معاوية مع قلة أنصاره وضعفهم وكثرة أصحاب يزيد حتى قُتل وقُتل أصحابه جميعاً باطل غير واجب؛ لأن الحسين كان أعذر في القعود من محاربة يزيد وطلب الصلح والموادعة من الحسن في القعود عن محاربة معاوية، وإن كان ما فعله الحسين حقاً واجباً صواباً من مجاهدته يزيد حتى قتل ولده وأصحابه فقعود الحسن وتركه مجاهدة معاوية وقتاله ومعه العدد الكثير باطل، فشكوا في إمامتهما ورجعوا فدخلوا في مقالة العوام»([23])
وأخــــــيراً:
تبين أن القول الحق: «أن لا نعتقد أن أحداً معصوم بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل الخلفاء وغير الخلفاء يجوز عليهم الخطأ، والذنوب التي تقع منهم قد يتوبون منها، وقد تكفر عنهم بحسناتهم الكثيرة، وقد يبتلون أيضاً بمصائب يكفر الله عنهم بها، وقد يكفر عنهم بغير ذلك.
ومن قال بأن هناك معصوما بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنه لم يخطئ قط، ولم يذنب قط، فهذا مما يظهر كذبه وضلاله لكل ذي عقل.
«فالناس بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يتعلمون الدين من الإمام، بل الأئمة والأمة كلهم يتعلمون الدين من الكتاب والسنة، ولهذا لم يأمر الله عند التنازع برد الأمر إلى الأئمة بل قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)) [النساء:59]، فأمر بالرد عند التنازع إلى الله والرسول لا إلى الأئمة وولاة الأمور، وإنما أمر بطاعة ولاة الأمور تبعاً لطاعة الرسول»([24]).
«وإن أي إمام من الأئمة كائناً من كان منفذ للشرع وليس مشرعاً، والذي يعصم الأمة من الضلال هو القرآن الكريم الذي تعهد الله سبحانه بحفظه: ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) [الحجر:9]، ثم من بعد ذلك السنة النبوية وما تحتاج إليه الأمة ولا تجده في هذين المصدرين فإنها تُعمل عقلها وتجتهد فيما يعرض لها؛ فإنها لا تجتمع على ضلالة بنص قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهي التي تعصم الإمام من الخطأ، فالإمام فرد يخطئ ويصيب كسائر البشر من لدن آدم عليه السلام، أما الأمة فهي أحق بأن تصيب»([25]).
تعليق