سُؤَالٌ يُجِيبُ عَلَيه
شَيْخُ الإِسْلاَمِ الإِمامُ الحافِظُ العَلاَّمَة
شَيْخُ الجامِعِ الأَزْهَر
سَلِيمُ بنُ أَبي فَرَّاجٍ البِشْرِيُّ المَالِكِيُّ
المُتَوَفَّى سَنَةَ 1335هـ
رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى
بسم الله الرحمن الرحيم
( نص السؤال يرفعه العلامة أحمد بن بدر شيخ معهد بَلْصَفُورَة ) ، قال رحمه الله :
ما قولُكم دامَ فضلُكم في رجلٍ منْ أهلِ العلمِ هُنا الذينَ يُوصفونَ بالتَّفَقُّهِ في الدينِ تَظاهَرَ باعتقادِ ثُبوتِ جِهَةِ الفَوقِيَّةِ للهِ سبحانَهُ وتعالى ، ويَدَّعي أنَّ ذلك مذهبُ السَّلَفِ ، وتَبِعَهُ على ذلك البعضُ القليلُ منَ الناسِ ، وجمهورُ أهلِ العِلمِ يُنكرونَ عليهِ ..
*******************************************
( نَصُّ جَوَابِ شَيْخِ الإِسْلاَمِ سَلِيمٍ البِشْرِي ) :
إلى حضرةِ الفاضلِ العَلاَّمةِ الشيخِ أحمد علي بدر خادمِ العِلْمِ الشريفِ بِبَلْصَفُورةَ ، قدْ أرسلتُم بتاريخِ 22 محرمٍ سنةَ 1325هـ مكتوباً مصحوباً بسؤالٍ عنْ حُكْمِ مَنِ يعتقدُ ثُبوتَ الجِهَةِ لهُ تَعَالى ، فَحَرَّرْنا لكم الجوابَ الآتيَ وفيهِ الكِفايةُ لِمَنِ اتَّبعَ الحقَ وأَنْصَفَ ، جزاكم اللهُ عنِ المُسلمينَ خَيراً .
اِعْلَمْ أَيَّدكَ اللهُ بتوفيقِهِ وسَلَكَ بنا وبك سَوَاءَ طريقِهِ ، أَنَّ مذهبَ الفِرقةِ النَّاجِيةِ وما عليه أَجْمَعَ السُّنِّيُّونَ أنَّ اللهَ تعالى مُنَـزَّهٌ عنْ مُشابهةِ الحَوادثِ مُخالِفٌ لها في جميعِ سِمَاتِ الحُدُوثِ ، ومِنْ ذلك تَنَـزُّهُهُ عنِ الجِهَةِ والمَكانِ كما دَلَّتْ على ذلك البراهينُ القَطْعِيَّةُ ، فإنَّ كونَه في جِهَةٍ يَسْتَلْزِمُ قِدَمَ الجهةِ أو المكانِ وهُما مِنَ العالَم ، وهو ما سِوَى اللهِ تعالى .
وقدْ قامَ البُرهانُ القاطعُ على حُدوثِ كُلِّ ما سِوَى اللهِ تعالى بإِجماعِ مَنَ أَثْبَتَ الجِهَةَ ومَنْ نَفَاها ، ولأَنَّ المُتَمَكِّنَ يَستحيلُ وُجودُ ذاتِهِ بِدونِ المكانِ معَ أنَّ المَكانَ يُمْكِنُ وجودُه بدونِ المُتَمَكِّنِ لجوازِ الخَلاءِ ، فيلزَمُ إمكانُ الواجبِ ووجوبُ المُمْكِنِ وكِلاهما باطلٌ ، ولأنه لَو تَحَيَّزَ لَكَانَ جَوْهَراً لاسْتحالَةِ كَوْنِهِ عَرَضاً ، ولو كانَ جوهراً فإِمَّا أنْ ينقسمَ وإمَّا أنْ لا ينقسمَ ، وكِلاهما باطلٌ ، فإنَّ غيرَ المنقسمِ هوَ الجُزْءُ الذي لا يَتَجَزَّأُ وهوَ أحقرُ الأشياءِ تعالى اللهُ عنْ ذلك عُلُوّاً كبيراً ، والمنقسمُ جسمٌ وهوَ مُرَكَّبٌ والتركيبُ يُنافي الوجوبَ الذاتيَّ ، فيكونُ المركبُ ممكناً يَحْتاجُ إلى عِلَّةٍ مُؤَثِّرَةٍ ، وقد ثَبَتَ بالبرهانِ القاطعِ أنَّهُ تعالى واجبُ الوجودِ لِذاتِه ، غَنِيٌّ عنْ كُلِّ ما سِواه مُفتَقِرٌ إليهِ كلُّ ما عَدَاه ، سبحانه لَيْسَ كمِثْلِهِ شيءٌ وهُوَ السميعُ البصيرُ .
هذا وقد خَذَلَ اللهُ أقواماً أغْواهم الشيطانُ وأَزَلهم ، اِتَّبعوا أهواءَهم وتمسكوا بما لا يجدِي فاعتقدوا ثبوتَ الجهةِ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، واتفقوا على أنها جهةُ فوقٍ ، إلا أنهم افترقوا ، فمنهم منِ اعتقدَ أنه جسمٌ مُمَاسٌّ للسَطْحِ الأَعْلَى منَ العَرْشِ وبِهِ قالَ الكَرَّامِيَّةُ واليَهُودُ ، وهؤلاءِ لا نِزَاعَ في كُفْرِهم ، ومنهم منْ أثبتَ الجهةَ معَ التَّنْـزِيهِ ، وأنَّ كونَه فيها ليسَ كَكَونِ الأَجْسامِ وهؤلاءِ ضُلاَّلٌ فُسَّاقٌ في عَقِيدتِهم ، لإِطْلاقِهِم على اللهِ ما لم يأذنْ بهِ الشَّارِعُ ، ولا مِرْيَةَ أنَّ فاسِقَ العَقِيدَةِ أَقْبَحُ وأشْنَعُ مِنْ فاسِقِ الجَارِحَةِ بِكَثِيرٍسِيَّمَا مَنْ كانَ داعيةً أو مقتدًى بِهِ ، ومِمَّنْ نُسِبَ إليهِ القَولُ بالجهةِ من المتأخرينَ أحمدُ بنُ عبدِالحليمِ بنِ عبدِالسَّلامِ بنِ تَيْمِيَّةَ الحَرَّانِيُّ الحَنْبَلِيُّ الدِمَشْقِيُّ من عُلَمَاءِ القَرْنِ الثَّامِنِ في ضِمْنِ أُمُورٍ نُسِبَتْ إليهِ خالفَ الإِجماعَ فيها عَمَلاً بِرَأْيِهِ وشَنَّعَ عليهِ مُعاصِروهُ بلِ البعضُ منهم كَفَّرُوهُ ، ولَقِيَ مِنَ الذُّلِّ والهوانِ ما لَقِيَ وقد انْتَدَبَ بعضُ تَلامِذَتِهِ لِلذَّبِّ عَنهُ وتَبْرِئَتِهِ مِمَّا نُسبَ إليهِ وساقَ له عباراتٍ أَوْضَحَ معناها ، وأبانَ غَلَطَ الناسِ في فهمِ مُرادهِ ، واستشهدَ بِعباراتٍ له أُخرى صَريحةٍ في دَفْعِ التُّهْمَةِ عنه ، وأنه لم يخرجْ عَمَّا عليه الإجماعُ ، وذلك هو المَظْنونُ بالرَّجُلِ لِجَلاَلَةِ قَدْرِه ورُسُوخِ قَدَمِه .
وما تَمَسَّكَ بِهِ المُخالِفونَ القائلونَ بالجهةِ أمورٌ واهيةٌ وَهْمِيَّةٌ لا تصلُحُ أَدِلَّةً عَقْلِيَّةً ولا نَقليةً ، وقد أَبْطَلَها العُلماءُ بما لا مزيدَ عليه ، وما تَمَسَّكُوا به ظواهرُ آياتٍ وأحاديثَ موهمةٌ كقولِه تعالى : (( الرَّحمنُ على العرشِ استَوَى )) وقولِه : (( إليهِ يصعدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ )) وقولِه : (( تعرجُ الملائكةُ والروحُ إليهِ )) وقولِه : (( ءأمِنتُم مَنْ في السماءِ أنْ يخسِفَ بكمُ الأرضَ )) وقولِه : (( وهوَ القاهرُ فوقَ عِبادِه )) وكحديثِ (( إنه تعالى يَنـزِلُ إلى السماءِ الدُّنيا كَلَّ لَيلَةٍ )) وفي روايةٍ (( في كُلِّ ليلةِ جُمُعَةٍ فيقولُ هلْ مِنْ تائبٍ فأتوبَ عليهِ ؟ هل من مُستغفِرٍ فأغفِرَ له ؟ )) وكقولِه للجارِيَةِ الخَرْساءِ : (( أينَ اللهُ ؟ )) فأشارتْ إلى السماءِ حيثُ سَأَلَ بـ( أين َ) التي لِلْمَكانِ ولمْ يُنكِرْ عَلَيها الإشارةَ إلى السماءِ ، بلْ قالَ إنها مؤمنةٌ .
ومثلُ هذه يُجَابُ عنها بأنها ظَواهِرُ ظَنِّيَّةٌ لا تُعارِضُ الأَدِلَّةَ القَطْعِيَّةَ اليقينيةَ الدَّالَّةَ على انتِفاءِ المكانِ والجهةِ ، فيجبُ تأويلُها وحملُها على محاملَ صحيحةٍ لا تَأْباها الدَّلائِلُ والنُّصوصُ الشَّرْعِيَّةُ ، إِمَّا تَأْوِيلاً إِجْمالِيّاً بلا تعيينٍ للمرادِ منها كما هو مذهبُ السَّلَفِ ، وإمَّا تأويلاً تفصيليّاً بتعيينِ محامِلِها وما يُرادُ منها كما هو رَأْيُ الخَلَفِ ، كقولِهم إنَّ الاستواءَ بمعنى الاستيلاءِ كما في قولِ القائلِ :
قدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى العِرَاقِ / مِنْ غَيرِ سَيْفٍ ودَمٍ مُهْرَاقِ
وصُعودُ الكَلِمِ الطَّيِّبِ إليهِ قَبُولُهُ إِيَّاهُ ورِضَاهُ بِهِ ، لأنَّ الكَلِمَ عَرَضٌ يَسْتَحِيلُ صُعُودُهُ ، وقولُه : مَنْ في السَّمَاءِ ، أيْ أَمْرُهُ وسُلْطَانُهُ ، أو مَلَكٌ مِنْ مَلائِكتِه مُوَكَّلٌ بِالعَذَابِ ، وعُرُوجُ الملائكةِ والروحِ إليه صُعُودُهم إلى مَكَانٍ يُتَقَرَّبُ إليهِ فيهِ ، وقولُه فوقَ عِبادِه أيْ عَالٍ عَلَيهم بالقَهْرِ والغَلَبَةِ ، كما يُقالُ أَمْرُ فُلانٍ فوقَ أمرِ فلانٍ ، أيْ أنَّه أَقْدَرُ مِنه وأَغْلَبُ ونُزُولُه إلى السَّماءِ مَحْمُولٌ عَلَى لُطْفِهِ ورَحمتِه وعَدَمِ المُعامَلَةِ بما يَسْتَدْعِيه عُلُوُّ رُتْبَتِهِ وعِظَمِ شَأْنِه على سَبِيلِ التَّمْثِيلِ ، وخَصَّ اللَّيلَ لأَنَّه مَظِنَّةُ الخَلْوَةِ والخُضُوعِ وحُضُورِ القَلْبِ ، وسُؤالُه لِلْجارِيةِ بِـ( أينَ ) اسْتِكْشَافٌ لِما يُظَنُّ بِها اعْتِقَادُه مِنْ أَيْنِيَّةِ المَعْبُودِ كما يَعْتَقِدُهُ الوَثَنِيُّونَ ، فَلَمَّا أَشَارَتْ إلى السماءِ فَهِمَ أنها أرادتْ خَالِقَ السَّمَاءِ ، فاسْتَبَانَ أنها لَيْسَتْ وَثَنِيَّةً ، وحَكَمَ بإيمانِها .
وقد بَسَطَ العُلَماءُ في مُطَوَّلاتِهم تأويلَ كُلِّ مَا وَرَدَ مِنْ أَمْثَالِ ذلك عَمَلاً بِالقَطْعِيِّ وحَمْلاً لِلظَّنِّيِّ عليهِ ، فَجَزاهُمُ اللهُ عَنِ الدِّينِ وأَهْلِهِ خَيرَ الجَزَاءِ ، ومِنَ العَجيبِ أَنْ يَدَعَ مُسْلِمٌ قَوْلَ جَمَاعَةِ المُسلِمينَ وأئِمَّتِهِم ويَتَشَدَّقَ بِتُرَّهَاتِ المُبتدِعِينَ وضَلاَلَتِهم ، أَمَا سَمِعَ قَوْلَ اللهِ تعالى : (( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى ويَتَّبِعْ غَيرَ سَبِيلِ المؤمنينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ وسَاءَتْ مَصِيرا )) فَلْيَتُبْ إِلَى اللهِ تَعَالَى مَنْ تَلَطَّخَ بِشَيءٍ مِنْ هذه القاذُوراتِ ولا يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فإنَّه يأمُرُ بالفَحْشاءِ والمُنْكَرِ ، ولا يَحْمِلَنَّهُ العِنَادُ عَلَى التَّمَادِي والإِصْرارِ عليه ، فإنَّ الرُّجوعَ إلىالصَّوابِ عَيْنُ الصَّوابِ والتَّمَادِيَ عَلَى البَاطِلِ يُفْضِي إلى أَشَدِّ العَذَابِ (( مَنْ يَهْدِي اللهُ فَهُوَ المُهْتَدِ ومَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِدا )) نَسألُ اللهَ تعالى أَنْ يَهْدِيَنَا جَمِيعاً سَوَاءَ السَّبيلِ وهُوَ حسبُنا ونِعْمَ الوَكيلُ ، وصَلَّى اللهُ تعالى وسَلَّمَ على سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وصَحْبِهِ أجمعينَ ومَنْ تَبِعَهُم بإِحْسانٍ إلى يومِ الدِّينِ .
أملاه الفقير إليه سبحانه : سَلِيمٌ البِشْرِيُّ خادمُ العلمِ والسادةِ المالِكِيَّةِ بالأَزْهَرِ عَفَى اللهُ عَنهُ آمينَ آمينَ .
انتهى نص السؤال والجواب نقلا عن (( فرقان القرآن )) للعلامة القضاعي ص62 ـ ط1ـ المكتبة الأزهرية ، وعن هامش (( الدِّين الخالص )) ج1/ص39 للإمام محمود السُّبْكي ـ ط5 ـ الجمعية الشرعية ، القاهرة .
تعليق