إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

كلمة في جمع الأمة/ الشيخ سلمان العوده

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • كلمة في جمع الأمة/ الشيخ سلمان العوده

    * مقدمة:

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه؛ الذين قَضَوا بالحق وبه كانوا يعدلون وعلى أزواجه وذريته، وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.

    وبعد: إنني أحبكم في الله تعالى.
    أُحبُّكُمْ حُبَّ الشَّحِيحِ مَالَهُ
    قَدْ ذَاقَ طَعْمَ الْفَقْرِ ثُمَّ نَالَهُ
    إِذَا أَرَادَ بذْلَهُ بَدَا لَهُ

    أحبكم حباً لا تفسير له إلا هذه الرابطة التي جعلها الله صلى الله عليه وسلم في قلوب المؤمنين، يحنُّ بعضهم إلى بعض، وإن تناءت بهم الديار، وتباعدت الأقطار، إلا أن رابطة الحب في الله سبحانه وتعالى تجمعهم.
    أُحِبُّكَ لا تَفْسِيرَ عِنْدِي لِصَبْوَتِي *** أُفَسِّرُ مَاذَا وَالْهَوَى لا يُفَسَّرُ؟!


    فإذا ألمت بك مُلمّة، أو نزلت بك نازلة، أو أغلقت دونك الأبواب، أو تعسرت الأسباب؛ فتذكر أن قلوباً تصطف، تأسى لأساك، وتحزن لحزنك، وتفرح لفرحك، وتتابعك، وإن كنت لا تعرفها وكانت لا تعرفك.

    فَإِنْ رَأَتْكَ عَلَى خَيرٍ بَكَتْ فَرَحًا *** وَإِنْ رَأَتْكَ عَلَى سُوءٍ بَكَتْ أَلماً

    ولعل كلمة الحب تصلح لجمع الكلمة، فمع الحب تذوب المشكلات بين الزوجين، بين الشركاء، بين الأصحاب في العمل، بين المتخالطين، بين الجيران، بين المختلفين، لكن إذا تنافرت القلوب فلا ينفع حينئذٍ وئام ولا اتفاق.

  • #2
    أولاً: الفرق بين الاختلاف والتفرق

    يجب أن ندرك أن ثمت فرقاً بين التفرق والاختلاف فالله سبحانه وتعالى في تنزيله نهى عن التفرق مطلقاً؛ ولهذا فكل تفرق فهو مذموم، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى أصحابه عن التفرق بالأجساد.

    كما في حديث أَبي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِي قَال: كَانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلُوا مَنْزِلاً؛ تَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَالأَوْدِيَةِ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِي هَذِهِ الشِّعَابِ وَالأَوْدِيَةِ إِنَّمَا ذَلِكُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ). فَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْزِلاً إِلاَّ انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى يُقَالُ: لَوْ بُسِطَ عَلَيْهِمْ ثَوْبٌ لَعَمَّهُمْ "(1)، فالتفرق مذموم في الأحوال، والأقوال، والمذاهب، والمواقف، والأبدان؛ إذا كان تفرقاً مبنياً على غير سبب؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا) (آل عمران: من الآية105).

    أما الاختلاف فليس مذموماً بالإطلاق، فمنه ما هو مذموم، ومنه ما هو محمود؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى في الآية بعدها: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) (آل عمران: من الآية105)، فالاختلاف المذموم هو الاختلاف في الكتاب، والاختلاف على الكتاب واتباع الهوى، وهو أن يختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وإلا فقد يكون اختلافاً محموداً، ومن أمثلة الاختلاف المحمود اختلاف التنوع، مثل أن يذكر كل من المختلفين من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه، كاختلافهم في تفسير قوله تعالى: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) (فاطر: من الآية32)، قال بعضهم: السابق الذي يصلي أول الوقت والمقتصد في أثنائه والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار. وقيل: السابق المحسن بالصدقة والمقتصد بالبيع والظالم بأكل الربا.

    واختلاف التنوع في الأحكام الشرعية قد يكون في الوجوب تارة وفي الاستحباب أخرى، فالأول مثل أن يجب على قوم الجهاد وعلى قوم الصدقة وعلى قوم تعليم العلم، وهذا يقع في فروض الكفايات أيضاً ولها تنوع يخصها وهو أنها تتعين على من لم يقم بها غيره؛ فقد تتعين في وقت أو مكان وعلى شخص أو طائفة كما يقع مثل ذلك في الولايات والجهاد والفتيا والقضاء، قال ابن تيمية: وكذلك كل تنوع في الواجبات يقع مثله في المستحبات.

    ومن اختلاف التنوع أيضاً أن يعمل الإنسان خيراً وآخر يعمل خيراً غيره، أو هذا يرى رأياً باجتهاده وهذا يرى رأياً مختلفاً وما أشبه ذلك، فالاختلاف منه المذموم ومنه المحمود، أما التفرق فمذموم بالإطلاق.

    إن التنوع سنة ربانية قامت الحياة على أساسها؛ فالله سبحانه وتعالى خلق من كل شيء زوجين، وجعل التنوع في أشكال الناس ومظاهرهم وألوانهم وأصواتهم، وفي مخلوقاته سبحانه وتعالى وفيما يراه الإنسان من حوله، فهذا التنوع جزءٌ من ثراء الحياة الإنسانية، وجزء من التجدد والطرافة فيها؛ ولذلك يقول المتنبي:

    تَخَالَفَ النَّاسُ حَتَّى لَا اتِّفَاقَ لَهُمْ ** إِلا عَلَى شَجَبٍ وَالْخُلْفُ فِي الشَّجَبِ
    فَقِيلَ تَخْلُصُ نَفْسُ الْمَرْءِ سَالِمَةً ** وَقِيلَ تَشْرَكُ جِسْمَ الْمَرْءِ فِي الْعَطَبِ

    يريد أن الناس يتخالفون في كل شئ والإجماع على الهلاك، فكلهم يقول إن منتهى الناس والحيوان الموت، ثم تخالفوا في الروح بعد الموت، فقوم يقولون: إن الروح تفنى كالجسم، وآخرون يقولون: الأرواح تسلم من الهلاك ولا تفنى بفناء الأجسام، والمقصود الذي يتفق عليه الجميع من هذه الأبيات هو أن الاختلاف شيء عميق في الحياة البشرية.

    والتفرق المذموم هو اتّباع لسنة أهل الكتاب الذين: (تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَات) ؛ ولهذا نهى الله سبحانه وتعالى عن اتباع هديهم وسنتهم، ففي صحيح البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ) قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ (فَمَنْ؟) (2)، والتفرق المذموم هو مخالفة لمقتضى المصلحة والعقل والرشد والبصيرة؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى عن اليهود: (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (الحشر: من الآية14)، فاختلافهم بسبب نقص عقولهم. والتفرق هو نقض لأساس من أسس الشريعة؛ فإن الشريعة جاءت بوحدة المسلمين؛ ولهذا كان الخطاب في القرآن الكريم جماعياً، في كثير من الآيات (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، (وَالْعَصْرِ*إِنَّ الْإنْسَانَ لَفِي خُسْر*إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (سورة العصر)، وجلُّ أحكام الشريعة لا يمكن تنفيذها إلا من خلال وحدة واجتماع.

    تعليق


    • #3
      كيف تستطيع أن تطبِّق الأخلاق الإسلامية، كيف تستطيع أن تعرف إن كنت صبوراً، أو حليماً، أو كريماً، أو كنت شجاعاً إلا من خلال الاختلاط بالناس؟!

      كيف تستطيع أن تؤدي شعائرك فتصلي أو تصوم أو تحج أو تعتمر إلا من خلال الاختلاط بالناس؟! حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا كَانَ مُخَالِطًا النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنَ الْمُسْلِمِ الَّذي لاَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ) (3)، فالتفرق إذن اتباع لسنة أهل الكتاب، ومخالفة لما تقتضيه العقول السليمة والبصائر المستقيمة، وهو نقض لأساس من أسس الشريعة.

      إن الحديث عن التفرق ليس حديثاً خاصاً عن الدعاة، والاختلافات التي تقع بينهم، أو العلماء واختلافهم في الفتوى، أو التيارات الإسلامية وتنوع مشاربها ومذاهبها فحسب، إنما الحديث عن: التفرق والاختلاف بين المسلمين، الاختلاف الذي يضرب هذه الأمة، وإذا كنا نشهد في التاريخ الإسلامي ألواناً من الاختلافات التي لم يكن لها سبب ولا مسوغ ولا مبرر، والتي قضت على وحدة المسلمين، وأكلت جهودهم وطاقاتهم، ومكنت أعداءهم منهم في غير مرحلة فإننا نشهد في واقع المسلمين اليوم ألواناً وأنماطاً كثيرة من هذا الاختلاف، وهي جديرة بمبضع الجراح الذي يقوم بعلاجها.

      إخوة الإيمان: إن الله سبحانه وتعالى يقرر لنا أن المؤمنين إخوة، يقول تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: من الآية10)، ويقول سبحانه وتعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:92)، ويقول جل شأنه: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (المؤمنون:52)، وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَالِمًا أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (4)، فالأخوة ليست في العروبة، ولا في الأرض؛ فَإِنَّ الأَرْضَ لاَ تُقَدِّسُ أَحَدًا وَإِنَّمَا يُقَدِّسُ الإِنْسَانَ عَمَلُهُ، وليست في المصلحة المشتركة، ولا في التاريخ المشترك، وإنما الأخوة الحقيقية هي التي تظلل الناس في ظل هذا الدين.

      إِنْ يَخْتَلِفْ نَسَبٌ يُؤلِّف بَيْنَنَا ** دِينٌ أَقَمْنَاهُ مَقَامَ الْوَالِدِ
      أَوْ يُنْتَقَصْ مَاءُ الوِصَالِ فَمَاؤُنَا ** عَذْبٌ تَحَدَّرَ مِنْ زُلَالٍ وَاحِدِ

      وهذه الأخوة تشرق وتتجلى، فلا تختص بوقت دون وقت ولا بمكان دون مكان وفي أحلك المواقف وأشدها حتى حينما يقع عليك عدوان أو ظلم من أخيك، فهذا لا يعني أن أخوته قد زالت وحبال المودة تقطعت، تأمل قول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (الحجرات: من الآية10)، أي بين طائفتين؛ وصل الأمر بهم إلى حد الاقتتال (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) (الحجرات: من الآية9)، ومع ذلك سماهم إخوة، وقال سبحانه وتعالى: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)، وكذلك قول الله سبحانه وتعالى: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْء) (البقرة: 178)، وذلك في شأن القاتل الذي قتل أخاه المسلم، ومع ذلك سماه الله سبحانه وتعالى أخاً، فالقاتل أخٌ للمقتول، والمقتول أخٌ للقاتل، فهذه الأخوة التي عقدها الله سبحانه وتعالى لا يجوز أن تقضي على أساسها أو تزيلها عوامل الفرقة والاختلاف حتى العدوان الذي يقع بين المسلم وأخيه، وقد تجد من الناس من يقع له نوع تقصير في دينه -مثلاً- فيكون عنده انحراف أو معصية أو غير ذلك، لكن ما دام يصح له وصف الإسلام؛ فله أصل الحقوق.

      وإذا تم له كمال الإيمان؛ كملت له الحقوق، وهناك قاعدة مهمة في التعامل، وهي كُلُّ مَنْ صَحَّ أَنْ يُوَصَفَ بِأَنَّهُ مُسْلِمٌ؛ فَلَهُ حُقُوقُ الْمُسْلِمِ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ سبحانه وتعالى قَالَ: (حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ) قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ

      وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَسَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ) (5)، وإبرار المقسم، ونصر المظلوم، وعيادة المريض، وغير ذلك من الحقوق مما لم يذكر في هذا الحديث، فكل من صح له وصف الإسلام - ولو كان في الدرجة الدنيا منه- فله قدرٌ من هذه الحقوق، لكن كلما عَظُم قدره في الإسلام كلما عظمت حقوقه؛ ولهذا كان أعظم الحقوق على المسلمين بعد حق الله سبحانه وتعالى حق النبي صلى الله عليه وسلم ثم حق الصحابة رضي الله عنه ثم حق أهل العلم، وحقوق الوالدين، والمقصود أن الحق باقٍ لكل من صح أن يوصف بأنه من المسلمين، وإن كان فيه نقص أو زلل أو تفريط، أو لديه شيء من الخطأ؛ ولذلك قد يقول البعض: هذه أخوة عامة، وأخوة خاصة، والأفضل عدم استعمال هذا المصطلح؛ لأن الأخوة العامة والخاصة أجراها النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجرين والأنصار، فآخى بين فلان وفلان، هذا مهاجر وهذا أنصاري، وكان بينهم نوع من الاندماج، حتى في أموالهم وفي سكنهم وفي أمورهم، فعن إِبْرَاهِيم بْن سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه: "لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ إِنِّي أَكْثَرُ الأَنْصَارِ مَالاً، فَأَقْسِمُ لَكَ نِصْفَ مَالِي، وَانْظُرْ أَي زَوْجَتَي هَوِيتَ نَزَلْتُ لَكَ عَنْهَا، فَإِذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَهَا"(6)، وهذا الحديث في صحيح البخاري، فهذه أخوة خاصة كانت بين عبد الرحمن وسعد رضي الله عنهما، لكن الأخوة بين المسلمين قائمة، ولا مانع أن تتفاوت هذه الأخوة في درجاتها، فليس حق آحاد الناس أو حق شخص مضيّع أو مفرّط كحق شيخك العالم الجليل صافي المشرب والمذهب، صادق السريرة، صالح القول والعمل المؤثّر عليك.

      تعليق


      • #4
        * تقسيم مشهور:

        في معظم أو كل المجتمعات الإسلامية؛ تسمع بهذا التقسيم المشهور، القسم الأول: أناس ملتزمون. القسم الثاني: أناس غير ملتزمين، وهذه القسمة شاعت وذاعت، حتى أصبحنا نجد كثيراً من الشباب قد يتصل بك أو يقابلك فيقول لك: أنا شخص غير ملتزم، ولكني أحب الخير، ومحافظ على الصلوات، فتتعجب لذلك.

        أولاً: ما هو معيار الالتزام؟

        هل نقصد بالالتزام: أن يكون مظهر الإنسان متفقاً ومنسجماً مع سنة النبي r وهديه فقط؟ أو نقصد بالالتزام التمسك بالدين؟

        هناك نوعان من الناس: الأول إنسان مفرط في مظهره وعنده معصية ظاهرة، لكنه قد يكون من جهة أخرى ملتزماً، فتجده مبكراً للصلوات، حريصاً على الجماعات، باراً بوالديه، كثير الإنفاق في سبيل الله، ولديه جوانب عظيمة من الخير فهو ملتزم بهذا الاعتبار، وإن كان عنده تفريط.

        والثاني: إنسان عنده التزام في هديه الظاهر وسمته الخارجي؛ في ملابسه في شكله في شعره في هيئته، ولكن هل يمنع هذا أن يكون عنده نقائص داخلية وعيوب خفية؟! فقد يكون مفرطاً في صلاة الفجر مع الجماعة، أو لديه نوع من التقصير في حق الوالدين، أو ما أشبه ذلك من الأخطاء.

        فينبغي ضبط المعايير حينما نقول: هذا ملتزم أو غير ملتزم.

        تعليق


        • #5
          ثانياً: تبعات هذه القسمة

          من الخطأ أن تقتضي هذه القسمة أو هذه التسمية عندنا نوعاً من الانفصال بين الناس بعضهم البعض وتفريقهم إلى فرق وأحزاب وجماعات؛ فإذا كنت أنا غير ملتزم بهذا الاعتبار الذي ذكرناه قبل قليل فأنا محتاج إلى أولئك الملتزمين؛ لأستفيد منهم، وأنهل من علمهم، وأقتدي بأخلاقهم، وأقتبس من مشكاتهم، والملتزم- أيضاً- محتاج إلى أن يسوِّق بضاعته ودعوته التي يريد بها وجه الله عند من يسميهم بغير الملتزمين، وعلى هذا فهي مجموعات داخل هذا المجتمع يحتاج بعضها إلى بعض.

          النَّاسُ لِلنَّاسِ مِنْ َدْوٍ وَحَاضِرَةٍ ** بَعْضٌ لِبَعْضٍ- وَإِنْ لَمْ يَشْعُرُوا- خَدَمُ

          وعلينا ألا نسرف في استخدام هذه الكلمة، وألا نجعلها ديدناً، وأن نضع لها الضوابط التي تحدّ من الإفراط فيها، وألا نسمح بأن توجد نوعاً من الانفصال أو الإقصاء أو الولاء والبراء على أساسها.

          تعليق


          • #6
            * مؤثرات على الشباب:

            هناك مؤثرات خارجية -من الخطورة بمكان- على كثير من شبابنا، بل لها تأثير قد يكون أقوى نتيجة وأعمق أثراً من تأثير أب عاجز أو أم فاقدة للسيطرة أو الضبط لأبنائها، فمن هذه المؤثرات الأرصفة، الاستراحات، المنتديات، المدارس، القنوات الفضائية، مواقع الإنترنت، المجلات، السفريات، العلاقات الخاصة والمجموعات، وغير ذلك، ولا يشك عاقل في أن هذه المؤثرات تؤتي ثماراً مرة في غياب وعي المسؤولين عن الشباب من والدَيْن ومربين وموجهين، وفي كثير من الأحيان يستطيع الزملاء في المدارس- ومن في نفس سن أبنائنا- أن يؤثروا عليهم تأثيراً بعيداً عميقاً إذا حانت لهم الفرصة في ظل أب عاجز وأمّ خرجت عندها ضوابط التربية عن طوقها.

            تعليق


            • #7
              * ألوان التفرق:

              هناك ألوان ونماذج من تفرق الأمة الإسلامية ماضياً وحاضراً:

              أولاً: الانتساب للمذاهب الفقهية حنفي ومالكي وشافعي وحنبلي وأوزاعي وظاهري إلى غير ذلك، فهذا الانتساب هو نوع من التفرق إذا ترتب عليه تعصب؛ لأنه في الأصل من الاختلاف المحمود؛ فإن اختلاف الشافعي ومالك وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم من الأئمة المتبوعين ليس اختلافاً على القرآن والسنة، ويصدق عليهم قول القائل:

              وَكُلُّهُمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ مُلْتَمِسٌ ** غَرْفاً مِنَ الْبَحْرِ أَوْ رَشْفَاً مِنَ الدِّيَمِ

              لكنهم اختلفوا لاعتبارات أخرى معروفة مبسوطة في كتب الفقه وأصوله.

              لكن إذا تحول الأمر إلى نوع من العصبية والتمسك والتشدد وتقديم قول الشيخ على قول الله وقول الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يصبح لوناً من التفرق المذموم؛ لأنه بُني على تعصب، بل يصل أحياناً فيكون عند البعض معقد الولاء والبراء، فتجد من يوالون بعضهم بعضاً؛ لأنهم من المذهب الفقهي الفلاني، وقد يجافون من لا يوافقهم في المذهب أو في المشرب، وهذا مشاهد ويقع كثيراً، فتجد مثلاً حنبلياً يقول:

              أَنَا حَنْبَلِيٌّ مَا حَيِيتُ وَإِنْ أَمُتْ ** فَوَصِيَّتِي لِلنّاسِ أَنْ يَتَحَنْبَلُوا

              و هذا ليس بصواب؛ فإن المطلوب من الناس أن يتبعوا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فهو إمام الأئمة وهو الوحيد الذي يجب على الناس اتباعه مطلقاً، وأما الأئمة فما منهم إلا رادّ ومردود عليه، وما منهم إلا ويؤخذ من قوله ويترك، واعتبار أن هذا الإمام أياً كان هو معقد الولاء والبراء، وأن الحق محصور في قوله أو مذهبه خطأٌ محضٌ لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا حظ له من نظر.

              مثال للتعصب: إن التاريخ والواقع قد حفل بنماذج تسترعي النظر والوقوف عندها، ومع أن المالكية ليسوا شديدي التعصب، لكن هذا نموذج مما أحفظه لأحدهم يقول:

              عَذِيرِي مِنْ قوْم يَقُولُونَ كُلَّمَا ** طَلَبْت َ دَلِيلاً هَكَذَا قَالَ مَالِكُ
              فَإِنْ قُلْتَ: قَالُوا: هَكَذَا قَاَلَ أَشْهَبٌ ** وَقَدْ كَانَ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ الْمَسَالِكُ
              فَإِنْ قُلْتَ: قَالُوا: قَاَلَ سُحْنُون مثلهُ ** وَمَنْ لَمْ يَقُلْ مَا قَالَهُ فَهْو آفِكُ
              فَإِنْ قُلْتَ: قَالَ اللهُ ضَجُّوا وَأَعْوَلُوا ** وَصَاحُوا وَقَالُوا: أَنْتَ قِرْنٌ مُمَاحِكُ
              وَإِنْ قُلْتَ: قَدْ قَالَ الرَّسُولُ فَقَوْلُهُمْ ** أَتَتْ مَالِكاً فِي تَرْكِ ذَاكَ الْمَسَالِكُ!

              يعني: أن مالكاً - رحمه الله- أَولَّ هذا الحديث أو وجهه وجهة معينة؛ كأن رآه ضعيفاً أو منسوخاً أو ليس عليه عمل أهل المدينة أو غير ذلك.

              بل من أصحاب المذاهب من كان يقول: كل ما خالف مذهبنا فهو منسوخ أو مؤول. وعلى هذا فالمذاهب الفقهية تصنع –أحياناً- اختلافاً بين المسلمين، وأحياناً أخرى تغرس لوناً من التفرق.

              ثانياً: الانتساب لجماعة أو مجموعة أو حزب أو حركة من حركات الدعوة في العالم الإسلامي، إننا كثيراً ما نسمع من يقول مثلاً هذا من الإخوان، وهذا من السلفيين، وهذا من التبليغ، وهذا من هذه الفئة، وذاك من تلك، وأحياناً تلاحظ ولعاً وانهماكاً واندماجاً في التصنيف والتعديل والتجريح بشكل عجيب، حتى أصبح هذا فناً يُدرس وعلماً يُلقى.

              نعم. التعاون على البر والتقوى مطلوب ومرغب فيه، قال الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة: من الآية2)، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر من دين الله عز وجل واجتماع المسلم مع إخوانه، والتّشاور معهم، وتنسيق المواقف، والاستفادة منهم كل ذلك طيب ولا حرج فيه، وكل هذه المعاني تعني مزيداً من الصلة والتلاحم والترابط بين المؤمنين، لكن لا تعني مجافاة من قد يكون له اجتهاد آخر، أو يسكن في بلد معين، أو يكون في واجب، أو فرض كفائي آخر يقوم به، فهذه المعاني التي ذكرتها ينبغي ألا تتحول إلى حواجز بين المؤمنين، وألا نحاكم الناس أو نحاسبهم أو نصنّفهم على أساس القائمة، فليس بلازم أن نحكم بالخطأ والتضليل والانحراف على فلان طالما أنه مع المجموعة الفلانية أو يتعاون مع الجماعة الفلانية ومن ليس معنا فهو ضدنا؛ فالله سبحانه وتعالى يقول: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً*لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً*وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً) (مريم من الآية 95:93)، لم يقل سبحانه وتعالى: كلهم سوف يأتون جماعات ويحشرون في قوائم، قد يكون الشخص مع مجموعة فيها نوع من التقصير، وهو فاضل، وقد يكون مع مجموعة فاضلة، وهو مقصر.

              إن كثرة الاشتغال بمحاسبة الناس، ومحاكمتهم، والقيل والقال ليس من الأعمال الفاضلة المحمودة؛ فإن من أكمل الناس وأفضلهم أعفهم لساناً، حتى حينما يريد أن يصحح أو يعدل؛ لأننا لا نزعم أن التجمعات أو العناوين الإسلامية عبارة عن مجموعات للكملة والفضلاء، أو أنها هي الإسلام، بل قصارها أن تكون كالمذاهب الفقهية: مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرها، وهي أيضاً اجتهادات معينة يستند أصحابها -في الأصل- على الكتاب والسنة، ولكنهم يخطئون ويصيبون، والتعصب مرذولٌ في أن تقبل فلاناً، خطأه وصوابه؛ لأنك تحبه، أو أن ترد كل ما عنده؛ لأنك لا تحبه.

              ثالثاً: التعصب للقبيلة، وهذا أمر عريق عند العرب، فقد كان العربي الأول يقول كما قال أمية بن أبي الصلت:

              أَمَرْتُهُمُ أَمْرِي بِمُنْعَرِجِ الِّلوَى ** فَلَمْ يَسْتَبِينُوا النَّصْحَ إِلَّا ضُحَى الغَدِ
              فَلَمَّا عَصَوْنِي قُلْتُ مِنْهُمْ وَقَدْ أَرَى ** غِوَايَتَهُمْ أَوْ أَنَّنِي غَيْرُ مُهْتَدِ
              وَهَلْ أَنَا إِلَّا مِنْ غُزَيَّةَ إِنْ غَوَتْ ** غَويتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غُزََّيةُ أَرْشُدِ

              وفي صحيح مسلم عن أَببي مَالِكٍ الأَشْعَرِي رضي الله عنه أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: (7)، فنحن نجد اليوم التعصب القبلي يضرب بجرانه في كثير من البلاد والمجتمعات الإسلامية، ليس ثمت مشكلة أن يعرّف الإنسان نفسه بأنه من قبيلة كذا وكذا، لكن المشكلة أن يتحول هذا إلى ولاء وبراء، بحيث تجد أن فزعة هذا الإنسان، وقيامه، ومحبته وبغضه وجهده ينصرف إلى من يوافقه في هذا الانتساب، ولو جاء إليه شخص من قبيلة أخرى، وربما يحتفظ بذكريات تاريخية، أو قصص من الآباء والأجداد فإنه يتجافى عنه، وقد لا يساعده أو يعينه ولو استطاع أن يضرّه فربما فعل ذلك، فهنا تحول الانتساب القبلي إلى نوع من الانفصال والانشقاق داخل المجتمعات الإسلامية.

              رابعاً: الانتساب لمنطقة أو إقليم أو شعب من الشعوب أو جنسية من الجنسيات، فهذا نجديّ، وهذا حجازيّ، وهذا غربيّ وهذا شرقيّ، وهذا خليجيّ، وهذا شاميّ، وهذا مصريّ، وهذا عراقيّ، وهذا كذا، وهذا كذا، فهذه الانتسابات إذا كانت مجرد تعريف فلا تضر، وقد كان الصحابة ومَن بعدهم يتعرفون بمثل هذه الأشياء، ولا يضير أن يقول الإنسان: إنه من بلد كذا، لكن إذا تحولت -كما هو الواقع عند كثير من الناس- إلى نوع من العصبية ونوع من الولاء على هذه النسبة فإن هذا خطأ كبير، وقد تجد أن الكثيرين إذا التقوا فيما بينهم، يتبادلون النكت والطرائف المضحكة الدالة على تنقص فئة أخرى، فإذا اجتمعنا وكلنا من قبيلة معينة، أو من منطقة معينة، أو من جنسية معينة لم نجد حرجاً أن نستطرد في إصدار الأحكام التعميمية أن أهل الإقليم الفلاني فيهم كذا وكذا، وأن الشعب أو القبيلة الفلانية فيها كذا وكذا، ثم يأتي هذا بقصة، وهذا يأتي بنكته، وهذا يأتي بتجربة مر بها، وهكذا حتى تشبعت نفوس الكثيرين منّا بأنواع وألوان من الانفصال قضَت أو أضعفت من الأخوة الدينية القائمة بين المؤمنين، وهذا ربما يستغله الأعداء في كثير من الأحيان، كما نلاحظ على سبيل المثال القوى الغربية وبالذات القوة الأمريكية المتغطرسة اليوم، التي إذا أردنا أن نسمي الأمور بأسمائها لقلنا: إنها تسعى إلى إعادة استعمار العالم بشكل جديد، وأنها تضرب برأي الناس عرض الحائط، وتصرّ على مقاصدها وعلى اتجاهاتها وعلى نياتها، وأنها لا تبالي أن يموت الناس أو يحيوا، المهم أن تنفذ مآربها وأهدافها.

              تعليق


              • #8
                نلاحظ أنها كثيراً ما تعتمد على إثارة هذه الاختلافات، وعلى توظيفها من أجل تحقيق أهدافها ومآربها، وهذا يؤكد علينا أهمية أن نكون في يقظة تامة، وتبصّر عميق، وأن نحوّل هذه المعاني إلى واقع عملي لتجنب كل ما يخدش أو يعكر صفاء الأخوة الإيمانية:

                مَا بَيْنَنَا عُرْبٌ وَلَا عَجَمٌ ** مَهْلاً يَدُ التَّقْوَى هِيَ الْعُلْيَا
                خَلُّوا خُيُوطَ الْعَنْكَبُوتِ لِمَنْ ** هُمْ كَالذّبَابِ تَطَايَرُوا عُمْيَا
                وَطَنِي كَبِيرٌ لا حُدُودَ لَه ** كَالشَّمْسِ تَمْلأُ هَذِهِ الدُّنْيَا
                فِي إِنْدُونِيسيَا فَوْقَ إِيرَانِ ** فِي الْهِنْدِ فِي رُوسِيَا وَتُرْكِيا
                آسْيَا سَتَصْهَلُ فَوْقَهَا خَيْلِي ** وَأُحَطِّمُ الْقَيدَ الْحَدِيدِيَا

                وَلَسْتُ أَبْغِي سِوَى الإسْلَامِ لِي وَطَنًا ** الشَّامُ فِيهِ وَوَادِي النِّيلِ سِيَّانِ
                وَحَيْثُمَا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ فِي بَلَدٍ ** عَدَدْتُ ذَاكَ الْحِمَى مِنْ لُبِّ أَوْطَانِي
                بِالشَّامِ أَهْلِي وَبَغْدَاد الْهَوَى وَأَنَا ** بِالرَّقْمَتَيْنِ وَبِالْفِسْطَاطِ جِيرَانِي
                وَلِي بِطَيْبَةَ أَوْتَارٌ مُجَنَّحَةٌ ** تَسْمُو بِرُوحِي فَوْقَ الْعَالَمِ الْفَانِي
                وَمَا بُرَيْدَة مَهْمَا لَجَّ بِي دَمُهَا ** أَدْنَى إِلَى الْقَلْبِ مِنْ فَاسٍ وَتَطْوَانِ
                دُنْيَا بَنَاهَا لَنَا الْهَادِي فَأَحْكَمَهَا ** أَعْظِمْ بِأَحْمَدَ مِنْ هَادٍ وَمِنْ بَانِ

                كذلك التعصب للشيخ أو للمتبوع أو المربي أو الأستاذ فينبغي أن يعتدل الإنسان، ويحفظ لكل أحد قدره دون أن يتعصب له، أو يبالغ في ذلك، أو يتبع أقواله بمفرداتها؛ فإن الاتباع للمنهج لا للأقوال المفردة، ولذلك عندما نسمع قولاً لأحمد أو الشافعي أو مالك أو أبي حنيفة، فالعبرة بالدليل والعبرة بالإجماع؛ فإذا خالفه من خالفه، أو وُجد الدليل فيما يظهر لنا على خلافه، لم نجد حرجاً في رده، وهكذا من عايشناهم وعاشرناهم واقتبسنا منهم، ينبغي أن نطبّق معهم هذا.

                الانتساب لمذهب من المذاهب الفكرية أو الدعوية، فلا ينبغي أن يمتحن الناس في الأسماء والألقاب، وإنما ينبغي أن تكون العبرة بما يقوله الإنسان وما يعمله إزاء هذا التخالف الكبير الذي نتفق جميعاً على أنه عاصف بالمجتمعات الإسلامية اليوم.

                إن الحديث ليس عن مجموعة ضخمة وهائلة من الدول العربية والإسلامية، ولا عن داخل الدولة الواحدة، بل ولا عن داخل الإقليم أو داخل القبيلة، بل الواقع أنك كلما دخلت إلى دائرة أضيق وجدت مجموعة من الخلافات حتى تصل إلى مدينة، أو ربما قرية، فتجد فيها عدداً من التقاطعات في كل شيء، تقاطعات بين الأحياء، هذا الحي وذك الحي، تقاطعات بين الانتسابات، بين من ينتسبون إلى هذه القبيلة أو تلك، أو بين من ينتسبون إلى قبيلة ومن لا ينتسبون إلى قبيلة أصلاً، إضافة إلى التقاطع والاختلاف بسبب المصالح الدنيوية، فالعالم الإسلامي يضج اليوم بألوان من الاختلافات التي تحتاج إلى نوع من العلاج، وإزاء هذا الاختلاف الكبير نجد أن من الصدق مع النفس القول بأن هذا الخلاف يستنزف المجهودات الإسلامية، بينما عدونا استطاع أن يستوعب الخلاف، فأحزاب اليمين واليسار، فيما يسمى الآن (بدولة إسرائيل) كيف استطاعوا أن يستفيدوا حتى ممن يعتبرون متطرفين بمعاييرهم من الأحزاب الليكودية والأحزاب اليمينية المتطرفة؟ كيف دخلت إلى عالمهم وإلى موضع القرار والمشاركة، وأصبح لها دور كبير ولها جمهور وشعبية؟ إضافة إلى اليساريين، إضافة إلى ألوانهم وأصنافهم، السفرديم والأشكناز، اليهود العرب، واليهود الأوروبيون وغيرهم، كلهم يشاركون في صناعة وصياغة وبناء هذا المجتمع اليهودي؛ لأنهم يشعرون بالخطر، وأنهم جزيرة في بحر عربي إسلامي يرفضها ويلفظها، ولا يتقبلها ولا يتواكب أو يتطبع معها.

                وكذلك نجد مثل هذا في الدول الغربية، فأوروبا استطاعت أن تؤسس لوحدتها، مع أن كل دولة منها ربما كانت تُعد قارة بأكملها، أو إمبراطورية، كفرنسا أو ألمانيا أو بريطانيا، ومع ذلك فهم يسعون في تحقيق ما يسمى بالوحدة الأوروبية، ونجحوا فيما يتعلق بالحدود، والجمارك، وفيما يتعلق بالعملة، ولديهم خطط قوية في هذا.

                وعندما تنظر إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي هي عبارة عن خمسين ولاية، انضم بعضها إلى بعض، فتكوّن هذا الكيان الهائل القوي الضخم، هذه الإمبراطورية التي أصبحت تمارس نوعاً من التسلط، والبغي، والنفوذ كما هو واضح، فعدونا استطاع أن يوظف هذا الاختلاف، وأن يحيط نفسه كلما همَّ بشيء بمجموعة من الأحلاف، فيضع معه في اتجاهه من يستطيع أن يضعهم من الأسماء المعروفة وغير المعروفة.

                فلم يبق أمامنا نحن المسلمين ونحن نعيش في هذا العالم المضطرب، ونواجه هذه التحديات الصعبة التي أصبحت تستهدف ديننا وإيماننا وعقائدنا، ووحدتنا وإخاءنا، وخيراتنا وثرواتنا، وحاضرنا ومستقبلنا، وأجيالنا الحاضرة وأجيالنا القادمة،لم يبق لنا إلا أن نلتزم بضرورة المنهج الشرعي النبوي في التعامل مع الخلاف، الشرع الذي أقر الخلاف، واعترف به كجزء من الطبيعة البشرية، إلا أنه وضع مفردات في منهج التعامل مع هذا الخلاف.

                تعليق


                • #9
                  * مهمات في منهج التعامل :

                  أولاً: المجادلة بين المتخالفين بالتي هي أحسن، كما قال الله سبحانه وتعالى: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل:من الآية125)، (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (العنكبوت: من الآية46) ؛ فإذا كان القرآن الكريم يرشدنا إلى مجادلة اليهود والنصارى بالتي هي أحسن، فإنه لم يقل بالحسنة وإنما بالتي هي أحسن، أي بأفضل ما يمكن من الألفاظ والعبارات والطرائق والأساليب والحجج، فكيف بمجادلة من يتفقون معك في أصل الدين وأصل الانتماء، ولكن قد يختلفون معك في اجتهاد أو رأي أو موقف أو حتى مصلحة دنيوية، أو موقف دنيوي، وهنا تأتي قضية المجادلة بالتي هي أحسن تبدأ من علاقة الإنسان مع زوجته، مع طفله في المنزل، مع شريكه في العمل، مع رئيسه، مع مرؤسه، وتنتهي بالحوار العام مع جميع فئات الأمة وطوائفها.

                  ومن المجادلة بالتي هي أحسن استخدام لغة راقية بعيدة عن الشتم والسب والاتهام، وقدرة الإنسان على أن يسيطر على عواطفه، وألا يسمح للاستفزاز أن يتحكم فيه؛ ولهذا قال أهل العلم كابن تيمية وابن القيم والغزالي والشاطبي وغيرهم: لو كان الغَلَبُ في المجادلةِ والمناظرةِ للسبِ والشتم لكان أكثر الغالبين هم من الجهال، وإنما الغلبة بالحجة وقوتها، وإن كان الصوت منخفضاً. وعلى هذا فإن رفع الصوت والصخب والضجيج ليس من عوامل النجاح في الخصومة والمجادلة، وكذلك استخدام العبارات القاسية بالتهجم على صاحبه، وتشبيهه بالحيوانات أحياناً، أو بالرَّخَم والطيور أحياناً أخرى، أو اتهامه، أو تجريحه، أو ما أشبه ذلك!!! ليس من الصواب في شيء ولا مدخل لها في الحوار أصلاً.

                  تعليق


                  • #10
                    ثانياً: التفريق بين الشأن الشخصي والموضوع العلمي.

                    فحينما تبحث مسألة علمية، فقهيةً أو دعويةً أو ما أشبه ذلك عليك ألا تدخل فيها القضية الشخصية مع الشخص الذي تتحدث معه أو تحاوره، ومن طريف ما يذكر في هذا أن داود الظاهري ناظر رجلاً وجادله، فقال له ذلك الرجل بعد قليل من بداية المحاورة: أنت يا داود. يا أبا بكر. قلت كذا وكذا وكذا، فقد كفرت، والحمد لله. قال له داود الظاهري: سبحان الله! متى عُهد أن مسلماً يفرح ويستبشر بكفر أخيه المسلم. يعني: لو قلت فقد كفرتَ ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون لكان معقولاً، أما أن تقول كفرت والحمد لله، كأنك كنت مغتبطاً بأنه وقع في الكفر من حيث لا يدري ولا يريد، وربما لا يكون كفراً، لكن هكذا فسر الآخر.

                    ثالثاً: عدم الدخول في قضية أو مسألة لا يد للإنسان فيها ولا يدرك الإنسان أبعادها، كما قال الله سبحانه وتعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء:36). إن كثيراً من الناس ربما يتكلمون في قضايا ويتحدثون عنها كما لو كان الواحد منهم ابن بجدتها، ويقول: أنا عذيقها المرجب، وجذيلها المحكك، ويتكلم في هذه القضية كأنه يدركها تماماً، بينما لو أخذت معه وأعطيت ربما تجده لم يفقه أصل المسألة، فضلاً عن تفاصيلها، وأقوال الناس فيها، وأدلتهم، والراجح والمرجوح، ولهذا فإن من الحكمة والذكاء أن يكف الإنسان عن كثير من الأسئلة والمناقشات والمجادلات التي لا يملك الإنسان دليلها ولا حسن النظر فيها.

                    بعض الأحيان يصبح الحوار سواء كان حواراً في القنوات الفضائية، أو في المجالس، أو في الإنترنت كأنه نوع من التصفيق، وكأننا في حلبة مصارعة أو ملاكمة، هؤلاء يصفقون لهذا، وهؤلاء يصفقون لذاك، وربما لو أمسكت بأحدهم وسألته ما الموضوع أو ما الخطب؟ لم تجد عنده معلومة دقيقة سوى أنه يحب هذا، ولهذا يصفق له، أو يكره هذا، ولهذا يحاول تحطيمه، وهذا ليس من العقل ولا من الرشد في شيء.

                    ولازلت أذكر أستاذاً كان يدرسنا في الجامعة، فجرى نقاش بينه وبين أحد الطلاب يوماً من الأيام، وكان نقاشاً علمياً هادئاً، لكن كان هناك طالب في آخر الفصل عنده نوع من سوء الأدب وقلة الحياء، وأحبَّ أن يستفز المدرس، فكان كلما حصل مقطع من النقاش صرخ هذا الطالب العابث بأعلى صوته، وقال: واحد صفر. يعني: لصالح الطالب! واصل!! ومع ذلك كان المدرس لبقاً وذكياً، ولذلك عامل الموضوع بهدوء حتى انتهى النقاش.

                    من آداب المجادلة بالتي هي أحسن الحرص على التي هي أحسن كما ذكر ربنا: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (البقرة: من الآية83)، (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (الزمر: من الآية18)، ولاحظ التعبير بالأحسن؛ وأن الله سبحانه وتعالى حتى فيما أنزل ما هو حسن وأحسن. وعلى الإنسان أن يختار الأفضل والأحسن بقدر المستطاع؛ لأن الشيطان ينزغ بينهم، يقول الله جل شأنه: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً) (الإسراء:53).

                    كان الإمام الشافعي - رحمه الله- يقول للربيع، وهو أحد تلامذته: يا ربيع. اكس ألفاظك.

                    يعني: ألبسها كسوة، لا تخرج اللفظ عارياً، أو بعيداً، أو غليظاً، وإنما حاول أن تضع عليه لباساً جيداً.

                    ودخل عليه الربيع مرة يعوده من مرض، فقال له: قوى الله ضعفك يا إمام. قال الشافعي: لو قوّى ضعفي لقتلني. فقال الربيع: والله ما أردت إلا الخير. قال الشافعي: أعلم أنك لو شتمتني لم ترد إلا الخير(8)، والمقصود أنه أصاب المعنى وأخطأ اللفظ، ولا شك أن اختيار الألفاظ الجيدة هو من الأدب الذي ينبغي أن يأخذ النشء به أنفسهم، فالمجادلة والمحاورة والمحاجة تكون بالتي هي أحسن دون صخب أو ارتفاع أصوات، أو استخدام ألفاظ سيئة.

                    تعليق


                    • #11
                      * أمثلة سريعة:

                      عندما يختلف الزوجان في مسألة من المسائل تلاحظ -في بعض الحالات- أن الزوج ربما يأتي بما قدم وما حدث، ويقول لزوجته: تذكرين من يوم أن تزوجنا، وأنا في نكد وتعب وعناء، وقلة راحة وتَكَدُّرِ خَاطرٍ. وكلام من هذا القبيل، ويسرد لها تاريخاً طويلاً، بينما كانت القضية محدودة، وليست بحاجة إلى استدعاء تاريخ قديم يضاف إلى الواقع الحالي؛ فتصعب المعالجة، وإنما على الإنسان أن يعالج الموقف الموجود دون أن يستدعي إليه ما يزيده إشكالاً.

                      وكذلك المرأة ربما غضبت على زوجها، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: (مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ) ((9)، وحاولت أن تطيح بكل ماضيه وكل عمله، فعلى الإنسان حينئذ أن يحرص على ضبط نفسه، وهذه هي قيمة الإنسان الحقيقية.

                      أَقْبِلْ عَلَى النَّفْسِ فَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا ** فَأَنْتَ بِالرُّوحِ لا بِالْجِسْمِ إِنْسَانُ

                      قيمة الإنسان في قدرته على ضبط نفسه ومشاعره، فلا تحرص على الإتيان بالعبارات القوية الفجّة التي تظن بها الانتصار على الطرف الآخر، ولا أقول خصماً، فليست زوجتك خصمك، وكذلك الوالد أو الزميل أو الصديق أو رفيق السفر أو أي مجادل لك في مسألة علمية أو دعوية، أو مختلف معك في أي أمر من الأمور.

                      ثانياً: أن تنصف الآخرين من نفسك، حينما نحاول أن نزن حسنات الآخرين وسيئاتهم تجدنا في الغالب نضع إصبعنا على طرف الكفة؛ لترجح هنا أو هناك بحسب ميلنا أو هوانا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (يُبْصِرُ أَحَدُكُمْ الْقَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيهِ وَيَنْسَى الْجِذْعَ فِي عَيْنِهِ) (10)، فحينما يكون لك علاقة بهذا الطرف أو تحشر نفسك معه؛ فإنك تميل إليه، وقد قال عمار رضي الله عنه:" ثَلاَثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الإِيمَانَ، الإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلاَمِ لِلْعَالَمِ، وَالإِنْفَاقُ مِنَ الإِقْتَارِ"(11)، ومعنى الإنصاف من نفسك: هو الجري على سنن الاعتدال والاستقامة على طريقه الحق وأن تضع نفسك في موضع الطرف الآخر؛ فتعامله كما لو كنت أنت في مكانه، وبالتجربة والمعايشة للناس في هذه القضية، ربما لا تستطيع أن تظفر بإنسان يوصف بأنه منصف من نفسه، لكن بعض الناس مسرف، وبعض الناس متوسط أو معتدل، وكما قيل:

                      أَتَمَنّّى عَلَى الزَّمَانِ محالاً ** أَنْ تَرَى مُقْلَتَايَا طَلْعَةَ حُرِّ

                      أي تحرر من قيد النفس ومن قيد الهوى، يستطيع أن يلاحظ ما للآخرين ويلاحظ ما على نفسه.

                      وَلَمْ تَزَلْ قِلَّةُ الْإِنْصَافِ قاطعة ** بَيْنَ الرِّجَالِ وَلَوْ كَانُوا ذَوي رَحِمِ

                      وتجد كثيرين إذا غضب الواحد منهم على شخص أطاح به، ونسي جميع حسناته، وفضائله وإذا تكلم عنه -حتى لو كانوا إخوة لأم وأب أشقاء واختلفوا في قطعة أرض أو في تجارة أو في عمل- تكلم بما لا يتكلم به أشد الناس عداوة، ثم تأتي للآخر فتجده ليس أحسن حالا منه، فمتى يمكن أن تزول هذه الفواصل وتذوب هذه الحواجز المهلكة والسدود المقيتة؟!

                      نعم. إذا تمسك كل واحد بما عنده، وقال:
                      نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا، وَأَنْتَ بِمَا ** عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأيُ مُخْتَلِفُ

                      تعليق


                      • #12
                        ثالثاً: الالتزام بنظام الخُلق الإسلامي من حسن الأدب، وحسن الحديث مع الآخرين، وحسن الاستماع، وحسن الظن بهم، والتماس المعاذير، والرفق، والصبر، والصفح.

                        وهنا لدينا مستويات: الأول: أن لا يبدأ الإنسان أخاه بشيء من الشر؛ فإن البادئ أظلم. فكونك تبدأه بذلك تكون استثرته.

                        المستوى الثاني: هو أنه إذا بُدئ بشيء من ذلك؛ فعليه ألا يرد، وهذا مستوى راقٍ، (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيم) (فصلت:35)، وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ سبحانه وتعالى وَسَبَّ رَجُلٌ رَجُلاً عِنْدَهُ، قَالَ فَجَعَلَ الرَّجُلُ الْمَسْبُوبُ يَقُولُ: عَلَيْكَ السَّلاَمُ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (أَمَا إِنَّ مَلَكاً بَيْنَكُمَا يَذُبُّ عَنْكَ كُلَّمَا يَشْتُمُكَ هَذَا قَالَ لَهُ بَلْ أَنْتَ وَأَنْتَ أَحَقُّ بِهِ وَإِذَا قَالَ لَهُ عَلَيْكَ السَّلاَمُ قَالَ لاَ بَلْ لَكَ أَنْتَ أَحَقُّ بِهِ).

                        إن الرد والمخاصمة -في كثير من الأحيان- لا يزيد النار إلا اشتعالاً وخصومة، ومن الخطأ أن يظن البعض أن كثرة اللجاج والقيل والقال سبب في إزالة الإشكال ووضوح النية وصفاء النفوس، بل الأمر على العكس من ذلك تماماً. * تسعة أسباب لكظم الغيظ:

                        كلنا نواجه هذا اللون من الاستفزاز الذي هو اختبار لقدرة الإنسان على الانضباط، وعدم مجاراة الآخر في ميدانه، وهناك تسعة أسباب ينتج عنها أو عن واحد منها ضبط النفس:

                        تعليق


                        • #13
                          أولاً: الرحمة بالمخطئ والشفقة عليه، واللين معه والرفق به.

                          قال سبحانه وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر) (آل عمران: من الآية159). وفي هذه الآية فائدة عظيمة وهي أن الناس يجتمعون على الرفق واللين، ولا يجتمعون على الشدة والعنف؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: من الآية159).

                          وهؤلاء هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، والسابقين الأولين فكيف بمن بعدهم؟! وكيف بمن ليس له مقام رسول الله سبحانه وتعالى من الناس، سواء كان من العلماء أو الدعاة أو ممن لهم رياسة أو وجاهة؟! فلا يمكن أن يجتمع الناس إلا على أساس الرحمة والرفق.

                          َقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه لِرَجُلٍ شَتَمَه: "يَا هَذَا لَا تُغْرِقَنَّ فِي سَبِّنَا وَدَعْ لِلصُّلْحِ مَوْضِعًا فَإِنَّا لَا نُكَافِئُ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِينَا بِأَكْثَرَ مِنْ أَنْ نُطِيعَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ"، وَشَتَمَ رَجُلٌ الشَّعْبِيَّ فَقَالَ له الشَّعْبِيُّ: "إنْ كُنْتُ كمَا قُلْتَ فَغَفَرَ اللَّهُ لِي وَإِنْ لَمْ أَكُنْ كَمَا قُلْتَ فَغَفَرَ اللَّهُ لَكَ"، وشتم رجل معاوية شتيمة في نفسه، فدعا له وأمر له بجائزة.

                          فالقدرة على تعويد النفس على الرضا والصبر واللين والمسامحة هي قضية أساسية، والإنسان يتحلّم حتى يصبح حليماً، وبإسناد لا بأس به عن أَبي الدَّرداءِ قالَ: قالَ رسولُ الله سبحانه وتعالى: (إِنَّما العلمُ بالتعلُّم، وإِنما الحِلْمُ بالتحلُّمِ، مَنْ يَتَحَرَّ الخيرَ يُعْطَهُ، ومَنْ يَتَّقِ الشرَّ يُوقَه ُ) (12)، فعليك أن تنظر في نفسك وتتريث وتضع الأمور مواضعها قبل أن تؤاخذ الآخرين، وتتذكر أن تحية الإسلام هي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نقولها لأهلنا إذا دخلنا؛ بل قال الله سبحانه وتعالى: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) (النور: من الآية61)، وأن نقولها للصبيان والصغار والكبار ومن نعرف ومن لا نعرف.

                          عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو – رضي الله عنهما - أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَي الإِسْلاَمِ خَيْرٌ قَالَ: (تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ) (13).

                          وعن عمار رضي الله عنه:" ثَلاَثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الإِيمَانَ الإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلاَمِ لِلْعَالَمِ، وَالإِنْفَاقُ مِنَ الإِقْتَارِ"(14)

                          لهذه التحية معان، ففيها معنى السلام: أن تسلم مني، من لساني ومن قلبي ومن يدي، فلا أعتدي عليك بقول ولا بفعل، وفيها الدعاء بالسلامة، وفيها الدعاء بالرحمة، وفيها الدعاء بالبركة… هذه المعاني الراقية التي نقولها بألسنتنا علينا أن نحولها إلى منهج في حياتنا، وعلاقتنا مع الآخرين.

                          ثانياً: من الأسباب التي تدفع أو تهدئ الغضب سعة الصدر وحسن الثقة؛ مما يحمل الإنسان على العفو، ولهذا قال بعض الحكماء: "أحسنُ المكارمِ عَفْوُ الْمُقْتَدِرِ وَجُودُ الْمُفْتَقِرِ"، فإذا قدر الإنسان على أن ينتقم من خصمه غفر له وسامحه، (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (الشورى:43)، وقال صلى الله عليه وسلم لقريش : (مَا تَرَوْنَ أَنِّي صَانِعٌ بِكُمْ؟) " قَالُوا : خَيْرًا! أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ. قَالَ: (اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ) (15)، وقال يوسف لإخوته بعد ما أصبحوا في ملكه وتحت سلطانه: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف:92).

                          ثالثاً: شرف النفس وعلو الهمة، بحيث يترفع الإنسان عن السباب، ويسمو بنفسه فوق هذا المقام.

                          لَنْ يَبْلُغَ الْمَجْدَ أَقْوَامٌ وَإِنْ عَظمُوا ** حَتَّى يَذِلُّوا وَإِنْ عَزُّوا لأْقوامِ
                          وَيُشْتَمُوا فَتَرَى الْأَلْوَانَ مُسْفِرَةً ** لا صفْحَ ذُلٍ وَلَكِنْ صَفْحَ أَحْلامِ

                          أي: لابد أن تعوِّد نفسك على أنك تسمع الشتيمة فيُسفر وجهك، وتقابلها بابتسامة عريضة، وأن تدرِّب نفسك تدريبًا عمليًّا على كيفية كظم الغيظ.

                          وَإِنَّ الذِي بَيْنِي وَبَيْنَ بَنِي أَبِي ** وَبَيَن بَنِي عَمِّي لَمُخْتَلِفٌ جِدَا
                          فَإِنْ أَكَلُوا لحَمْي وَفَرْتُ لُحُومَهُم ** وَإِنْ هَدَمُوا مَجْدِي بَنَيْتُ لَهُمْ مَجْدَا
                          وَلَا أَحْمِلُ الْحِقْدَ الْقَدِيم عَلَيهِم ** ولَيْسَ رَئِيسُ الْقَوْمِ مَنْ يَحْمِلُ الْحِقْدَا

                          تعليق


                          • #14
                            رابعاً: طلب الثواب عند الله.

                            إن جرعة غيظ تتجرعها في سبيل الله سبحانه وتعالى لها ما لها عند الله عز وجل من الأجر والرفعة، فعَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ كَظَمَ غَيْظًا - وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ - دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ مَا شَاءَ) (1)، والكلام سهل وطيب وميسور ولا يكلف شيئاً، وأعتقد أن أي واحد من الممكن أن يقول محاضرة خاصة في هذا الموضوع، لكن يتغير الحال بمجرد الوقوع في كربة تحتاج إلى الصبر وسعة الصدر واللين فتفاجأ بأن بين القول والعمل بعد المشرقين.

                            خامساً: استحياء الإنسان أن يضع نفسه في مقابلة المخطئ، وقد قال بعض الحكماء: "احْتِمَالُ السَّفِيهِ خَيْرٌ مِنْ التَّحَلِّي بِصُورَتِهِ وَالْإِغْضَاءُ عَنْ الْجَاهِلِ خَيْرٌ مِنْ مُشَاكَلَتِه"، وقال بعض الأدباء: "مَا أَفْحَشَ حَلِيمٌ وَلَا أَوْحَشَ كَرِيمٌ"، وَقَالَ لَقِيطُ بْنُ زُرَارَةَ وهو أحد حكماء العرب وشعراءهم:

                            وَقُلْ لِبَنِي سَعْدٍ فَمَا لِي وَمَا لَكُمْ ** تُرِقُّونَ مِنِّي مَا اسْتَطَعْتُمْ وَأَعْتِقُ
                            أَغَرَّكُمْ أَنِّي بِأَحْسَنِ شِيمَةٍ ** بَصِيرٌ وَأَنِّي بِالْفَوَاحِشِ أَخْرَقُ
                            وَإِنْ تَكُ قَدْ فَاحَشْتَنِي فَقَهَرْتَنِي ** هَنِيئًا مَرِيئًا أَنْتَ بِالْفُحْشِ أَحْذَقُ

                            وقال آخر:
                            سَأُلْزِمُ نَفْسِي الصَّفْحَ عَنْ كُلِّ مُذْنِبٍ ** وَإِنْ كَثُرَتْ مِنْهُ إلَيَّ الْجَرَائِمُ
                            فَمَا النَّاسُ إلَّا وَاحِدٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ ** شَرِيفٌ وَمَشْرُوفٌ وَمِثْلٌ مُقَاوِمُ
                            فَأَمَّا الَّذِي فَوْقِي فَأَعْرِفُ قَدْرَهُ ** وَأَتْبَعُ فِيهِ الْحَقَّ وَالْحَقُّ لَازِمُ
                            وَأَمَّا الَّذِي دُونِي فَأَحْلُمُ دَائِبًا ** أَصُونُ بِهِ عِرْضِي وَإِنْ لَامَ لَائِمُ
                            وَأَمَّا الَّذِي مِثْلِي فَإِنْ زَلَّ أَوْ هَفَا ** تَفَضَّلْت إنَّ الْفَضْلَ بِالْفَخْرِ حَاكِمُ

                            وفي حديث خروج النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف، وقد ردوه شر رد تقول عائشة - رضي الله عنها - زَوْجَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لِلنَّبِي صلى الله عليه وسلم: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: (لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ؛ فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَي ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمِ الأَخْشَبَيْنِ. فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم : بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) (1).

                            تعليق


                            • #15
                              سادسًا: التدرب على الصبر والسماحة فهي من الإيمان.

                              إن هذه العضلة التي في صدرك قابلة للتدريب والتمرين، فمرّن عضلات القلب على كثرة التسامح، والتنازل عن الحقوق، وعدم الإمساك بحظ النفس، وجرّب أن تملأ قلبك بالمحبة، فلو استطعت أن تحب المسلمين جميعًا فلن تشعر أن قلبك ضاق بهم، بل سوف تشعر بأنه يتسع كلما وفد عليه ضيف جديد، وأنه يسع الناس كلهم لو استحقوا هذه المحبة، فمرّن عضلات قلبك على التسامح في كل ليلة قبل أن تخلد إلى النوم، وتسلم عينيك لنومة هادئة لذيذة، سامح كل الذين أخطؤوا في حقك، وكل الذين ظلموك، وكل الذين حاربوك، وكل الذين قصروا في حقك، وكل الذين نسوا جميلك، بل وأكثر من ذلك...انهمك في دعاء صادق لله -سبحانه وتعالى- بأن يغفر الله لهم، وأن يصلح شأنهم، وأن يوفقهم، ستجد أنك أنت الرابح الأكبر، وكما تغسل وجهك ويدك بالماء في اليوم بضع مرات أو أكثر من عشر مرات؛ لأنك تواجه بهما الناس، فعليك بغسل هذا القلب الذي هو محل نظر الله سبحانه وتعالى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ) (1)، فقلبك الذي ينظر إليه الرب سبحانه وتعالى من فوق سبع سموات احرص ألا يرى فيه إلا المعاني الشريفة والنوايا الطيبة، اغسل هذا القلب، وتعاهده يوميًّا؛ لئلا تتراكم فيه الأحقاد والكراهية والبغضاء، والذكريات المريرة التي تكون أغلالاً وقيودًا تمنعك من الانطلاق والمسير والعمل، ومن أن تتمتع بحياتك.

                              سابعاً: قطع السباب وإنهاؤه مع من يصدر منهم، وهذا لا شك أنه من الحزم. حُكِيَ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِضِرَارِ بْنِ الْقَعْقَاعِ: وَاَللَّهِ لَوْ قُلْت وَاحِدَةً لَسَمِعْت عَشْرًا. فَقَالَ لَهُ ضِرَارٌ: وَاَللَّهِ لَوْ قُلْت عَشْرًا لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً.

                              وَفِي الْحِلْمِ رَدْعٌ لِلسَّفِيهِ عَنْ الْأَذَى ** وَفِي الْخَرْقِ إغْرَاءٌ فَلَا تَكُ أَخْرَقا
                              فَتَنْدَمَ إذْ لا َنْفَعَنكَ نَدَامَةٌ ** كَمَا نَدِمَ الْمَغْبُونُ لَمَّا تَفَرَّقَا

                              وقال آخر:
                              قُلْ مَا بَدَا لَك مِنْ زُورٍ وَمِنْ كَذِبِ ** حِلْمِي أَصَمُّ وَأُذْنِي غَيْرُ صَمَّاءِ

                              وبالخبرة وبالمشاهدة فإن الجهد الذي تبذله في الرد على من يسبك لن يعطي نتيجة مثل النتيجة التي يعطيها الصمت، فبالصمت حفظت لسانك ووقتك وقلبك؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى لمريم عليها السلام: (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً) (مريم:26)، والكلام والأخذ والعطاء، والرد والمجادلة؛ تنعكس أحياناً على قلبك، وتضر أكثر مما تنفع.

                              ثامناً: رعاية المصلحة، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم أثنى على الحسن رضي الله عنه بقوله: (ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (1 فدل ذلك على أن رعاية المصلحة التي تحمل الإنسان على الحرص على الاجتماع وتجنب المخالفة هي السيادة.

                              تاسعاً: حفظ المعروف السابق والجميل السالف؛ ولهذا كان الشافعي - رحمه الله- يقول: إِنَّ الْحُرَّ مَنْ رَاعَى وِدَادَ لَحْظَةٍ وَانْتَمَى لِمَنْ أَفَادَه لَفْظَةً. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّ حُسْنَ الْعَهْدِ مِنَ الْإِيمَانِ) (2) وأمثلة ذلك كثيرة.

                              المسألة الرابعة: اختلاف الاجتهاد بين العلماء والدعاة ونحوهم، وهذا الاختلاف أمر طبعي لا حيلة فيه، بل من المصلحة بقاؤه، والله سبحانه وتعالى يقول: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين:4)، فهذا جزء من خلقة الإنسان، فالناس مختلفون في البصمة (عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَه) (القيامة:4)، مختلفون في حدقة العين، مختلفون في العقل والنظر في الأمور ومجرياتها وفي التفكير، مختلفون في نبرة الصوت، فكل إنسان له نبرة، وبصمة، وحدقة مختلفة عن غيره، فالسبب الأول من أسباب الاختلاف هو الاختلاف في التكوين الفطري والنفسي والجبلي في المزاج الذي ركب منه هذا الإنسان، فأبو بكر يختلف عن عمر، عن عثمان، عن علي، كل واحد له تكوين خاص يختلف عن الآخر.

                              السبب الثاني هو الاختلاف في التحصيل، أي: قدر ما حصله هذا الإنسان من المعرفة، والعلم، والفهم، والإدراك.

                              السبب الثالث هو الاختلاف في الظرف الذي يعيشه هذا الإنسان، فقد يعيش شخص ظرفاً معيناً يختلف عن الآخر، بحسب تغير الأحوال، والظروف، والمجتمعات، والسلم والحرب، والقوة والضعف، والصحة والمرض، وغير ذلك.

                              السبب الرابع الهوى الخفي، وقل من يسلم منه، حتى ذكر الإمام ابن تيمية - رحمه الله- أنه قد وقع فيه كثير من الأكابر من أهل الفضل والعلم، ومن السابقين من الأئمة والعلماء. فالإنسان يوجد عنده -أحياناً- نوع من الهوى الخفي الذي قد لا يشعر به هو نفسه، ولا يُلام عليه؛ لأن الله سبحانه وتعالى فضله واسع وعظيم وإن كان على الإنسان أن يراقب نفسه بشكل جيد، لكن يقع للإنسان نوع من الهوى الخفي الذي لا يدركه، وقد يحمله على بعض المواقف وردود الأفعال تجاهها سلباً وإيجاباً.

                              تعليق

                              المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                              حفظ-تلقائي
                              x

                              رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                              صورة التسجيل تحديث الصورة

                              اقرأ في منتديات يا حسين

                              تقليص

                              لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

                              يعمل...
                              X