شكلت الستينات التي انتشر فيها تيار الاحياء الديني الاسلامي في شقّيه السني والشيعي نكوصا عن مرحلة فقهية وفكرية سابقة لدى السنة والشيعة، كما شكلت قطعا مع ارث الجيل الاصلاحي المتأخر من العلماء، كالكواكبي ورشيد رضا (قبل عودته عن مفهوم الدولة الوطنية) والنائيني، وكانت ابرز تجليات هذا التيار، سنياً في مانيفست سيد قطب "معالم في الطريق"، وشيعياً في مانيفست "الحكومة الاسلامية" للخميني.
اقام الخميني دولة "ولاية الفقيه" مرتكزا على مفهوم "ولاية الفقيه المطلقة" المرتبطة باجتهاد فقهي وتأويل فلسفي، اي لا ترقى الى مرتبة الاصول ولا تبارح الفروع. اما أوان تأسيس الجمهورية الاسلامية فقد كان له خاصية فريدة. يقول المفكر الفرنسي أوليفييه روا في كتابه "فشل تجربة الاسلام السياسي" إن السياسة وليس الدين هي التي انتصرت في إيران مع وصول الخميني الى السلطة. كيف ذلك؟
يمكن قراءة هذا الكلام على نحو ان تحدّي السلطة أفشل يوتوبيا الاسلام السياسي، ما دفع النظام الناشئ في ايران الى الجمع بين مؤسستين، الاولى دينية والثانية سياسية خاضعة لإشراف المرشد الاعلى، ما ادى عمليا الى شبه تعطيل المؤسسات الدستورية المحكومة بسقف لا قدرة لها على خرقه. فقد اصبح وجود هذه المؤسسات وجودا بالقوة لا بالفعل، بمعنى ان خروج المؤسسات الدستورية الى حيز الفعل السياسي التام يحتاج منها ان تزيح مظلة "ولاية الفقيه"، او على الاقل ان تخفف منها، وهذا ما اثبتت استحالته فترة حكم الرئيس الاصلاحي محمد خاتمي.
بناء على ذلك، ذهب اوليفييه روا بعيدا في قوله: "يكفي ان يتبنى انفتاح سياسي يتيح بروز احزاب مختلفة فعلا كي يبدأ دستور الجمهورية بالعمل بصورة علمانية فيصبح الامام نوعا من الثيوقراطي الدستوري". لكن ما غفل عنه روا، المعجب بالتجربة الايرانية، ان المرشد سيستخدم ما توافر له من سلطات مطلقة للحيلولة دون وصول الحركية المجتمعية والتعددية الحزبية السياسية الى غايتها القصوى، اي تحول النظام الى ثيوقراطي دستوري تكون الولاية فيه للأمة على نفسها. فأقصى ما تخشاه مؤسسة المرشد عدم ضمان استمرار "ولاية الفقيه" في ظل تعددية سياسية فعلية، ولا سيما ان جزءاً رئيسيا من "ولاية الفقيه" رحل برحيل الخميني، وتحديدا الركن المرتبط بالتطابق بين المرجعيتين السياسية والدينية في شخص ولي الفقيه، وهو ما لم يتوافر في شخص خامنئي، الذي يرى الكثير من الفقهاء انه في لحظة تعيينه لم يكن يملك المؤهلات الفقهية الضرورية لكي يكون آية لله عظمى او مرجعا للتقليد.
الرموز ومعركة البقاء
ثلاثة مستويات ستكون كفيلة تحديد وجهة المرحلة المقبلة، اذا ما اراد الاصلاحييون السعي في اتجاه تغيير وجه ايران، وهي السياسي والفقهي والثقافي. سياسياً، برهن وصول خاتمي الى السلطة ان امكان التغيير شبه معدوم نتيجة تقييد حرية حركة الرئيس المضبوط ايقاعها وفق حركة المرشد والمجالس التي تدور في فلكه. لذلك فان شرط اكتمال التغيير السياسي هو معركة فقهية تجديدية يخوضها الاصلاحيون مرتكزين على تراث فقهي شيعي تضرب جذوره عميقا في التاريخ وسعى القائلون به الى تجاوز مفهوم "ولاية الفقيه العامة" الى "ولاية الامة على نفسها". فإذا كان من السهل للدولة الخمينية ان تصف من يدعو اليوم الى إعادة النظر في مفهوم "ولاية الفقيه المطلقة" بالعميل لـ"الاستكبار العالمي" وبالعنصر المدسوس والمستورد والمغرّر به، على ما تذهب اليه الانظمة الشمولية في وصف معارضيها، فإن الامر لن يكون بهذه السهولة اذا ما وُوجه المحافظون بتراث لآيات الله من امثال الميرزا الشيرازي ومحمد حسين النائيني ومحمد جواد مغنية وغيرهم من فقهاء اعتبروا ان "ولاية الامة على نفسها" هي خير ولاية في ظل الغيبة، مع ما يعني ذلك من اعادة دفع قم والنجف وتراث جبل عامل الى الدخول في حراك فكري فقهي يكسر محرمات فرضها تأويل فلسفي اكتسى مرة جديدة برداء الحقيقة المطلقة. لكن اسس التغيير في ايران لن تكتمل من دون معركة ثقافية ترتبط بالرموز، التي تبدو بالنسبة الى حراس الثورة اهم من كل مضمون فلسفي او فقهي او سياسي، عنينا الحجاب والخطاب والواقع المعيش للمواطن الايراني. فالصورة التي حرصت ايران الخمينية على تصويرها لنفسها خلال الاعوام الماضية، اختزلت ايران بصورة رمادية لاستعراضات عسكرية وشبّان من أصحاب اللحى الخفيفة وفتيات لا يظهر منهن الا وجه غابت عنه الابتسامة. المعركة على هذه الجبهة يتقدم فيها الاصلاحيون حتما، فما الذي تبقّى من هذه الرموز بعد تظاهرات طهران الاخيرة المليئة غضبا وابتسامات وألوانا؟!
منقول
سنونوة ايران
اقام الخميني دولة "ولاية الفقيه" مرتكزا على مفهوم "ولاية الفقيه المطلقة" المرتبطة باجتهاد فقهي وتأويل فلسفي، اي لا ترقى الى مرتبة الاصول ولا تبارح الفروع. اما أوان تأسيس الجمهورية الاسلامية فقد كان له خاصية فريدة. يقول المفكر الفرنسي أوليفييه روا في كتابه "فشل تجربة الاسلام السياسي" إن السياسة وليس الدين هي التي انتصرت في إيران مع وصول الخميني الى السلطة. كيف ذلك؟
يمكن قراءة هذا الكلام على نحو ان تحدّي السلطة أفشل يوتوبيا الاسلام السياسي، ما دفع النظام الناشئ في ايران الى الجمع بين مؤسستين، الاولى دينية والثانية سياسية خاضعة لإشراف المرشد الاعلى، ما ادى عمليا الى شبه تعطيل المؤسسات الدستورية المحكومة بسقف لا قدرة لها على خرقه. فقد اصبح وجود هذه المؤسسات وجودا بالقوة لا بالفعل، بمعنى ان خروج المؤسسات الدستورية الى حيز الفعل السياسي التام يحتاج منها ان تزيح مظلة "ولاية الفقيه"، او على الاقل ان تخفف منها، وهذا ما اثبتت استحالته فترة حكم الرئيس الاصلاحي محمد خاتمي.
بناء على ذلك، ذهب اوليفييه روا بعيدا في قوله: "يكفي ان يتبنى انفتاح سياسي يتيح بروز احزاب مختلفة فعلا كي يبدأ دستور الجمهورية بالعمل بصورة علمانية فيصبح الامام نوعا من الثيوقراطي الدستوري". لكن ما غفل عنه روا، المعجب بالتجربة الايرانية، ان المرشد سيستخدم ما توافر له من سلطات مطلقة للحيلولة دون وصول الحركية المجتمعية والتعددية الحزبية السياسية الى غايتها القصوى، اي تحول النظام الى ثيوقراطي دستوري تكون الولاية فيه للأمة على نفسها. فأقصى ما تخشاه مؤسسة المرشد عدم ضمان استمرار "ولاية الفقيه" في ظل تعددية سياسية فعلية، ولا سيما ان جزءاً رئيسيا من "ولاية الفقيه" رحل برحيل الخميني، وتحديدا الركن المرتبط بالتطابق بين المرجعيتين السياسية والدينية في شخص ولي الفقيه، وهو ما لم يتوافر في شخص خامنئي، الذي يرى الكثير من الفقهاء انه في لحظة تعيينه لم يكن يملك المؤهلات الفقهية الضرورية لكي يكون آية لله عظمى او مرجعا للتقليد.
الرموز ومعركة البقاء
ثلاثة مستويات ستكون كفيلة تحديد وجهة المرحلة المقبلة، اذا ما اراد الاصلاحييون السعي في اتجاه تغيير وجه ايران، وهي السياسي والفقهي والثقافي. سياسياً، برهن وصول خاتمي الى السلطة ان امكان التغيير شبه معدوم نتيجة تقييد حرية حركة الرئيس المضبوط ايقاعها وفق حركة المرشد والمجالس التي تدور في فلكه. لذلك فان شرط اكتمال التغيير السياسي هو معركة فقهية تجديدية يخوضها الاصلاحيون مرتكزين على تراث فقهي شيعي تضرب جذوره عميقا في التاريخ وسعى القائلون به الى تجاوز مفهوم "ولاية الفقيه العامة" الى "ولاية الامة على نفسها". فإذا كان من السهل للدولة الخمينية ان تصف من يدعو اليوم الى إعادة النظر في مفهوم "ولاية الفقيه المطلقة" بالعميل لـ"الاستكبار العالمي" وبالعنصر المدسوس والمستورد والمغرّر به، على ما تذهب اليه الانظمة الشمولية في وصف معارضيها، فإن الامر لن يكون بهذه السهولة اذا ما وُوجه المحافظون بتراث لآيات الله من امثال الميرزا الشيرازي ومحمد حسين النائيني ومحمد جواد مغنية وغيرهم من فقهاء اعتبروا ان "ولاية الامة على نفسها" هي خير ولاية في ظل الغيبة، مع ما يعني ذلك من اعادة دفع قم والنجف وتراث جبل عامل الى الدخول في حراك فكري فقهي يكسر محرمات فرضها تأويل فلسفي اكتسى مرة جديدة برداء الحقيقة المطلقة. لكن اسس التغيير في ايران لن تكتمل من دون معركة ثقافية ترتبط بالرموز، التي تبدو بالنسبة الى حراس الثورة اهم من كل مضمون فلسفي او فقهي او سياسي، عنينا الحجاب والخطاب والواقع المعيش للمواطن الايراني. فالصورة التي حرصت ايران الخمينية على تصويرها لنفسها خلال الاعوام الماضية، اختزلت ايران بصورة رمادية لاستعراضات عسكرية وشبّان من أصحاب اللحى الخفيفة وفتيات لا يظهر منهن الا وجه غابت عنه الابتسامة. المعركة على هذه الجبهة يتقدم فيها الاصلاحيون حتما، فما الذي تبقّى من هذه الرموز بعد تظاهرات طهران الاخيرة المليئة غضبا وابتسامات وألوانا؟!
منقول
سنونوة ايران
تعليق