الطائفية كلون من ألوان العصبية
الطائفية لون من ألوان العصبية، التي منها العصبية القومية والدينية والمذهبية والقبلية والعنصرية والسياسية والإيديولوجية وغيرها. والعصبية أو التعصب للجماعة غير الحب والولاء والميل الطبيعي الذي يمكن أن يـتخذ درجة ذات أولوية عند الشخص تجاه جماعته، وهذا ما عبر عنه الحديث الشريف في بيان القدر المقبول من القدر غير المقبول من كل ذلك، إذ قال صلوات الله وسلامه عليه: «ليست العصبية أن يحب المرء قومه، بل أن يرى المرء شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين». والمصداق لمفهوم قوم المرء أو جماعته يمكن أن يكون أي مما ذكر؛ القبيلة، الحزب، التيار، أهل البلدة، أهل الدين أو الطائفة، أو القومية، وغيرها. والعصبية الدينية نسبة إلى الدين بمعناه الواسع أو نسبة لفرقة أو طائفة أو مذهب من فرق وطوائف ومذاهب هذا أو ذاك الدين، تعتبر واحدة من أخطر أنواع العصبيات، لأن أصحابها يضفون على عصبياتهم القداسة وصفة الإطلاق وإلهية المصدر والعصمة ودعوى احتكار امتلاك الحق، مما يبعث على رفض الآخر ويؤسس لثقافة كراهة الآخر، والتي تؤول إلى محاولة إقصائه أو استئصاله. وهذا يعني الاحتراب والاقتتال الذي هو من أشد ما عانت من تبعاته الشعوب على مدى عصور طويلة من تاريخ البشرية. عندما نتحدث عن الطائفية في العراق غير ما نتكلم عن الطائفية في بلدان أخرى، فحين نعني بالطائفية في لبنان مثلا المشكلة القائمة بين طوائف الشيعة والسنة والمارونيين والأرمن والدروز، أي بما هو أوسع من الطوائف داخل الدين الواحد، نعني بها في العراق العصبية المذهبية في دائرة المسلمين خاصة، أي بالذات مسألة السنة والشيعة تحديدا.
أسباب ظهور الطائفية:
لظهور الطائفية من غير شك أسباب متعددة، ويمكن إيجازها بالأسباب الآتية:
[list][*] الأسباب التاريخية
[*] الجهل
[*] النظم السياسية
[*] رجال الدين المتعصبون
[/list] ونحاول أن نسلط الضوء على كل من تلك الأسباب بشيء من التفصيل:
الأسباب التاريخية:
لا نريد هنا الخوض فيما يؤجج مشاعر الطائفية، وإنما نشير إلى حقائق سياسية تاريخية، بعيدا عن الحكم لهذه أو تلك الرؤية فيما خاض فيه علماء الكلام أو الفقهاء، فيما هي الإمامة والخلافة والنص والشورى وغيرها. بل هناك وقائع تاريخية، ساهمت في أن تورث لنا ظاهرة الطائفية، فكانت هناك طائفة حاكمة وطائفة محكومة متهمة ومقموعة. والطائفة الحاكمة عاشت طوال قرون ثقافة احتكار الشرعية الدينية وانطباق الفئة الناجية عليها، بينما الطائفة المحكومة كانت متهمة دائما في دينها، مما اضطرها أن تمارس التقية أي إخفاء هويتها المذهبية، فاستخدمت حتى التقية كمفردة قمع إضافية، بدعوى أن التقية تعني الباطنية، مع وضوح الفرق بين المفهومين. فورثت هذه الطائفة روح الإقصاء، وورثت تلك روح المظلومية، مما خلق نوعا من الحساسية بين الفريقين. ومع هذا كان التعايش بين الفريقين في العراق أفضل منه من كثير من بلاد المسلمين ذات التعددية أو قل الثنائية المذهبية، حيث نشأت مناطق سكن مختلطة، وجرى التصاهر وقامت كثير من الصداقات والمعاملات التجارية وغيرها. حتى أن الطائفية ذابت أو كادت في بعض المناطق. ولكن كان هناك دائما من يحاول بعثها وتغذيتها وتأجيجها من جديد.
الجهل:
الجهل مثل دائما أرضية خصبة للتطرف والتعصب بكل ألوانه القبلية والمناطقية وغيرها، وأخطرها التعصب الديني والمذهبي، بسبب إضفاء عامل القداسة المدعاة أو المتوهمة. هذا متأت من كون الجهل والأمية تنتج لونا من التدين، فيه الكثير من ملامح السطحية والخرافة والتعصب. لاسيما إذا ما استثمرت أياد خبيثة عامل الجهل لتوظفه باتجاه تأجيج العصبيات، لمآرب خاصة بها، سياسية أو من نوع آخر.
النظم السياسية:
نظم الاستبداد الداخلية المتمثلة بالحكومات الديكتاتورية أو الخارجية المتمثلة بما كان ينعت بالاستعمار أو الإمپريالية، وينعت اليوم بقوى الاحتلال أو النفوذ الخارجي. فهناك قاعدة استخدمها كل الذين أرادوا أن يتسيدوا ويتأسدوا على الشعوب، ألا هي قاعدة «فرق تسد». وكثير من الأنظمة المستبدة تقمع أكثرية بأقلية أو أقلية بأكثرية، فتقسم المجتمع إلى فريقين؛ فريق حليف للنظام مستفيد منه متحول إلى أداة من أدوات قمعه، وفريق منبوذ متهم مطارد مقصى ومضطهد. وهذا من شأنه أن يعمق الهوة بين مكونات المجتمع، ففريق يعيش تربص الفرص للخلاص ولعله الانتقام، وفريق يرى مصيره مرتبطا بمصير النظام المستبد من حيث أنه تحول إلى أداة قمع له، مما يجعل حتى الراغبين من هذا الفريق بالخلاص من قمع النظام يخشى زواله، لأنه يخشى إما ضياع مصالحه التي اكتسبها من خلال النظام، أو يخشى الانتقام من الفريق المضطهد، فيتحول هو إلى خانة المهمَّشين والمقصَين، بعدما كان في خانة المهمِّشين والمقصِين.
رجال الدين المتعصبون:
وتتعقد المشكلة عندما يكون لرجال الدين من الفريقين دور في تأجيج نار فتنة الطائفية بشكل أو بآخر وبدرجة أو بأخرى، علنا أو سرا. فعندما يكون رجال الدين من وعاظ وخطباء وأئمة مساجد يحملون ڤايروس الطائفية، فإنهم سيحقنون كل جمهورهم المتأثر بهم والمتلقي منهم بذلك الڤايروس اللعين، وخطر هذا الڤايروس يكمن في كونه عندما يصدر من رجال دين يتوهم أنهم مقدسون سيتلبس بلبوس الطهر والقداسة، لأنه صادر ممن لا يأتيه الباطل من مُتـَعَفـِّنـَيْه، عقله وقلبه.
أما أنواع الطائفية فهي:
[list][*] الطائفية من منطلق ديني: وهي تلك التي تنطلق من فهم متعصب للدين، يضفي القداسة بالمطلق على كل ما تعتقده الجماعة التي ينتمي إليها المرء ونزعها كليا عن الجماعة المغايرة. ويتجذر هذا النوع من الطائفية، عندما تسود روح الغلبة بدلا من روح التعايش والالتقاء على المساحات المشتركة، وروح الأنانية الجماعية بدلا من روح الانتماء إلى الجماعة الأكبر، أي الانتماء إلى الوطن، وإلى الإنسانية.
[*] الطائفية الشعبية: هناك نوع آخر من الطائفية، لا تنطلق من رجال الدين، بقدر من تنبعث من الأوساط الشعبية. وبقطع النظر عن ظهور هذا النوع من الطائفية، من عوامل تاريخية دينية أو سياسية، فإن الطائفية الشعبية قد لا تستجيب أحيانا حتى لدعوات الوحدة ونبذ الفرقة الصادرة من رجال الدين الواعين والمتحلين بالمسؤولية، لاسيما إذا ما كانت هناك عوامل أخرى تعمل بالضد من توجيهات دعاة الوحدة من العلماء الواعين، وربما أحيانا بسبب ازدواجية بعض هؤلاء الدعاة ظاهريا للوحدة، فيستخدم خطاب الوحدة في المحافل العامة العلنية أو الأجواء المختلطة من جهة، ويستخدم خطابا يؤجج مشاعر التعصب والطائفية عندما يختلي بأبناء طائفته من جهة أخرى، إما لأنه في العمق لم يتحرر من طائفيته، أو لأنه يتناغم مع عواطف جمهوره ذي الطائفية الشعبية، كونه يطرب ويستأنس بالخطاب الطائفي أكثر من استئناسه بالخطاب التوحيدي والعقلاني.
[*] الطائفية السياسية: ذلك عندما يُسيَّس الدين ويُسيَّس الانتماء المذهبي، وتوظف المشاعر الطائفية لتحقيق مكاسب سياسية غير نظيفة في العمق ولكن متظاهرة بطهر الدين وطهر الوطنية، وعندما يستخدم البعض شعار الدفاع عن حقوق طائفته كوسيلة للكسب السياسي، لتحشيد الجماهير وراءه، وكسب ضجيجها ودعمها في الشارع وأصواتها في صناديق الاقتراع. والتسييس المذهبي قد يضطر الطرف الثاني أن يواجهه بتسييس مذهبي مقابل له، فيساهم تصعيد وتيرة منهجي التسييس المذهبي المتقابلين في تصعيد العواطف الطائفية والعواطف الطائفية المضادة، مما يمثل وقودا صالحة لإشعال الفتنة، عندما تتضافر معها عوامل أخرى توقد سوية فتيل اللهيب الملعون.
[/list] مخاطر الطائفية
واضح للجميع مخاطر الطائفية، التي تعني التعصب للطائفة، وبالتالي التعصب ضد الطائفة أو الطوائف الأخرى، والذي مآله كراهة الآخر، الذي سرعان ما يتحول إلى عنف يبدأ بعنف الخطاب، ثم عنف الفعل وعنف رد الفعل، وتصاعد العنف والعنف المضاد يعني بالنتيجة الكارثة الوطنية المسماة بالحرب الأهلية.
آليات درء مخاطر الطائفية:
[list][*] التحول من الاصطفاف المذهبي إلى التعددية السياسية: هناك خلفية تاريخية وسياسية آلت في العراق إلى التخندق الطائفي والعرقي، مما أعطى للتعددية التي هي من لوازم النظام الديمقراطي معنى آخر، جردت مفهوم التعددية من مضمونه الحقيقي السياسي الديمقراطي، فاستبدلت التعددية السياسية بالتعددية المذهبية والقومية. صحيح إن من لوازم الديمقراطية أيضا مراعاة التنوع الديني والمذهبي والقومي في المجتمع، ولكن استبدال مفهوم التعددية السياسية بهذا التخندق في الهوية الخاصة يهدد أصل المشروع الديمقراطي من جهة، ويكرس الطائفية والعنصرية في المجتمع من جهة أخرى. ومن هنا لا بد من وضع خطة مدروسة في كيفية التحول إلى التعددية السياسية التي تتجاوز الأطر المذهبية، أو حتى الدينية، ولعله في حالات حتى القومية. فإنني عندما أنتمي أو أوالي أو أنتخب على ضوء الفكر الذي يحمله الكيان السياسي، وعلى ضوء برنامجه السياسي، لا على أساس كونه شيعيا أو سنيا، عربيا أو كرديا أو تركمانيا، عندها سنجد أحزابا وتيارات سياسية تنتمي إلى فكر وبرنامج سياسيين، وليس إلى طائفة أو قومية، وبهذا يحصل التداخل والتمازج، ويتوجه كل اليساريين الاشتراكيين مثلا، سنة وشيعة، مسلمين ومسيحيين، عربا وأكرادا، لينتخبوا الحزب اليساري الاشتراكي، وهكذا الليبراليون الوسطيون، ومثلهم يفعل الإسلاميون الديمقراطيون – هنا على الأقل في تجاوز الإطارين المذهبي والقومي -. وبهذا تنحسر ظاهرة التخندق الطائفي، ويتقلص خطر انبعاث الفتنة الطائفية.
[*] التثقيف على مذهبيات جديدة تتداخل فيها المساحات المشتركة: عندما نفهم أن ثنائية المسلمين لا تنحصر في ثنائية الشيعة والسنة، بل هناك ثنائية المعتدلين والمتشددين، الليبراليين والمحافظين، العلمانيين والإسلاميين من المسلمين، حتى من المتدينين منهم. هنا أيضا ستتداخل المذهبيات الجديدة من سياسية وثقافية وغيرها مع المذهبيات الدينية التقليدية، من فقهية وكلامية، فتخفف كثيرا من التشدد في الانتماء المذهبي ثم من خطر الطائفية.
[*] تفعيل دور الأحزاب السياسية في الانتخابات بدلا عن القوائم، مما سيقلص فرص التحالفات الانتخابية القائمة على أساس طائفي، لاسيما إذا جرى موازاة لذلك العمل على التحول إلى ظاهرة التعددية السياسية، وإلى تعديد المذهبيات لتتداخل فيما بينها كما مر في النقطتين آنفا.
[*] إعادة صياغة الثقافة الدينية والثقافة التاريخية: فللتعصب الطائفي علاقة وثيقة في كثير من الأحيان بالتعصب الديني، ومن هنا نحتاج إلى إعادة صياغة ثقافتنا الدينية التي صاغها إسلام السلطة عبر قرون من الزمن، من أجل تحرير الثقافة الدينية الإسلامية بشكل خاص من مفردات التكفير وكراهة الآخر واحتكار الحق والشرعية والمسلمات النهائيات غير القابلة للمراجعة والمبالغة في تقديس ما هو ليس بمقدس، أو اعتبار ما هو مقدس نسبي مقدسا مطلقا، وثقافة الفئة الناجية، والخلط بين الحقيقة المطلقة في عالم التجريد والحقيقة النسبية في عالم الفهم والتأويل الإنسانيين، والخوف من نقد الفكر ونقد التاريخ، وروحية حب الغلبة في الحوار بدلا من حوار التعارف وحوار البحث عن المساحات المشتركة. فكلما حققنا نجاحا في اعتماد الوسطية والاعتدال في انتمائنا للإسلام وفي تديننا، وكلما توخينا العقلانية والموضوعية في الفهم والحوار والاختلاف، كلما انعكس ذلك إيجابيا على تمذهبنا، وكلما تعقلن وتأنسن انتماؤنا المذهبي، وكلما درأنا عنا خطر الفتنة الطائفية.
[*] تحويل الاختلاف في الرأي والقناعة والانتماء والولاء من عقدة تحرك الحساسيات والحساسيات المضادة، إلى حالة طبيعية تمثل ظاهرة صحية للتعددية والتنوع، والتي لا تخلو من إيجابيات كإيجابية الإثراء، خلاف ما لو كان الانتماء والفكر والولاء والاعتقاد أحاديا، مما يمكن أن يتحول إلى جمود في الفكر الإنساني.
[*] إصلاح العلوم الدينية لدى الطائفتين، لتكون أكثر عقلانية وأكثر إنسانية وأكثر موضوعية، وأقل تشنجا وتوترا ورفضا للآخر المذهبي، وحتى الآخر الديني.
[*] إصلاح مناهج التربية والتعليم: مما يمكن أن نعطي من خلاله فهما جديدا للدين، وفهما جديدا للتاريخ، بحيث نجرؤ على نقد التاريخ ونقد المفاهيم الدينية من غير عقدة ومن غير توتر، ونعطي فهما جديد للحوار، ونؤصل لمبادئ الديمقراطية، ولأخلاقيات الاختلاف في الإسلام الذي جعل الاختلاف رحمة، كونه يثري الفكر، ويدرب على التعايش في واقع التنوع، ونؤصل المنهج العقلي والموضوعي لدى الأطفال والشباب، ونؤكد الأبعاد الأخلاقية والمثل الإنسانية للإسلام ولعموم التجربة الدينية بل عموم التجربة الإنسانية، ونجذر ونوسع مفاهيم التحابّ والرفق بدلا من مفاهيم التباغض والعنف، كل هذا سيكون له دور في قبول الآخر الديني، والآخر المذهبي، والآخر الفكري، والآخر السياسي، فنحرر أنفسنا من العقدة تجاه الآخر المغاير بأي وجه من أوجه المغايرة، فتنحسر كل العصبيات ومنها العصبية الطائفية كواحدة من أخطر مصاديق العصبية.
[*] انتهاج ثقافة وتوعية وتربية في عموم المجتمع من خلال الثقافة والفن والإعلام والفكر، تؤسس وتؤصل لما ذكر في النقطة آنفا.
[/list]